إسلام ويب

قصة موسى والخضر [7]للشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام عظات وعبر، ومنها: أنهما نزلا على أهل قرية فأبوا أن يستقبلوهما، وهذا من لؤمهم، وليس من كرم الضيافة التي جاء الشرع باستحبابها والحث عليها، ولقد كان سؤالهما لأهل القرية عن حاجة، وعليه فلا يعد من المسألة المذمومة.

    1.   

    موقف الخضر من أهل القرية

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    القضية الثالثة والأخيرة التي فعلها الخضر مع موسى عليهما السلام ولم يصبر فيها موسى؛ لأن القضايا الثلاث تخالف مفهوم الحكم العام، والأصول الثابتة عند أي رجل، إلا أن فعل الخضر كان بوحي وصله من السماء.

    وموسى عليه السلام أنكر واعترض، ولم يعترض عليه السلام إلا بحق، فبعد أن قتل الخضر الغلام مع أنه لم يذنب، ومع أن القصاص في بني إسرائيل إنما يكون إذا قتل الرجل نفساً فيقتل بها، فكيف وهذا الغلام على رأي بعض المفسرين لم يبلغ الحلم ولم يصل إلى سن التكليف، لم يسع موسى إلا أن ينكر هذا الجرم، وهو يرى نفساً زكية تقتل أمامه بغير نفس.

    فقال له: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف:74] أي هذا منكر الفعل الذي فعلته: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:75-78] هذه هي القضية الثالثة والتي بها انتهت حكاية موسى مع الخضر.

    وفي صحيح مسلم : ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77] أهل قرية لئاماً) كذا وضح النبي صلى الله عليه وسلم، أن أهل القرية كانوا لئاماً؛ لأنه لا يرد الضيف كريم أبداً، بل لا يرده إلا لئيم، لاسيما إذا كان هذا الرجل قد طلب الإطعام.

    ومن مكارم الأخلاق عند أهل الفضائل أنه إذا رأى رجلاً استضافه من غير سؤال، فكيف إذا استطعمك، فإذا رددته كنت لئيماً، وهذا هو الوصف الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أهل هذه القرية.

    (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) انظر إلى جمال التعبير القرآني، (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) ثم لم يقل: (فأبوا أن يطعموهما)، بل قال: (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا).

    الرجل السائل ليس له إلا أن يملأ بطنه إذا كان جائعاً، فإن كان سيبيت ليلة فإنه يطلب محلاً، أما موسى والخضر عليهما السلام فما طلبا محلاً ليبيتا إنما طلبا طعاماً: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77] وفي هذه الآية مسائل:

    حكم سؤال الناس

    المسألة الأولى: هل يجوز بدلالة هذه الآية أن نسأل الناس؟ موسى والخضر استطعما، وهذا المقطع (الألف، والسين، والتاء)، إذا دخل على الفعل دل على الطلب مثلاً: استعمار: أناس يطلبون أن يعمروا، استجداء: طلب الجدة، استثناء ... إلخ، وموسى والخضر استطعما! فهل سألا الطعام والإطعام؟!

    يذهب الحريري في مقاماته إلى أنه بدلالة هذه الآية يجوز لك السؤال، وقد علق القرطبي على هذه المقالة بقوله: (وهذا استخفاف بالمرسلين وقلة احترام للنبيين، وهي شنشنة أدبية وهفوة ظاهرية).

    إن الإسلام لم يجز للمسلم أن يطلب من الناس شيئاً إلا ثلاثة أشياء فقط، طبقاً للحديث الذي رواه مسلم من حديث قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه: أنه كان تحمل حمالة، أي: أن طائفتين اختلفتا على دية قتيل أو على غرم أو شيء، فأبت كل طائفة أن تدفع، وطالما أنه لم يدفع أحد الطرفين فسيظل الخصام، فيقوم رجل ويقول: تصالحا وأنا سأدفع، فهذا هو معنى الحمالة.

    فـقبيصة كان تحمل حمالة بين طائفتين اقتتلتا، فلما جاء موعد السداد لم يجد معه مالاً.

    فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا يرجح أنه كان في صدر الإسلام- فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاني مال أعطيك، ثم قال: يا قبيصة ! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة حتى إذا جاء موعد الوفاء لم يكن معه) هذا يجوز له أن يسأل الناس، (ورجل اجتاحت أمواله جائحة فأتت عليها) هذا يجوز له أن يطلب من الناس، (ورجل أصابته فاقة -أي: فقر- فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه -أي: من ذوي العقل- فيشهدون على فاقته -أي: على فقره- فيأخذ ما يسد به حاجته، يا قبيصة ! بغير هذه الثلاثة فإنما تأكل أموال الناس سحتاً).

    الإسلام دين عزيز، يعز عليه أن يرى بعض أتباعه يريقون ماء وجوههم، أعطاهم الناس أو ردوهم، ويعلم الله أن هؤلاء الذين يسألون الناس غالبهم إنما يستكثر من أموال الناس لا غير، قال الله عز وجل في صفة المؤمنين الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، قال عنهم: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] والإلحاف: هو كثرة السؤال.

    مرة كنت أقف في شارع، فإذا بيد تجذبني من الوراء، فالتفت فإذا امرأة تقول: لله، هذا الموقف لا أزيد فيه حرفاً، أنا تصورت أني ارتكبت جرماً لأنها كانت جذبة شديدة.

    هذه المرأة لو نظرت إليها تجدها في قوة وعافية، أين زوجها؟ أين أولادها؟ أين أبوها؟ أين أخوها؟ أين خالها؟ أين رحمها؟ تخرج، وعن عمد يلبسون الثياب المقطعة إظهاراً للفقر، مع أن هذا مناف أصلاً لديننا، لا يجوز لك على رأي بعض العلماء إن كنت تستطيع أن تلبس ثياباً حسنة أن تلبس أقل منها، فإنك مأمور من قبل الشرع أن تظهر أثر نعمة الله عليك، كما في الحديث الصحيح: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).

    وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (ما من رجل يسأل الناس إلا أتى يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم) رجل أراق ماء وجهه وأزال لحم وجهه، يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم.

    ومن حديث أبي هريرة عند مسلم أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يسأل الناس استكثاراً من أموالهم ليس عن ظهر حاجة فإنما يستكثر به ناراً، فليستكثر أحدكم أو ليقل).

    ومنذ سنين نشر في الصحف -وإن كان كثير مما في الصحف لا يصدق إنما هذا ليس بمستبعد- أنهم ألقوا القبض على امرأة تقعد على كيس فلما فتحوا الكيس إذا به مال، فلما أحصوه زاد على السبعة آلاف، فمثل هذا النمط لا يكون يوم القيامة على وجوهم مزعة لحم.

    قوة تمسك الصحابة بالأوامر الشرعية

    في صحيح مسلم عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، قال: (حدثني الحبيب الأمين فأما الحبيب فإنه حبيب إلى نفسي، وأما الأمين فهو أمين عندي، وهو عوف بن مالك قال: (ذهبنا مع ثمانية نفر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ألا تبايعونني، قلنا: يا رسول الله! قد بايعناك، فعلى أي شيء نبايعك؟ قال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ولا تسألوا الناس شيئاً) قال عوف : ( فكنت أرى بعض أولئك النفر يركب أحدهم على دابته، فيسقط سوطه، فلا يطلب من أحد أن يناوله إنما ينزل عن فرسه فيأخذ سوطه).

    فكانوا إذا ألقي عليهم الأمر التزموه.

    وبهذا سادوا الدنيا واستحوذوا -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- على الآخرة؛ لأن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من قرآن وسنة كبيان للقرآن إنما هذا هو سبيل الفلاح في الآخرة، وفي هذه الدنيا لا يستطيع رجل أن يطأ رأسك ولا يطأ جناحك؛ لأنك تركن إلى ملك قوي.

    تجد دولة صعلوكة ترفع رأسها وتتبجح، لماذا؟

    يقولون: أمريكا معنا، وروسيا معنا، وهل هذا مسوغ؟

    يقولون: نعم. إذا أردنا أسلحة جاءتنا، وإذا أردنا قمحاً جاءنا؛ لأننا نركن إلى دولة عظمى، فكيف إذا اعتقدت اعتقاداً عملياً ليس مجرد اعتقاد نظري أنك تركن إلى ملك الملوك الذي لا يعجزه شيء، فأصحاب الباطل أحياناً تكون عندهم من العزم ما لو وجد عند أهل الحق لم تكد ترى باطلاً في الأرض.

    في إضرابات إيرلندا منذ مدة أضرب زعيم لهم عن الطعام حتى مات وهو يطالب بحقوق للعمال، مع أن هذه السياسة كافرة، الإسلام لا يعرف الإضراب عن الطعام حتى يهلك المرء، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( لو أن عبداً كان يمشي في صحراء فاستبد به الجوع فلم ير إلا خنزيراً منتناً فلم يأكله فمات دخل النار )، لأن الله أحل لك هذا في وقت الضرورة، حتى لا تهلك نفسك، إذ أن حفظ النفس أحد الخمس التي جاء بها الشرع: أن تحفظ نفسك من الموت، فهذا يعاني الموت بسبب الجوع لمبدأ يراه حقاً.

    فسبحان الله! إن أهل الحق تنقصهم جرأة تنبع من صميم اعتقادهم أنها لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، إذا ركن الرجل إلى ربه ساد الدنيا، والله تعالى يقول عن الآخرة: وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35] فهي له أيضاً.

    فكان أحدهم يسقط سوطه على الأرض فلا يطلبه، ولما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمس الرجل ذكره بيمينه، أو أن تمس المرأة فرجها بيمينها، وإنما جعل اليد اليسرى للاستنجاء وما كان من أذى قال عوف : ( ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت النبي صلى الله عليه وسلم وسمعت منه هذا ).

    هذا الالتزام العظيم إنما يقاس بحبهم لدينهم، وهذا ينقصنا الآن.

    وفي المقابل رجل طرح عليَّ هذا السؤال قال وهو يدخن: هل التدخين حرام؟

    قلت: نعم.

    فأخذ نفساً عميقاً، وقال: أليس بمكروه؟

    أقول له: حرام، ولا يتوقف قليلاً ليعلم لِمَ حرام، بل يرد عليَّ بنفس آخر عميق.

    -كثير جداً من الناس إذا ألقي عليهم الأمر يجيبك بمنتهى البلادة والوقاحة- إن الدين يسر.

    فقلت له: هب أنه مكروه فهل نفسك تطيب بفعل المكروه؟ فسكت، فهذه النماذج قارنها بالسلف الأول لتعلم أنهم عبروا بحراً نحن نقف على شاطئه.

    بأيمانهم نوران ذكر وسنـة فما بالهم في حالك الظلمات

    هذا هو الفرق بيننا وبينهم، وهو فرق لا شك أنه كبير جداً.

    فالمسألة إذاً في شرعنا لا تجوز إلا في الأحوال الثلاثة التي ذكرتها، فهل هذه الآية يمكن أن نخرج معناها على واحدة من هذه الأحوال الثلاثة أم لا؟

    سؤال موسى والخضر أهل القرية للحاجة

    قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77] نفد الزاد وشعرا بالجوع، فالواجب حينئذٍ أن لا يتلف الرجل نفسه، فهذا يدخل تحت المسمى الثالث: (ورجل أصابته فاقة)، ففعلهما من الوجهة الشرعية لا شيء فيه، فقد طلبا زاداً، وقد أباح لك الإسلام أنك إذا كنت تمشي في مكان لا يستضيفك فيه أحد فمررت على بستان فيجوز لك أن تأخذ منه بغير إذن صاحبه بما يقيم صلبك.

    لكن لا أمر أنا على بستان برتقال فآكل حتى تصيبني تخمة، ثم أقول: آخذ سلة للأولاد؛ لأن هذا قدر زائد على مجرد الحاجة التي تحفظ بها نفسك، ولذا لم يطلب الشرع منك استئذاناً، بينما إذا أخذت شيئاً أو زدت شيئاً آخر فهنا يلزمك الاستئذان.

    إذاً: السؤال لا يجوز إلا لحاجة، وكذا فعل الخضر وموسى عليهما السلام، (فَأَبَوْا) انظر إلى هذه الكلمة، مع سبق إصرار وترصد، هذا نابع من لؤم، كما وضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    حكم استقبال الضيف

    آداب الضيافة

    الضيافة شيء زائد على مجرد الطعام، أن تستقبله بوجه حسن، وتشعره أن هذا بيته، ولا تجرحه بأي كلمة ولو تعريضاً، وأنت جالس على المائدة، مثلاً لا تقل: قال عليه الصلاة والسلام: (ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شراً من بطنه) هذا حديث صحيح، ولكن هذا ليس مكان التحديث.

    هذا يذكرني برجل دعي لعقد نكاح، فطلب منه بعض آيات الذكر الحكيم، فقرأ قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، وقرأ: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229] نعم صدق الله العظيم، ولكن البلاغة أن يكون الكلام على مقتضى الحال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أذكى وأعلم وأرحم الناس إذا أراد أن يعظ أصحابه موعظة جعل لها مناسبة، فيمشي مع أصحابه فيرى جدياً أسكاً مقطوع الأذن ميتاً ملقى على قارعة الطريق، فيقول: (من يشتري هذا؟ فيعجب الصحابة ويقولون: ومن يشتري هذا يا رسول الله؟ والله لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسك مقطوع الأذن وهذا عيب فيه- فكيف وهو ميت، قال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أحدكم) فيختار مناسبة جيدة حتى يضمن أن الكلام قرع القلب.

    إن كثيراً من آفات الذين يَدْعُون أنهم لا يراعون مقتضى حال المخاطب، يرى أن معاملات الناس خطأ، ومع ذلك يتكلم في القصص والحكايات التي لا علاقة لها بمشكلات الناس، لذا تسمع غطيط المصلين وهم يسمعون الخطبة، وترى الرجل ينظر في ساعته متضجراً متى ينتهي هذا الخطيب؟

    فالخطيب في وادٍ واحتياج قلوبهم في وادٍ آخر.

    إحراج الضيف قد يعاقب عليه المضيف

    الضيافة أن تستقبل ضيفك وتكرمه ولا تذكر له شيئاً يحرجه، فإن المضيف إذا تعمد إحراج الضيف فإنه أحياناً يعاقب بنقيض قصده، ولا أذكر هنا حديثاً إنما أذكر وقائع وإن كانت طريفة عجيبة.

    مرة دعا سليمان بن عبد الملك -وكان أمير المؤمنين- رجلاً أعرابياً على الغداء، فأتوا له بكبش مشوي ووضعوه على المائدة، والأعراب أناس يغلب عليهم الجلافة بخلاف أهل الحضر وأهل المدنية، فأول ما وضع الجدي أمام الأعرابي أسرع يأكل فيه بحرقة وغيظ ومزقه وهو يأكل بنهم شديد.

    فقال له سليمان مداعباً: مالك تأكله بحرق -أي: بغيظ- كأن أمه نطحتك؟

    فقال له: ومالك مشفق عليه كأن أمه أرضعتك؟ وهو يأكل.

    ومرة دعا رجلاً أعرابياً -وكانوا كرماء ولم يكن أمير المؤمنين في وادٍ والرعية في وادٍ آخر:

    قال: (يا أعرابي! ألا تتغدى معي)؟

    قال: (حباً وكرامة، أكل الملوك لا نحلم به).

    وبينما الأعرابي يأكل إذ قال له سليمان : يا أعرابي في لقمتك شعرة أزلها -يقول له عن غير قصد: اللقمة فيها شعرة- نحها حتى لا تأكلها.

    فوقف الأعرابي مزمجراً وقال: إنك لتراقبني مراقبة من يرى الشعرة في اللقمة لا آكلتك أبداً، كأنه رجل يطمع الناس جميعاً في استضافته، ثم خرج من عنده وهو يقول:

    للموت خير من ضيافة باخل يراقب عن عمد طعام أكيله

    أي رجل إذا استضفته لا تتكلم في مسائل الأكل والشرب بل أكدِّ عليه، تقول له: زد قليلاً، كُلْ، فهذا من كرم الضيافة، هذا هو القدر الزائد على مجرد الاستطعام.

    قال أعرابي لرجل: (أنا ضيفك اليوم).

    قال: (مرحباً) فلما دخل قال لامرأته: أتاني ضيف ثقيل اذبحي لنا دجاجة واحدة، الرجل وامرأته وولدان وبنتان والضيف على دجاجة، قال الرجل: سأحرجه، أعطيه الدجاجة وأقول له: قسم علينا، فبالتالي لو أعطى كل واحد نصيبه فلن يجد لنفسه قسماً.

    فلما وضعت الدجاجة وقعد الجميع قال الرجل: قسم علينا أيها الأعرابي.

    قال: وهذا يجوز؟ بل أنت رب البيت.

    قال: لا والله لابد أن تقسم علينا، وعقد في نيته ألا يأكل ضيفه، وهنا يعاقب بنقيض قصده، فأمسك الأعرابي فقطع رأس الدجاجة وأعطاها الرجل، وقال: (الرأس للرئيس) وقطع عجز الدجاجة وأعطاها للمرأة، وقال: (العجز للعجوز) وقطع الجناحين وأعطاهما للولدين، ثم قال: (الولدان عندنا جناحان) وقطع الرجلين وأعطاهما للبنتين، ثم قال: (والزور للزائر) أي: بقية الدجاجة للزائر؛ لأن الدجاجة كلها ماعدا الأطراف عند العرب تسمى زوراً، قال: الزور للزائر.

    فالضيافة من كرم الشرقيين، ولا أقول: الشرقيين وآسف من هذه العبارة، بل من كرم المسلمين؛ لأن دينهم يحض على ذلك، فإن أتاك ضيف أكرمه وأحسن نزله.

    وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم بينما هم جلوس: (سيطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع رجل تنطف لحيته ماءً -متوضئ- وفي اليوم التالي قال نفس العبارة، وفي اليوم الثالث قال نفس العبارة، ويطلع نفس الرجل، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لأرين هذا الرجل وكيف وصل أن يكون من أهل الجنة.

    فقال له: يا فلان! إنه حدث بيني وبين أبي شحناء فأقسمت ألا أبيت في البيت ثلاثاً، فهلا استضفتني؟

    قال: نعم.

    فاستضافه، إلى آخر الحديث، والشاهد أنه قال: (هلا استضفتني ثلاثاً) الذي هو حق الضيف على مضيفه أن يستقبله ثلاثة أيام.

    بناء الخضر للجدار

    قال تعالى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77] وجدا جداراً مائلاً (يريد أن ينقض) أي: يسقط فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:77-78] سيظهر فيما بعد أن هؤلاء الناس عوقبوا من الله عز وجل بإقامة الخضر لهذا الجدار.

    ولقد ذكرت أن المرء إن عقد في نفسه لؤماً أن يعاقب بضد قصده، فلما أبوا أن يضيفوهما أقام الخضر الجدار، فحرم أهل القرية من شيء ثمين جداً.

    فلما استكمل موسى عليه السلام الثلاثة الأشياء قال له الخضر من كثرة اعتراضه: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، وهنا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رحمة الله علينا وعلى موسى لو أنه صبر لرأى من صاحبه العجب غير أنه أخذته ذمامة منه).

    جواز الترحم على الأحياء

    في هذا الحديث مشروعية الترحم على الأحياء، يقال: فلان رحمه الله وهو حي.

    وهذا يذكرني بشيء أليم سمعته، مع أن الترحم على الأحياء مستحب بدلالة هذا الحديث أو مباح لا كراهة فيه، وقد قرأت في صحيفة أن المقرئ فلاناً الذي يقرأ القرآن والمشهور وما زال حياً أقام دعوى على المذيعة فلانة؛ لأنها وهي تقدمه في الإذاعة قالت: يتلو علينا من آيات الذكر المرحوم فلان، أقام دعوى على المذيعة يطالب بتعويض.

    عشرة آلاف جنيه؛ لأنها قالت: المرحوم، وهو يتأذى من هذا؛ لأنه خسر؛ لأن معنى أنه مات أنه لن تأتيه دعوات للقراءة في المكان الفلاني، وهذا سبب له خسارة مادية ومعنوية عند أحبائه!!

    وأنا لا أدخل في قلوب الناس إنما هذا عن سبر ما يحدث، وقلما تجد قارئاً للقرآن الكريم -بكل أسف- في هذا العصر يبغي وجه الله عز وجل، وهذا يظهر من جملة أعماله.

    ولا أعلم على حسب قراءتي وسؤالي للناس، ومنهم ثقات أثق بنقلهم، لا أعلم إلا رجلين اثنين، كل من عرفهما امتدحهما وأثنى عليهما بدين وتقوى وبعد عن المال، وهما: الشيخ محمد رفعت رحمه الله، والشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله تعالى، والأخير منهما الشيخ المنشاوي ذهبت إلى بيت أبيه لأسأل عن حال هذا الرجل، فما سمعت إلا خيراً من كل من قابلني بدون استثناء على كثرة سؤالي.

    لذا تجد أن الله عز وجل ينسئ في أثر هذا الرجل، فتجده محبوباً ومترحماً عليه، وكذا عاقبة الإخلاص، إن لم تبدُ في حياتك فإن الله عز وجل ينسؤها لك، كلما ذكر اسمك قيل: رحمه الله، رضي الله عنه، وبين كل هؤلاء المترحمين لعل نفساً صالحة يقبل الله عز وجل منها.

    نسأل الله تعالى أن يقينا شر أعمالنا، وأن يقينا الزلل، وأن يغفر لنا خطايانا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.

    اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756491048