الصيام في اللغة: الإمساك، ومنه يقال للساكت: صائم، فالساكت صائم في اللغة، قال الله تعالى عن مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، يعني: سكوتاً، وأخبر الله تعالى أنه أنطق عيسى لما ولدت وقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23] قال لها: إذا لقيتي أحداً قولي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26].
فلم تكلمهم إلا بالإشارة، فالصوم في اللغة: السكوت، ومنه يقال للساكت: صائم، وقال ابن قتيبة : يقال للساكت عن الكلام وعن السير صائم. ويقال للخيل الساكتة عن الأكل أو عن الصهيل صائمة؛ ولهذا يقول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجم
(خيل صيام) يعني: ساكتة عن الصهيل أو عن العلف، (وخيل غير صائمة) يعني: لها صهيل وتأكل العلف، فإذاً: المادة تدور على السكوت، ويقال للنهار: صائم إذا وقف عن الظل، فالمادة تدور على الوقوف والسكوت في اللغة.
شرعاً: الإمساك بنية عن أشياء مخصوصة، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص. فمثلاً: الإمساك عن الأكل والشرب والمفطرات لابد له من نية، وإذا كان بدون نية فلا يسمى صياماً شرعاً.
عن أشياء مخصوصة: وهي الأكل، والشرب، والجماع والمفطرات.
في زمن مخصوص: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
من شخص مخصوص: وهو المسلم البالغ العاقل، الذي ليس به مانع من الصوم، وتخرج به الحائض والنفساء، فهذا هو الصيام شرعاً، إمساك بنية، عن أشياء مخصوصة، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص.
فهذه شروط وجوب الصوم: الشرط الأول: أن يكون مسلماً، فالكافر لا يجب عليه الصوم، بمعنى: أنه لا يصح منه الصوم لو صام حتى يدخل في الإسلام؛ لأن الصيام لا يدخل إلا بعد الإيمان، فلو صام الكافر ما صح صومه، وليس معنى ذلك أنه لا يحاسب ولا يعاقب على الصوم، لا، بل يعذب يوم القيامة على ترك الصوم والصلاة، وعلى ترك الإسلام، لكن المعنى: أنه لو صام في حال كفره لم يصح صومه حتى يدخل في الإسلام.
الشرط الثاني: أن يكون بالغاً، فالصبي لا يجب عليه صوم رمضان، لكن لو صام وهو صغير صح صومه، ويؤمر به، يأمره به وليه إذا كان يطيقه حتى يتمرن عليه، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يصومون أولادهم في الصغر إذا كانوا يطيقون، ويعطونهم لعبة يتلهون بها من العهن إذا جاعوا حتى يأتي وقت الإفطار.
الشرط الثالث: أن يكون عاقلاً، فالمجنون، وفاقد العقل، لا يجب عليه الصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ).
الشرط الرابع: أن يكون قادراً، لا بد أن يكون قادراً على الصوم، فإن كان عاجزاً كالمريض فلا يجب عليه الصوم، فالمريض يفطر ويقضي أياماً أخر؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
فيجب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم، ولو أضاف المقيم في الشرط الخامس لكان حسناً فالمسافر لا يجب عليه الصوم في حال السفر، لكنه يقضي، ولو صام أجزأه إذا كان لم يشق عليه، فإن شق عليه فهو مكروه في حقه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويؤمر به الصبي إذا أطاقه ].
يؤمر به حتى يتمرن، فقد كان السلف يأمرون به صبيانهم كما أنهم أمروا بالصلاة: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) للتمرين، فكذلك يؤمر بالصوم إذا كان يطيقه للتمرين والتدريب.
وفي الصلاة يضرب عليها الصبي إذا بلغ عشراً، أما الصوم فإنه يؤمر به من باب التمرين ولا يضرب عليه ولا أذكر شيئاً يدل على الضرب، لكن مثلما قال أحد السلف: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار من باب التمرين، فهذا يرجع إلى الولي والنظر في حال الولي، إذا كان قوياً ونشيطاً.
وأما قوله في الشرح: ويضرب عليه ليعتاده فهو أخذه من قوله: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) ومن قول بعض السلف: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. فإذا شهد زوراً يضرب وهو صغير حتى لا يتعود الكذب، وإذا حلف كذلك، وهذا قد يقال: إنه إذا كان قوياً ونشيطاً.
هذه الأشياء الثلاثة يحب صوم رمضان بواحد منها، الأمر الأول: إكمال شعبان ثلاثين يوماً، فإذا كمل شعبان ثلاثين يوماً فيجب الصوم ولو لم ير هلال رمضان.
الأمر الثاني: إذا رؤي هلال رمضان يجب الصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرأيته).
الأمر الثالث: إذا حال دون رؤية الهلال، ليلة الثلاثين من شعبان غيم، فإن الناس يصبحون صياماً فإذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان صحواً ولم ير الهلال فلا يصام، وإن كان غيماً أو قتراً فإنه يصام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له)، ومعنى (فاقدروا له) أي: ضيقوا الشهر فاجعلوه تسعاً وعشرين؛ كما قال تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق:7]، أي: ضيق عليه رزقه، كان ابن عمر رضي الله عنهما يأمر من ينظر إلى الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإن كان صحواً ولم ير أصبح مفطراً، وإن حال دونه غيم أو قتر أصبح صائماً، فهذا هو المذهب.
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ، أنه لا يصام ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دونه غيم أو قتر، وهذا هو الصواب، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وفي اللفظ الآخر: (فاقدروا له) يعني: احسبوا له، ويؤيده الرواية الأخرى: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً)، والروايات يفسر بعضها بعضاً، وهذا هو الصواب والذي عليه العمل.
وروي عن الإمام أحمد رواية ثالثة، وهي: أنه إن صام الإمام صام الناس، وإن لم يصم الإمام لم يصم الناس، فالناس تبع لإمامهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون، والأضحى يوم تضحون).
والصواب القول الثاني، أنه لا يصام إلا بأحد أمرين: إما إكمال شعبان ثلاثين يوماً أو رؤية هلال رمضان، وأما إذا لم ير وحال دونه غيم أو قتر، فالقول أنه لا يصام، وهذه مسألة اشتد النزاع فيها، وهي مسألة طويلة أطال فيها أئمة الدعوة، وقرأنا في الدرر السنية صفحات طويلة وكثيرة ألف فيها رسالة مستقلة، وهي من المسائل التي اشتد النزاع فيها، وأما اختيار المؤلف رحمه الله ثلاثة أشياء فهو قول مرجوح، والصواب أنه لا يصام إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، وأما قوله: (فاقدروا له) يعني: فاحسبوا له، ويفسره الحديث الآخر: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) والنصوص يفسر بعضها بعضاً.
إذا رأى الهلال وحده صام؛ لأنه لا عذر له، فلو رآه وحده فيصوم، وإن كان عدلاً صام الناس لرؤيته، وإن لم يكن عدلاً ولم تقبل شهادته لا يصوم الناس، لا تقبل إلا شهادة عدل، وقيل: لا يصوم ولو رآه وحده حتى يصوم الناس؛ لقوله: الصوم يوم تصومون.
والدليل: (أنه تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله أني رأيته؛ فصام وأمر الناس بالصيام).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن كان عدلاً صام الناس بقوله، ولا يفطر إلا بشهادة عدلين، ولا يفطر إذا رآه وحده وإن صاموا بشهادة اثنين ].
يعني: إذا رأى الهلال صام، لكن لا يفطر إلا بشهادة اثنين، فإذا أكمل ثلاثين يوماً لا يفطر، فيصوم ولو أكمل واحداً وثلاثين يوماً؛ لأنه إذا صام الناس بشهادة واحد فلا يفطروا إلا بشهادة عدلين أو بإكمال الشهر، أما إذا صاموا بشهادة اثنين فإنهم يفطرون إذا رأوا الهلال ويواصلون الشهر ثلاثين يوماً، ودخول رمضان يكفي فيه شهادة عدل، أما الخروج فلا بد فيه من شهادة اثنين، فإذا رأى الهلال وحده وردت شهادته، فإنه لا يفطر إلا مع الناس ولو زاد على الثلاثين يوماً.
لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا) رواه النسائي .
فاشترط للفطر أن يشهد اثنان، أما الصيام فيكفيه واحد إذا كان عدلاً.
وحديث ابن عمر : (تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته؛ فصام وأمر الناس بالصيام) ولقصة الأعرابي أنه رأى الهلال فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني محمد رسول الله؟ قال: نعم، فقال النبي: أذن يا بلال بالناس ليصوموا غداً) فدل على أنه يكتفى بشهادة واحد لدخول الشهر، أما خروجه فلا بد من اثنين، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا) لأنها شهادة يدخل بها في العبادة، فلم يقبل فيها الواحد كسائر الشهود.
إذا كان رأى الهلال اثنان، فإنهم إذا أكملوا الثلاثين يوماً أفطروا ولو لم يروا الهلال، فيفطرون بأحد أمرين: إما برؤية الهلال ليلة الثلاثين، فإن لم يروه وأكملوا ثلاثين يوماً أفطروا، هذا إذا شهد اثنان بدخول الشهر، أما إذا شهد واحد فقط، فإنهم لا يفطرون إلا بشهادة اثنين، أو الرؤية، وإن صاموا أكثر من ثلاثين يوماً.
وأما شهادة النساء فالظاهر أن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا هو الأصل، إلا الشيء الذي يكون من خصائص النساء مثل الرضاع، ومثل البكارة والثيوبة فتقبل فيه شهادة امرأة واحدة؛ لأن هذا من خصائص النساء.
هذا ما ذهب إليه المصنف، أنهم يصومون إذا كان في ليلة الثلاثين غيم أو قتر، أو بقول واحد لم يفطروا حتى يكملوه أو يرو الهلال.
إذا كان أسيراً في بلاد الكفار، ولا يعرف الأشهر، فإنه يتحرى ويصوم، فإن تبين له بعد ذلك أنه صام في الشهر أو بعده صح، وإن تبين له أنه صام قبل دخول رمضان فإنه يعيد، أما إذا لم يتبين له كأن اشتبه عليه الأمر، وليس هناك أحد يخبره، وسأل الكفار ولم يخبروه، وقد لا يوثق بهم، ثم تحرى وصام، ثم بعد ذلك تبين له أن صيامه كان موافقاً للشهر أو بعده صح، وإن تبين له أنه صام قبل دخول الشهر فإنه يعيد؛ لأنه أدى العبادة قبل دخول وقتها.
ولا يقاس الصيام على الصلاة، فالصلاة لا يعيدها، أما الصيام فإنه يقضي؛ لأن رمضان لا يتكرر.
الأول: المريض الذي يباح له الفطر؛ لقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ [البقرة:184].
فالمريض له أحول، الحالة الأولى: أن يكون المرض خفيفاً، فهذا لا يفطر إذا كان المرض خفيفاً كوجع ضرس، أو صداع خفيف، فهذا لا يوجب الفطر، فليس له أن يفطر.
الحالة الثانية: أن يكون مرضاً يشق عليه معه الصوم، ويتجشم التعب في الصوم، فهذا يجوز له الفطر، وإن صام أجزأه، فلو صام وتجشم المشقة صح صومه.
الحالة الثالثة: أن يكون مرضاً يشق معه الصوم، ويزيد الصوم المرض، فهذا لا يجوز له الصوم، ويحرم عليه الصوم في هذه الحالة، فيجب عليه الفطر.
كذلك المسافر الذي له القصر، وهي مسافة يومين للإبل المحملة، بدبيب الأحمال، ومشي الأقدم، وهي ما يقارب ثمانين كيلو، فإذا كانت هذه المسافة فله الفطر في رمضان، وله قصر الرباعية، وله أيضاً الجمع، وله المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، فيترخص برخص السفر، والمسافر له أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون السفر يشق معه الصوم، فهذا يكره في حقه الصوم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر)، وهذا لما رأى رجلاً ظلل عليه، وقد سقط من الصوم، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأسفار لما كان بعضهم صائم وبعضهم مفطر فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأخبية، وسقطوا الركاب، وخدموا إخوانهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر).
الحالة الثانية: ألا يشق عليه الصوم، كأن يكون الجو بارداً، والسفر مريحاً، فهذا مخير بين الصيام وبين الفطر، واختلف العلماء في أيهم أفضل، فقال بعضهم: الفطر أفضل؛ لأن فيها أخذ برخصة الله، وقال آخرون: الصوم أفضل؛ لأنه أسرع له في براءة الذمة، وأنشط له إذا كان يصوم مع الناس، وقيل: على حد سواء، وذهب طائفة قليلة من أهل العلم إلى أنه لا يصح لو صام مطلقاً في الصوم، والصواب أنه يصح، وهذا قول ضعيف، واختلف العلماء في سفر المعصية هل له أن يفطر؟ أو ليس له أن يفطر، فالجمهور على أنه لا يفطر ولا يترخص، ولا يعان على المعصية.
القول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة : أن له أن يفطر وعليه إثم المعصية، وهذا هو الأقرب، وإذا كان في الجهاد، فإنه يحرم عليه الصوم في وقت قتال العدو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر في فتح مكة ونزل منزلاً قال: (إنكم تصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم) ثم لما نزل منزلاً آخر عزم عليهم وقال: (افطروا)، ولما بلغه أن قوماً صاموا قال: (أولئك العصاة! أولئك العصاة!).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء، وإن صاما أجزأهما ].
يجوز لهما الفطر والصيام، والفطر أفضل؛ لأن فيه أخذاً برخصة الله، وإن صام المسافر والمريض أجزأهما، على التفصيل السابق.
الحائض والنفساء ليستا من أهل الصوم، بل يجب عليهما الفطر ويقضيان، ولا يصلح منهما الصوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟!) ولما ثبت أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها وقالت: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقالت: أحرورية أنت؟!) يعني: أنت من بلدة حروراء، وهي البلدة التي تجمع فيها الخوارج؛ لأنها ما أحسنت السؤال كأنها معترضة، فظنت عائشة أنها من الخوارج، وهي مسكينة ما عرفت تسأل، فقالت: (لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)؛ لأنها قالت: ما بال الحائض، لو قالت: ما الحكمة في كون الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لأجابتها عائشة ، لكن قالت: ما بال الحائض؟ وكأنها تعترض، فظنت أنها من الخوارج، فلهذا شددت عليها وقالت: أحرورية أنت؟ قالت: لا، لست بحرورية ولكني أسأل.
هكذا المصنف فصل في الحامل والمرضع، إذا شق عليهما الصوم وخافتا على أنفسهما، فإنهما تفطران وتقضيان وليس فيهما إطعام؛ لأنهما بمنزلة المريض، وإن خافتا على الولد أفطرتا وقضتا، وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً، وجاء في الحديث في سنن أبي داود : أنهما إن خافتا على طفلهما وعلى الولد، فحكمها حكم المريض، والأقرب أنه لا يجب الإطعام، حتى ولو خافتا على الولد، فتفطران وتقضيان، وإن أطعمتا احتياطاً فلا حرج.
ويقول الشارح: وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً؛ لقوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184] ].
وليست الآية في المرضع والحامل، والمذهب أنها تطعم، وتوجد رواية في سنن أبي داود لكن في صحتها نظر.
هذا الصنف الرابع من المفطرين: من عجز عن الصوم لأحد أمرين: إما لكبر السن، أو بسبب مرض قرر الأطباء بأنه لا يرجى برؤه، فهذا ليس عليه الصوم، وليس عليه قضاء، وإنما يطعم عن كل يوم مسكيناً، قال ابن عباس في قوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184]: ليست منسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يطيقان الصيام فيفطران.
إذا جامع مثلاً مرة ولم يكفر، ثم جامع مرة ثانية في نفس اليوم، وجامع مرة ثالثة فكفارة واحدة، لكن لو جامع في أول النهار وبعد ذلك كفر، كأن كان عنده عبد فجعله حراً لوجه الله، فهذه كفارة، ثم غلبته نفسه وجامع في آخر النهار مرة ثانية، نقول: عليه كفارة أخرى، وإذا جامع وكرر الجماع في يوم واحد ولم يكفر فعليه كفارة واحدة، وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في نفس اليوم فعليه كفارة ثانية، هذا إذا كانت في يوم.
أما إذا كانت في يومين فعند بعض العلماء: إذا جامع في يومين ولم يكفر قبل فعليه كفارة واحدة.
القول الثاني: أنه لكل يوم كفارة؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة، وهذا هو الأقرب، فإذا جامع في يوم، ثم جامع في اليوم الثاني، ثم جامع في اليوم الثالث، فعليه ثلاث كفارات؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة على الصحيح.
والمرأة إذا كانت مطاوعة فعليها الكفارة، وإن كانت مكرهة فليس عليها شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة ].
كل من لزمه الإمساك مثل المسافر، إذا قدم من السفر وجب عليه الإمساك احتراماً للزمن، ويقضي هذا اليوم، ولو جامع بعد العصر نقول: عليه كفارة، ولو كان مفطراً احتراماً للزمن، فما دام أنه وجب عليك الإمساك ثم جامعت فعليك الكفارة، وكذلك الصغير إذا بلغ في أثناء النهار فيمسك ويقضي هذا اليوم، فإذا جامع عليه الكفارة.
وكذلك الحائض والنفساء إذا طهرت في أثناء النهار فتمسك وعليها القضاء، فلو جامعها زوجها مطاوعة فعليها كفارة.
القول الثاني للعلماء: أنه لا يلزمه الإمساك، ولا يلزمه شيء؛ لأنه لا يفيد هذا الإنسان شيء، ولقول بعض السلف: من أكل أول النهار فليأكل آخره، وإذا قدم المسافر فيكمل فطره، لكنه يفطر سراً وليس عليه شيء، والمذهب هو الأول.
إذا أخر قضاء رمضان حتى جاء رمضان الثاني، فهذا على حالتين:
الحالة الأولى: إذا أخره لعذر، كأن يكون مريضاً استمر به المرض حتى جاء رمضان الثاني، نقول: يصوم رمضان الثاني ثم يقضي وليس عليه شيء.
الحالة الثانية: أن يكون مفرطاً، تمكن من القضاء لكنه تساهل حتى جاء رمضان الثاني، فإنه يصوم رمضان الثاني ويقضي هذه الأيام التي فاتت عليه من رمضان الأول، لكن عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً كفارة، فيقضي ويطعم، أفتى بهذا بعض الصحابة، ولكن هذا ليس بواجب على الولي، إذا حب أن يصوم الولي صام، وإلا فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكيناً.
والمذهب على أن صيام رمضان لا يصام عنه، وإنما هذا خاص بصوم النذر، واستدلوا ببعض روايات الحديث: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه)، قالوا: إذا مات وعليه أيام من رمضان فلا يقضى ما وجب عليه بأصل الشرع، وإنما يقضى الذي وجب عليه بما أوجبه على نفسه كالكفارة أو النذر، والصواب الجواز؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) سواء كان صوم رمضان أو صوم نذر، أو صوم كفارة، بشرط أن يكون تمكن من الصوم ولم يصم، بمعنى: أنه شفي من مرضه بقدر الأيام التي عليه ولم يصم، أما إذا اتصل به المرض حتى مات فهذا لا صيام عليه.
أن يكون الصوم منذوراً، فإنه يصام عنه، وهذا على المذهب، والصواب أنه يصام عنه سواء كان نذراً أو من رمضان إذا تمكن ولم يقض.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذلك كل نذر طاعة ].
وكذلك كل نذر طاعة، فإذا مات الميت ولم يقضها فتقضى عنه، إذا نذر صوماً يصام عنه، وإذا نذر صلاة يصلى عنه إذا وجب بالنذر، أما ما وجب بأصل الشرع من صلاة وصوم فلا يقضى عليه، والصواب أن الصوم يقضى عن المريض إذا تمكن من الصيام ولو كان من رمضان، وإذا ما أحبوا أن يصوموا فلا يجبروا، ويطعمون من ماله عن كل يوم مسكيناً، فهذا دين في ماله قبل قسمة التركة.
مسألة: وإذا ترك شخص الصيام تعمداً مدة أربع أو خمس سنوات وهو يصلي، فيقضي ما فاته من الصيام، ويطعم عن كل يوم مسكيناً مع التوبة والاستغفار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر