إسلام ويب

عمر بن عبد العزيزللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا سدى، بل جعل لنا موعداً يجمعنا فيه للفصل والحكم بيننا، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وطوبى لعبد خاف الله واتقى وآثر الآخرة على الدنيا.

    1.   

    وصية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز لرعيته

    الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون.

    وأشهد أن لا إله إلا الله خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    عباد الله! أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

    قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أيها الناس! إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض، وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى وأتقى وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفه بعدكم الباقون؟

    ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟

    هذه كلمات لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، والإمام العادل الذي أقبلت عليه الدنيا بخيلها ورجلها فأعرض عنها رغبة في النعيم المقيم، ومجاورة رب العالمين، كان من أحسن الناس سيرة، وأطيبهم سريرة!

    1.   

    زهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وورعه

    إنه المجدد الأول لشباب الإسلام على رأس المائة الأولى، كما قال الإمام أحمد : إن الله عز وجل يقيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، فنظرنا في المائة الأولى فوجدنا عمر بن عبد العزيز ، ونظرنا في المائة الثانية فوجدنا الإمام الشافعي .

    وتقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز : قد يكون في الناس من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر بن عبد العزيز ، ولكن لم أر في الناس أحداً أخوف لله عز وجل من عمر بن عبد العزيز .

    قال مالك بن دينار : تقولون مالك زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أقبلت عليه الدنيا فأعرض عنها.

    ويقول مسلمة بن عبد الملك : دخلت على فاطمة فقلت لها: غيري قميص أمير المؤمنين - أي: عمر بن عبد العزيز وكان في مرض الوفاة - فقالت: نفعل إن شاء الله، ثم دخل في اليوم الثاني فقال: ألم آمركم أن تغيروا قميص عمر بن عبد العزيز ؟! فقالت فاطمة : والله ما له قميص غيره.

    ويقول غلام لـعمر بن عبد العزيز : دخلت على مولاتي - أي فاطمة بنت عبد الملك - فغدتني عدساً، فقلت لها: كل يوم عدس؟ فقالت: هذا طعام مولاك أمير المؤمنين.

    إنه خليفة المسلمين عباد الله! ولي الخلافة سنتان وخمسة أشهر غيَّر فيها منار الأرض، وملأ الأرض عدلاً بعد أن كانت قد ملئت ظلماً وجوراً.

    1.   

    الغاية من خلق الإنسان

    يقول رحمه الله: أيها الناس! إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى.

    قال الله عز وجل: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]، أيحسب الناس أن يتركوا سدى بلا حساب ولا عقاب؟ أو يتركهم الله عز وجل دون أن يأمرهم بأوامر وينهاهم عز وجل عن نواهي؟

    أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:115-116]!

    إن الله عز وجل لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم، عرض الأمانة على السماوات والأرض فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلاً وقلن: ربنا إن أمرتنا فسمعاً وطاعة، وإن خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلاً، وحملها الإنسان على ضعفه وعجزه عن حملها، وباء بها على ظلمه وجهله، فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مئونته عليهم وثقله، وصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا في قلة مقامهم في هذه الدنيا الفانية، وسرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعث الحس، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة وغرتهم الأماني الباطلة والخدع الكاذبة، فخدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، فهم في شهوات الدنيا ولذات النفوس كيفما حُصِّلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، إذا بدا لهم حظ من الدنيا بآخرتهم صاروا إليه زرافات ووحداناً، ولم يؤثروا عليه فضلاً من الله ولا رضواناً: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].

    عباد الله! إن الله عز وجل خلقنا من أجل أن نعرفه عز وجل بأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته، ومن أجل أن نعبد الله عز وجل وحده لا شريك له، قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    1.   

    الحث على الاستعداد ليوم القيامة

    قال رحمه الله: أيها الناس! إنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه.

    عباد الله! غفل الناس عن وظيفة حياتهم، وعن السبب الذي خلقهم الله عز وجل له، كما غفلوا عن المعاد الذي سيجمعهم الله عز وجل فيه، مع أن الله عز وجل ذكر لنا قربه فقال عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقال عز وجل: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، وقال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] فقرَّب لنا يوم القيامة حتى جعله كغد، وأخبر عز وجل أن طول هذا اليوم خمسين ألف سنة، فقال عز وجل: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:4-7].

    وقال عز وجل: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] .

    وقال سبحانه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

    وقال: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18] .

    ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة)؛ أي: لو أن العبد يجر على وجهه في طاعة الله، يؤذى في الله عز وجل ويعذب في الله عز وجل.

    الواحد منا لو تعرض لشيء قليل من البلاء يظن أنه قد استوجب الجنة، وأنه سوف يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب، ويشعر أنه ما بينه وبين الجنة إلا نزول ملك الموت. وهذا الظن -عباد الله- ظن فاسد: (لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة).

    1.   

    بيان عظم رحمة الله

    قال رحمه الله: وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض.

    خاب وشقي عبد لم تنله رحمة الله عز وجل التي وسعت كل شيء، كتب الله عز وجل في كتاب فهو عنده فوق العرش: (إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي رواية: (تغلب غضبي)، وفي رواية: (غلبت غضبي).

    وورد أيضاً: (إن الله عز وجل خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، وأرسل في الخلق رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، واحتجز الله عز وجل ليوم القيامة تسعة وتسعين رحمة، فلو يعلم الكافر ما عند الله عز وجل من الرحمة ما قنط من رحمته أحد، ولو يعلم المؤمن ما عند الله عز وجل من العقوبة ما طمع بجنته أحد).

    1.   

    الخوف من الله سبب في النجاة يوم القيامة

    قال رحمه الله: وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى.

    قال رجل للحسن البصري : ما نفعل بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا أن تطير؟ فقال له الحسن البصري : لأن تخوف حتى تدركك المآمن خير لك من أن تأمن حتى تدركك المخاوف.

    قال الله عز وجل: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].

    فمن خاف الله عز وجل في الدنيا أمنه الله عز وجل يوم القيامة، ومن أمن مكر الله عز وجل في الدنيا أخافه الله عز وجل يوم القيامة، وأدركته المخاوف يوم القيامة.

    وإنما يكون الخوف عباد الله! نتيجة لعلم العبد بالله عز وجل وبدين الله عز وجل، وبعلم العبد بعيوب نفسه وسيئات عمله، فكلما ازداد علم العبد بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته ازداد خوفاً من الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، وكما قال عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    قال ابن مسعود : كفى بخشية الله علماً، وكفى باغترار بالله عز وجل جهلاً.

    وقيل للإمام الشعبي : يا عالم، قال: إنما العالم من يخشى الله.

    فكل من علم عن الله عز وجل وأسمائه وصفاته ودينه يزداد خوفاً من الله عز وجل، فمن ثم غلب الخوف على الأنبياء والأولياء والعلماء، وغلب الأمن على الفراعنة الأطغياء، والكفرة والعوام والرعاع والطغام حتى كأنهم قد حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا سطوة العقاب، ولا نار العذاب، ولا بعد الحجاب: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].

    1.   

    من طلب الدنيا ترك الآخرة

    قال رحمه الله: وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة.

    من طلب الآخرة يترك الدنيا عباد الله، ومن طلب الدنيا ترك الآخرة، والله عز وجل جعل العباد مهيئين بفطرتهم للخير والشر، كما قال عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10].

    وبين الله عز وجل للناس طريق الهداية وطريق الضلال، كما قال عز وجل: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وهذه هداية البيان عباد الله.

    وكما قال عز وجل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت:17]، فالعبد مهيأ بفطرته للخير والشر، والله عز وجل أنزل الكتب وبعث الرسل فصار العباد كأنهم يختارون أحد شيئين: إما أن يشتروا الضلالة بالهدى، أو يشتروا الهدى ويبيعون الضلالة، لأن الهدى والضلال لا يجتمعان، قال عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16] فلما كان الإنسان ميسر إلى الأمرين بطبيعة الخلقة وبتيسير الله عز وجل وتبيين الله عز وجل للناس الخير من الشر، صار من يختار الهدى كأنه يبيع الضلالة، ومن يختار الضلالة كأنه يبيع الهدى، كما قال عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16]؛ أي: فازوا بالتجارة الخاسرة والبائرة.

    وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] أي: إلى أساليب التجارة الناجحة. فطوبى لمن خاف لله تعالى وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة.

    الدنيا كلها عباد الله! لا تعدل عند الله عز وجل جناح بعوضة، ولو كانت تساوي جناح بعوضة ما سقى الله عز وجل منها كافراً شربة ماء.

    من تدبر حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وكيف أنهم كان يمر عليهم الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثر الحصير في جنبه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها).

    وانظروا إلى أهل الكفر والعصيان والتمرد على دين الله عز وجل، كم عندهم من زينة الدنيا وزخرفها!

    قال عز وجل: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20]، وقال عز وجل: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

    فالمؤمن عباد الله! لا يطلب الدنيا ولا يسعى إلى الدنيا، قال عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

    المؤمن عباد الله! همته أعلى من حطام الدنيا، فهو لا ينافس على حطامها ولا يسعى لشهواتها، بل هو يسعى إلى النعيم المقيم ومجاورة رب العالمين، هو يريد أن يزاحم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فباع قليلاً بكثير؛ لأن الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلاً، فالدنيا مثلها -عباد الله- كمثل قطعة الثلج، رخيصة الثمن، سريعة الذوبان، والآخرة كالجوهرة، غالية الثمن ومع ذلك فهي باقية، فالدنيا عباد الله! نسبتها إلى الآخرة لا شيء، قال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207].

    لو أن العبد عاش في الدنيا في أعظم النعيم -عباد الله- ثم كانت نهايته وعاقبته النار -والعياذ بالله- لا يغني عنه ما وجده من نعيم الدنيا شيئاً: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت نعيماً قط. ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت بؤساً قط، ولا مرت بي شدة قط) .

    قال رحمه الله: وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وشقاوة بسعادة، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين؟

    ألا تعتبرون عباد الله! كيف أنكم تسكنون بيوت الآباء والأجداد؟ وكيف أنكم تعملون في أرضهم؟ فهي أسلاب الهالكين؛ لأن العبد بموته ينقطع ملكه، والله عز وجل قد تفضل على الميت بأن يزكي وأن يوصي بثلث ماله والثلث كثير، وسائر ذلك فإنه يفقد ملكيته بمجرد الوفاة، وينتقل المال تلقائياً إلى الورثة الشرعيين.

    فنحن عباد الله! نسكن في أسلاب الهالكين، وسيخلفه بعدنا الباقون، فالدنيا إنما هي عارية مستردة عباد الله، نحن نبقى عليها مدة ويخلفنا غيرنا.

    ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفه بعدكم الباقون، ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب؟

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    كفى بالموت واعظاً

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    قوله رحمه الله: ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفه بعدكم الباقون، ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب؟!

    لا شك أن الموت عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين! كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة وقف وقال: موعظة بليغة وغفلة شنيعة، يذهب الأول والآخر لا يعتبر.

    وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا شهد جنازة يقول: اغدوا فإنا رائحون. وكان السلف رضي الله عنهم لا يعرفون أهل الميت من غيرهم لبكاء الجميع، فكل يبكي على جنازة نفسه لا على الميت:

    كل ابن آدم وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

    ألا للموت كأس أي كأس وأنت لكأسه لا بد حاسي

    إلى كم والممات إلى قريب تُذَكَّر بالممات وأنت ناسي

    قال الحسن البصري رحمه الله: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فيها فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت في عينه الدنيا وهان عليه كل ما فيها.

    ونظر ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى وقال: والله لولا الموت لكنت به مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا.

    تذكروا -عباد الله- إخواننا الذين كانوا معنا ثم رحلوا، تذكروا -عباد الله- من عرفناهم ومن عايشناهم ثم رحلوا عنا! أين ذهبوا؟

    سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا

    فقالت لي أناخ القوم أياماً وقد رحلوا

    فقلت فأين أطلبهم وأي منازلٍ نزلوا

    فقالت بالقبور وقد لقوا والله ما فعلوا

    أناس غرهم أمل فبادرهم به الأجل

    فنوا وبقي على الأيام ما قالوا وما عملوا

    وأُثبت في صحائفهم قبيح الفعل والزلل

    ندامى في قبورهم وما يغني وقد حصلوا

    أين من كانت الألسن تهذي بهم لتهذيبهم، وصار خلق الاختبار يجري بهم لتجريبهم، أقام قيامتهم منادي الرحيل فصاروا في القبور وحداناً لا أنيس لغريبهم؟

    أين أهل الوداد الصافي في التصافي؟ أين الفصيح الذي إذا شاء أنشأ في القول الصافي؟

    أين قصورهم التي تضمنتها مدائح الشعراء؟

    صار ذكر القوي في القوافي، لقد نادى الموت أصحاب العوالي، والقصور العوالي الطوافي.

    نعى الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفسه وهو في الدنيا، فقال عز وجل: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وقال عز وجل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    أرسل عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أخيه يعزيه في وفاة ابنه فقال: أما بعد: فإنَّا أناس من أهل الآخرة أُخرجنا إلى الدنيا، والعجب من ميت يبعث إلى ميت يعزيه في ميت. والسلام.

    ألا ترون أنكم تشيعون في كل يوم غادياً رائحاً إلى الله تعالى، قد قضى نحبه وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد قطع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب.

    اللهم أيقظنا من غفلتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تهدي الضالين، وأن ترد الغائبين إلى بيوتهم يا رب العالمين! اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا!

    اللهم أعز من أعز الدين، وأذل من خذل الدين! اللهم إنا نسألك أن تعزنا بالإسلام قائمين، وأن تعزنا بالإسلام قاعدين، وألا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766420694