الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد انتهينا في الكلام على علو الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وناقشنا بعض النقاط، وذكرنا أن كبير الهمة من خصائصه أنه يحمل هم الأمة، ولا ينغلق على نفسه، وإنما يشارك المسلمين آلامهم، ويواسي إخوانه، ويقضي حوائجهم، ويشفع لهم.
وتكلمنا عن حركة الداعية، وكيف أن الحركة ولود، وأن السكون عقيم، وبينا أن الحركة هي عبارة عن قيامة وبعث للروح، وذكرنا أيضاً أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى هي أشرف وظيفة على الإطلاق في هذا الوجود؛ لأنها وراثة النبوة، وذكرنا نماذج من هدي السلف وحركتهم وحرصهم على هداية الخلق وتعليمهم ودعوتهم إلى الحق.
وذكرنا أيضاً نماذج تبين مخاطرتهم بأنفسهم وأرواحهم في سبيل نصرة الدين، وذكرنا أن الفاسق ضالة الداعية، وأن الداعية القوي الإيمان والقوي اليقين لا يهرب من الفاسق؛ لأن الذي يهرب هو الذي يخشى أن يتأثر به، وهذه حيلة الضعيف، أما الداعية الكبير الهمة فلقوة يقينه وإيمانه لا يزحزحه شيء عن منهجه، فلذلك هو يبحث ويتحرى ويلهث وراء الفاسق؛ لأنه يريد أن يهديه، وأن يغزو قلبه بنور الله تبارك وتعالى.
والموضوع الذي نبينه الآن بإذن الله وتوفيقه هو أن كل البركة تكون في السعي والحركة، والنماذج في الحقيقة كثيرة؛ نحن اقتصرنا في الدرس الماضي على تبيان نماذج من أحوال السلف في الحركة في سبيل الدين، وفي سبيل هداية الناس إلى الحق؛ ونحن لا نريد أن نفعل كما يفعل الترجمان الذي يقف أمام الآثار، ويحدث الناس عن الماضي، ويظل يحدثهم عن الماضي والتاريخ وكأنه لا صلة له إطلاقاً بهذا الحاضر.
وحتى لا يتصور أننا مثاليون نعيش فقط في الماضي، وأن هذا الأمر كان قوي عليه السلف لما كان لديهم من علم وإرادة وقوة فاستطاعوا أن يفعلوا هذه النماذج؛ نصل ذلك بالحديث عن نماذج حاضرة؛ حتى يتبين لنا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: (مثل أمتي مثل الغيث؛ لا يدرى أوله خير أم آخره)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فهناك نماذج عظيمة جداً تبين وتعكس كيف أن الخير قائم في هذه الأمة مهما اشتدت الظلمات.
ونبدأ بذكر جماعة من الجماعات في الساحة، ساحة الدعوة، وهي جماعة التبليغ والدعوة؛ ولا شك أن هناك تحفظات كثيرة على فكرها، وعلى منهاجها، وأن في هذه الجماعة بدعاً غليظة، سواء في المنهاج أو في مستوى العقيدة أو في النواحي التطبيقية، كبعض الرسوم والصور والهيئات والقوانين التي وضعوها وقدسوها ولا يخرجون عنها، وكأنها دين منزل!
وليس هذا الآن موضوعنا، لكننا نصدر الكلام بهذه الجماعة باعتبار تعلقها بما نحن بصدده الآن؛ فإنها بلا شك أوفر الجماعات الإسلامية حظاً من علو الهمة في الحركة الواسعة الدءوبة.
وحينما نريد أن ننصف هذه الجماعة ونتحدث عن آثارها يكفي الثمار الكبيرة التي لم تضارعها فيها جماعة أخرى، خاصة إسلام كثير من المشركين، وهداية كثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله عز وجل في آفاق المعمورة.
وسبق أن تكلمنا على دراسة في فكر جماعة التبليغ، وتكلمنا بالتفصيل الكبير في هذا الأمر، وكان مما ذكرناه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
لو أن جماعة مسلمة وهي على شيء كبير من البدع، ومع ذلك تتسبب في دعوة كافر إلى الإسلام، وتدعوه إلى الإسلام، وتدخله في الإسلام، فهذا أفضل من أن يبقى على كفره، فدخوله في دائرة الإسلام مع البدعة أهون من بقائه في ظلمات الكفر؛ لأنه إذا دخل في الإسلام وفي التوحيد يرجى له النجاة بإذن الله بفضل هذا التوحيد، ويكون قد اقترب أكثر من المنهج الحق.
فجماعة التبليغ لهم مواقف كثيرة، والحقيقة المآخذ على جماعة التبليغ نسبية، مع وجود قواسم مشتركة بين الجماعة في كل بقاع الأرض، لكن تتفاوت ما بين الأعاجم وبين العرب؛ ولا شك أن البدع أغلظ وأظلم وأشد سواداً في الأعاجم منها في العرب؛ لأن العرب قربهم من اللغة العربية وقربهم من العلماء ومن مصادر العلم الشريف جعل البدع فيهم أقل وأخف؛ لأنه يسهل تنظيف مفاهيمهم ومناهجهم، أما الأعاجم فالأمر مؤلم إلى حد بعيد.
حكى رجل شهد مجلساً من مجالسهم فقال: جلسنا يوماً في المسجد للتعارف، فقام شيخ وقور، قد اشتعل رأسه ولحيته شيباً فوقف في هذه المجموعة يعرف نفسه وقد جاوز السبعين من عمره فقال: اسمي الحاج وحيد الدين ، وأعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات. قال: فاستغربنا! وقلنا له: في دهشة: تسع سنوات؟! قال: نعم؛ لأني أحفظ عمري من تاريخ دخولي في هذه الدعوة، أما قبل ذلك فإني أعتبر عمري ضائعاً، وكان هذا الرجل إذا وقف ليلقي موعظته يقول: لا تضيعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
يقول الحاكي: حدث أن سألنا أميرهم: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ ولا شك أن هذه من أبرز السمات الإيجابية في جماعة التبليغ، وأي إنسان يجحد هذه الخصيصة يعتبر مكابراً للواقع الملموس؛ فلا شك أنهم أكثر الناس إيجابية في التعامل مع الباطل؛ فهم يتحركون إليه، ولا يكتفون بأن يأتيهم الناس إلى المساجد.
فسئل أميرهم مرة: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ فقال: أرأيت إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟
قلنا: إن كان مرضه ثقيلاً نحضر له الطبيب في المنزل، وإما إذا كان مرضه خفيفاً فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب.
قال: فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب إليهم، يعني: كما يذهب الطبيب إلى المريض الشديد المرض الذي لا يقوى على الحركة إلى منزله.
حكى بعض مشائخهم نماذج من حركتهم في الدعوة وقال: إنه خرج مرة للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واستهدف رجلاً مسلماً كان يجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه، ونصحه، وذكره بالله؛ حتى لان قلبه، ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده -مع أنه كان في حالة سكر- إلى المسجد، وأخذت المرأة بذارعه الآخر تنازعه فيه، فهو يجذب من جهة بأحد الذارعين، والمرأة تجذبه من جهة أخرى، وكانت الغلبة له بعد تجاذب شديد بين الطرفين، وأتى به إلى المسجد، وعلمه كيف يتطهر ويصلي، ثم تاب وحسنت توبته.
ويلاحظ أيضاً أنهم يجتهدون في ابتكار الحيل الخيرية التي تجذب الناس إلى الدين، فذلك التبليغي الذي أراد أن يبلغ الدعوة إلى طبيب مشهور في البلد، فذهب ودفع قيمة الفحص الطبي، ثم انتظر في الدور إلى أن جاءت نوبته، فدخل على الطبيب، فتهيأ الطبيب لفحصه، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض، وإنما رغب أن يذكره بالله سبحانه وتعالى، وينصحه في الدين، وأخذ ينصحه ويذكره بالله عز وجل إلى أن رق قلب هذا الطبيب، وتأثر بموعظته، وأراد أن يرد إليه ثمن الكشف، فأبى قائلاً: هذه قيمة ما استغرقته من وقتك.
وكأنهم يقتدون في ذلك بمؤسس الجماعة، وبداية دعوة التبليغ كانت في الهند، وإن كان الشيخ إلياس مؤسس جماعة التبليغ عليه مآخذ، لكن باختصار كأنهم يقتدون به في هذا؛ لأنه كان في بداية الدعوة يفعل هذا، وبداية دعوته كانت على أساس رؤيا رآها في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل كما فعلت أنا، واخرج إلى الناس.
المهم يقولون: إنه بدأ ببعض عمال البناء أو شيء من هذا؛ فجمعهم كي يستمعوا إليه، فقالوا: لا نستطيع؛ لأننا نعمل ونتكسب، وهذا مصدر رزقنا، فأتى بهم، وكان يبذل لهم من المال مقابل الأجر الذي يفوتهم حينما يجلسون إليه، فكان يفعل ذلك معهم باستمرار، يعطيهم تعويضاً عن الأجر الذي يفوتهم بالجلوس عنده، إلى أن دخلت الدعوة وتمكنت في قلوبهم، فحينئذٍ تنزهوا عن أخذ هذا المال، وبدأت على أكتافهم هذه الحركة وهذه الدعوة.
حتى لما صعد الإنسان إلى القمر في أوائل الستينات، وكثر الكلام والافتراضات في ذلك الوقت أن الناس ممكن أن يقيموا في القمر، وأن يسكنوا هناك، وغير ذلك، فقالوا: حتى لو صعدوا إلى القمر، واتخذوا مساكن هناك لنرسلن وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله، وتصعد إلى القمر؛ لتدعوهم.
وأحد الدعاة الأفاضل يخالف جماعة التبليغ في منهجهم، لكنه مع ذلك لم يعدمهم إنصافاً، وهو: الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله، حيث يقول عن هذه الجماعة: أجادت غرس الثقة في دعاتها، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع.
وفعلاً هذا من التأثيرات الملاحظة جداً، حيث إن الواحد من أول ما ينتمي إلى الجماعة يكسر تماماً الحاجز النفسي الذي يمنع الإنسان من مواجهة الناس والخطابة فيهم بحماس، فهذا كما يفعل الذي يعلم الشخص السباحة؛ حيث يلقيه في البحر ويقول له: تصرف، فيخرج كل طاقته، وبالتالي يتعلم رغم أنفه؛ لأنه يبذل طاقته وإلا غرق، فكذلك هؤلاء؛ من أول ما يتعرفون على الشخص يبرزونه، فيتكسر الحاجز النفسي في مواجهة الناس، ويحفظونه كيف يخاطبهم.
يقول: وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع، وآخرون -يعني: من جماعات أخرى- يأمرون إخوانهم بضم الرءوس، ويقولون لفتى الصحوة: أنت في خندق، احترس وأتقن الاختباء.
كأنه ينظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فيظل مجتهداً في تطبيق: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وينسى ما بعد، وهو قوله تعالى: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71]، أما الذي ينظر إلى قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] فحسب، ويظل يعيش في أوهام وهذيانات ووساوس ينسى أن كل نفس يحصى عليه، وأن كل سكنة وحركة تكتب عليه، وأنه مرصود بها، فلا يتحرك مثل هذا في سبيل الدين.
ومن نماذج الحرص على الدعوة وعلو الهمة: أخ مؤذن يأسف ويحزن حزناً شديداً؛ حيث أذيع أو أشيع في بعض الأوقات أن برج الساعة المشهور في لندن والملحق بمبنى البرلمان بدأ يميل، أو حصل نوع من الميل في برج الساعة، وأنه مهدد بالانهيار، هذا الأخ المؤذن لما سمع بذلك حزن حزناً شديداً، وعلته الكآبة! فسأله إخوانه ما سبب حزنك وكآبتك، فقال: ما زلت أؤمل أن يعز الله المسلمين، ويفتحوا بريطانيا، وأصعد على هذا البرج كي أؤذن فوقه؛ فبدأ يقلق لما بدأ الكلام يكثر أن البرج قد ينهار، فخشي أن هذا الأمل الذي يراوده قد ينهار مع انهيار هذا المبنى.
وأنا شخصياً أعرف أخاً أمريكياً من أصل أسباني، أسلم لله سبحانه وتعالى، وحسن إسلامه، ويعيش في مدينة نيويورك، وزوجته أمريكية أسلمت أيضاً، وهي منقبة، فانتدب هذا الشخص نفسه للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان يخرج للدعوة أسبوعياً، وكان كل أسبوع يخرج هو وزوجته يوم الأحد، ويقفان أمام الكنيسة في البرد وفي الثلج؛ هو يلتقط ويصطاد الرجال، ويدعوهم إلى التوحيد، سواء من الخارجين أو من الداخلين إلى الكنيسة، وهي تلتقط النساء، وتخاطبهن أيضاً، وتدعوهن إلى التوحيد.
وأخ آخر يعيش في ألمانيا ممن يجتهدون جداً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ما يكاد يذوق طعماً للراحة؛ لأن الدعوة استحوذت على كل كيانه، حتى أرهق نفسه، وشغل عن بيته وأهله وولده، فأشفق عليه إخوانه، ورأوا أن يجبروه قبول عطلة أو إجازة إجبارية؛ كي يستريح فيها قليلاً من العناء الذي يعيش فيه، فأخذوه في صحبة أسرته إلى منتجع بعيد، لا يعرفه فيه أحد، ولا يعرف هو فيه أحد؛ كي يهنأ ببعض الراحة، ووعدوه أنهم بعد عدة أيام سيعودون لإرجاعه من هذا المكان، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين.
وكان يبحث في المقاهي التي عمالها أساساً من المغاربة الذين انقطعت صلتهم بالدين، وذابوا في المجتمع الكافر، ففتش عنهم في مظان وجودهم، ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وألف بينهم، فأقاموا هذه الجمعية، وأقاموا مسجداً انطلقت منه فيما بعد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في تلك البلدة.
فالحركة هي سر دعوة الإسلام المباركة في أرجاء الدنيا، ينطلق بها جنود لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى: كما قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فليست هيئات رسمية، ولا وزارات في حكومات، ولا هيئات تنفق عليها الأموال، بل إن النشاط الذي يبذل في سبيل الدعوة الإسلامية في كل أرجاء الدنيا لا يبلغ عشر معشار.. معشار.. معشار ما ينفق على الأنشطة التبشيرية التي تبشر الناس بالنار، ومع ذلك نجد هذه البركة، والإسلام قطعاً هو أعلى الأديان من حيث معدل الانتشار وغزو القلوب في كل أرجاء الدنيا، حتى إن الغرب الآن يجتهد في أن يواجه الإسلام؛ لأن الغربيين يعانون من الجفاف الروحي، فيبحثون عن تعويض لهذا الجفاف، فأصبح هناك تركيز كبير جداً، وأصبحت موضة الآن أن يتجه الغربيون إلى الديانات المنتشرة في شرق آسيا، وهناك توجيه في القائمين على الثقافة الغربية أن يحاولوا أن يجتهدوا في إبعادهم عن الإسلام، فالذين يعانون من الجفاف الروحي يبحثون عن الأديان، فيوجهونهم دائماً إلى شرق آسيا؛ حيث البوذية والبرهمية والمجوسية وهذه الأديان المعروفة التي فيها إغراق في الجانب الروحي القائم على الضلال والشرك والوثنية وعبادة الأنداد من دون الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يخافون أن يتوجهوا إلى الإسلام فيتأثروا به، لذلك جعلوا كل تركيزهم على ترويج التوجه ناحية الديانات الشرقية؛ خوفاً من المد الإسلامي الذي لا يجدون تفسيراً لانتشاره حتى في عقر دارهم.
فالإسلام ينتشر بنفسه؛ لأنه دين كثير الحركة، ويحمل في طياته جاذبية كاملة تجذب كل من اطلع عليه وكان في قلبه خير إليه، حتى يستحوذ على كل كيانه.
ويلفتنا الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله تعالى إلى ميزان غريب من الموازين التي اعتبرها معيار أو مقياس يقيس به هذه الحركة الحياتية المتفجرة في الداعية، فيحكي في كتابه (صناعة الحياة) ويقول: وقد كنت في الأيام الخوالي -يعني: أيام الشباب- ألاطف إخواني، فأعمل تفتيشاً على أحذيتهم. وإذا سمعنا كلمة التفتيش على الأحذية -كما هو في المدارس- نفهم أن التفتيش على الأحذية التفتيش على اللمعان والنظافة والبريق.
فهذا كان يعمل من وقت إلى آخر التفتيش على أحذية إخوانه، يقول: ليس على نظافتها وصبغها ورونقها كالتفتيش العسكري، بل على استهلاكها وتقطعها والغبار الذي عليها!
فكان يجعل إخوانه يخلعون النعال، فيقلب النعل، يقول: فأرى النعل، فمن كان أسفل حذائه متهرئاً تالفاً فهو الناجح، وأقول له: شاهدك معك؛ حذاؤك يشهد لك أنك تعمل وتغدو في مصالح الدعوة، وتروح وتطبق قاعدة: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، ولكثرة حركتك تلف حذاؤك، فأنت المجتاز المرضي عندي.
يقول أحدهم: قد والله! مكثت عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه، وأتذكر ذلك التفتيش.
وقد ذكرنا من قبل أن الفاسق ضالة الداعية، فالداعية الكبير الهمة لا يخاف من الفاسق؛ لأن الذي يخاف هو الضعيف الذي يخشى أن يتأثر به، وأن تسري عدوى فسقه إليه، أما الكبير الهمة فإنه يتميز بأن عنده عنصر المبادرة وعنصر المبادأة وعنصر الحركة إلى مواقع يندر من يتأهل لاقتحامها؛ بحثاً عن الضالة المنشودة التي هي الفاسق.
فالفاسق هدف للداعية كبير الهمة، فهدفه متركز في الفاسق غير المهتدي؛ كي يهديه ويأخذ بزمامه إلى طريق الله سبحانه وتعالى.
يحكي الشيخ علي الطنطاوي قصة توبة حدثت في مكان غريب جداً، وهو مكان للرقص والعياذ بالله! يقول الشيخ علي الطنطاوي وفقه الله: دخلت أحد مساجد مدينة حلب، فوجدت شاباً يصلي، فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً؛ يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه، وسألته: أنت فلان؟ قال: نعم، قلت: الحمد لله على هدايتك! أخبرني كيف هداك الله؟ قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص، قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم، في مرقص؛ قلت: كيف ذلك؟ قال: هذه هي القصة، فأخذ يرويها فقال: كان في حارتنا مسجد صغير، يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟ ما بال أكثر الناس -وخاصة الشباب- لا يقربون المسجد، ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي؛ قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟ فهذا الشيخ لا يعرف ما معنى مراقص وملاهي! فرد عليه أحد المصلين: المرقص: صالة كبيرة، فيها خشبة مرتفعة، تصعد عليها الفتيات كاسيات عاريات أو شبه ذلك، يرقصن، والناس حولهن ينظرون إليهن، فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس؛ قالوا له: يا شيخ! أين أنت؟ تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟! قال: نعم، حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء، وسينالهم الأذى! فقال لهم الشيخ: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأمسك الشيخ بأحد المصلين ليدله على المرقص، ولما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون؟ قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص، فتعجب صاحب المرقص! وأخذ يمعن النظر فيهم، ورفض السماح لهم، فأخذوا يساومونه ليأذن لهم، حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي؛ مقابل أن يأذن لهم بالجلوس للموعظة، فوافق صاحب المرقص، وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي.
قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة. والحقيقة أن صاحب المرقص أفضل بكثير من مخلوقات غريبة موجودة في بلادنا الآن، ففي إحدى الكليات، وبتعبير أدق الكلية التي تخرج المعلمين والمدرسين كلية التربية، اجتمع الشباب -مدرسو المستقبل ومدرسات المستقبل- في حلقة في فناء الكلية، الشبان يعزفون على المعازف والطبول وهذه الأشياء، والفتيات يرقصن أمامهم، فأتى أحد الإخوة كي يعظهم ويزجرهم، فصاحوا به، ووشوشوا عليه؛ حتى لا يسمع كلامه، فأخذ الأخ يتلو آيات من القرآن الكريم، فسكتوا جميعاً كأن على رءوسهم الطير، ثم بعدما فرغ من قراءة القرآن عاد ليعظهم، فثاروا من جديد، وشوشوا عليه؛ حتى تكرر ذلك، كلما يقرأ القرآن يسكتون، فإذا ما وعظهم ونصحهم بغير القرآن الكريم صاحوا وعادوا للرقص والغناء.
وإن شاء الله يكون فيهم بذرة خير؛ لأن احترامهم للقرآن معناه: أنه يوجد بصيص من النور في قلوبهم؛ لاحترامهم القرآن وسكوتهم عند سماع القرآن.
الشاهد في القصة: أن أحدهم هرع إلى العميد، فأتى العميد مسرعاً، فالشاب المتدين حينما رآه فر هارباً من العميد؛ لأنه أتى ليحمي هؤلاء الشباب في هذا الفعل! فلما رأوا العميد ظلوا يرقصون ويغنون، ويفعلون هذه الأشياء.
فلا شك أن صاحب المرقص هذا أفضل من مثل هذا الشخص الذي نزل من مكتبه متخصصاً ليحمي الفساد.
فطلب منهم صاحب المرقص أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي، فلما انتهى الرقص أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة، وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أنما يرونه جزء من فقرة فكاهية، لكن تبدأ هذه البداية الجادة، فلما عرفوا أن أمامهم شيخاً يعظهم أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء، وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور، وأمرهم بالسكوت والإنصات؛ حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.
قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص؛ حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين، وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً، وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟! لقد ذهبت اللذة، وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى.
أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟! إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان. فبكى الناس جميعاً، وخرج الشيخ من المرقص، وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.
فهذا أنموذج حصل في حدود سنة (1830م) يعني: في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي:
رجل يدعى هوستن وقف أمام الكونجرس الأمريكي وخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين أمامه، وكان قد مدح لتوه في تسكين ثائرة الهنود الحمر، وجلبهم إلى توقيع اتفاقات مع الحكومة الأمريكية، استدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولابد من ضمها، وأريدها منك ضمها، فقال هوستن : أنا لها! زودني بمال ورجال. فقال الرئيس الأمريكي: لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفرداً، وبلا دولار واحد، وأبعث معك حارساً حتى تعبر نهر المسيسبي، ويعود. يعني: أن الحارس سيوصلك إلى حد نهر المسيسبي ويرجع هو، وتدخل أنت وحدك؛ كي تحقق لي هذا الهدف.
ومع ذلك قبل المهمة، وودعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهماً، والمتهم يخرج بريئاً؛ بسبب بلاغة وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس، فوثقوا به، واجتمعوا حوله، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى ضرورة الاستقلال عن المكسيك.
وهو أخذهم على مراحل، فهو لما أراد أن يضم تكساس إلى أمريكا دعاهم أولاً إلى الاستقلال عن المكسيك، وبين لهم أنه لابد أن نقيم دولة مستقلة بنا عن المكسيك هي تكساس، فأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، فاستقلت تكساس عن المكسيك.
ثم غرس معنىً جديداً وهو: وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت تكساس طواعية بإقناع هوستن .
وجاء بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي، وسلمه مفتاح تكساس؛ إذ لم تطلق طلقة أمريكية، ولم يصرف دولار واحد، فشكره الرئيس الأمريكي، وخلدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة هوستن التي هي الآن من أهم مدن أمريكا وعاصمة النفط فيها.
وطبعاً نحن لا نذكر هذا للإعجاب بهؤلاء الكفرة؛ فإن هذا إذ كان مات على الكفر فهو إلى جهنم والعياذ بالله! لكن المقصود من ذكر هذه النماذج هو النظر إلى حال أهل الباطل؛ حيث إن أحدهم إذا أصر على أن يحقق هدفاً يجند كل طاقاته من أجل إنجاز ذلك.
حدث من عايش الطلاب اليابانيين الذين يبتعثون إلى أمريكا عن أحوالهم، فقال: ربما يلبثون في مكتبة الجامعة إلى نصف الليل، وربما نام أحدهم وهو جالس على كرسيه، ويواصل الدراسة في اليوم الثاني من غير ذهاب إلى البيت.
وكل من احتك باليابانيين يعرف هذه الطبيعة الغريبة فيهم.
حدثني أحد الإخوة منذ سنوات: أنه كان هناك رجل ياباني يأتي في الإجازة الأسبوعية يوم الخميس تقريباً إلى الإسكندرية، والإجازة تمتد إلى الجمعة، ويمكن إلى أيام تالية، فكان الرجل بالليل لا يطيق أن ينام، فيأمر السائق بأن يحمله من الإسكندرية إلى القاهرة، فيلقي نظرة على العمل، ثم يعود أيضاً في نفس الليلة إلى الإسكندرية!
وهذا سبب ولوعهم بالعمل والكدح في سبيل الدنيا، يعني: كل هذا في سبيل الدنيا، فانظر! كيف علت همم القوم، حتى إنهم كانوا يثورون على الحكومة إذا أعطتهم إجازات، يثورون أن كيف نأخذ إجازة، يريدون أن يعملوا ويكدحوا، وهذا تماماً كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب في الأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار)، أي: حمار بالنهار في سبيل الدنيا.
فأولى بنا أن نطلب الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن نكون أشد إصراراً في سبيل هذا المطلب العظيم.
يحكي أيضاً الأستاذ الراشد حفظه الله فيقول: شفعت مرة لداعية أن يقبله الأستاذ فؤاد تذكين طالباً بمعهده في فرانكفورت، معهد تاريخ العلوم الإسلامية، فاشترط الأستاذ تذكين : أن يشتغل الطالب ست عشرة ساعة يومياً، فرفض! ثم أراني الأستاذ تذكين من بعد عدداً من الطلاب اليابانيين في معهده وقد انكبوا على المخطوطات العربية يدرسونها ويبعثونها إلى الحياة، وقد رضوا بهذا الشرط، فتأمل!
ويحكي أيضاً الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه (في محكمة التاريخ)، فيقول: أذكر أنني ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: هذا مركز لتدريب المبشرين -المنصرين- أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض في سبيل المسيح -عليه السلام-، أي: في سبيل الباطل؛ ومع ذلك يتكلمون معهم بهذه الصراحة!
وندلف الآن إلى مجال آخر من مجالات علو الهمة، وهو علو الهمة في العبادة والاستقامة، وبالذات علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
فقد فقه سلفنا الصالحون عن الله سبحانه وتعالى أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرهم إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف، فلا تراهم إلا صوامين قوامين باكين والهين.
وقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفاً من عباراتهم وعباداتهم.
قال الحسن رحمه الله تعالى: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. أي: من نافسك في دينك فنافسه؛ لأن هذا النوع من التنافس أمر الله به فقال تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فأمرنا عز وجل بالتنافس في أعمال الخير.
أما في الدنيا فقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن التنافس في الدنيا فقال: (ولا تنافسوا).
وهناك مشكلة هي: أن الدنيا أحياناً تلتبس بالدين، بمعنى: أن بعض أغراض الدنيا تأخذ صورة الدين وهي في الحقيقة دنيا؛ فينبغي للإنسان أن يتفطن لذلك.
مثلاً: حب الزعامة والرياسة والشهرة والجاه، هذا في الحقيقة من أغراض الدنيا ومن مقاصد الدنيا، فمن نافسك فيها فألقها في نحره، ولا تحرص على الظهور والرياسة والزعامة، وأنك فعلت، وأنك سويت، وإنما ينبغي أن يميز الإنسان هل غضبه أو هل حركته وسكنته هي لله ولدينه أم أنها لنفسه؟!
لأن بعض الناس قد يدعو إلى الله عز وجل، ثم يطرأ عليه هذا النوع من التلبيس، فتتحول الدعوة إلى الله إلى دعوة إلى النفس وليس إلى الله سبحانه وتعالى.
فهذه خطورتها أنها تحبط العمل، والشرك يستوجب العقوبة، كما في حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار.
وقال وهيب بن الورد : إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني -وهذه عبارة عجيبة جداً منه-: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه. فانظر كيف يطبق التنافس في الآخرة!، وانظر إلى علو همته!
وقال أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أطوع لله منه.. فمات ذلك الرجل غماً ما كان ذلك بكثير. أي: لأن الآخر يطيع الله أكثر منه، فيحس بالحسرة على تقصيره بالنسبة إليه، ولهذا يحق له أن يموت من الحسرة والغم!
وأما الآن فنحن نتحاسد على الدنيا، وعلى المال، وعلى أعراض الدنيا وزينتها؛ وهذا هو الذي يثير حفيظة المسلمين إزاء إخوانهم بعضهم البعض، التنافس على أمور الدنيا، ولا يكاد يوجد فينا هذا الشعور: أن إنساناً يكاد يموت من الغم لأنه بلغه أن هناك رجلاً أطوع لله منه.
وقيل لـنافع : ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما، وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يوماً، وأحيى ليله، وأعتق رقبة.
واجتهد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قبل موته اجتهاداً شديداً، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك! قال: فلم يزل على ذلك حتى مات رضي الله تعالى عنه.
وعن قتادة قال: قال مورق العجلي : ما وجدت للمؤمن في الدنيا مثلاً إلا مثل رجل على خشبة في البحر، وهو يقول: يا رب! يا رب! لعل الله أن ينجيه.
فهذا هو شأن المؤمن في بحر الفتن الذي يغرق فيه الناس.
فالشخص الذي وجد خشبة فتعلق بها، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى أن ينجيه، وأن يصل إلى الشاطئ، أو يبعث إليه من ينقذه، فانظر كيف تكون حالة هذا الشخص وخوفه من الهلكة! وهكذا تكون حال المؤمن في مثل هذه الفتن.
وعن أسامة قال: كان من يرى سفيان الثوري يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق، أكثر ما تسمعه يقول: يا رب! سلم.. سلم.
وعن جعفر قال: دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: والله! إنه لينبغي للرجل المسلم أن يزيده ما يرى في الناس من التهاون بأمر الله أن يزيده ذلك جداً واجتهاداً، ثم بكى!
وعن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمها الله ورحمه قالت: ما رأيت أحداً أكثر صلاة ولا صياماً منه، ولا أحد أشد فرقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي، حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي، حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاء.
وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك : يا مغيرة ! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاةً وصياماً من عمر بن عبد العزيز ، ولكني لم أر من الناس أحداً قط كان أشد خوفاً من ربه من عمر ؛ كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ، ويفعل مثل ذلك ليلته أجمع!
وعن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال: ألا تخبريني عن عمر ؟! قالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استخلف.
وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة، ويصوم في الحر؛ حتى يخضر جسده ويصفر، فكان علقمة بن قيس يقول له: لمَ تعذب نفسك؟ فيقول: كرامتها أريد.
وكان يصوم حتى يخضر جسده، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا: إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا! فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئت به.
وقيل لـعامر بن عبد الله : كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر؟ فقال: هل هو إلا أني تركت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار، وليس في ذلك خطير أمر، وكان إذا جاء الليل يقول: أذهب حر النار النوم، أذهب حر النار النوم! فما ينام حتى يصبح.
وعن الحسن قال: قال عامر بن قيس لقوم ذكروا الدنيا: أئنكم لتهتمون؟! أما والله لئن استطعت لأجعلنهما هماً واحداً. قال: ففعل والله! ذلك حتى لحق بالله.
وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطاً في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي! فوالله! لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة -الكسل أو التعب- تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي! وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا؟ كلا! والله! لنزاحمنهم عليه زحاماً؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً!
وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجل أصيب بمصيبة! -يعني: من خشيته لله- منكسر الطرف.. منخفض الصوت.. رطب العين.. إن حركته جاءت عيناه بأربع -يعني: بأربع قطرات دموع-، ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟ تبكي الليل عامته لا تسكت! لعلك يا بني! قتلت نفساً؟! لعلك قتلت قتيلاً؟! فيقول: يا أماه! أنا أعلم بما صنعت نفسي.
وقال هشيم -وهو تلميذ منصور بن زاذان -: كان منصور لو قيل له: إن ملك الموت على الباب، ما كان عنده زيادة في العمل. أي: لأنه أتى بأقصى ما يستطيع في العبادة.
وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له: القيامة غداً ما وجد مزيداً، وكان يقول: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
وقال أنس بن عياض : رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.
وقال عبد الرحمن بن مهدي : لو قيل لـحماد بن سلمة : إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً.
وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط لصدقتكم! أي: كان مشغولاً بنفسه، إما أن يحدث، وإما أن يقرأ، وإما أن يسبح، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.
وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! فيقول: يا ابنتاه! إن أباك يخاف البيات.
وعن إبراهيم قال: قال فلان: ما أرى الربيع بن خثيم تكلم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد. يعني: أن الذين عاشوا معه لم يروه تكلم بكلمة مدة عشرين سنة عاشروه إلا بكلمة تصعد إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من الكلم الطيب.
وعن بعضهم قال: صحبت الربيع عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب.
وقال مالك : رأيت أيوب السختياني بمكة حجتين، فما كتبت عنه، ورأيته في الثالثة قاعداً في فناء زمزم، فكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه. أي: كان كلما أتى ذكر النبي عليه الصلاة والسلام يبكي؛ من شدة حبه وشوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عنده يبكي حتى أرحمه؛ فلما رأيت ذلك كتبت عنه.
وقال سلمة بن علقمة : جالست يونس بن عبيد فما استطعت أن آخذ عليه كلمة. يعني: يخطئ فيها.
وعن أبي هارون موسى قال: كان عون يحدثنا ولحيته ترتعش بالدموع.
وقال أبو علي بن شهاب : سمعت أبا عبد الله بن بطة -الإمام الشهير المعروف- يقول: أستعمل عند منامي أربعين حديثاً رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: أوظف عند المنام أربعين حديثاً ما بين أدب وبين ذكر.
وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلاً عندنا بالمحصب، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: أيها الركب المعرسون! أكل هذا الليل ترقدون؟ أفلا تقومون فترحلون؟ فيتواثبون، فيسمع من هاهنا باكٍ، ومن هاهنا داعٍ، ومن هاهنا قارئ، ومن هاهنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.
وعن وكيع قال: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة.
وعن أبي حيان عن أبيه قال: كان الربيع بن خثيم يقاد إلى الصلاة وبه الفالج -والفالج: الشلل النصفي أو الطرفي- فقيل له: قد رخص لك! عندك رخصة؛ لأنك مريض مشلول، قال: إني أسمع: حي على الصلاة، فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبواً.
وعن حماد بن سلمة قال: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً أو عائداً -يعني: مريضاً- أو مشيعاً لجنازة أو قاعداً في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله. أي: أنهم كانوا لا يرونه إلا في الطاعة، بحيث كانوا يظنون أن هذا الشخص لو أراد أن يعصي ما استطاع وما عرف كيف يعصى الله؛ لكثرة ما ألف العبادة والطاعة!
وعن عيسى بن عمر قال: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلاً فيقف على القبور، فيقول: يا أهل القبور! قد طويت الصحف، ورفعت الأعمال، ثم يبكي، ويصف بين قدميه حتى يصبح، فيرجع، فيشهد صلاة الصبح.
وقال أبو المواهب بن سطرا في شأن الإمام الجليل أبي القاسم بن عساكر رحمه الله: لم أر مثله! ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة: ومن لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور؛ قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له: بشر الصفي ؛ لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة؛ فلذلك نسبوه إلى الصف الأول، فقالوا: بشر الصفي .
وكان إبراهيم بن ميمون المروذي أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح كانت مهنته الصياغة، وطرق الذهب والفضة، قالوا: كان فقيهاً فاضلاً من الأمارين بالمعروف.
وقال ابن معين : كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها. أي: كان يشتغل في طرق وصياغة الذهب والفضة فإذا سمع الأذان وهو رافعها لا يردها، وإنما يرميها في الحال ويخرج إلى الصلاة.
وقيل لـأحنف بن قيس رضي الله عنه: إن فيك حلم وأناة شديدة! فقال: قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها. يعني: إلا هذه فإني لا أتأنى فيها، بل أبادر إليها.
وقيل لـكثير بن عبيد الحمصي عن سبب عدم سهوه في الصلاة قط؟! وقد أم أهل حمص ستين سنة كاملة. يعني: أنه مكث ستين سنة ما سها في صلاته مرة واحدة، فسئل؟ فقال: ما دخلت من باب المسجد قط وفي نفسي غير الله.
وقال كبير قضاة الشام سليمان بن حمزة المقدسي -وهو من ذرية الإمام ابن قدامة صاحب المغني رحمه الله-: لم أصل فريضة قط منفرداً إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط. مع أنه كان قد قارب التسعين، فرحمه الله.
وقال شرف الدين بن محمد رحمه الله تعالى: كان ابن دقيق العيد يقيم في منزلنا بمصر في غالب الأوقات، فكنا نراه في الليل إما مصلياً وإما ماشياً في جوانب البيت وهو مفكر إلى طلوع الفجر؛ فإذا طلع الفجر صلى الصبح، ثم اضطجع إلى صحوه.
و قام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أربعين سنة لا ينام الليل، إلا أنه كان إذا صلى الصبح اضطجع على جنبه إلى حيث يضحى النهار، وكان الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا أعددت له جواباً بين يدي الله.
وطبعاً هذا له علاقة بعلو الهمة؛ لأن معنى ذلك: أن إرادته في التوبة والاستقامة إرادة قوية لا تتزعزع؛ بمعنى: أن ذلك هو كما نسمع من هذه الأرقام القياسية؛ فالذي يصلي الجماعة تسعين سنة لا يتخلف عن الصف الأول أو أربعين أو خمسين بلغ أرقاماً قياسية، وأما الآن فلو استطاع واحد أن يصلي أربعين يوماً فقط لكان بطلاً.
فهؤلاء بلغوا مبلغاً عظيماً من قوة الهمة وقوة الإرادة ونشدان الكمال الممكن، ونشدان الثناء، وبذل أقصى الجهد؛ لتحصيل أقصى قدر من الكمال الممكن.
فتأمل! هذه الهمة العالية في الاستقامة، فالإمام ابن دقيق العيد يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا أعددت له جواباً بين يدي الله. أي: أنه يحضِّر الجواب حتى يسأله الله يوم القيامة.
وكان الإمام ابن دقيق العيد لا ينام من الليل إلا قليلاً، يقطعه فيما بين مطالعة وتلاوة وذكر وتهجد، حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة، لم ير في عصره مثله رحمه الله.
ونحن حينما نذكر هذه النماذج من السلف الصالح في أنواع العبادات كأننا في بعد شديد جداً عن الإسلام، وعن أخلاق الإسلام؛ لأن بعض هذه الأشياء التي فعلوها نحن في هذا الزمن ما نكاد نصدق أن هذه تقع، وما ذاك إلا لبعدنا عن الإسلام الذي صنع هؤلاء الرجال، وغرس فيهم هذه الأخلاق، فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
وإذا طالعنا هذه الأخلاق نعرف لماذا مكنهم الله سبحانه وتعالى، وفتح بهم القلوب، وفتح بهم البلاد.
وهذا أنموذج من نماذج علو الهمة في النفقة في سبيل الله وفي الإيثار:
عبد الله بن طالب جاءه رجل يشكو إليه أنه لا يجد لابنته جهازاً يجهزها به لزواجها، وكان لـابن طالب ابنة تخرج إليه من وقت إلى آخر تزوره، فقال لأمها: أحب أن تزيني ابنتي وتلبسيها ثيابها وحليها. ففعلت، وأخرجتها إليه، فرحب بها، واستبشر، ثم قال لها ولأمها: إن فلاناً شكا إلي كذا. يعني: شكا إلي أنه لا يجد جهازاً لابنته التي ستتزوج، وأنا أحب أن أدفع له جميع ما على ابنتي من حلي وثياب يجهز به ابنته، وعلي أن أعوض ابنتي منه بما هو أكثر. يعني: أدفع لهذا الرجل الآن كل ما تحمله ابنتي من الحلي والذهب، وأنا ألتزم بأن أعوضها بما هو أكثر منها فيما بعد. فدفعها له.
واحسرتاه! تقضى العمر وانصرمت ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
هم الرجال وعيب أن يقال لمن لم يكن مثلهم رجل
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر