اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:15-17].
آيات السجود في القرآن خمسة عشر آية، هذه الآيات ورد في بعضها الأمر بالسجود في ثلاث مواضع وفي باقي القرآن إشارة إلى السجود أو إخبار عن حال المؤمنين في سجودهم لله سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا أن جمهور العلماء على أن هذه الآيات يستحب السجود عندها إذا سمعها الإنسان أو إذا قرأها القارئ سواء في الصلاة أو في غير الصلاة.
فالذي يقرأ سواء كان في الصلاة أو في غير الصلاة يستحب له أن يسجد، والذي يستمع إذا قصد الاستماع فيسجد مع القارئ، وإذا كان في الصلاة وجب عليه أن يتابع الإمام في السجود.
والسجود في غير الصلاة لابد أن يكون على طهارة، والذي يسمع الآية التي فيها سجدة لابد أن يكون على طهارة إذا أراد أن يسجد، وعلى ذلك جمهور أهل العلم.
ويكبر إذا سجد، سواء في الصلاة أو في غير الصلاة على الراجح، ويجوز أن يرفع اليدين ويسجد، ويجوز عدم رفع اليدين في السجود، خاصة إذا كان في الصلاة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في النزول إلى السجود عدم رفع اليدين إلا أحياناً كان يرفع اليدين، وهذا نزول إلى السجود، يعني: القارئ في الصلاة يقرأ آية السجدة وينزل إلى السجود، ويجوز أن يرفع اليدين، وإن كان الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في نزوله إلى السجود أنه كان لا يرفع اليدين.
وقد ذكرنا أذكار سجود التلاوة، وما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكرنا الذكر الذي سمعه الرجل من شجرة في رؤيا منامية، وذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلها من عبدك داود).
فإن قيل: هل يستحب إذا كان في غير الصلاة أن يسلم بعد سجود التلاوة؟
فالجواب: الراجح: أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم فيه، فالذي في الصلاة سيسلم عند الانتهاء من صلاته، أما الذي في غير الصلاة فالمشابهة فقط في السجود، إذاً: يكبر ويسجد، ويكبر ويرفع، وليس فيها تسليم على الراجح.
حكم سجود التلاوة حكم صلاة النافلة، فإذا كان في أوقات تحريم صلاة النافلة فلا يسجد، وأوقات التحريم الثلاث، هي عند طلوع الشمس؛ لأنها تطلع بين قرني شيطان، وعند غروب الشمس؛ لأنها تغرب بين قرني شيطان، وكذلك قبيل الظهر بدقيقة أو دقيقتين، هذه أوقات تحرم فيها الصلاة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النافلة فيها؛ ولا يجوز تأخير الفريضة إليها.
وإذا قرأ آية سجدة في هذه الأوقات فلا يسجد، لكن إذا كان في غيرها من الأوقات فله أن يسجد حتى ولو كان في أوقات كراهة الابتداء بالنافلة؛ لأن هذه الأوقات يجوز فيها صلاة ما له سبب، فإذا دخل الإنسان المسجد مثلاً بعد صلاة الفجر، فله أن يصلي تحية المسجد؛ لأنها صلاة سبب، فما له سبب من صلوات له أن يصليها.
كذلك سجود التلاوة فهو سجود له سبب، فإذا صلى الفجر وجلس يقرأ القرآن ما لم يدخل في وقت التحريم، له أنه يسجد للتلاوة وله أن يترك سجود التلاوة، كذلك إذا صلى صلاة العصر وجلس يقرأ القرآن فمر بآية فيها سجدة تلاوة يجوز له أنه يسجد، ويجوز له أن لا يسجد، لكن إذا كان وقت التحريم وهو دقائق قليلة، فلا يجوز له أن يصلي فيه نافلة ولا أن يسجد سجود تلاوة، أما وقت الكراهة فوقته ممتد من العصر إلى غروب الشمس ومن بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس.
ووقت التحريم أقل من ربع ساعة من وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع الشمس، فهذا تحرم الصلاة فيه، فلا يصلي فيه نافلة ولا يسجد فيه للتلاوة، وقبيل الظهر بمقدار ركعة قبل صلاة الظهر، هذا الوقت لا يصلي فيه نافلة؛ لأنه تسجر فيه جهنم، يقول عقبة بن عامر : (كان ينهانا صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تضيف للغروب، وحين يستقل الظل بالرمح) وهذه ثلاث أوقات قليلة لا يُصَلَّي فيها نافلة، وأيضاً لا يسجد فيها للتلاوة.
سجود التلاوة ليس فرضاً، وإن كان عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله واجب على قاعدته في التفريق بين الفرض والواجب، فهو يحتج بقول الله عز وجل: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:20-21]، فيقول: هذه الآية حجة في وجوب السجود للتلاوة.
لكن جمهور العلماء يجيبون عن ذلك: بأن الله عز وجل ذم هؤلاء على ترك السجود؛ لأنهم لا يعتقدون فضله؛ لأنهم كفار، ولا يسجدون لله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يعتقدون فضل ذلك، فذمهم على ذلك بقوله تعالى:: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:20-23].
فهذه الآية في الكفار الذين لا يعتقدون فضل ذلك، لكن المؤمنين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد سجد وترك صلوات الله وسلامه عليه، وجاء عن عمر رضي الله عنه: أنه قرأ سورة النحل على المنبر، وأتى على السجدة ونزل فسجد فيها، وفي جمعة أخرى أتى على السجدة ولم ينزل ليسجد فيها.
يسن السجود للتالي وللمستمع، وهناك فرق بين المستمع والسامع، المستمع: الذي جلس للاستماع، والسامع: الذي مر فسمع، ولم يجلس للاستماع، فالذي يقرأ والذي يجلس للاستماع يسن لهما السجود، والذي لم يقصد السماع لا يلزمه ذلك، كما قدمنا عن عثمان وعن ابن عباس وعن عمران بن حصين رضي الله عنهم.
فالإنسان الذي يسمع الآيات التي فيها سجدة يسجد، ولا يغني الركوع عن السجود في غير الصلاة عند جماهير أهل العلم، فإما أن يسجد وإما أن يترك، لكن لا يركع بدلاً من السجود، فإن كان في الصلاة وقرأ السجدة وكان في آخر تلاوته، كأن يقرأ في سورة النجم مثلاً ووصل إلى قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62]، فإنه يجوز للإمام أن يكبر ويسجد، وبالتالي المأمومون معه يسجدون، ويجوز له أن يكتفي بالركوع؛ لأن السجود يكون بعده، وهذا ما عليه جمهور العلماء فيجوز له أنه يكبر ويركع، ويجوز له أن ينزل فيسجد، فإذا سجد ثم قام بعد ذلك فليقرأ آية ثم يركع للاستحباب، فلو أنه قام ولم يقرأ شيئاً ثم وقف ثم كبر وركع جاز له ذلك.
وينبغي للمأموم أن يتابع الإمام وأن ينظر إلى الإمام هل سيسجد أم لا؟ حتى لا تحصل مخالفة بين المأموم والإمام.
ولو فرضنا أنه حدث ذلك فلينبه المأموم بقول: سبحان الله ونحو ذلك، حتى يرجع المأموم ويدرك الإمام في ركوعه.
أيضاً يستحب للإمام إذا ظن أن الناس يتوهمون أن قراءة سورة السجدة واجبة في يوم الجمعة أن لا يقرأها أحياناً، إذا كان الناس لا يعرفون الحكم الشرعي، ويظنون أن قراءة سورة السجدة فرض يوم الجمعة، فهي ليست فرضاً وإنما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا توهم الناس أنها فرض فيستحب له أنه لا يقرأ بها أحياناً؛ حتى لا يظن الناس أن هذا السجود فريضة في يوم الجمعة.
إذاً: يجوز للإمام أن يفعل ذلك ولكن لا يربك الناس، فلو أراد قراءة سورة فيها سجدة فلينبه الناس قبل الصلاة أنه سيقرأ هذه السورة وفيها سجدة وأنه سيسجد فيها مثلاً، أو أنه إذا وصل إلى هذه الآية فليرفع صوته حتى يسمع الناس وراءه أنه قرأ آية فيها سجدة وليسجد بعد تنبيههم أنه يسجد لسجود التلاوة.
ولو فرضنا أنه لم يفعل ذلك جاز له، ولو أن الناس لم يدروا أن الإمام سجد سجود تلاوة، بل ظنوا أنه غلط الإمام، فعلى ذلك لو أنهم لم يتابعوه فلا شيء عليهم، أو أنهم ظنوا أن الإمام أخطأ فنزل إلى السجود بدلاً من الركوع فلا شيء عليهم في ذلك، هذه بعض الأحكام التي تتعلق بسجود التلاوة.
وقوله تعالى: وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15] أي: وهم لا يستكبرون عن الطاعة ولا يستكبرون عن عبادته سبحانه وتعالى، كما استكبر أهل الكفر.
قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] أي: ترتفع وتنبو عن المضاجع، وتتنحى جنوبهم عن المضاجع، يقومون لصلاة الليل، ولا ينامون نوماً طويلاً فيضيعون الصلاة.
وهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] يعني: في كل وقت يدعون الله خوفاً من الله، وطمعاً فيما عند الله من فضل ورحمة سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]، فجمعوا العبادات البدنية والعبادات المالية، فهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، وهم يقومون لله مصلين عابدين، وهم ينفقون لله سبحانه مما رزقهم.
فقوله تعالى: فلا تعلم نفس كل النفوس وأي نفس من النفوس مهما بلغت من العلم لا تعلم ما الذي ادخره الله عز وجل من ثواب عظيم جدير لعباده المؤمنين، ففي الحديث: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، إذاً: فيها: جمال عظيم، وفيها نعيم مقيم، والعين مهما رأت من نعيم في الدنيا فإنه لا يقارن بما في الجنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا أذن سمعت) من أصوات جميلة، وموسيقى طيبة، ومن أشياء يسمعونها وينعمون بها، والله سبحانه وتعالى يفككهم بها في الجنة، لم يسمعوا قبل ذلك مثلها، وهذا يجعل الإنسان المؤمن يصبر على هذه الدنيا، ويصبر على أمر الله، ويصبر عما نهى الله عز وجل عنه، وهو يريد من الله سبحانه هذا الفضل العظيم، فيترك الدنيا لنعيم الجنة.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد إلا في اثنتين)، نهينا عن الحسد، ولكن يجوز الحسد وليس بمعنى الحسد الحقيقي، ولكن بمعنى الغبطة، يغبط الإنسان صاحبه، والحسد معناه: تمني زوال النعمة من الغير، لكن المقصود هنا: تمني أن يكون لي مثل ما لهذا الإنسان، قال: (رجل آتاه الله الكتاب، وقام به آناء الليل والنهار)، يعني: رجل علمه الله سبحانه وحفظه القرآن فقام يصلي بالليل، فيتمنى الإنسان أن يكون مثله، ويحاول أن يقلده في ذلك، والآخر: (رجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار)، فيقول المسلم: يا ليت لي مثل فلان، وأنا أعمل مثل فلان، فيؤجر مثل عمل هذا الآخر.
أيضاً مما جاء في الحث على قيام الليل: حديث رواه البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق الباب عليه وعلى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، والله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد أهله عليه الصلاة والسلام بالصلاة وخاصة قيام الليل، وهم لا يتركون الفرائض، ولكن قيام الليل قد يكسل الإنسان عنه، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لبيت ابنته فاطمة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب زوجها رضي الله عنه، فطرق الباب ثم قال: (ألا تصليان؟ وقام
إذاً: لا تعلق الأمر على قضاء الله وقدره سبحانه، ولكن افعل ذلك، فالإنسان المؤمن يأخذ بالأسباب ليقوم الليل، وفرق بين إنسان يضبط المنبه ليقوم قبل الفجر ويصلي ركعتين، وبين إنسان أطفأ المنبه قبل أن ينام، ويقول: لو أراد الله أن أقوم لقمت! لا يستويان أبداً، فلو أن هذا الإنسان الذي أخذ بالأسباب، نام ولم يقم الليل، ولا حتى صلاة الفجر، وقام بعد الشروق فهذا مأجور، له أجر قيام الليل، وأجر صلاة الفجر؛ لأنه معتاد على ذلك، وتصدق الله عز وجل عليه بنومه ذلك، وأما الآخر لم يأخذ بالأسباب فضيع وفرط بتقصيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي رضي الله عنه: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54].
والمعنى الآخر الذي ذكرناه في سنن أبي داود عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة)، وهذا فضل من الله الكريم سبحانه وتعالى.
نسأل الله من فضله العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر