الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام المنذري رحمه الله: [ وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظر أرفع رجل في المسجد، فنظرت فإذا رجل عليه حلة، قلت: هذا، قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، قال: فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق، قال: قلت: هذا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ابغوني في ضعفائكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم) ].
إذاً: هنا نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، لكن مسألة احترام الشخص وتعظيمه بالمظهر الذي هو عليه، ففي هذه الأحاديث علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يحكموا على الشخص لمجرد ظاهره أنه حسن أو سيئ.
ففي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده ..) والمقصود: تعليم الناس، وبيان أن هناك أشياء هم ينظرون إليها نظرة خاطئة، وليست هذه النظرة صحيحة، فمر الرجل وهو في منظر حسن لابس لبساً جميلاً، فسأل النبي رجلاً بجواره، ما رأيك في هذا؟ فقال: هذا رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله.
يعني: هذا رجل كبير في القوم، فلو ذهب ليخطب فكل الناس يريدون أن يزوجوه، ولو تكلم مع أحد فكل الناس يسمعون له عندما يتكلم، وإن ذهب ليشفع لأحد فكل الناس يقبلون منه شفاعته، وهذه نظرة الغالبية العظمى من الناس، فينظرون إلى الإنسان بظاهره فيرونه منفوخاً ويمشي وهو لابس بدلة جميلة، فهذا رجل كبير ابعد عنه وليس لك دعوة به، ولعله يكون من أوضع الخلق عند الله عز وجل.
وكان العرب يقولون عن الإنسان الذي هو على هذه الحال: (لابس ثوبي زور)، يعني: أنه متجمل على لا شيء، أي: لا يوجد داخله شيء، ومع قولهم ذلك فقد كانوا ينظرون إلى الإنسان على أنه حسن أو سيئ بمجرد المظهر.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم مر رجل آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي بجواره: ما رأيك في هذا؟) الأول كان رجلاً كبيراً، وهذا رجل شكله وضيع فقير، فقال الرجل الذي بجوار النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال: ألا يسمع لقوله) هذا لا يستوي مع الأول في المنظر والظاهر، فغير له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم فقال: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا).
فقالها النبي صلى الله عليه وسلم مرة في حديث سهل بن سعد ، ومرة أخرى قالها لـأبي ذر رضي الله عنه.
فقال: (يا
الإنسان الغني: الذي يكون الغنى في قلبه، لا ينظر إلى الناس، ولا يطمع في أموالهم، فهذا هو الغني حقيقياً، أما الذي يستشرف لأموال الناس فهو كالذي يأكل ولا يشبع فهو مفتقر يريد مالاً أكثر، فالذي يريد هذا هو الفقير، أما الذي هو مستغنٍ لا يريد شيئاً فهذا هو الغني، فوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم.
ووضح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر معنى الصرعة فقال: (إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب) فليس المصارع البطل، وإن كان هذا يسمى صرعة، أي: أنه يصرع غيره، ولكن الصرعة حقيقة هو الذي يغلب نفسه وهواه وشيطانه عند الغضب، فيمسك نفسه عند الغضب، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويكظم غيظه وغضبه ابتغاء وجه الله سبحانه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من الرقوب؟ قالوا: الرقوب: المرأة التي لم تنجب، فقال: لا، الرقوب: التي لم تقدم ولداً) يعني: التي لم يمت لها ولد صغير، فالتي مات لها ولد صغير لها أجر عظيم جداً عند الله عز وجل، فإن المفاهيم عند الناس لها معنى، وفي الشريعة لها معنى أكبر من هذا الذي ينظر إليه الناس.
وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله في الحديث نفسه فقال: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، ثم سألني عن رجل من قريش فقال: أتعرف فلاناً من قريش؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكيف تراه؟ قال: قلت: إذا سأل أعطي، وإذا حضر أدخل، فقال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة: أتعرف فلاناً؟ فقال: قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله! قال: فما زال يحليه وينعته حتى عرفته) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم يعرف هذا الإنسان الفقير الذي لا يعرفه الكثير، فعرفه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فما زال يحليه) يعني: يذكر أن صفته كذا.. ويلبس كذا.. ويقعد في المكان الفلاني، حتى عرفه أبو ذر ، فهو رجل مجهول بين الناس، ولكن يعرفه الله، ويعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرفه ملائكة الله (قال: قد عرفته يا رسول الله قال: فكيف تراه؟ قال: هو رجل مسكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهو خير من طلاع الأرض من الآخر) يعني: هذا الفقير من فقراء المساكين من أهل الصفة خير من طلاع -يعني: ملء الأرض- من مثل هذا القرشي الذي أعجبك.
يقول أبو ذر رضي الله عنه: (أفلا يعطي من بعض ما يعطى الآخر؟)، إذا كان هذا عند الله له المنزلة الكبيرة هذه فلماذا لا يعطيه الله قليلاً مما أعطى الآخر من المال الكثير؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطي خيراً فهو أهله) فلو أن الله أعطاه خيراً من مال وغيره فهو أهل ويستحق ذلك، (وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة) يعني: فإذا صرف الله عنه هذا المال وصبر على ذلك فهذا أفضل له عند الله سبحانه وتعالى.
(فقال: قلت: هذا يا رسول الله! فقال: انظر أوضع رجل في المسجد) انظر أفقر رجل لم يملأ عينك.
(قال: فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق)، أخلاق أي: خروق، (قال: قلت هذا)، فهذا أوضع واحد.
(قال: فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا).
يقول: (وقد أخذ العرق في جلودنا طريقاً من الغبار والوسخ) فالمدينة كانت حارة، وهم لا يجدون ماءً يستحمون به ويتجملون، قال: (إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليبشر فقراء المهاجرين)، أي: أبشروا يا فقراء المهاجرين، قال: (إذ أقبل رجل عليه شارة حسنة)، أي: جاء شخص من الناحية الأخرى متجملاً بأحسن الثياب، قال: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم) فهو إنسان سافل حقير، النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم وهو يقوم يتكلم ويريد بهذا أن يقول كلاماً أحسن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يتكلف الفصاحة!
إذاً: لا تحكم على الإنسان بظاهره، فهذا الذي أتى وهو لابس حلة وعليه شارة، جاء مستكبراً حتى على النبي صلوات الله وسلامه عليه، ألا لعنت الله على الظالمين! وظل النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم وهذا الرجل يذهب بكلام ليظهر الفصاحة وأنه أحسن كلاماً من النبي صلى الله عليه وسلم، فرسول الله لم يرد عليه وتركه حتى انصرف، فلما انصرف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب هذا وأضرابه).
فهذا بغيض عند الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه معجب بنفسه، فنسي أنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأتى يريد أن يتعاظم أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ثيابه التي لبسها دفعته إلى الغرور، حتى إنه لا يقدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب هذا وأضرابه، يلوون ألسنتهم للناس لي البقر بلسانها المرعى) مثل البقرة عندما تأخذ الكلأ والمرعى بلسانها وتلوكه، فكذلك هذا الإنسان يريد أن يجمع بين الفصاحة بزعمه وظنه.
قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك يلوي الله تعالى ألسنتهم ووجوههم في النار) يعني: هذا المغرور يوم القيامة يلوي الله لسانه ووجهه ويدخله نار جهنم والعياذ بالله!
المقصود من جملة هذه الأحاديث: أنك لا تنظر ولا تحكم على الإنسان بملبسه وشارته، ولذلك وفد بعض الحكماء من العرب على خليفة من الخلفاء وكان لابساً جبة رثة فقيرة ليس فيها زينة ولا شيء، فالخليفة كأنه ما عبره وجعل ينظر إلى الجبة، فهذا الحكيم يتكلم والخليفة ينظر إلى الجبة، فقال: هذا الذي يكلمك وليست هذه، يعني: ليست الجبة هي التي تكلمك، وإنما لساني هو الذي يكلمك، فانظر إلى حكمة هذا الإنسان وعقله، ودعك من النظر إلى ثيابه وغناه، فإن الذي ينفع الإنسان هو ما وقر في قلبه من إيمان، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر