اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:139-144].
هذه قصة أخرى من قصص القرآن العظيم يذكرها الله عز وجل في هذه السورة باختصار، وي قصة يونس النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الصافات:139-140]، القصة وذكرت في هذه السورة مختصرة، وذكرت أيضاً في سورة الأنبياء، وذكرت في سورة يونس، وذكرت في سورة القلم.
وفي كل موضع يذكر الله عز وجل شيئاً وفائدة من الفوائد في هذه القصة العجيبة العظيمة.
يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كان نبياً أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه، وكانوا في بلدة تسمى نينوى، بلدة بالموصل في العراق بحذاء بلدة كربلاء.
أرسل الله يونس إلى هؤلاء القوم، وكانوا كفاراً يعصون الله سبحانه وتعالى، فدعاهم إلى ربه سبحانه فترة طويلة، فلم يستجيبوا لدعوته، فلما لم يستجيبوا وأبوا إلا العناد والتكذيب، حذرهم من غضب الله سبحانه وتعالى، وأنه ستأتيهم عقوبة الله وعذابه، وخرج مغاضباً لقومه وتركهم، وأخبرهم أن الله سبحانه سينزل عليهم العذاب خلال ثلاثة أيام، فلما سمعوا ذلك، ووجدوا نبيهم قد تركهم إذا بهم يرجعون إلى الله سبحانه، ويخافون من عقوبته سبحانه.
وهذه الأمة الوحيدة التي حدث لها ذلك، قال الله عز وجل في سورة يونس فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98]، لولا بمعنى: هلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا [يونس:98]، هل آمنت قرية من القرى حين يأتيها عذاب الله عز وجل وينفعها هذا الإيمان؟ ما حدث هذا أبداً إلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98].
إذاً: هذه القرية الوحيدة التي آمنت بالله ونفعها الإيمان، والعادة أن العذاب إذا نزل لا يرفع، فإذا جاء عذاب الله ورآه الناس استحقوا هذا العذاب، ولكن هؤلاء رأوا أن نبيهم غادرهم وتركهم، فاستيقنوا بمجيء العذاب، فلجئوا إلى ربهم سبحانه، فتابوا فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم قبل أن ينزل العذاب عليهم.
ويونس فعل ما أمره الله عز وجل به، ولكن لم يستأذن ربه سبحانه أن يترك هذه القرية، وكأنه لما أنذرهم بعقوبة الله وانتظر هذه العقوبة أن تنزل خلال ثلاثة أيام، مرت ثلاثة أيام ولم ينزل شيء، فهو أمام قومه سيظهر أنه كاذب، ولذلك غادرهم ولم يرجع إلى هؤلاء القوم لما وجد أن العذاب لم ينزل، فغادر القوم وركب السفينة وخرج من عند هؤلاء.
وهنا في خروجه مغاضباً لقومه وخروجه بغير إذن ربه استحق أن يلومه الله سبحانه وتعالى، ولكن يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبي من المسبحين لله سبحانه وتعالى، وممن لم يزل يصعد إلى السماء منه دعوة صالحة لربه سبحانه وتعالى، فقد كان يكثر من الدعاء في كل وقت فنفعه ذلك، قال الله عز وجل: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات:143-144] أي: في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، فكان من المسبحين، والمسبح بمعنى: المصلي، والمسبح: المنزه والمقدس لله سبحانه، والمكثر من التسبيح. قال الله تعالى عنه هنا: وَإِنَّ يُونُسَ [الصافات:139]، وفي سورة الأنبياء: وَذَا النُّونِ [الأنبياء:87]، وفي سورة نون كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، فالنون: الحوت، وصاحبه هو يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال هنا: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:139-141]، وفي سورة الأنبياء قال: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88].
وفي سورة القلم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم:48-50]، لولا نعمة الله عز وجل عليه لذمه الله سبحانه، لأنه لم يستأذن ربه سبحانه، فغاضب قومه وخرج وتركهم، وهذا لو فعله إنسان داعٍ يدعو إلى الله في مكان، وغضب من القوم ولم يستجيبوا وتركهم، لم يكن عليه شيء، ولكن هذا نبي من أنبياء الله لا يتحرك ولا ينطق إلا بأمر الله سبحانه، ولذلك لم يجعل الله له هذه كالخطيئة التي تكون لغيره، إذاً: حسنات الأبرار كما يقولون سيئات المقربين.
والإنسان يزداد قربه من الله عز وجل، ولا يكون حسناً لغيره قد يكون سيئة لهذا، وقد رأينا كيف عاتب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم حين عبس من إنسان أعمى في شيء لو فعله غيره ما عوتب على ذلك، ولكن مقام النبي صلى الله عليه وسلم مقام عالٍ جداً عند الله عز وجل، إذ جاءه ابن أم مكتوم والنبي صلى الله عليه وسلم مشغول يدعو الكفار إلى دين الله، ويرجو أن يستجيبوا لدعوته عليه الصلاة والسلام، فلم يزل يقول: علمني مما علمك الله، علمني مما علمك الله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعبس وما زاد على ذلك، وعبس يعني: قطب جبينه صلى الله عليه وسلم، فقد كره أن يقطع عليه حديثه صلى الله عليه وسلم مع الناس، فعاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقامه مقام عالٍ جداً عند ربه سبحانه، ولذلك يعاتبه على الشيء الذي لو فعله غيره لا يلام على هذا الشيء، فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4].
والله سبحانه عاتب يونس النبي، بل عاقبه سبحانه وتعالى، وقال: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]، ذو النون يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا قومه إلى الله سبحانه، فلما لم يستجيبوا حذرهم من عقوبة الله، وأعلن بأنهم يستحقون العقوبة، وأنها تنزل عليهم بعد ثلاثة أيام، فإذا بهم يتوبون إلى الله، ويقبل الله عز وجل منهم ذلك، فيرفع عنهم هذا العذاب، فلما وجد يونس أن القوم مكذبون وأن العذاب لم ينزل، فإنهم سيقولون عنه: إنه كاذب، فتركهم وركب السفينة وخرج من عندهم، قال تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] يعني: فظن أن الله لن يضيق عليه، وفي القراءة الأخرى: (فظَنَّ أَنْ لَنْ يُقدر عَلَيْهِ) يعني: لن يضيق عليه.
والأمر واسع ويذهب أينما يريد يدعو إلى الله، ولكن ليس بغير إذن من الله، فلذلك لما ركب السفينة مع قومه وهم يعلمون أنه من أنبياء الله فإذا بالسفينة تهبُّ عليها ريح شديدة وتثقل السفينة وتكاد تغرق بأصحابها، فإذا بهم يتعجبون ما حالها؟ السفن حولهم كثير إلا سفينتهم تكاد تغرق! فيقول لهم يونس عليه الصلاة والسلام: إن فيها عبداً آبقاً، يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام.
فيقول بعضهم لبعض: لا بد أن نلقي واحداً منا في الماء من أجل أن تخف هذه السفينة، فقال: ألقوني أنا، إن فيها عبداً آبقاً لمولاه، فيقترعون ثلاث مرات، وتطلع القرعة على يونس عليه الصلاة والسلام، وإذا به يتهيأ ليلقي نفسه في البحر، وإذا بحوت يأتي إليه بجوار السفينة بجوار المكان الذي يلقي نفسه منه، ويذهب إلى المكان الآخر فيأتي الحوت فيه، فعاد إلى المكان الأول فيلقي نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فيلتقمه الحوت، وأوحى الله عز وجل إلى الحوت أن لا يلتقمه وأنه لم يجعله له رزقاً، فكان في بطن الحوت، في ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة بطن الحوت، قال: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
قال تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:142] الحوت: السمكة العظيمة وكان يطلق على كل سمكة حوت، قوله تعالى: وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:142] أي: آت بما يلام عليه، وفرق بين ملوم ومليم، تقول: فلان ملوم هناك من يلومه، ومن الممكن أنه يستحق، ومن الممكن أنه لا يستحق اللوم، إذاً: هذا نعاتبه، ويمكن أن يستحق ذلك أو لا يستحق، لكن مُلِيمٌ [الصافات:142] قد استحق ذلك، وقد أتى بما يستحق عليه أن يلومه وأن يعاتبه الله سبحانه.
قال تعالى: لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات:144] أي: في بطن الحوت، قال تعالى: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:144]، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
في هذه الفترة الذي كان فيها مريضاً داخل بطن الحوت كان يصلي لله سبحانه وتعالى، فسمع تسبيح الحصى، وتسبيح الأسماك، وتسبيح الكائنات في البحر، فسبح ربه سبحانه وألهمه الله سبحانه أن يقول هذه الكلمة العظيمة: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
جاء في حديث رواه الترمذي عن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)، فالله رحمته عظيمة وواسعة، كما استجاب ليونس عليه الصلاة والسلام يستجيب لغيره، قال الله تعالى: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]، إذاً: ليس هو وحده، بل كل مؤمن ننجيه إذا دعانا واستجار بنا، وكان من المسبحين لربه سبحانه تبارك وتعالى.
قوله تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ [الصافات:145] أي: في مكان لا شجر فيه ولا شيء يستفيد منه ليريه نعمته عليه، فالله أنعم عليه فلا يفعل شيئاً بغير إذنه.
قال الله تعالى: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:146] الله عز وجل خلق له وأنبت له شجرة من يقطين، واليقطين: القرع، ولليقطين فوائد كثيرة، ففي هذا المكان الذي ليس فيه شجر يستظل بورق اليقطين؛ لأن ورقه كبير له ظل، ونباته يؤكل سواء كان رطباً أو مطبوخاً، ومن ميزاته أن الذباب لا يقرب شجر اليقطين، فكان من الله عز وجل فضلٌ ونعمة على يونس في هذا المكان، قال تعالى: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات:146]، فكان يشرب من الماء ويأكل من هذا الشجر حتى صح بدنه ورجع إلى عافيته.
وقال سبحانه: فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ [الصافات:148] يعني: في هذه الدنيا، متعناهم بإيمانهم فيها إلى حين، فقد استجابوا لدعوته، والله سبحانه وتعالى لم يحرمه من خير، وهذا فضل الله عز وجل، ولو شاء لقبضه على ذلك فكان مليماً وآتياً بما يلام عليه عند الله، ولكن الله تكرم عليه سبحانه وأرسله مرة أخرى؛ ليدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله عز وجل ذلك في سورة الأنبياء، إذ ذكر أنه ينجي المؤمنين، فالإنسان المؤمن يتعلم من هذه القصة أنه لا يترك أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يدري ما يكون وراء ذلك، ولا يترك دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه سبحانه، بل يقتدي بأنبياء الله الذين دعوا وصبروا في دعوتهم إلى الله سبحانه، والله قادر على التغيير، والإنسان الذي تراه يستحق العذاب قد يرى الله عز وجل أنه لا يستحق ذلك، فيرفع عنه العذاب الذي تتوهم أنه من أهله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلعل هذا الإنسان الذي أدعوه خير مني، ولعلي أراه الآن عاصياً ويكون مؤمناً تقياً بعد ذلك، ولعل الإنسان ينظر إليه أنه يستحق النار، وهو عند الله عز وجل يستحق أن يكون من أهل الجنة بما قدر الله عز وجل أن يفعله بعد ذلك.
وفي سورة القلم يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48] بمعنى: كظم الغيظ، وكظم الغضب ونادى ربه سبحانه: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، قال تعالى: لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم:49]، ولكن الله لم يذمه سبحانه وتعالى، إذ قال: فَاجْتَبَاهُ [القلم:50]، أي: اصطفاه الله عز وجل، فجعله من الصالحين.
فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، تحذيراً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في سورة الحاقة: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه افترى علينا وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:45-46]، فالله سبحانه يقول هذا على نبيه وحبيبه وخليله صلوات الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟!
لذلك لا يجوز لأحد أن يأمن عذاب الله سبحانه، أو يأمن عقوبة الله سبحانه، أو يحسن الظن بنفسه، أو يسيء الظن بغيره، بل يجب على الإنسان أن يحسن الظن في الله سبحانه وتعالى.
وفي قصة يونس يقول النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: (لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى)، لا يقولن أحدكم ذلك، لعل إنساناً يسمع هذه القصة فيقول: سيدنا يونس هرب، والنبي صلى الله عليه وسلم صبر، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أحسن، فإن هذه المقارنة تكون على وجه النقيصة للنبي يونس عليه الصلاة والسلام، فيحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونحن نعلم ونستيقن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول هذا من جهة الافتخار، ولكن أقول بالتحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى عليَّ، فكذلك إذا ذكرنا أنه خير الأنبياء لا يكون ذلك على وجه تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم والانتقاص للغير، أما أن يذكر على وجه المقارنة، كأن تقول: يونس عمل كذا، والنبي صلى الله عليه وسلم عمل كذا، إذاً: النبي أحسن من يونس فإن هذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى).
وقد أنبت الله عز وجل على يونس عليه الصلاة والسلام شجرة اليقطين، فأحبها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهي شجرة قرع يجعلها الله عز وجل في هذا الموضع نعمة على هذا العبد، ففيها فضل وفيها خير، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطعام، وجاءت أحاديث عنه صحيحة في سنن ابن ماجة وفي مسند الإمام أحمد منها: حديث لـأنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرع)، وهو الدباء، وفي حديث آخر قال: (بعثت معي
وفي حديث آخر رواه ابن ماجة أيضاً وهو حديث صحيح عن جابر بن طارق بن عوف قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعنده هذا الدباء، فقلت: أي شيء هذا؟ قال: هذا القرع -وهو الدباء- نكثر به طعامنا).
فالإنسان المؤمن يحب ما أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا ننبه على شيء، وهو أن بعض أعداء هذا الدين لما عرفوا هذه الأحاديث أخذوا يستهزئون من ذلك، والمسلمون بجهلهم لا يعرفون هذا الشيء، فمنهم من يقول لك: أتحب القرع؟! فيجعل الشيء الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً للتهكم فيتهكمون به، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، فلا يحل لمسلم أن يستهين أو يتهكم أو يسخر مما كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئاً على وجه التعريض، فيقصد معنى آخر، كأن يقصد السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر