أما بعد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أيها الإخوة المؤمنون: مرحباً بكم في بيتٍ من بيوت الله، نجتمع فيه لنتناصح، ونتواصى بالحق، ونتواصى بالصبر.
وحديثنا اليوم حديثٌ لكل أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، مَن استقام منهم، ومَن لم يزل بعيداً عن درب الاستقامة، أو في طريقه إليها.
وحين أرسل نداءاتي هنا، فأنا حتماً لستُ أعني على وجه الخصوص مَن حولي في هذا المكان الطاهر، ولكني أوجهه بكل صراحةٍ ووضوح، إلى كل مؤمنٍ ومؤمنة يؤمنون بالله واليوم الآخر والحساب والجزاء، إلى كل عفيفٍ كريم، إلى كل غيورٍ خائفٍ على حرماته، إلى كل من زلت به القدم ذكراً كان أم أنثى.
حديثي يدور حول الأسواق، التي هي جزءٌ مهمٌ من كل المجتمعات الإنسانية، حيث يتبادل الناس فيها السلع، ويحققون فيها المنافع، وقد ذكر الله عز وجل من صفات الأنبياء أنهم كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وقد وردت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تشير إلى أنه كان يدخل السوق بين آونةٍ وأخرى، إما للدعوة إلى الله كما كان يفعل في سوق عكاظ وغيرها من أسواق العرب في مكة والمدينة ، وما بينهما، وإما لشراء ما يلزمه منها، وإما لمآرب أخرى.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر فيها بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويذكِّر بالله عز وجل، وحاشا لقلب حبيبنا صلى الله عليه وسلم ولسانه أن يغفلا عن ذكر ربه عز وجل، وقد اشتغل صلى الله عليه وسلم بالتجارة في شبابه قبل النبوة، وكان كثيرٌ من كبار صحابته من أكبر تجار المدينة ، ولا شك أن ذلك من طبيعة الحياة، ومما لا غنى عنه.
ولكن كثيراً ما تخالط هذه الأسواق الغفلة، بل الغفلات، التي قد تعقبها الحسرات والآهات، ومن أجل ذلك كانت هذه الذكرى، والذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
حديثنا اليوم إذاً عن (الأسواق غفلات وآهات)، نسأل الله عز وجل أن يسدد كَلِمَهُ، وأن يجعلهُ خالصاً لوجهه.
وتدور محاور هذا اللقاء حول ثلاثة عشر عنصراً:
الأول: الأسواق منطقة خطرة، وقنبلة موقوتة.
الثاني: غفلات الأسواق تجر آهاتها وحسراتها.
الثالث: طموح الآباء قد يضيِّع الأبناء.
الرابع: مِن أين تؤتَى البيوت المسيَّجة بالعفاف؟!
الخامس: الآباء والحقيقة المرة.
السادس: أقبرني يا أبي أرجوك، وأَرِحْني.
السابع: الحديث مع الأجانب مخاطرةٌ بالعرض.
الثامن: القصاص الإلهي من الزاني.
التاسع: البائعون صنفان! فاحذري!
العاشر: زفرةٌ حارةٌ موجهةٌ لأولياء الأمور.
الحادي عشر: يا بنة الإسلام صدقيني.
الثاني عشر: وفي الأسواق إنابةٌ وتوبات.
الثالث عشر: نداءاتٌ حميمة.
لقد قرأتُ قصصاً كثيرة، واستمعت إلى مَن كانوا أطرافاً فيها، وإذا بالسوق فيها هو المنطلق الأول للسوء، والفتنة، والبداية لكثيرٍ من القصص الدامية، ولذلك ورد فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)، وصدق الله ورسوله.
وإذا كانت الأسواق كما روى مسلم عن سلمان أنه قال: [إنها معركة الشيطان، وبها ينصِبُ رايته] فإن ذلك مما يجعل المسلم يحذر منها أشد الحذر، بل ويقلل من ارتياده لها بقدر استطاعته، فلا يذهب إليها إلا في إحدى حالين:
إما أن يكون تاجراً، فيتقي الله تعالى في نفسه، وفي تجارته، ويراقبه في كل تصرفاته، حتى يمن عليه تعالى بالستر الجميل، والعفاف، والغنى، والرزق الحلال، فلا يغش أحداً، فـ (مَن غش فليس منا)، كما في الحديث الصحيح.
ولا يتتبع عورة مسلمٍ أو مسلمة، حتى ينجو من وعيد رسول الجبار تعالى صلى الله عليه وسلم حينما صعد المنبر فنادى بصوتٍ رفيع فقال: (يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله).
بل إنه يستفيد من وجوده في هذا المكان ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويؤدي حقوق الطريق كلها مِن رد السلام، وغض البصر، وكفِّ الأذى ونحوها؛ ليحظى بوعد النبي صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء).
وأما الحال الأخرى التي تستدعي دخول أحدنا الأسواق: أن يكون محتاجاً للشراء، وكلنا ذلك الرجل أو تلك المرأة.
في الأسواق غفلةٌ عن عظمة قيوم السماوات والأرض، يغفل البائع في غمرة الحرص على ترويج سلعته، وزيادة ربحه، فلا يقْدِرُ اللهَ حقَّ قَدْرِه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فيفجر بالحلف الكاذب، ويستهين بالرب العزيز العظيم، فيجازف باليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار من أجل دراهم معدودة، فيقول: والله العظيم الجليل الكريم أنه اشتراها بكذا، وهو يعلم أنه حلاف كذاب، فما أصبره على النار! وربما فعل مثل ذلك المشتري فحلف أنه وجد هذه السلعة بأقل مما عرضها عليه البائع؛ ليشتري بعظمة الله وجلاله ثمناً قليلاً، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].
إن رجلاً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام سلعةً في السوق فحلف فيها: لقد أعطي بها ما لم يُعْطه؛ ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، فأية آهةٍ ستنفع هذا المسكين إذا رأى أن طمعه في التافه الفاني أودى به إلى عذابٍ لا يطاق، كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:15-18].
وفي الأسواق -أيها الأحبة- غفلةٌ عن الوقارِ الذي ينبغي أن يتزين به المسلم، والمسلمة، والخلقِ الرفيعِ الذي يميزهما، ويرفع درجتهما في الجنة، فكثيراً ما يرتفع الجدل، وتعلو أصوات المتخاصمَين وربما كان المتخاصمان رجلاً وامرأة، فيذهب الحياء، وتنسلخ المرأة من ثوبها وسترها، فتبارز الرجال بطول اللسان، وترفع يدها وذراعها، وهي تخفق بالأسورة الذهبية المتلألئة في أعين الرجال، من أجل ماذا؟! من أجل قروش، فلا تسامُح، ولا معروف، ولا تنازُل عن أي شيء، لقد ذُكِرَ من صفة حبيبنا صلى الله عليه وسلم في التوراة أنه (ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة؛ ولكن يعفو ويغفر) رواه البخاري .
أفلا نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم، ونترك ذلك لوجه الله؟! وقد نهى عنها صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال: (وإياكم وهَيْشات الأسواق!)، وفي رواية: (وهَوْشات الأسواق)، وفي هذا إشارةٌ صريحة لذمها في موضعها في الأسواق.
وفي الأسواق غفلات! فكم فيها من غفلةٍ عن ذكر الله عز وجل! والتهاءٍ بزخارف الحياة الدنيا! تمر الساعات الطوال دون أن يجري اسم الله عز وجل على ألسنة المتبايعَين إلا لإنفاق سلعة، أو تأكيد بيع، والله تعالى قد امتدح رجالاً فقال: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:37-38].
ولذلك ربح مَن ذكر الله في الأسواق ربحاً عظيماً، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مًن قال في سوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير يحيي ويميت. وفي رواية: وهو حيٌ لا يموت، وهو على كل شيءٍ قدير، -ماذا له؟- كتب الله له بها ألف ألف حسنة، ومحا عنه بها ألف ألف سيئة، وبنى له بيتاً في الجنة)، ذكرٌ يسير، وأجرٌ جزيل، والله ذو الفضل العظيم، وإن في هذا الدعاء لوعظاً عظيماً لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
الله هو المعبود: (وحده لا شريك له) فكيف تتعبد الأموالُ الناسَ في الأسواق حتى تُذِلَّهم، وتستهويهم المشتريات حتى تشغلهم عن واجباتهم؟!
تعالى الله يا سلم بن عمرو أذلَّ الحرصُ أعناقَ الرجالِ |
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على عبيد الدنيا فقال: (تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعْطَ سخط، تَعِسَ وانتكس، وإذا شِيْك فلا انتقش).
الله بيده الملك، فكيف تعصيه -يا هذا، ويا هذه- في ملكه؟! (وله الحمد).
أفهذا الذي تحدثونه من لهوٍ، ولعبٍ، واستهانةٍ بأوامره ونواهيه، هو البديل الذي يرضاه عز وجل عن حمده على النعمة المبذولة في هذه الأسواق، والتي تساق إليكم من شتى أقطار الدنيا؟!
وحده: (بيده الخير) فكيف تطلبونه من غيره؟! (يحيي ويميت) فهل تردون القدر عن رقابكم لحظةً واحدة؟!
فلربما كانت نهاية مَن بدأ في معصيته في سوقه في لحظته، فسقط في هاوية سوء الخاتمة، أو افتضح بين الناس، نعوذ بالله من ذلك. (وهو على كل شيءٍ قدير) فلا راد لأمره، ولا مانع من وقوع إرادته.
أيها الأحبة! أيها الأخوات! إذا كان أكثر الناس يغشَوَن الأسواق من أجل التزود من الدنيا، فانظر إلى هذه الصورة المثالية:
حين يصحب الطفيل بن أبي بن كعب عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: [فإذا غدونا إلى السوق لم يمر
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وأبو هريرة رضي الله عنه يخرجان إلى السوق في أيام العشر الأُول من ذي الحجة يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، بينما ترى كثيراً من المسلمين اليوم يمر أحدهم بالآخر وجهاً لوجه في الأسواق فلا يسلم عليه، ولا شك أن في ذلك حرماناً من الأجر المبذول بكلماتٍ خفيفة حبيبة للنفس.
الأسواق مظنة الغفلة عن الأعمال الصالحة، كالصدقة، وخدمة الخلق، يدفع أحدنا المئات في مشتهياته، وربما مر به سائلٌ فقير فردَّه، أو اختار له من ورقات نقوده ما يزهد فيه صغار أطفاله، وكان أولى بنا أن نبادر لما يمحو الله به الخطايا، ويظللنا به يوم الهول الأكبر.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعض صحابته وهم في السوق فقال حديثاً عظيماً -تأملوه معي رحمكم الله- قال: (إن هذه السوق يخالطها اللغو والكذب، فشوبوها بالصدقة)، وكأن الصدقة هي كفارة لبعض الخطايا التي تُحْدَث في السوق، ألا تأملت يا أخي! ويا أُخَيَّتي! كيف صينت المساجد عن البيع والشراء بما يحدث فيها من مثل ذلك، فقد كان عطاء بن يسار إذا مر عليه بعض مَن يبيع في المسجد دعاه فسأله: [ما معك؟ وما تريد؟ فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه قال: عليك بسوق الدنيا، وإنما هذه سوق الآخرة].
أنسيتَ رسولَ الغيورين، ونذيراً بَيَّنَ خطراً جسيماً، خطراً لا يتهدد الأموال والممتلكات؛ ولكنه يدمر ما لا يمكن تعويضه إذا فات، إذا سُفِح فلا يمكن جمعه، وإذا ضاع فلا تُسْتَرد أمانته، وهل يجبر الزجاج إذا تفرقت شظاياه؟!
العرض! تلك الأمانة الكبرى المعلقة في رقبة كل إنسان، التي يجب عليه أن يحافظ عليها أعظم مِن حفاظه على روحه، فقليلٌ أن تُبْذَل الروح لبقاء ساحته نقيةً علية، ويسيرٌ أن تُهلك الأموال لتشترى عفته، وتصان من مجرد المساس بها.
أصون عـرضي بمالي لا أدنسُهُ لا بارك الله بعد العرض في المالِ |
ولكن من أين تؤتَى البيوت المسيَّجة بأسوار المحافظة، والسمعة الحسنة؟!
من أي المداخل دخل شياطين الإنس بمعونةٍ من شياطين الجن على حصونها الحصينة؟!
إن المنطَلَق لأولئك الأبالسة مِن أبغض البلاد إلى الله، مِن الأسواق، والسبب هو: هذا الإذن المفتوح للنساء بالخروج إلى الأسواق دون حسيب، بل بغفلةٍ عجيبة من الرقيب، فبعد أن كان هناك من يستنكر فيقول في حديثه: [ألا تستحيون؟! أو لا تغارون؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج].
رأينا بعض نساء مجتمعنا يتزاحمن على العلوج وغيرهم في أسواقنا لشراء وجباتٍ خفيفة يأكلنها أمام الرجال، ولو من وراء الأغطية الخفيفة على وجوههن.
أصبح هذا واقع كثيرٍ من نساء المسلمين اليوم، وبعض رجالهم يمارسون التسوق على أنه مجرد متعة، وتنفيس عن النفس، وتمشيةٌ حرة، وشهوةٌ من شهوات النفس أكثر منه حاجة إنسانية عادية، كلما سمعوا بمحلٍ جديد هرعوا إليه حتى يأخذوا أخباره، ويصفوا مداخله وأثاثه، وكلما أعلن محلٌ عن تخفيض تسابقوا إليه دون وعي بألاعيب التجار الجشعين، ولا حاجة ماسة لما يُعرض من مشتريات، إنهم يذَرُون وراءهم نعيم الاستقرار الأسري، والستر، والعفاف، إلى مكانٍ يقصده الذئاب بمخططات الشيطان، وشباك الفواحش، يخرجون بدينهم، وحيائهم، وعفافهم، فيعودون بماذا؟
بما قد جُرِح من ذلك، وما ذهب دون رجعة لا قدر الله.
لقد كانت النساء في الجيل الأول تأتي إحداهن لحاجتها إلى الأسواق -إذا لم تجد من يقضيها لها من الرجال- مستورة الجسد، محتشمة القول والحركة، عرضها في نفسها أغلى من حياتها، تتمنى الموت ولا يُكشف لها ستر، ولا يُرفع له ثوب، أو تُمَس لها عورة.
هذه امرأةٌ من العرب قَدِمَت بجلبٍ لها فباعته بسوق يهود بني قينقاع، وجلست إلى صائغٍ بها، فجعلوا يراودونها على كشف وجهها -أخزاهم الله-، فأبت المسلمة، فعَمَدَ الصائغ اليهودي الخبيث إلى طرف ثوبها فعقده في ظهرها وهي لا تدري، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجلٌ من المسلمين على الصائغ فقَتَله، وشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين اليهود، فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة حتى نزلوا على حكمه، فكاد يحصدهم جميعاً في غداةٍ واحدة، وكانوا سبعمائة فارس، لولا تدخل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول .
وأما كثيرٌ من نساء اليوم فالأمر مختلفٌ تماماً، فهي تذهب إلى الأسواق لتستعرض قوامها الممشوق، وعينيها الكحيلتين، وأطرافها الملونة والمزركشة، ثم ماذا؟ ثم لا تسأل عن الكوارث الأخلاقية الرهيبة!
حقاً إن ما يقع اليوم في الأسواق أمرٌ في غاية العجب! إذ كيف تطور الأمر شيئاً فشيئاً حتى بلغ هذا الحد الذي لا يَرْضَى عنه مؤمنٌ يغار على محارم الله عموماً، فكيف إذا كانت محارم تتعلق بأمانته ورقبته؟!
إننا -أيها الإخوة والأخوات- إذا كنا نجرِّم الشباب، ونحاسبهم على تعديهم على الأعراض، فمِن العدالة أن نبحث عن أسباب انحرافهم هذا، ونتساءل: أليس للفتيات وأولياء أمورهن دورٌ في هذا الاتجاه الموبوء، دعونا نواجه الحق المر في العنصر الخامس.
فالرجل الذي ترك موليته تضع عباءتها المزيَّنة الحواشي على كتفيها بغطاءٍ رقيقٍ شفاف قد شقته بعيونٍ جريئة، وألوانٍ حولهما جذابة، تمشي في الشوارع والأسواق مشية المختالة المعجبة بشبابها، المزهوة بفتنتها، مَرَّةً تتظاهر بإصلاح عباءتها، فتفتحها لتبدي زينتها للعيون المشبوبة، ومرةً تلتفت إلى الرجال مصوبةً لهم نظرات الإغراء بحجة البحث عن أي شيء، ومرةً تكشف وجهها المطلي بشتى الألوان بكل جرأة! فماذا تنتظر مثل هذه المخاطِرة؟!
أقول: المخاطِرة بأعز ما تملك التي استبْعَدَت كل الاحتمالات الرهيبة من وراء ذلك.
يا رحمتاهُ عـلى الحيا عصفت به موج الرياحِ |
يا ويلةً بجمالها من عين قرصانِ الوقاحِ |
أختاه! لا تتبذلي بين التأوُّدِّ والمزاحِ |
أختاه! لا تتبرجي لوذي إلى كبحِ الجماحِ |
كفي الأذى فالدين يد عونا إلى نهج الصلاحِ |
صوني الكـرامة واربئي عن جنحةٍ ونِبال لاحِ |
أينها من قول بارئها عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]؟!
العبث بالحجاب عبثٌ بالشرف الذي لا يعوَّض.
أحتال للمال إن ضاع فأرجعَهُ ولست للعرض إن ضاع بمحتالِ |
لقد غفلت هذه الفتاة، وغفل أهلها عن أن النظر بريد الزنا، وأن السفور دعوةٌ سافرةٌ للفاحشة، وأن التبرج استعدادٌ مبَطَّنٌ لذوي النفوس الجشعة، كالذئاب الجائعة الباحثة عن لحومٍ مكشوفة، وأن الله تعالى -صيانةً لعرض المسلمة- نهاها كما نهى الرجال عن النظرات المريضة الموجهة للرجال الأجانب، وإبداء زينتها لهم، فقال عز من قائل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:30-31].
غفلت مثل هذه الفتاة، وغفل أهلها عن أنَّ مَن أهمل زرعه رعت فيه السائمة، وأنَّ مَن ترك الحبل فقد الغارب وما حمل، وأنَّ جرح العرض لا يكف عن النزيف أبداً.
غفلت وغفل أهلها عن أن أكثر الوقائع المروِّعة بدأت مِن خلو الجو للمجرم، يرمي رقماً، يخدع به أنوثتها، ويدنو من خيمتها، ويصبر ويصبر، حتى يدوس أرضها، ويصرع عفتها، ويذل عشيرتها، يتتبع خطوات الشيطان خطوةً خطوة حتى تصل مرتبته إلى غايتها المؤقتة، وإلى لحظتها الرهيبة التي يهتز لها عرش الرحمن، يتصور لها في البداية بشراً سوياً، ثم ملاكاً طاهراً، فإذا وقَعَتْ في الفخ كشف لها عن رأس شيطان وأخلاق خنزير.
ذئبٌ تراه مصلياً فإذا مررتَ به ركَعْ |
يدعو وكل دعائهِ ما للفريسة لا تقعْ |
فـإذا الفريسة أُوْقِعت ذهب التنسك والورعْ |
أيْنَها مِن نساءٍ:
يخبئن أطراف البنان من التقـى ويَخْرُجن جنح الليل مختمراتِ |
إنها بدلاً من أن تخرج من بيتها وهي تدعو وتذكر الله عز وجل، فتقول: باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، لِيُقال لها: كُفيتِ ووقيتِ، وتنحَّى عنك الشيطان، بدلاً من هذا الهدي النبوي الكريم، تراها قد خرجت بكامل زينتها ليستشرفها الشيطان، فبعد أن كان الفتيات ينادين: أنقذونا من الشباب المتسكِّع، بدأ الشباب يصيحون بكل حرارة: أمسكوا بالفتيات المتبرجات، فهن أساس الجريمة الخُلُقية.
ولقد قرأتُ مراتٍ عديدة في الصحف لنساء يعترفن بأن الفتاة هي التي تدعو إلى الاعتداء عليها، بسبب استهتارها بسترها، هذا إذا لم تَسْعَ لذلك وتخطط له، ويُجْمِعُ الباعة الذين تحدثتُ معهم في السوق أن أول عَقَبَةٍ تضعها المرأة في وجه الشاب المتسكع هو حشمتها، حتى يقول لي أحدهم: يجب على كل فتاة أن تكون ملتزمةً في ملبسها وتصرفاتها، فالشاب إذا لم يجد تشجيعاً أو مَن يتجاوب معه سوف يخرج من السوق خائباً.
هذه امرأة صالحة مستورة من رأسها إلى أخمص قدميها، حدثني مَن رآها أنها كانت تلبس حتى القفازين، مرت بتجربةٍ هي عبرةٌ للمعتبرين، رأت بنيةٍ حسنةٍ أن من واجبها أن تقوم بنصح هؤلاء المعاكسين، وتسعى إلى استصلاحهم، فرأت أحدهم في السوق يلقي بالرقم على فتاة، فأمسكت بالرقم، وهربت الفتاة، ووقف الشاب مُحرَجاً أمامها، فدنت منه ناصحةً واعظة، فقالت له: لماذا تتعرض لبنات الناس؟! أليس لك أهلٌ أو عشيرة؟! لماذا لا تتزوج؟!
فقال لها الشاب: إنني أريد أن أتزوج؛ ولكن من أين المال؟!
فوعدته بأن توفر له مبلغاً يساعده على الزواج، فجَمَعَت له المبلغ، واتصلت به على الهاتف الجوال الخاص به الذي أخذته منه، وواعدته، وأعطته المبلغ في السوق، ففرح بذلك، وطمع فيها، فراح يكثر من الاتصال بها على جوالها الخاص حتى لا يعلم زوجها الغافل، ويطلب منها الأموال وهي تتعاطف معه وتعطيه.
وذات يوم طلب منها اللقاء، فتفاجأت بهذا الطلب، وذكَّرته بالله؛ ولكنه هددها إن لم تحضر بثياب النوم إلى السوق ليصحبها؛ فسوف يوصل كل المكالمات السابقة التي سجلها في غفلةٍ منها إلى زوجها الغافل، وهنا وقعت في كارثة، وفكَّرت مرةً أخرى تفكيراً قاصراً، فاستجابت لضغوطه، ودخلت بثيابها المعتادة إلى أحد المشاغل في السوق وبدَّلت، فرأى حراس الأعراض رجالُ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -أسعدهم الله في الدنيا والآخرة- رأوا كيف أن هذه المرأة قد نزلت قبل قليل من سيارة أحد الرجال الذين يبدو عليهم مظهر الصلاح، ثم خرجت بكيسٍ كبير من المشغل لتركب في سيارةٍ أخرى سائقها يختلف تماماً عن طبيعة الأول، فأوقفوه، وهنا انهارت المرأة وبَكَتْ بكاءً مراً، وراحت تسألهم بالله أن يستروا عليها، فليس ما حدث باختيارها، وإنما هو باجتهادٍ خاطئ كاد أن يودي بعرضها، وقد نَدِمت عليه من بدايته إلى نهايته، وبعد التحقيق ظَهَرَت تفاصيل القصة، وسَتَرَ المسئولون -سترهم الله- على هذه المرأة، ونال الشاب جزاءه.
نعم. قد يبتلى الإنسان بما ليس له فيه يد؛ ولكن كثيراً من الابتلاءات التي نصاب بها هي من صنع أيدينا.
ولقد سمعتُ من الثقات، وقابلتُ بعض التائبين، وباح لي بعض المستمرِّين في غفلاتهم، -هداهم الله- وبعض مَن لهم أصدقاء يصرِّحون لهم بمغامراتهم الوبيلة العواقب، واطَّلَعتُ على حوارات مع الشباب والفتيات في الصحف والكتب، يحكون فيها ما يتناقض مع ما عُرِف من طبيعة -أو عن طبيعة- مجتمعنا الطيب؛ ولكنه مع محدوديته نسبةً لمجتمعاتٍ أخرى أصبح واقعاً يجب أن لا نستمر في مجاملة أنفسنا في نفي وجوده، كل ذلك جعلني والله أخاف حقاً على هذا الأمن الوارف، والاستقرار العظيم الذي ننعم به، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53]، والتهديد جاء من الله القادر على كل شيء، فوالله ما عدتُ ألومُ من يتضرَّم قلبُه غَيرةً وحرقة حتى أصبح يخاف على عرضه، ولو من نظرةٍ بعيدة، أو مهاتَفَةٍ خاطئة، فالأمر أكبر من أن يستهين به العقلاء ذوي المروءة والدين.
الزنا فاحشة لا يتخيل شناعتَها إلا مَن تصوَّر أن مَن يُزْنَى به حَرَمُه، وأنَّ مَن يُهْتَك عرضُه هو: أمُّه، أو أختُه، أو زوجتُه، فما أشد البلاء! وما أقساه!
الزنا دَين ربما كان قصاصُه مِن عرض الرجل الزاني.
أحد الشباب قُبِضَ عليه لخلوةٍ محرمةٍ مع فتاة غَرَّر بها، وهددها حتى خرجت معه، وفَعل بها الفاحشة، وبعد مدةٍ تزيد عن ستة أشهر قُبِضَ على شابٍ آخر مع فتاة، وتَمَّ استدعاء ولي أمرها فإذا وليُّ أمرها هو الشاب الذي قُبِضَ عليه قَبْل ستة أشهر، والجزاء من جنس العمل، وكما تَدين تُدان.
إن الزنا دَينٌ إذا أقرضته كان الوفا مِن أهل بيتك فاعلمِ |
وربما كان قصاص الزنا من العافية والمال ومصدر الرزق، وقد قيل: بشِّر الزاني بالفقر ولو بعد حين.
والقصص التي رَوَتها الكتب في هذا المجال كثيرة؛ ولكن هذه الحادثة أرويها ممن شاهَدَها، ولا يزال أشخاصُها أحياء:
هذا أحد الشباب رآه رجال الهيئة -سدد الله خطاهم، ووفقهم للحكمة في معالجة عظائم ما يرون- أكثر من مرة يرفع صوت الموسيقى الصاخبة في سوق النساء، ويمشي مشيةً مريبة، فأوقفوه عدة مرات، وأخذوا عليه التعهدات والكفالات؛ ولكنه استمر في صنيعه، فأخذوه إلى المركز ليحققوا معه، فلاحظوا على وجهه علامات الكآبة، واليأس من الحياة، فأخذوا يتحدثون معه بلطف ليبوح بما في خاطره، فإذا به ينفجر بقصةٍ عجيبة!
يقول: منذ سنتين كنتُ واقفاً أمام محلٍ -سماه باسمه- وأعرفه وتعرفونه، وإذا بفتاةٍ متبرجة بدأتني بنظراتٍ مريضة، فبادلتُها مثلها.
كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ |
ثم ابتَسَمَتْ فابتَسَمْتُ لها، وبعد وقفةٍ طويلة كانت لغة العيون هي التي تتحدث بيننا -والعيون مصائد الشيطان كما يقول علي رضي الله عنه- قرَّبتُ منها السيارة، فسُرعان ما رَكِبَت معي، وسُرعان ما أخذت تبادلني أحاديث الغرام، وكأني أعرفها وتعرفني منذ زمن، ولما أوصلتُها تواعدنا مرةً أخرى، بل مراتٍ كثيرة، حتى توثقت بيننا العلاقات، وربما سافرنا وعدنا في اليوم نفسه، وأهلها من غفلتهم يظنون أنها في السوق.
وفي يومٍ من الأيام الكالحة دَعَتْني إلى بيتها حين تأكَّدت من سفر أهلها، فاستجبتُ فرحاً بذلك -وما تظن باثنين الشيطان ثالثهما؟!- لقد وقعتُ عليها في غياب إيماني عن مراقبة الله تعالى، نعم زنيتُ بها برغبتها ورضاها، وأنا غافلٌ عن العواقب الوخيمة لفعلتي، غافلٌ عن غضب الجبارِ تعالى، وعن شناعة ما صنعتُ بعرض أخي المسلم الغافل عن حرماته؛ ولكنها الشهوة الرعناء التي غطَّت عينَي بصيرتي عن الحقيقة، وما هو إلا أن عَرَضَت عليَّ الفتاة أن أتزوج منها، فسكتُ لعدم رغبتي في ذلك، فقامت في نفس اللحظة وضيَّفتني بشراب فشربتُه، وأخذتُ مني غُتْرَتي بأسلوب لطيف، ولَمْ أَجِدْنِي في اليوم الثاني إلا وأنا أقف عند منزلها كالحارس الأمين، أقف فترةً طويلة دون وعي، ثم أَنْصَرِفُ لا أدري لماذا! لقد علَّقَتْنِي بها دون أن أشعر، ومنذ سنتين وأنا كأني محبوسٌ عليها، لا أكاد أعرف أمي ولا أبي، وراتبي أربعة آلاف ريال أسلمه لها كله، فتعطيني منه ثلاثمائة ريال فقط، وكأنها تتفضل بها عليَّ، حتى الجوال قُطِعَت حرارتُه بسبب كثرة المكالمات معها، وعدم قدرتي على السداد، إنني لا أريدها؛ ولكني أرغب في رؤيتها في الوقت نفسه، لقد قيَّدَتْني وأرهقتني.
إنني الآن أحِسُّ بالعذاب الدائم، أنا لا أريد شيئاً من هذه الحياة، فقط أريد أن أموت، أريد أن أستريح، لقد تدهورت صحتي، وتدهورت علاقتي بأسرتي ورؤسائي في العمل، أتجول في الأسواق كالمجنون، ومهما مُنِعْتُ فسوف أعود.
وراح يبكي ويتوتر ويتشنج ويشد ثوبه بعنف، وكأنه يريد أن يمزقه من الألم، ومَن حوله يرونه وهم يعتصرون لأجله ألَمَاً وحرقة، وهو يصيح بهم: ساعدوني، ساعدوني!
وبعد محاولةٍ لعلاجه أكَّد أحد الرُّقاة أنه مسحور ومربوطٌ بتلك الفتاة المجرمة.
رأيت الهوى كالذئب يفتك بالفتى فحاذِر مِن الحب الذي مثله الذئبُ |
إذا المرء لم يردعْه عن بعض غيِّهِ حرامٌ أما ينهاه عن غيِّه العيبُ |
إننا حين نسمع مثل هذه القصة الدامية ليس لنا أن نجرم الفتاة وحدها، فالشاب أيضاً له نصيبٌ من الخطيئة كبير، لقد أطلق لعينيه النظر المحرم، وكرَّر النظر، وتمادَى حتى وقع، يقول عيسى ابن مريم عليه السلام: إياكم والنظرة بعد النظرة، فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بصاحبها فتنة.
وتأمل معي قوله: (تزرع في القلب الشهوة)، أفلا فعل هذا الشاب مثل سلفه؟! شاب عابد ورع كان ملازماً للمسجد، حَسَن السمت، وسيم الوجه، ممشوق القامة، نظرت إليه امرأةٌ ذات جمالٍ وحَسَب فشُغِفَت به، وطال ذلك عليها، فوقفت له يوماً على طريقه أمام منزله، فقالت له: يا فتى! اسمع مني كلماتٍ أكلمك بها، ثم اعمل ما شئت.
فأطرق ملياً وقال لها: هذا موضع تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً.
فقالت له: والله ما وقفتُ موقفي هذا جهالةً مني بأمرك، وأنتم معاشر العُبَّاد في مثال القوارير، أيُّ شيءٍ يعيبه، وجُمْلَة ما أكلمك به: أن جوارحي كلها مشغولةٌ بك، فالله .. الله ..! في أمري وأمرك.
فمضى الشاب إلى منزله، وأراد أن يصلي، فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً، ثم خرج من منزله، فإذا بالمرأة واقفةٌ في موضعها، فألقى إليها الكتاب ورجع إلى منزله، وكان الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلمي أيتها المرأة أن الله تبارك وتعالى إذا عُصِي حَلم، فإذا عاوَدَ العبدُ المعصيةَ سَتَرَه، فإذا لَبِس لها ملابسها غضب الله عز وجل لنفسه غضبة تضيق منها السماوات، والأرض، والجبال، والشجر، والدواب، فمن ذا يطيق غضبه؟! من ذا يطيق غضبه؟! فإن كان ما رأيتِ باطلاً، فإني أذكِّركِ يوماً تكون السماء كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفتُ عن إصلاح نفسي، فكيف بإصلاح غيري، وإن كان ما ذكرتِ حقاً فإني أدلكِ على طبيبٍ هو أولى بالكُلُوم الْمُحرقة، والأوجاع الْمُمرضة، ذلك رب العالمين، فاقصديه على صدق المسألة، فإني متشاغلٌ عنكِ بقوله عز وجل: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:18-19]، فأين المهرب من هذه الآية؟!
أوصيكِ بحفظ نفسكِ من نفسكِ، وأذكِّركِ قوله عز وجل، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمَّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60].
فصرف الله عنه كيدها وسلَّمه من فتنتها.
العفة -أيها الشباب والشابات- ذلك الجمال الذي لا يراه إلا من امتُحن كهذا فصَبَر، لا يحس به إلا يوسف عليه السلام، ومَن وُضِع في أتون الاختبار، فعصمه الله باستعفافه، العفة عما حرم الله هي تاج الفضيلة، وسوار المروءة وخاتم التقوى.
الموت خيرٌ من ركوب العارِ |
والعارُ خيرٌ من ركوب النارِ |
واللهُ مِن هذا وهذا جاري |
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن أنه قال لـعلي رضي الله عنه: (يا
وأما مَن لا خلاق له من البائعين، ومَن نَصَبوا شراك الرذيلة ببنات المسلمين فحرِيٌّ بالفاضلات إذا تعرضن لتحرشهم أن يبادروا إلى تبليغ هيئة السوق، كما فعلت إحدى الفتيات التي كان من عفتها أن كتَبَتْ طلباتها في ورقة وسلمتها للبائع ليحضرها بصمت، فكتب الذئب رقمه الجوال، وسلَّمها طلباتِها والورقة، فلما رأت رقمه في الورقة سلمتها لمَحْرَمها الذي كان معها فوراً، فطار بها إلى هيئة السوق، فاتصلوا به وهم بالقرب منه، فلما رَنَّ هاتفه وحادثوه للتأكد من ذلك أخذوه ليَلْقَى جزاء استهتاره بأعراض المسلمين، ولو سكتت هذه الفتاة لراح هذا اللص يحاول العبث بعرض مصونةٍ أخرى.
بينما هناك فئةٌ أخرى من الفتيات والنساء أهملتهن أسرهن، وغفلت عن تربيتهن، وألقت بهن في كل مكان يرغبن فيه دون أية رقابةٍ أو سؤال، سواءٌ مع السائق الأجنبي، أو بإيصالهن ثم تركهن يُبْحِرن في أمواج الفتن وحدَهن، يفاصلن البائعين ويتحدثن معهم بكل جرأة، بل ربما يصحبن ذلك بضِحْكةٍ مريبة، ونكتةٍ تبدو بريئة، وكلماتٍ مكسَّرة، حتى لَيَعْجَب بعض البائعين الذين لقيتُهم مِن حال بعض الأزواج الذين يجلسون مع الأطفال في السيارة ونساؤهم في داخل المحل يزاحمن الرجال، ويتعرضن لكل أنواع المعاكسات بالعين واللسان واليد، فكان الحصاد من جنس الزرع.
هذه فتاة وجدت نفسها بين أبٍ مشغولٍ بدنياه، وأمٍ لاهية في نُزُهاتها وأعمالها، فانغَمَسَت في مشاهدة الأفلام التي كانت تتبادلها مع البنات في المدرسة، وأُغْرِمَت بالغناء -والغناء بريد الفاحشة- وأدْمَنَتْ على مهاترات الفضائيات، وليس أسوأ من الفضائيات إلا مواقع الفساد في الإنترنت حين تُغْلِقُ الفتاة على نفسها باب غرفتها، وتفتح مع الفاسدين غرف الدعارة صوتاً وصورة، وأهلُها في سباتهم غافلون، يظنونها تذاكر، أو غير ذلك، فجاشت شهوات هذه الشابة الفارغة، وتَمَلْمَلَت وهي بين جدران غرفتها المصْمَتَة، فتطلعت لتقيم علاقة حقيقة برجلٍ غريب، وخاصةً أنها لا ترى عيون الأهل تراقبها، بل ترى كل يوم عشرات العلاقات التلفازية الجنسية المغرية، وفي السوق يسهل التطبيق وتصديق الرغبات، رأت أحدَ البائعين أنيقاً في مظهره، يضع المحسنات على وجهه، ملامحُه تدل على أنه من بلدٍ عربي آخر، فهامَت به.
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائداً لقلبك يوماً أتعَبَتْكَ المناظرُ |
رأيتَ الذي لا كُلُّه أنت قـادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ |
وبعد ملاطفةٍ عذبة من البائع بادَلَتْه الكلام الخاص بالسلعة؛ ولكن في إطار مخالفة قوله عز وجل: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، وخرجت وقد وقع الشاب المتبرج في قلبها، ولسان حالها يقول:
أتاني هواهُ قبل أن أعرف الهوى فصادفَ قلباً خالياً فتمكنا |
فأحست برغبةٍ عارمةٍ للعودة إليه، فعادت بعد أيام لتبادله أحاديث موسَّعة وصلت إلى عبارات الحب والغرام، وراحت تكثر من زيارة المحل، وأخذ يفصح لها عن حبه لها، ويَعِدُها بالزواج منها، وذات يوم وفي غمرة المشاعر المحتدِمة، والأحلام الوردية أدخلها المجرم من بابٍ خفيٍ في المحل التجاري إلى غرفةٍ صغيرة؛ لتقع الكارثة الكبرى برضاها، وتفقد شارة العفة، ودليل الشرف في لحظةٍ من لحظات الضعف والاستهانة بمراقبة مَن يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وبدأت بعد ذلك سلسلةٌ من الزيارات الموبوءة، وهذه المبتلاة تُرْخِص كلَّ مرةٍ لعشيقها إيمانها، وتُذِلُّ له عفتها، وتمزق بين يديه شرف أهلها.
وذات يوم أتته وهو يتحدث مع متسوِّقةٍ أخرى، وإن شئت فقل: ضحيةً جديدة، فنادته، فغلَّظ لها الكلام، فتعجَّبت من تعامله الجديد؛ ولكنها أخبرته بأنها تحمل خبراً هو أكبر من كل ذلك، وهي ترتجف خوفاً، قالت له: أنا حامل، أنا حامل.
فتمعَّر وجهُه خشية الفضيحة والعقوبة.
فقالت له: ألَمْ تعِدْني أن تتزوج مني؟!
فقال لها: كيف، وأنا لست من أهل هذه البلاد؟!
فقالت: أنا أدبر الأمر مع أهلي، سوف أبكي حتى يوافق أبي، المهم أن تتقدم لخطبتي، واترك الباقي عليَّ.
فصرفها ليفكر، واستشار أحد أصدقائه في مخرجٍ من هذه الأزمة، فضحك منه صديقه، وقال له: هذا أمرٌ يسير، وقد خرجتُ منه مع أربع فتياتٍ من قبل، حيثُ أذهب إلى عجوزٍ أجنبية ماهرة تجهضهن أمامي.
ففرح المجرم بهذا المخرج، وجاءت الفتاة وهي تنتظر قرار الزواج، فأخبرها بالمخرج المقتَرَح، فرضيَت مُرْغَمَةً ذليلة، وركبت مع الذئبين وحيدةً فريدة، وحين وصلوا إلى بيت العجوز أخبرهم الجيران أن رجال الأمن -وفقهم الله- قد قبضوا عليها، فارتجف الذئب خوفاً؛ ولكن صديقه المتمرس في الخطيئة طمأَنَه؛ لأنه رأى الأمر أربع مرات بعينيه، وهو على استعدادٍ تام أن يقوم بالإجهاض بنفسه، والفتاة المغلوبة على أمرها تسمع الكلام، وقد استسلمت بكل حسرةٍ لما يريدون، المهم أن تتخلص من هذه النطفة القذرة والعذاب المهين، وليس وراء معصية الله إلا العذاب.
واشترى المجرم أدوات الإجهاض، وهَتَكَت الفتاةُ سِتْرها مرةً أخرى أمام الذئبَين، وراح مدعي الخبرة النكراء يجري العملية وكأنه يتعامل مع حَجَرٍ لا بشر، والفتاة تصرخ بين يديه من الألم، حتى إذا أخرج ما تخلَّق في رحمها إذا بها تصرخ صرخةً قوية سكَتَت بعدها، فأخذا يوقظانها فلم يتمكنا، إذ أنها حينَها فارقت الحياة في أتعس خاتمة، فلما رأيا أنهما قد تورطا بها ذهبا بجثتها إلى كومة من المخلفات ودفناها تحتها، وراح الأهل بعد أن صحوا من غفوتهم يبحثون عن فتاتهم، وأبلغوا الشرطة، وبعد فترة إذا بأحد الذاهبين إلى صلاة الفجر في المسجد القريب من مكانها يكتشف هذه الرائحة المتعفنة، وبعد البحث والتحقيق والتفتيش انكشفت الأوراق، وظهر المجرمان؛ لينالا عقوباتهما التي تليق بأمثالهما.
وهكذا تتطور النزوة المجردة أمام الشاشة إلى محاولةٍ جريئة للتطبيق العملي في السوق، إلى فاحشة، ثم إلى قتل، ثم إلى فضيحةٍ في الدنيا قبل الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
تفنى اللذاذةُ ممن ذاق صفوتهـا من الحرام ويبقى الوزر والعارُ |
تبقى عواقب سوءٍ في مغبتهـا لا خير في لذةٍ مِن بعدها النارُ |
لقد دُعِيَت إحدى الأمريكيات اللاتي مَنَّ الله عليهن بنور الإسلام بعد عماية الكفر، لإلقاء محاضرةٍ في دولةٍ عربية، وبعد أن تهيأت الفتيات المسلمات في قاعة المحاضرات لاستقبالِ قامةٍ فارهة، ينسدل على أطرافها شعرٌ أشقر، ويزهو بها فستان يلاعب أطرافه ساقين عاريين، إذا بهن يتفاجأن بسوادٍ تام لا تبدو منه عينان ولا كفان، تتقدم في عباءتها السابغة، وتتسنم المنصة المنصوبة على مسرحٍ فخم، ثم تلتفت يمنةً ويسرة؛ لتتأكد من خلو القاعة من الرجال، ثم تكشف حجابها عن وجهٍ أضاءته الطهارة والإيمان؛ لتقول لبنات الأصلاب المسلمة: يؤسفني أن الحضارة التي لَفِظَتْها أمريكا وأوروبا لَعَقْتُنَّها أنتن يا بنات الإسلام بكل ما فيها من فسادٍ وانحطاط.
أرأيتِ هداكِ الله سترها الجميل؟! أرأيتِ أن الراكضات خلف الموضات الغربية هن مخدوعات وحسب، وقد تركن خير هديٍ وراء ظهورهن؟!
وإني أتمنى أن تصارحي نفسكِ: كيف تقبل المرأة المصونة العفيفة عرض جمالها في السوق سلعةً رخيصةً تتداولها الأعين؟! كيف يرضى لها حياؤها أن تكون مبعث إثارةٍ وشهوة في نفس كل رجلٍ يراها؟! بل كيف تطيق الشعور بأنه يصبو إليها ويتمناها؟!
وإلا فماذا كنتِ تقصدين حينما لبستِ القصير تحت عباءةٍ تصف تضاريس جسدِكِ، وضربت بالكعب العالي في السوق؛ لتقرعي به طبلات آذان الرجال، وصنعتِ من شَعَرِكِ ما يُخشى أن يُدْخِلَكِ في وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (صنفان من أهل النار لَمْ أرهما: وذكر منهما: ونساءٌ كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم ؟!
أوَكنتِ تتوقعين أن تكوني محترَمة، لافتة لأنظار المحترمين من الرجال، أو من أشباه الرجال، الباحثين عما يشبع أنيابهم المسعورة، والذين لا يتعاملون مع روحكِ وقلبكِ، ولكن مع لحمِكِ ودمِكِ؟! لقد أعلنها هؤلاء الشباب بكل صراحة، فاسمحي لي أن أسمعكِ كلامهم.
يقولون: إننا لا نجرؤ على معاكسة المحتشمات، ومَن تستجب لنا فإننا نعرف أنها مريضة وقلقة، وأن أهلها لا قيمة لهم عندها، وأنها فتاةٌ كاسدةٌ اجتماعياً، تبحث عمن يشتريها، وإنَّ مَن تقبل الرقم، وتتصل وتُخدع بالكلام المعسول الذي قلناه لمئاتٍ غيرها فإننا نحذفها من قاموس الزواج إلى الأبد، فالبنت التي تقبل أن تتصل بي، وتركب معي لا آمن أبداً أن تتصل بغيري وتركب معه ولو بعد الزواج، إننا بعد أن نأخذ منها ما نريد ونشتهي نتفُلها ولا نبالي ببكائها.
ألا فاصرخي في وجوه هؤلاء المستهترين بدينك، وأعراف مجتمعك، وبشخصيتك أنتِ يا مسلمة، وقولي:
بيدي العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أعلو على أترابي |
اصنعي من منزلك عشاً تحوطه رياش الفضيلة، وتغرد فيه الأنسام الطاهرة.
مارسي هوايات نافعة.
امتهني القراءة المفيدة.
تدربي على خدمة البيت لتستقبلي بإذن الله الحياة الزوجية القادمة إن شاء الله بجدارة.
كوني مصدر الألفة -في المنزل- والمحبة؛ لتُشْبِعي روحَكِ الفرحةَ بالحب الطاهر النقي.
استعيني بالصلاة، وتلاوة القرآن، والصيام، على هزيمة شياطين الإنس والجن، ونزوات النفس الأمَّارة بالسوء.
وإذا أردتِ الخروج إلى السوق -حفظكِ الله، وأسعدكِ، وأبعد عنكِ عيون السوء- فاسألي نفسكِ: هل هذه ضرورة أو حاجة ملحة؟! فإن كانت كذلك، فحدِّدي هدفكِ بتسجيل مشترياتك.
واصحَبِي معكِ مَحْرماً محترماً.
والبسي العباءة الساترة والجوربين -الشرابين- والقفازين.
ولا تتعطري، فمن شَمَّ الرجال عطرها فهي زانية.
ولا تمشي في وسط الطريق.
ولا تكوني أول الداخلين السوق، ولا آخرهم، فقد ورد النهي عن ذلك.
ولقد تألمتُ كثيراً حين سمعتُ عن بعض الرجال الذين يتركون نساءهم حتى الواحدة بعد منتصف الليل، وهن ينتظرنهم على الرصيف في الأسواق، وأتساءل: أين هم؟!
لا أدري!
كيف يثقون في الشياطين الحائمة حول الحمى؟!
لا أدري!
واقصدي -يا أمة الله- محلاتٍ محدودة، فإن السلعة تتكرر، والفروق في الأسعار لا تستحق كل هذا السعي المتواصل والتعب المرهق.
وإياكِ أن تدخلي محلاً تجارياً خالياً من صاحبه، أو تكوني فيه الزبونة الوحيدة، بل لا تقبلي من محرمكِ أن يبقى في السيارة ولو مع أطفاله ثم تدخلي وحدك المحل، فكم حدثت من مضايقات، لم تكن لتحدث لو كان مع المرأة محرمها!
واختصري في البحث عن السلعة.
واطلبي من البائع أن يتنحى جانباً حين ترغبين في رؤية سلعة.
ولا تنحني أمام الرجال.
وضعي نقودكِ في مكان قريب في يدكِ حتى لا تتكشفي حين تبحثين عنها.
ولا تسلمي البائع النقود بيدٍ عارية.
ولا تحرصي على الغالي الثمن لغلائه ولتباهي به القرينات، فإنه: (مَن جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) كما ورد في الحديث الشريف.
واحذري من ثوب الشهرة الذي قال عنه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة).
واحذري -يا أختاه- مـن تأخير الصـلاة عن وقتها، فالله تعالى يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].
ولا تصغي لكلمات الغزل من الفارغين، بل بلِّغي عنهم إذا استطعتِ دون أن تتحدثي معهم نهائياً، فهم يتمنون أيَّ التفاتة منكِ أو كلمة.
واحذري، من تجمع الفتيات الفارغات من الخلق الرفيع، فقد تغريكِ إحداهن برقم شاب لتتعرفي عليه بمجرد الحديث البريء كما تزعم لكِ، وهي إنما تريد أن توقعكِ في الفخ الذي وقََعَتْ فيه، وربما تهديكِ شريطاً خليعاً لتأخذ رِجْلكِ إلى السوء، وربما دعتكِ إلى المنزل وهناك تبدأ قصص الجريمة الخُلُقية، والنهايات المأساوية التي تشيب لها النواصي النقية.
والمرأة الحسناء تبكي حسنهـا إن ضاع منها عزُّها وإباؤها |
فامضي على درب الرشاد فإنهُ زادٌ وللنفس السقيم شفاؤها |
أخيراً: أيتها الفتاة! أيتها المرأة المسلمة! إن كنتِ محافظةً على عفافك؛ فاحرسيه حتى تلقي ربكِ نقيةً طاهرةً عفيفة.
وإن كانت البعيدة قد أغراها الشيطان بالانغماس في التزين والتبرج المحرم، والخروج بهذا إلى الأسواق بقصد فتنة الرجال، فلا يزال الباب مفتوحاً للتوبة، فلتسرعي يا أختاه، فإني مشفقٌ عليكِ فما قلته لكِ لا يتطلب أكثر من إيمانٍ قويٍ بالله، وأنتِ -والحمد لله- مسلمةٌ مؤمنةٌ بالله عز وجل، وإرادةٍ قوية، وأنتِ تملكينها بهذا الإيمان.
وتصوَّري نفسكِ كلما نازعتك أهواؤك ورغباتكِ الجامحة إلى الرذيلة، تصوري نفسك وأنت تنازعين الموت ثم تفارقين الحياة، وإذا بهذا الجسد المتزين يعود جثةً هامدة لو تُرِكَت لتعفنت، وإذا بهذا البدن الطري الناعم قد تعرى من كل زينةٍ وحلية غير ثوبين أبيضين ثم ترفعين على أكف الرجال، فمِن جاهلٍ بك يردد: يرحمها الله، ومن كاتمٍ في نفسه ما قد يُعْرَف عمن بذلت جسدها وزينتها للأجانب دون حياء.
ثم تذكري وقوفكِ أمام الله وحدك، فقد رُفِعَت للغابرين ألوية الفضيحة، تصوري فضيحتكِ بين الخلائق من أنبياء وصالحين، وملائكة مقربين، وأهلٍ وعشيرة، والناس أجمعين.
إن هذا الجسد المتعطف لا يطيق النار يا أختاه، وأخاف عليكِ موقفاً هائلاً يقول الله فيه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12].
إنكِ -يا أختاه- تَحملين من نور الإيمان ما يَجعلكِ تعودين إلى الله لتغسِلي ما لطَّخَتْه يد الذنوب بدموع الندم والإنابة.
هذا ما أتوقعه من مؤمنةٍ بالله، واليوم الآخر، والحساب.
وفقني الله وإياكِ لهداه، وثبتنا جميعاً على ما يرضيه، وجعلنا جمعياً ممن يستمع القول الحسن فيقول: سمعنا وأطعنا.
هذه نوال بعد أن اكتوت بتجربتها تقول بكل أسف: كان دافعي وراء هذه المغامرة الجريئة هي مراهقتي المتمردة، في ظل إهمال أهلي لتربيتي، وشدتهم في تعاملهم معي، واحتقارهم لشخصيتي، فحاولتُ إثبات شخصيتي منفردةً برأيي، وحين تعلقتُ بأحد الشباب وجدت منه اهتماماً بالغاً، كنتُ في حاجةٍ ماسَّةٍ إليه، وسؤال في كل وقتٍ عن حالي وراحتي، أتلقى منه الهدايا الثمينة، والأشعار الجميلة.
ثم تقول بعد أن استمرت في وصف هذه الفتنة: لم أكن أنظر إلى كل هذه التصرفات إلا أنها سلوكيات تافهة حقيرة مع استمراري فيها، وهي في الوقت نفسه فترة رعبٍ وخوفٍ وقلق، وأنا الآن أفضل حالاً وأكثر راحة بعد أن تخلَّصت من كل ذكريات الماضي معه، ولن تتكرر التجربة أبداً إن شاء الله.
ثم تنهَّدَت وقالت: كان هَمَّاً وكابوساً مزعجاً، وانزاح والحمد لله.
وتقول فاتن بحسرةٍ وألم: إن المعاكسات هوايةٌ تبدأ فيها الفتاة بنشوة الصعود إلى أعلى، إلا أن تلك النشوة سرعان ما تزول، وتهوي الفتاة من الأعلى على رأسها، ومعي تجارب عدة، دفعني إليها الفراغ الشديد بعد انقطاعي عن الدراسة، واستيقظتُ وقد عاقبني الله عز وجل، بل قدَّم عقوبتي في الدنيا، فكانت علاقاتي بغيري هي نصيبي من الحياة الزوجية، فقد فاتني قطار الزواج، ولم يمر بمحطتي أبداً.
فلتحْذَر جميع الفتيات من هدر مشاعرهن وقلوبهن؛ لأنها أمانةٌ لديهن، لا تكون إلا لصاحبها، وليتقين الله، ما أحقر وما أتعس حياة المعاكسات! وما أشد الندم بعد انقضاء الملذات!
وهذا أحد الشباب يقف على رصيف الشارع وقد أتى بغرض المغازلات والتسكع فينتهي إلى سَمْعِه صوت أحد الدعاة من شريطٍ مسجل تذيعه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقترب ويقترب حتى يجلس أكثر من ساعة، وهو يحس بأنه يغتسل بهذه الموعظة المتدفقة، ويتخلص شيئاً فشيئاً من سوابقه السيئة، وينتهي به الأمر أن يدخل إلى رجال الهيئة في اليوم الثاني بجميع أشرطة الغناء ليعلن بين أيديهم توبته من الغناء، والخنا، والمعاكسات، والفحش، وأسبابها.
وفتياتٌ كثيرات يتوافدن على هذه المراكز التي تقف شامخةً تدافع عن أعراضنا، وتحمي شرفنا من أن تمتد إليه مخالب المكر، يتوافدن ليأخذن مطوية فتاوى أو كتاب فقه، أو شريط دعوة، فيأتين بعد فترةٍ قصيرة بمئات الأشرطة من الفيديو والكاسيت مما حرم الله سماعه ورؤيته ويتخلصن منه.
وهذه امرأةٌ أخرى تركب في إحدى السيارات بطريقةٍ مريبة فيوقفها رجال الحسبة، ويأخذون الشاب معهم إلى المركز، فتنفجر باكية، وتصيح بهم: إنني والله امرأةٌ عفيفة، وهذه هي المرة الأولى التي تزل فيها قدمي، والحمد لله الذي سترني بكم، وما ركبتُ إلا لأفرغ همي من جراء غياب زوجي عني كثيراً، وعدم اهتمامه بي، إنه لا يكاد يتكلم معي، وكنت أريد أن أتحدث مع من يسمعني وحسب، فأرجوكم أن تستروا عليَّ، فنصحوها وستروا عليها.
وهنا أتذكر قصةً لأحد الرجال الذي عاش مع زوجته سنين متعاقبة طويلة، ورزقهم الله سبحانه وتعالى بالبنين والبنات، فزوجوا الأولاد جميعاً ذكوراً وإناثاً، وبعد أن زوجوا آخر واحدٍ منهم إذا بالمرأة تطلب الطلاق من زوجها الكبير السن.
فقالوا لها: كيف وقد كَبِرتِ وكَبِر؟! ولماذا؟
قالت: إني أريد أن يموت حسرةً وحيداً فريداً، فقد تركني طوال عمري لا يكلمني إلا لِمَاماً، ولا يلتفت عليَّ إلا شيئاً يسيراً، وكأنني لا شيء في حياته، فَلْيَمُتْ وحده الآن.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر