أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:52-55].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [القصص:52]، أي: الذين أعطيناهم الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل، مِنْ قَبْلِهِ [القصص:52]، أي: من قبل القرآن، هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [القصص:52]، وهذا قد نزل في أفراد بأعيانهم، منهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، إذ كان مجوسياً كتابياً، ومنهم النجاشي رضي الله عنه، إذ إنه قد بعث باثني عشر رجلاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليؤمنوا ويسلموا على يديه، وكان رضي الله عنه قد أسلم وهو في بلاد الحبشة أميراً أو ملكاً، ولما نزل هذا الوفد بمكة والتفوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، إذا بـأبي جهل يقبحهم ويذمهم ويلومهم: كيف تتبعون هذا المدعي للنبوة؟! لكن ردوا كلامه بالكلمة الحسنة وانصرفوا، ونزل فيهم هذا الكلام الإلهي: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [القصص:52]، أي: التوراة والإنجيل، مِنْ قَبْلِهِ [القصص:52]، أي: القرآن، هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ [القصص:52]، فالذين كانوا من اليهود والنصارى ملتزمون بما في التوراة والإنجيل ما إن سمعوا بدعوة رسول الله وخروجه حتى آمنوا، والذين هبطوا من قبل وفسدوا وغُرر بهم وخُدِعوا بالباطل ما آمنوا.
هكذا يخبر تعالى والله لهو الحق، فماذا يقولون؟ قَالُوا آمَنَّا بِهِ [القصص:53]، أي: بالقرآن وبمن نزل عليه، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا [القصص:53]، أي: الثابت الذي ليس بتدجيل ولا كذب ولا باطل، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:53]، أي: مسلمين قلوبنا ووجوهنا لله تعالى، فنعبد الله وحده بما شرع، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا وإياهم في دار السلام.
وهنا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ( ثلاثة لهم الأجر مرتين )، فالأول: من آمن من أهل الكتاب بنص الآية الكريمة، وبالتالي أيما يهودي أو نصراني كان مؤمناً في اليهودية أو النصرانية وآمن برسول الله ودخل في الإسلام فإنه يعطى أجره مرتين، فمرة على إيمانه الأول، ومرة على إيمانه الثاني، والثاني: عبد مملوك لسيده، فيعبد الله ويحسن في عبادته، وكذلك يحسن طاعة سيده ويخدمه، فهذا يؤتى أجره مرتين، أي: أجر عبادته لله تعالى وأجر طاعته لسيده، وهذا في أيام وجود العبيد، فإذا أراد أحدهم أن يفوز بهذه النعمة فعليه أن يطيع الله ويخدم سيده، وأما الثالث فهو: رجل عنده امرأة مملوكة، فأحسن غذاءها ولباسها، ثم أعتقها وتزوجها، فله الأجر مرتين، والله تعالى نسأل أن يجعلنا من المأجورين المثابين.
أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54]، أي: بسبب صبرهم على الإيمان والعبادة؛ لأنهم كانوا يتلقون العذاب والبلاء والشقاء حتى من آبائهم وأمهاتهم، إذ ما يؤمن يهودي الآن ويفرح به أبوه أو أمه، أو يسلم مسيحي ويفرح به أمه وأبوه، بل يتلقون منهم العذاب والبلاء، لكن يصبرون على طاعة الله عز وجل، أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص:54]، بسبب ماذا؟ بِمَا صَبَرُوا [القصص:54]، أي: على الإيمان والإسلام وعبادة الله وهم بين قوم كافرين لا يريدونهم أن يسلموا كما هو الواقع.
ثم قال تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [القصص:54]، أي: من صفات هؤلاء أنهم ينفقون من أموالهم على الفقراء والمساكين والمحتاجين، فينفقون الزكاة ويخرجونها، وينفقون طاقتهم التي في أبدانهم فيساهمون ويساعدون، وذلك لأن القوة البدنية رزقٌ من الله تعالى، وبالتالي فالمؤمن أيضاً يساعد ببدنه المحتاجين ويعينهم على ذلك، وكذلك بعلمه ومعرفته ينفق منها، إذ إنه يوجه ويرشد ويعلم، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ [القصص:54]، أي: من كل شيء رزقناهم إياه، سواء كان مالاً أو قوة بدنية أو علماً أو جاهاً، فمثلاً: شخص عنده جاه في الحكومة، فله أن ينفق من هذا الجاه ويساعد به المؤمنين المحتاجين.
وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [القصص:55]، أي: يقولون لمن يجادلونهم ويحاجونهم ويخاصمونهم من أهل الشرك والكفر: لَنَا أَعْمَالُنَا [القصص:55]، فلا نتكلم معكم ولا نجادلكم ولا نقول شيئاً، لَنَا أَعْمَالُنَا [القصص:55]، فنثاب عليها، وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [القصص:55]، فتثابون عليها وتجزون بها.
ثم قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص:55]، أي: أعطوه ظهورهم فلا يسمعون اللغو أبداً، ولا يجالسون مجالس أهل اللغو فيتكلمون معهم، ولا يجادلونهم ولا يخاصمونهم، وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [القصص:55]، أي: لا نؤذيكم ولا نقبل أذاكم، وإنما السلام بيننا، لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، ولا نريدهم ولا نجلس معهم ولا نجادلهم، والجاهلون هم الذين ما عرفوا الله ولا عرفوا محابه ولا مكارهه، ولا عرفوا طاعته وعبادته، ولا عرفوا ما أحل الله ولا ما حرم الله، فهؤلاء هم الجاهلون، فلا نجالسهم ولا نجادلهم ولا نخاصمهم، وهذا هو شأن الربانيين من هذه الأمة المسلمة، جعلنا الله وإياكم منهم.
قال الشيخ في النهر: [ ذُكِر عدة أقوال في هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية، منها وهو أقربها -لأن السورة مكية-: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه ]، وقد قلت لكم: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، لكن بخصوص من؟ قلنا: سلمان الفارسي، وقلنا: عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقلنا: أصحاب النجاشي، والآية عامة، وبالتالي أيما يهودي أو نصراني في أوروبا يدخل في الإسلام إلا ويؤتى أجره مرتين، وذلك بإيمانه الأول والثاني.
قال: [ إذ وجه باثني عشر رجلاً فجلسوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو جهل وأصحابه قريباً منهم، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من رهط وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركباً أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [القصص:55]، لن نألو أنفسنا رداً عليكم، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [القصص:55].
قال: [ ثانياً: فضيلة من يدرأ بالحسنة السيئة وينفق مما رزقه الله ]، أي: فضيلة المرء رجلاً كان أو امرأة الذي يدفع بالحسنة السيئة، لا السبة بسبة، والشتمة بالشتمة، والضربة بالضربة، بل يدفع السيئة بالحسنة، وهذا من أولياء الله عز وجل، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [الرعد:22-23]، وهذا هو شأن المؤمنين الصالحين، لا أن يسبك فتسبه، أو يشتمك فتشتمه، وبالتالي تكون مثله، وإنما ادفع السيئة بالحسنة، وقل له: سامحك الله، غفر الله لي ولك، عفا الله عنك.
قال: [ ثبت في الصحيح: ( أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران ) ]، وقد قلت: إن اليهودي أو النصراني يأخذ أجره مرتين إذا كان مؤمناً بما في التوراة أو بما في الإنجيل، أما إذا كان شيوعياً ملحداً أو زنديقاً باطلاً، فلا يأخذ أجره مرتين؛ لأنه ما اتبع عيسى ولا موسى، وبالتالي فلابد وأن يكون متبعاً لموسى عليه السلام كاليهود، أو متبعاً لعيسى عليه السلام كالنصارى، فهذا الذي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ودخل في الإسلام يعطى أجره مرتين، أي: مضاعف، فيكون قبل أن يؤمن متبعاً بالتوراة التي أنزلها الله على موسى، أو متبعاً للإنجيل الذي نزل على عيسى، ثم مؤمناً بهما، ثم يؤمن برسولنا صلى الله عليه وسلم.
قال الشعبي: خذ هذا الحديث بغير شيء، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة ]، وقد قلت لكم: هؤلاء الثلاثة المذكورون في الحديث ما بقي منهم إلا من يؤمن أو يسلم من اليهود أو النصارى، أما العبيد الذين يخدمون أسيادهم فليست موجودة اليوم، وقد انتهوا مع انتهاء الجهاد، كما أنه ليس عندنا إماء مسترقات أيضاً نعلمها ونكسوها ثم نعتقها ثم نتزوجها، وهذا قد وجده الرسول صلى الله عليه وسلم في جويرية رضي الله عنها.
قال: [ ثالثاً: فضيلة من يعرض عن اللغو وأهل الجهالات، ويقول ما يسلم به من القول، وهذه إحدى صفات عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، أي: قولاً يسلمون به، وهذا السلام ليس سلام تحية، وإنما هو سلام متاركة ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر