يقول هؤلاء الذين كفروا على كثرة ما قالوا من حماقات شنعاء لا معنى لها في دين ولا دنيا، وإن هو إلا الحقد والبغضاء للحق وللدين ولنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ [الفرقان:32] أي: هلا نزل عليه القرآن، جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] أي: دفعة واحدة، وإنما نزل عليه منجماً يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة.
فيقول الله تعالى: كَذَلِكَ [الفرقان:32] أي: كذلك أنزلناه منجماً مفرقاً خلال ثلاث وعشرين سنة للمصالح التي تتجدد، ولما هناك من ناسخ ومنسوخ، وأحكام وقصص، وأسئلة يسأل عليها كافرون ومؤمنون.
فلو نزلت الآية التي فيها سؤال قبل السؤال لكانت قد نزلت في غير موضعها، وفي غير وقتها، فلا تؤدي المعنى الذي أدته وقت الحاجة لذلك، وكانت الحاجة في مكة إلى الدعوة إلى الله وتوحيده، وإلى تزييف الأصنام، والتعريف بأن الشرك بالله ضلال وباطل، وإلى أن الله لا ثاني معه لا في ذات ولا في صفات ولا في أفعال.
وبعد أن مر على الإسلام والمسلمين اثنا عشر عاماً، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أخذت الأسباب تدعو لأن يكون ثم آيات أخر ووحي آخر ينزل بأحكام الحلال والحرام، وينزل بالآداب، وينزل أجوبة للأسئلة.
وكثيراً ما قال تعالى في كتابه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219].
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222].
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فهذه الأسئلة لو نزلت أجوبتها قبل سؤالها وقبل الحاجة إليها لما أدت المعنى المطلوب.
أما الثانية: فالوحي شيء ثقيل ومهمة لا تكاد تحملها الجبال الرواسي، فعندما نزل الوحي في غار حراء على نبينا عليه الصلاة والسلام رجع إلى زوجه أم المؤمنين خديجة وهو متزعزع النفس، يقول لها: (زملوني زملوني) أي: غطوني، وهو لا يعلم ما الذي حدث إلا ساعة نزول جبريل، وقد ضمه إليه ضمة كادت أضلاعه أن يدخل بعضها في بعض، وهو يقول له عند كل مرة: (اقرأ، فيجيبه: ما أنا بقارئ) هكذا ثلاث مرات، إلى أن قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].
ثم انقطع الوحي قيل: ثلاث سنوات، وقيل: بضعة أشهر، حتى اشتاقت النفس النبوية الكريمة لتلقي الوحي، وقد أعدت روحه ونفسه لذلك، ثم أخذ الوحي ينزل متقطعاً ثم متتابعاً، وقبل أن يموت بقليل صلى الله عليه وسلم صار ينزل عليه الوحي في كل حين وفي كل وقت، سفراً كان أو حضراً، ليلاً أو نهاراً، ينزل عليه وهو مع الناس، أو في بيته، وهكذا إلى أن نزلت آخر آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
فعندما أخبر بكمال الإسلام، وبتمام النعمة والرحمة إذ ذاك كان الوحي قد نزل متتابعاً.
أما سبب سؤال الكفار للنبي أن ينزل عليه القرآن دفعة واحدة فهو زعمهم أن التوراة والإنجيل والزبور نزلت على أنبيائها دفعة واحدة.
فنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، ولكن هذا لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى كلاماً قد قيل، ولعله قد بلغنا عن علماء أهل الكتاب، ونحن لا نصدق ذلك منهم ما لم يؤكده آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن نزل جملة واحدة للسماء الدنيا، ثم أخذ جبريل ينزل به منجماً، مرتلاً رتلاً بعد رتل، وأرسالاً بعد أرسال على نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد قال تعالى في سورة القدر: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
أي: أنزل الله كتابه القرآن الكريم إلى السماء الدنيا ليلة القدر؛ ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان، ثم تكفل جبريل بأن ينزل به على نبينا عليه الصلاة والسلام بالمناسبات، وعند الحاجة، وعندما يسأله سائل أو تحدث قصة أو حدث، وهكذا.
وسؤال الكفار بأن ينزل القرآن على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم جملة واحدة ودفعة واحدة، أو ينزل وقتاً بعد وقت وزمن بعد زمن ماذا يفيدهم ذلك وهم لا يزالون على كفرهم؟ إن هو إلا الفضول، والكفر والقول بغير علم وبغير فهم وبغير إدراك.
قال تعالى: كَذَلِكَ [الفرقان:32] أي: كذلك لم ننزله جملة واحدة، ولا في زمن واحد، ولا مرة واحدة، بل نزلناه في مكة وفي المدينة وما بينهما، والنبي مسافر أو حاضر أو كان بين قومه وهكذا؛ ليتقبل ذلك بنفس قوية، ويكون استعداده لذلك استعداد الرجال المتحملين لثقل المهمة والرسالة.
فكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وكان بجانبه أحد ووقعت ركبته عليه فإنه يحس بثقل شديد، وتكاد عظامه تتكسر لثقل ما يشعر من الركبة النبوية عندما يتنزل عليه الوحي.
وكان ينزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو على ناقته فتشعر بأن الناقة تحمل أطناناً من الثقل، حتى تكاد أن تعجز عن حمل ذلك وتقع؛ لثقل ما تحمله من الوحي.
ولذلك فإن هذا الوحي لو نزل جملة واحدة لما تحملته الذات البشرية التي هي من عصب ولحم ودم، فكان الله ينزله زمناً بعد زمن؛ إعداداً للنفس النبوية لتستطيع تحمله.
قال تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان:32] أي: ليثبت قلبك، وترسخ نفسك، وتستقر على قبول ذلك، وتلقيه، ووعيه، وفهمه، وحفظه؛ ليؤديه بدوره للناس حلالاً وحراماً، عقائد وقصصاً، آداباً ومعاملات.
وقوله تعالى: وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32] أي: نزلناه شيئاً بعد شيء، ورتلاً بعد رتل، ووقتاً بعد وقت، وزمناً بعد زمن، مرتلاً مفهماً؛ ليستطيع صلى الله عليه وسلم تقبل ذلك بوعي كامل وفهم كامل وحفظ كامل.
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام والوحي ينزل عليه يخاف أن يفلت منه، فتجده يعيده مع نفسه، فأمر ألا يعيد الآية ويكررها، بل يستمع ويعي إلى أن ينتهي، فالله قد تكفل له بذلك، وقد تم له كما يريده.
أي: لا يأتيك هؤلاء الكفار بمثل من الأمثال التي يضربونها لك بالمتشابهة من الأضاليل والأباطيل إلا جئناك بالحق الذي يزيفها، ويدحضها، ويكشف باطلها، مما يصلح حقاً تدركه النفوس السليمة والعقول المدركة، أما التي لا علم عندها ولا نور ولا إيمان معها فتلك كالأنعام بل هي أضل.
فقوله: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:33] أي: بضرب مثل أو تشبيه، فقد كانوا يقولون فيه تارة بأنه افترى، وتارة بأنه بشر من الناس يأكل ويشرب، ويتنقل في الأسواق، ويتزوج كما نتزوج، ويتألم كما نتألم، ويسر كما نسر، فهذه الأمثال التي يأتون بها يأتي الله عليها بالحق وبما هو أحسن تفسيراً، وأبين وضوحاً، وأكمل وعياً وأداءً.
وأصل التفسير: الفسْر، والفسْر معناه: الكشف، ويقال: نحن نفسر كتاب الله، أي: نكشف حقائقه، ونبين معانيه، ووقت نزوله، وماذا يراد به مما فسره به المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الأكرمون والتابعون لهم بإحسان، وما ورد في ذلك من إجماع، وما تؤديه اللغة العربية بلاغة ونحواً ولغة.
فالتفسير: التبيين والكشف والفسر عن الشيء حتى يبين ويوضح، فيقول تعالى: ما ضرب هؤلاء الكفار أمثالاً لك لضلالهم وزيغهم ما أنزل الله بها من سلطان إلا وأجبناك عليها بالحق، وبالواقع، وبما ليس فيه زيف ولا باطل، وهو أحسن تفسيراً، وأحسن بياناً، وأحسن كشفاً.
وكلمة (أحسن) هنا ليست على بابها، فمعنى القرآن حسن التفسير، أي: حسن الإيضاح والبيان، أما أمثالهم فلا حسن فيها، ولا بيان معها، ولا كشف لحقيقة تؤخذ منها.
هؤلاء الكافرون الذين يهرفون بما لا يعرفون، والذين يضربون لك الأمثال الضالة الباطلة؛ زيغاً وفساداً وصداً عن الله وعن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيحشرون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم.
وسئل النبي عليه الصلاة والسلام كيف يكون ذلك؟ فكان الجواب: (الذي جعله يمشي على قدميه قادر على أن يجعله يمشي على وجهه) وقد فعل جل جلاله ما أخبر؛ لكفرهم في الدنيا، ولطغيانهم، ولكبريائهم على الله ورسوله، ولتعاظمهم على عباد الله، وعلى العارفين بالله، وعلى الداعين إلى الله.
فهؤلاء الكافرون الذين لم يؤمنوا بالحق عندما يحشرون فإنهم يحشرون على وجوههم، فتكون وجوههم إلى الأسفل، فقد كانوا في الدنيا يمشون على أقدامهم، ففي يوم المحشر يمشون على وجوههم زاحفين، ويبقون في المحشر كذلك إلى أن يصدر الأمر الإلهي للملائكة بأن يجروهم كذلك إلى جهنم وبئس المصير.
وقوله: أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا [الفرقان:34] أي: الذين ضربوا الأمثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهموه في صدقه، وفي علمه، وفي الكتاب المنزل عليه، وفي عقله وإدراكه وقالوا وقالوا، هم شر مكاناً.
والشر أيضاً على غير بابها، فهم الأشرار، وهم المبطلون، وهم الفاسقون، وهم الكذبة الفجرة.
وأما سيد البشر صلى الله عليه وسلم فهو في الذروة العليا: مكاناً وصلاحاً، وتقىً، وصدق رسالة، ونبوءة تبليغ وبلاغ بما كلفه الله به أن يبلغه.
وأما أولئك الكفرة الفجرة فأولئك في مكان شر وفاسد، في جهنم وساءت مصيراً.
وقوله: وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:34] أي: هم الأضل طريقاً، وأيضاً معنى (أضل) هنا على غير بابها، أي: هم الضالون في طريقهم وفي سبيلهم، فليست الطريق التي يسلكونها إلا طريق الكفار والمغضوب عليهم، والضالين والمشركين.
وأما طريق النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطريق المستقيم، وطريق الأنبياء والمرسلين، وهو الطريق الذي أمر الله به، ودل عليه كتاب الله، وهو الطريق الذي فسره وبينه بوحي من ربه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ولذلك فإن الدنيا فيها ظلمة ونور، وحق وباطل، فللمؤمن النور والحق، ولمن سوى ذلك الضلال والظلمة والفساد والزيغ عن الحق أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:34].
قد بينا وفصلنا في غير ما سورة من السور قصة موسى وهارون مع فرعون وبني إسرائيل، وقصة نوح مع قومه، وقصة هود مع عاد، وقصة صالح مع ثمود، وقصة لوط مع قومه.
فالله كرر هذا إشارة وتلويحاً مختصراً؛ ليهدد وينذر هؤلاء الكافرين بمثل العذاب الذي لقيه أولئك الكفار الجاحدون، ألم يأخذوا منهم عبرة وآية ودرساً؟ ألا يزالون مصرين على كفرهم وقد سمعوا ما جاء به الكتاب وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل فعلهم من الأمم السابقة كيف لعنوا ودمروا وانتهوا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى؟!
فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الفرقان:35] وهو التوراة.
وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان:35] أي: جعل موسى نبياً وعززه وأيده بأخيه هارون، فكان نبياً له مؤيداً ومؤزراً ومعيناً، والوزير: المعين والمساند والمؤيد.
فقد طلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، فاستجاب الله له فأرسلهما معاً إلى فرعون وهامان وقارون ، وإلى القبط وبني إسرائيل.
فجعله الله نبياً ووزيراً، مساعداً ومؤيداً ومعضداً ومسانداً، فكان كلاهما نبياً رسولاً، وكلاهما ذهب إلى هؤلاء فدعواهما إلى الله، وأتيا عن الله بالآيات البينات التي أعجزتهم، والتي ما زادتهم مع ذلك إلا الكفر والإصرار على الكفر.
ونبينا عليه الصلاة والسلام يدعو قومه إلى الله وإذا بهم يقفون في وجهه كما وقف الكفار في وجوه الأنبياء السابقين.
فقال تعالى لموسى وهارون معاً: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا [الفرقان:36]، فذهب موسى وهارون إلى فرعون فقالا: إنا رسولا ربك.
وذهبا إلى قارون وهو من بني إسرائيل، وقد كانت خزائن ملكه وأمواله تعجز عنها العصبة أولوا القوة، كانوا يعجزون عن حمل تلك المفاتيح لكثرة ما تمول، ولكثرة ما استغنى، حتى أصبح يضرب به المثل بالغني فيقال عنه: مال قارون . أي: أنه رجل يملك من المال الكثير.
فدعوا بني إسرائيل فكذب من كذب وآمن من آمن، وأما القبط فقد كذبوا جميعاً إلا من رحم ربك، ولا يكاد يذكرون إلا على الأصابع.
وبنو إسرائيل قد كانوا آمنوا أولاً، ثم ضل منهم من ضل عندما صنع لهم السامري عجلاً له خوار، وصنعه من الذهب وقال لقومه وقد ذهب موسى لميعاد ربه في الطور: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88].
فدعاهم إلى الوثنية من جديد بعد أن أراهم موسى العز والحرية ورفع شأنهم، فأزال عبودية قارون وهامان وفرعون عنهم، ولكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في القديم والحديث.
فعذب الله الأقباط بأن أغرقهم، وعذب بني إسرائيل بالتيه في الصحراء أربعين عاماً، ومن أراد منهم التوبة فلن تقبل منه حتى قتل بعضهم بعضاً؛ وذلك لأنهما أمراهم بالتوحيد، وبالطاعة، وبعبادة الله الواحد، والكفر بالأصنام والأوثان جميعاً، وإذا بهم يكذبونهما، ولم يؤمنوا بآية ولا بمعجزة، فكانت النتيجة بالنسبة للأقباط أن أغرقهم الله ودمرهم تدميراً.
قال تعالى: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا [الفرقان:36]، فدمرهم الله وأهلكهم وسحقهم، وأنهى وجودهم كأنهم لم يكونوا، وأصبحوا ورقة معلقة وخبراً وقصصاً في الكتب، فذهبت الأرواح والأولاد والبلاد والأملاك، وأصبحوا وكأن لم يكونوا في أمس الدابر.
والطوائف الكافرة من بني إسرائيل كذلك دمرهم الله تدميراً، وأهلكهم حتى أصبحوا عبرة للمعتبر، وأصبحوا يذكرون لمن يأتي بعدهم ويكفر كفرهم، فيهددون وينذرون بعاقبة كعاقبة الأقباط وبني إسرائيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام يدعو الناس للإيمان به، فمن كذبه كان جزاؤه في الدنيا عذاب الله وخزيه.
فقال تعالى لموسى وهارون معاً: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا [الفرقان:36] فذهب موسى وهارون إلى فرعون فقالا: إنا رسولا ربك.
وذهبا إلى قارون وهو من بني إسرائيل، ممن كانت خزائن ملكه وأمواله تعجز عنها العصبة أولوا القوة، كانوا يعجزون عن حمل تلك المفاتيح لكثرة ما تمول، ولكثرة ما استغنى، حتى أصبح يضرب به المثل بالغني فيقال عنه: مال قارون . أي: أنه رجل يملك من المال الكثير.
ودعوا بني إسرائيل فكذب من كذب وآمن من آمن، أما القبط فقد كذبوا جميعاً إلا من رحم ربك ولا يكاد يذكرون إلا على الأصابع.
وبنو إسرائيل قد كانوا آمنوا أولاً، ثم ضل منهم من ضل، عندما صنع لهم السامري عجلاً له خواراً، وصنعه من الذهب وقال لقومه وقد ذهب موسى لميعاد ربه في الطور: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88].
فدعاهم إلى الوثنية من جديد بعد أن أراهم موسى العز والحرية ورفع شأنهم، فأزال عبودية قارون وهامان وفرعون عنهم، ولكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل في القديم والحديث.
فعذب الله الأقباط بأن أغرقهم، وعذب بني إسرائيل بالتيه في الصحراء أربعين عاماً، ومن أراد منهم التوبة فلن تقبل منه حتى قتل بعضهم بعضاً.
وذلك لأنهما أمراهم بالتوحيد، وبالطاعة، وبعبادة الله الواحد والكفر بالأصنام والأوثان جميعاً، وإذا بهم كذبوهما، ولم يؤمنوا بآية ولا بمعجزة فكانت النتيجة بالنسبة للأقباط أن أغرقهم الله ودمرهم تدميراً.
قال تعالى: فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا [الفرقان:36] فدمرهم الله وأهلكهم، وسحقهم، وأنهى وجودهم كأنهم لم يكونوا، وأصبحوا ورقة معلقة وخبراً وقصصاً في الكتب، ذهبت الأرواح والأولاد، والبلاد، والأملاك، وأصبحوا وكأن لم يكونوا في أمس الدابر.
والطوائف الكافرة من بني إسرائيل كذلك دمرهم الله تدميراً، وأهلكهم حتى أصبحوا عبرة للمعتبر، وأصبحوا يذكرون لمن يأتي بعدهم ويكفر كفرهم، فيهددون وينذرون بعاقبة كعاقبة الأقباط وبني إسرائيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام يدعو الناس للإيمان به، فمن كذبه كان جزاؤه في الدنيا عذاب الله وخزيه.
أي: واذكر كذلك يا محمد قوم نوح عندما بعثنا لهم نوحاً، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله صباحاً ومساءً، حضراً وسفراً، ليلاً ونهاراً، وفي كل وقت وحين ونوح متحمل وصابر، فقد صبر أكثر من نبي الله أيوب، فأيوب صبر بضع سنوات.
أما نوح فصبر ألف عام إلا خمسين عاماً، إلى أن قال له الله: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، وقال: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].
فأخبره الله بأن الذين قد آمنوا لن يزيدوا، وهم قليل، فرفع يديه متضرعاً وقد صبر صبر الكرام، وقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27].
فدعا على الكبار والصغار؛ لأن الآباء والأمهات لا يلدون إلا أمثالهم، ويقبلون على الكفر، ولا ينصتون إلى نوح، ويصدون من آمن منهم عن نوح.
فقوله: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ [الفرقان:37] ولم يرسل الله إلى قوم نوح إلا نوح ومع ذلك ذكر تكذيبهم للرسل، ومعنى ذلك: تكذيب المبدأ، فمن كذب رسولاً واحداً فإنه يكون قد كذب جميع الرسل، ومن يعبد وثناً أو خلقاً أو حيواناً لم يؤمن برسول من الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة، والوحي واحد، والمعبود واحد، والمنزل للكتاب واحد.
فكان هؤلاء بتكذيبهم للرسول الواحد نوح كمن كذب جميع الرسل، وقص الله علينا قصة قابيل وهابيل عندما قتل أحدهما الآخر، فكان من قتل نفساً كأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
فمن أزهق روح إنسان فهو بنفسه الشريرة، وبخلقه القاسي، وبعدم خوفه من الله وعقابه كمن أزهق أرواحاً، ومن سعى في إحياء روح بالإحسان إليها، وبدفع الضر عنها، يكون كمن أحيا الناس جميعاً، وهذا باعتبار مراعاة المبدأ أو عدم مراعاته.
وهكذا قوم نوح عندما كذبوا نبياً واحداً كانوا كمن كذب الرسل كلهم، والرسالات جميعاً، فكفروا بالنبوءة والرسالة، وكفروا بالمرسل لها كذلك.
فقال الله عنهم: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ [الفرقان:37] أي: عاقبهم الله بالغرق، وهذا فيه تحذير وإنذار للذين يكفرون بمحمد خاتم الأنبياء وسيد الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً [الفرقان:37] جعل الله قوم نوح عبرة للناس، ومثالاً وتحذيراً، حتى إذا حاول أحد من الناس أن يصنع صنع قوم نوح من التكذيب برسل الله، والصد لرسل الله، والوقوف في وجه الدعاة إلى الله، كان عقابه ومآله وخاتمته هي خاتمة قوم نوح، فكانوا آية وعبرة.
وقوله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الفرقان:37] أي: اعتدنا وهيأنا لكل ظالم كافر، ولكل مشرك لا يؤمن بيوم الحساب عذاباً أليماً، كالعذاب الذي قابله وبلي به قوم موسى وهارون وقوم نوح كذلك.
فمن لم يؤمن من أمة محمد وكفر بالله ورسوله، فليحذر عاقبة كعاقبة المكذبين السابقين من أقوام الأنبياء السابقين.
أي: اذكر يا محمد! عاداً وموقفهم من نبيهم هود، وثمود وموقفهم من نبيهم صالح، وأصحاب الرس مع نبيهم.
أما قوم عاد فقد كفروا بالله، وجددوا كفر قوم نوح من قبل، فعندما أغرقت أمة نوح جميعها لم ينج من الخلق إذ ذاك إلا أصحاب السفينة، وهم بضعة عشر فرداً.
فكان نوح ومن معه آدم الثاني للبشر والخليقة كلها، فقد نجحوا من الغرق لإيمانهم ولدينهم، وبعدما مضت قرون أخرى عاد بعض أبنائهم إلى الكفر والعصيان ونسوا الذكر؛ لما متعوا به من طول الأعمار وقوة الأبدان، وكانوا يسمون العمالقة؛ للطول والعرض، والقوة في البدن وفي المال وفي العمل.
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً وكانوا وكانوا، فتفرعنوا وطغوا وجددوا الكفر السابق من قوم نوح، وإذا بالله الكريم يرسل عليهم الصيحة والزلزلة، فزلزلت بهم الأرض زلزلاً، وصاح بهم جبريل صيحة صرع الكل.
ومن دخل إلى أرض ثمود يجد الإنسان هيكلاً عظمياً قائماً أو ممتداً أو جالساً، يحلب بقرة أو يدير رحى أو يركب حماراً، وهو على هذه الحالة.
وهذا أيضاً قد حصل لبعض الشعوب هناك، والله لم يذكر لنا الكل، وإنما ذكر لنا أمثلة، وسيلخص ذلك ويقوله بعد هؤلاء.
وقوله: وَعَادًا وَثَمُودَ [الفرقان:38] عندما كفروا بأنبيائهم هود وصالح، وشتموهما، وهددوهما، وكذبوهما، ولم يؤمن بهما إلا قليل من الناس، كذلك الله تعالى أذهبهم بالصيحة وبالزلزلة وأصبحوا كأمس الدابر أيضاً، فالله يهدد من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بعاقبة كعاقبة هؤلاء.
ثم قال: وَأَصْحَابَ الرَّسِّ [الفرقان:38] قال بعض المفسرين: هم ما تبقى من قبائل عاد وثمود.
والرس: بئر، فكانوا هؤلاء قد نسبوا لها، وهم فئة جاءت من بعد وكفروا ككفر أسلافهم.
وقال البعض: بل هي قبيلة من قبائل شعيب كذبوا شعيباً، ونسبوا لهذه البئر.
وقال البعض: بل هو نبي جديد أرسل إلى أرض اليمامة في نجد، وكان قومه مجاورين لبئر يستقون ويشربون منها، فأرسل الله لهم نبياً فلم يؤمن به إلا عبد أسود، وكلهم كذبوه، ورسوه في الرس، أي: رموه في البئر وغطوا البئر بصخرة، وتركوه ليموت جوعاً، ولكن هذا العبد الأسود الذي آمن به كان يأتيه خفية بالطعام وبالشراب، وأعانه الله على رفع تلك الصخرة عندما كان يقدم له طعاماً وشراباً.
وعاش هذا النبي زمناً حياً في هذا البئر المغلق عليه بهذه الصخرة، ثم بعد ذلك أخذت سنة لهذا العبد فنام بها سبع سنوات، ثم صحا وتقلب على الجانب الآخر، ثم نام نومة ثانية فدام فيها سبع سنوات بما يشبه حالة أصحاب الكهف، ثم قام ولا يظن أنه نام إلا أياماً، فذهب إلى البئر فلم يجد النبي، وإذا به يسمع أن القوم قد أسلموا له ودانوا له وتابوا من ما مضى.
وقال قوم: أصحاب الرس كانوا في أرض أذربيجان، وليس في بلاد العرب.
وقال قوم: كانوا في أنطاكية.
وقال قوم: هم أصحاب الأخدود الذين ذكر الله لنا قصتهم مطولة وستأتينا بإذن الله، فقد حفر لهم حفائر وقتلوا.
وقال البعض: هو صاحب ياسين الذي دعاهم للإسلام وكان مؤمناً بينهم، ولا نستطيع أن نخرج بشيء من ذلك بيقين؛ لأنه لم يرد في ذلك حديث صحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكننا نقول: إن أصحاب الرس جماعة، والرس معناه: البئر.
فأصحاب البئر أيضاً كذبوا نبيهم، فعاقبهم الله ودمرهم، وقد ذكرهم مع المدمرين والمهلكين من قوم نوح وهود وصالح، وقوم موسى وهارون.
وقوله تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [الفرقان:38] أي: عصوراً أخرى لم يذكرها الله، والقرن مائة سنة عند الجمهور، وقيل: مائة وعشرون، وقيل: أربعون عاماً. وقيل: ثمانون عاماً. ولكن المعلوم في بيان الحديث النبوي الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
زاد في رواية: (ثم الذين يلونهم)، فقد ذكر أربعة قرون، وهي ما نسميها بالعصور الفاضلة، والجمهور على أنها ثلاثة: وهي: قرن النبي الذي عاش فيه ومعه أصحابه.
والقرن الثاني: قرن التابعين الذي يبتدئ بـعمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومضى قوله تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [الفرقان:38] أي: بين قوم نوح وقوم موسى وهارون وقوم هود وقوم صالح وأصحاب الرس قرون كثيرة، وعصور ودهور تقدر بآلاف السنين ومئات الأنبياء، وكلهم كذبوا أنبياءهم فدمرهم الله وأهلكهم بين صواعق من السماء، وزلازل من الأرض، وصرع، وخسف، وغرق، وحروب تقوم بينهم تفنيهم جميعاً.
والله ذكر كل ذلك مفصلاً ومجملاً، وسمى البعض كقوم نوح ومن معه، ولخص اسم الباقي لكن جمعهم مع هؤلاء في التكذيب والإهلاك والتدمير.
فالله تعالى هدد الكفار بأن يدمرهم، ويهلكهم، ويقضي عليهم، ويتبرهم تتبيراً؛ نتيجة كفرهم وتكذيبهم للأنبياء.
وهذا التهديد لا يزال قائماً لساعتنا هذه وإلى يوم القيامة، فالعصر الذي برز فيه صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس إلى عبادة الله والإيمان به نبياً هو نفس العصر الذي نعيش فيه، فنحن مطالبون باتباع شريعة محمد والكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله، الذي يخاطب كل الخلق إلى يوم القيامة: بأن يؤمنوا بالله واحداً، وبمحمد نبياً وخاتماً للأنبياء والمرسلين، فمن لم يفعل ومن كذب وتهاون فهو مهدد بمثل ذلك، وما هذه الحروب، وهذا البلاء، وهذا الجوع والوباء أحياناً، وهذا الذي يجري في العالم الإسلامي قبل وبعد وفي حاضرنا إلا لما كذبوا أنبياءهم، وخرجوا عن دينهم، وارتدوا، وعصوا، واختلفوا، وخالفوا، ومن باب أولى الذين لم يؤمنوا بالمرة.
وفي عصرنا وما سيأتي فإن الكفار سيبقون دائماً مدمرين، هالكين، متبرين بالأنواع التي يريدها الله، ولعذاب الله أخيراً أشد وأنكى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر