أما بعد:
أيها الأحبة في الله! الحديث عن الغفلة وواقعنا في الغفلة، وحينما نتحدث عن الغفلة لا نخاطب أقواماً خارج المساجد فقط، أو بعيدين عن حلق الذكر ورياض الجنة، بل نخاطب أنفسنا الغافلة، وعقولنا التي تشتت بها أمور الدنيا وذهبت بها كل مذهب، لعلنا أن نعالج أنفسنا قبل أن نعالج غيرنا، ولعلنا أن نعظ أنفسنا قبل أن نعظ غيرنا، فحاجة القلوب إلى المواعظ والزواجر كحاجة النبات إلى الماء إذا انقطع عنه الماء مات.
أيها الأحبة! إن طائفة من إخواننا المسلمين لا يجعلون لتعهد إيمانهم ومراقبة حياة قلوبهم وقفات أو جلسات كما يجعلون الأوقات الطوال لأمور معيشتهم ودنياهم، وكثير منهم يحبون الحديث عن الرجاء والرحمة والمغفرة والجنة فقط، أما الحديث عن الغفلة والخوف والنار وسوء الخاتمة وعاقبة الذنوب والموت والقيامة وأهوال الحشر فلا ترى الكثيرين يحبون الحديث عن ذلك.
بل لقد سمعنا هذا مراراً من أقوام إذا ذكروا بالله عز وجل وخوفوا بعذابه وعقابه، وخوطبوا بالتذكر والتدبر لآيات الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي فيه الاستعداد قبل الممات، والاستدراك قبل الفوات قالوا: هذا شيخ متشائم! وهذا شيخ عباراته قاتمة! وليس عنده عبارة فيها بشارة أو تفاؤل! لا يحدثنا إلا عن الموت، عن الصراط، عن القبر وعذابه، عن الحشر وأهواله، عن سوء الخاتمة، عن خطر الحرام.. ماذا تشتهون من المواعظ؟ يقولون: حدثنا عن الرحمة الواسعة، حدثنا عن المغفرة الشاملة، حدثنا عن الجنة، حدثنا عن الوعد ولا تحدثنا عن الوعيد. وذلك أمر خطير إذ الحق والشرع والدين أن يتحدث عن ذاك وذاك، عن الخوف والرجاء، والمغفرة والعقوبة، وعن الجنة والنار.
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم |
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم |
أهل الدنيا في غفلة، ونحن نعيش غفلة بالغة في دنيانا، ويردنا ويبعدنا ويوقظنا من سبات الغفلة أمثال هذه المجالس، حلق الذكر ورياض الجنة التي بإذن الله يجد الذين ضلت قلوبهم منها بغيتهم، والذين فقدوا رقة وشفافية أفئدتهم يجدونها في هذه الأماكن، حيث تغشى السكينة، وتحف الملائكة، وتتنزل الرحمة، ويذكر الله هذا الملأ فيمن عنده بمنه وكرمه ومشيئته.
أيها الأحبة في الله! نحن في غفلة عظيمة، وأهل الدنيا عموماً في غفلة، قال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] فأهل الدنيا في غفلة، روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل النار النار، وأدخل أهل الجنة الجنة يجاء بالموت كأنه كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟! قال: فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم ينادي مناد: يا أهل النار أتعرفون هذا؟! فيشرئبون وينظرون، وكلهم قد رأوه، فيقولون: نعم، هذا الموت. فيؤخذ ويذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود ولا موت!، ويا أهل النار خلود ولا موت! فذلك قول الله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم:39] قال: أهل الدنيا في غفلة) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بهذه الأبيات:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم وكيف يطيق النوم حيران هائم |
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت مدامع عينيك الدموع السواجم |
نهارك يا مغرور سهو وغفـلة وليلك نوم والردى لك لازم |
يغرك ما يفنى وتشغل بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم |
وتشغل في ما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم |
الذين يتشاغلون وهم في غفلة.. لأجل ماذا هذه الغفلة؟ ولأي غاية هذه الغفلة؟ تجد جواب الحال إن لم يجيبوا بلسان المقال، تجد جواب الحال: أن غفلتهم من أجل دنياهم. وما علموا أن اشتغالهم بأمر الدنيا يشتت عليهم أمورهم، ويجعل الفقر بين أعينهم، ولا يزيد لهم في قسمة الله التي قسمها لهم من أرزاقهم، ولو أنهم جعلوا الهم والغاية والمنى والقصد في مرضاة الله عز وجل لجمع لهم كل ما تشتت، وجعلت الدنيا تتبعهم رافضة ذليلة تلحقهم، وتكفل بشئونهم وأمورهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به هموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [ما انتفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منفعتي بشيء كالذي كتب به إلي
الذين يتذكرون، الذين هم أصحاب القلوب الحية والسليمة يسائلون أنفسهم في كل حركة وخطوة وكلمة وصمت وذهاب وإياب وغدو ورواح: ماذا أرادوا بهذا؟ ولأجل من؟ وما الغاية؟ وما الطريق؟ وما النتيجة؟ وكيف العاقبة؟ وهل يباعد من الله أم يقرب منه؟ أما الغافل والجاهل وأما المنافق فهو لا يبالي بذلك أبداً، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به: هكذا] رواه البخاري ومسلم موقوفاً عن ابن مسعود.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاًُ يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) رواه البخاري ومسلم . فيا سبحان الله! ممن تراهم يكابرون ويصرون ويعاندون وينكرون أنهم في غفلة، تقول لهم وتحذرهم وتخوف نفسك وإياهم من الغفلة فيقولون: وأي غفلة تتحدث عنها؟! وأي غفلة تخوف الناس منها؟! وأي غفلة تصيح بها في كل ناد وفي كل واد؟! وتقول للناس: أنتم في غفلة. الناس في خير، والناس على كل خير، والناس إلى خير، فأي غفلة تتحدث عنها؟ عن أشباح في الظلام، أم عن شياطين وهمية؟ ما هي هذه الغفلة التي تتحدث عنها؟
وذلك من أعظم المصيبة: ألا يعلم الغافل أنه في غفلة كما قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] إنهم في نسيان وينسون أنهم في نسيان، وذلك هو العذاب المضاعف، وذلك هو البلاء المركب.
أو ما ترون -يا عباد الله- البث المباشر يعرض ألوان الفساد في البيوت وينكر الكثيرون أنهم في غفلة، الغناء واللهو ينعق في دور كثير من المسلمين ليل نهار وينكرون أنهم في غفلة، أولادهم في حالة يرثى لها من سوء التربية وسوء الأخلاق وينكرون أنهم في غفلة، نساء وبنات غاديات رائحات متبرجات متعطرات في الأسواق وينكرن أنهن في غفلة، ويعاندون ويكابرون أنهم في غفلة..! إن لم تكن هذه هي الغفلة، وإن لم تكن المعصية هي الغفلة فبم نسمي هذه الغفلة؟ نسميها القربات؟ نسميها الدرجات؟ نسميها المسابقة إلى الخيرات؟ نسميها المنافسة إلى الصالحات؟ لا إله إلا الله ما أشد جدلنا! وما أعظم إعراض المعرضين والغافلين! ولا حول ولا قوة إلا بالله! أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) رواه الإمام أحمد وغيره.
وهل يعجز أحد عن ذكر الله؟ تلكم العبادة التي جعل الله فيها أجوراً كثيرة في جارحة صغيرة بحركة يسيرة، تلكم العبادة العظيمة الجليلة، لا تعجز عن ذكر الله، ولا تعجز المسلمة عن ذكر الله في كل أحوالها، لا يعجز الجميع عن ذكر الله غادين أو رائحين، قائمين أو قاعدين، مضطجعين أو يتحركون، مصبحين أو ممسين، في كل أحوالهم، والله لو كان الذكر بحركات الأيدي لخلعت الأيدي، ولو كان الذكر بحركات الأقدام لكلت عن المشي، لكن الذكر بحركة اللسان، بأصغر جارحة، وبأيسر جارحة، وبأهون حركة في أيسر جارحة، أن تحرك لسانك قائلاً: لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، أستغفر الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تستغفر ربك وتدعوه وتناجيه فيكتب لك ذلك.
وفيه من الأجر العظيم ما الله به عليم، تمحى به السيئات، وترفع به الدرجات، وتحيا به القلوب، ويكون حرزاً لك من الشيطان، لا يصيبك مس، لا يصيبك سحر، لا تصيبك عين، ولا أذى: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة كان كمن أعتق عشرة من ولد إسماعيل، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة خطيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان سائر يومه ذلك) بنقل جبال؟ بنقل بحار؟ بمشي أميال؟ بصدقة أوزان الجبال من الأموال؟ لا، حركة يسيرة على جارحة صغيرة، بهذا اللسان الذي لو جعلنا آلة تحصي حركاته وتحصي كلماته وتحصي حروفه لوجدنا أننا تكلمنا ملايين الكلمات أو مليارات الكلمات، ولو أحصينا ما نطقنا به من ذكر الله وطاعة الله وتسبيح الله وتهليله وتحميده وتكبيره لوجدنا أقل القليل من ذلك ما كان في ذكر الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب: الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداة الله ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه عز وجل حتى يحبه الله فيواليه، ولا يزال العبد في غفلة عن ربه حتى يبغضه الله فيعاديه. فيا حسرة الغافلين عن ذكر الله! يا حسرة الغافلين بالملاهي! ويا حسرة الغافلين بالأغاني! ويا حسرة الغافلين بالأفلام! ويا حسرة الغافلين والغافلات بالمسلسلات في القنوات الفضائية عبر الدشوش وغيرها! إن بعض المسلمين -هداهم الله- منذ أن يصبحوا إلى أن يمسوا وهم في غفلة، وهم في لهو عن ذكر الله عز وجل، البيت مملوء باللهو، والسيارة مشغولة باللهو، والمجالس مشغولة باللهو، فأخبروني بالله عليكم متى يتذكر أولئك؟ إذا بلغت الروح الحلقوم متى يتذكر ذلك؟ إذا حلت المنية متى يتذكر أولئك؟ إذا عجز عن الذكر وأصبح مقهوراً عاجزاً حاسراً بعد أن كان قادراً،
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان |
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا لله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما، ومعنى: (إلا كان عليهم ترة): أي تبعةً وحسرةً وندامةً يوم القيامة.
فيا أيها الأحباب! إذا علمنا أن المجالس، أن العلاقات، أن الجلسات، أن اللقاءات ستكون حسرات وندامات ما لم يكن ذلك في طاعة الله ومرضاته، ما لم نطرد الشياطين ونعطر القلوب والأسماع والحاضرين بذكر الله سبحانه وتعالى وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهل يضيرنا أي اجتماع اجتمعناه، وأي لقاء التقينا فيه، هل يضيرنا قبل أن نبدأه -أياً كان- أن نستفتحه بآيات من كلام الله، وأن نعلق عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجتمع لنا خير المجلس، وخير الكلام، وطيب الدعاء، ثم بعد ذلك نفيض فيما نشاء أن نفيض فيه من أمور دنيانا، أيضيرنا ذلك؟ أيعجزنا ذلك؟ لا والله، لكنك تعجب يوم أن يكون الذكر ثقيلاً على الأنفس، فإذا استفتح جالس من الجالسين مجلسة وقال: أيها الحضور.. أيها الأحباب.. أيها المجتمعون.. حتى لا يكون المجلس ترة، حتى لا يكون حسرة، حتى لا يكون ندامة.. دقائق نستفتح بها هذا المجلس بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، رأيت كثيراً أو رأيت بعض الجالسين يشمئزون ويزورُّون وتدور أعينهم كما تدور أعين الذي يغشى عليه من الموت.. يا سبحان الله! ولو كان الحديث أوله وآخره وأوسطه وقلبه وقالبه وباطنه وظاهره في سخافات وفي هراء، وفي ما لا تحمد عاقبته لقهقهوا وضحكوا، وطال المجلس إلى ساعات طويلة حتى يرتفع النهار أو ينتصف الليل، ولا يبالون ولا يعدون ذلك شيئاً، ولا يعدونه أمراً ثقيلاً، لكن إذا قام قائم أو ابتدأ متكلم وقال: يا معاشر الأحباب! يا معاشر الحاضرين! في هذا الزواج، في هذه المناسبة، في هذه العقيرة، في هذه الوكيرة، في هذا اللقاء، قبل أن نفيض في شأن دنيانا وعلاقاتنا نبدأه بذكر الله عز وجل، وجدت منا من تدور عينه، ووجدت منا من يزوَّر بوجهه، ووجدت منا من يتأفف.. مم تتأفف؟ أما تخشى أن تكون من الذين قال الله فيهم: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]؟ أي غفلة استحكمت في المجالس اليوم؟ أي غفلة استحكمت في اللقاءات اليوم؟ حتى بلغ الأمر إلى درجة أنهم لا يذكرون الله فيها؟ بل يعترضون ويتأففون ممن يدعوهم إلى ذكر الله عز وجل.
أي غبن وأي صفقات نخسرها من الصحة والعافية ومن الفراغ؟ يضيع منا الكثير منه في غير طاعة الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري. أرأيتم صحيحاً سخر عافيته وجلده وقوته ونشاطه لطاعة الله سبحانه وتعالى أيعد مغبوناً؟ لا وايم الله، ولكن الكثيرين من الأقوياء يسهرون ويتعبون، ويجعلون أوقاتاً مخصصة محددة بكل دقة لتخفيف الوزن ولرفع الأثقال، ولكمال الأجسام، ولبلوغ الأرقام القياسية في تنمية عضلات الزند وعضلات الفخذ وتقوس الظهر وعضلات البطن وعضلات الصدر، وينفقون على ذلك أموالاً وأوقاتاً ولا يذكرون الله فيها، ومع ذلك لا يرى أنه ضيع شيئاً، هذه العافية بدلاً من أن تكون في طول القيام وطول القنوت وطول الخشوع وطول التذلل والانكسار لله عز وجل، الجلد، الحيوية، القوة، الشباب ما صرفت في صيام النهار، وما صرفت في قيام الليل، وما صرفت في قضاء الحوائج، ولا في شفاعة للمسلمين، ولا في إغاثة للملهوفين، ولا إعانة للمحتاجين، ولا كفالة للأيتام، ولا إعالة للأرامل، ولا قيام على المساكين... في ماذا؟ كثير من الشباب جعلها في العدو والركض والسباق، وكمال الأجسام وحمل الأثقال والسير على الجهاز والعدو على الدراجة الواقفة... وغير ذلك.
إننا لا نحرم أن تنمي بدنك، وأن تعتني بصحتك، وأن تتعاهد قوتك، ولكن انظر الفرق العظيم والبون الشاسع بين ما تجعله لبدنك، وما تجعله لطاعة ربك:
يا خادم الجسم كم تسعى لراحته ضيعت عمرك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
إن كانت النفس والقلب وإن كان الفؤاد والعقل يحمل هماً في طاعة الله ومرضاته، والاشتغال بعبادته والخوف من عذابه فتلك والله نفس إنسان، وإن كانت نفساً لا هم لها إلا الأكل والشرب والنكاح والنوم فتلك نفس بهيمة إذ البهائم تشاركه في هذا.
قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.
ولذا يتفطن الغافلون إلى هذه الغفلات ولكن متى ينتبهون أنهم كانوا في غفلات، وكانوا في أمر مريج، وفي أمر عجيب في غفلتهم، في تضييع هذه الأمور مجتمعة؟ ينتبهون في موقفين:
الموقف الأول: في ساعة الاحتضار يعلم الغافل أنه كان غافلاً، الغافل الذي ضيع وقته وشبابه وعافيته وفراغه وصحته متى يعلم أنه غافل؟ الغافل الذي كان يكابر ويعاند في هذه الغفلة متى ينتبه؟ عند ساعة الاحتضار، عند هجوم المنية، إذا بلغت المنية منه مبلغها: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100] في هذه اللحظة يعلم أنه غافل ويستفيق ويصرخ: (رَبِّ ارْجِعُونِ) أريد العودة، أريد الرجعة (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) فيرد بكل زجر وتوبيخ (كَلَّا) لا مرد ولا رجعة، ما بعد هذا إلا حياة برزخية، مضى وفات وانقضى زمن العمل وأنت في زمن البرزخ، إما أن تكون في حسرة فتقول: رب لا تقم الساعة، وإما أن تكون فرحاً جذلان مما ترى من كرامات الله وفضله ومنه، وروح من الله وريحان فتقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
ينتبه الغافلون في ساعة الاحتضار فيقول أحدهم: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10] ولم لم تتصدق يوم كنت تدعى إلى الصدقة وكنت غنياً؟ ولم لم تتصدق وأنت تدعى إلى أداء الزكاة والأموال تملأ حسابات البنوك بأرصدتها؟ ولم لم تتصدق وأموالك تئط أطيط الرحل من كثرة الأرصدة؟ ولم لم تتصدق وكنت قادراً على الصدقة من قليل أو من كثير؟ أما إذا جاء الموت: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10] والجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11] هذا هو الموقف الأول يتذكر فيه الغافلون أنهم في غفلة، في ساعة الاحتضار.
والموقف الثاني الذي يتذكر الغافلون أنهم في غفلة: هو موقف الآخرة: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] الصيف ضيعت اللبن! إنا موقنون الآن! موقنون الآن بعد أن قامت القيامة! موقنون الآن بعد أن تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم! موقنون الآن بعد أن جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة! لا ينفع اليقين حينئذٍ، كان اليقين نافعاً في حياة الدنيا، يوم أن كنتم تؤمرون وتنهون وأمامكم فرصة للعمل وفرصة للكسب والسعي في طاعة الله عز وجل، لذلك يتذكر الغافلون فيقولون: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37] هيهات.. هيهات.. انتهى زمن العمل وفات.
يقول أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة الله لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! كيف من يستقبل ما مضى من عمره من الغفلة يستقبل بقية العمر بمثل الغفلة السابقة؟!
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
لا بد أن تركب هذه الآلة الحدباء، ولا بد أن تغسل، ولا بد أن تكفن، ولا بد أن تدفن، ولا بد أن تترك، ولا بد أن تودع في هذه الحفرة الضيقة وفي هذا اللحد المظلم، تكره أن نحدثك عن مصيرك؟ أولست تحب من يكون صادقاً معك في تجارتك؟ ألست تحب الطبيب الذي يكون صادقاً ماهراً حاذقاً في تشخيص دائك ومرضك؟ فلماذا تكره الواعظ، أو تكره الداعي، أو تكره المذكر، أو تكره أخاك الذي يذكرك بحقيقة ما أنت مقدم عليه؟! نعم، الموت يكدر عليك أغنيتك، والموت يكدر عليك فيلمك، والموت يكدر عليك مسلسلك، والموت يكدر عليك ما يعرض في هذه القنوات الفضائية، والموت يكدر عليك ما تقبض من الحرام، والموت يكدر عليك سهرك في المعصية، والموت يكدر عليك فسادك حينما تسافر للخارج، والموت يكدر عليك كل معصية.. فتكره ما يكدر! والعاقل من يحب هذا الكدر من أجل أن يستفيق من تلك الغفلة، من يحب هذا الكدر في ظاهره وإن كان في حقيقته موعظة وذكرى.. ولكن لمن؟ لأولي الألباب، لمن ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الأحبة! أوليس الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2] قال ميمون بن مهران : دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري ينشده شعراً، فكان مما قال:
فكم من صحيح بات للموت آمناً أتته المنايا بغتة بعدما هجع |
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتةً فراراً ولا منه بحيلة امتنع |
ولا يترك الموت الغني لماله ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع |
لا تكره أن تذكَّر بالموت وإن كرهت سماع اسمه، لا تكره أن تذكر بالخاتمة، لا تكره أن تذكر بالعاقبة، لا تكره أن تذكر بالنار وأنت تذكر بالوعيد، وأنت تذكر بالتخويف من الزقوم والغسلين وكل ما أعده الله لمن عصاه، لا تكره هذه الذكرى، إن الذين يبتعدون عن الأجواء الإيمانية إذا قيل لأحدهم: تعال يا رجل الأعمال، تعال يا تاجر، تعال يا غني، تعال يا كبير، تعال يا مسئول، تعال يا حبيب، تعال يا قريب.. بعضهم يقول: لا يا أخي، هذه مجالس، أنا أريد أن أتمتع بدنياي لا أريد أن يكدرها علي شيء. فيبتعد عن مجالس الإيمان وأجواء الإيمان فتستحكم الغفلة مع ترك للجمع والجماعات، وتستحكم الغفلة مع إعراض عن العبادات والطاعات ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم ما الذي يحصل؟ تقع منه غفلة كالظلمات التي بعضها فوق بعض.
ولذلك -أيها الأحبة- نحن في حاجة أن نستمع إلى هذه المواعظ، وأن نستمع إلى هذه الدروس، وأن نستمع إلى هذه الكلمات منا أو من غيرنا، إني لأعجب من علماء أجلاء والله لا يشق لهم غبار في قيام الليل، وفي الصدقة، وفي الجهاد، وفي الدعوة، وفي التعليم، فإذا جلس أحدهم يسمع موعظة من طفل صغير أو من واحد من طلاب طلابه وجدته يهز رأسه، وجدته يتأثر وربما سمعت له نشيجاً وبكاءً، إنه يعلم مهما بلغ علمه ومهما ارتفعت في مراتب الدين درجته وسمت؛ فإنه يعلم أن لا غنى له عن الذكرى، إن بعض الشباب يقول: هل من قضية فكرية؟ هل من قضية سياسية؟ هل من قضية اجتماعية؟ هل من قضية إعلامية؟ أما المواعظ والكلام عن الغفلة، عن الجنة، عن النار، عن الموت، عن الصراط، عن الأهوال.. فاصرفوها لغيرنا، تحدثوا بها مع غيرنا، نحن شباب لا نريد أن نسمع إلا عن الأطروحات السياسية، المستقبل العالمي، القضايا المعاصرة، أل أل... الخ، نحن ما حرمنا وما أنكرنا عليك هذا الاهتمام ولكن ثق أن انشغالك بهذه القضايا وابتعادك عن مجالس التذكير والمحاسبة والمعاتبة والمصارحة ليقف كل واحد منا موقفاً صريحاً مع نفسه، ولينظر حقيقة ما قدمه بين يديه يوم أن يلقى الله عز وجل، إذا لقيت الله سبحانه وتعالى وأنت سياسي حاذق وإعلامي متفنن واجتماعي متمكن، لكن لست من أهل عناية بالطاعة، ولا اهتمام بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وحرص على السنة، أينفعك ذلك؟
إن الناس ينفعهم أن يردوا إلى طاعة الله، وأن يخوفوا بالله، وأن يذكروا بعذاب الله وعقابه، وأن يشوقوا إلى جنته، وأن يرغبوا في رحمته، ولا بأس أن يأتي ما يأتي بعد ذلك تباعاً من الوعي السياسي والاقتصادي والإعلامي والتربوي وغير ذلك، أما أن نظن أن الناس لا حاجة لهم إلا في هذه القضايا، وما الفائدة من وعي سياسي مع صاحب سيجارة ثم بعد ذلك تنتهي السيجارة ويضطجع على جنبه، وإن أعجب بهذا الطرح لكنه لم يتحرك من مكانه إلى المسجد، لكنه لم يقلع عن الربا، لكنه لم يقلع عن الدعوة إلى الاختلاط، لكنه لم يقلع عن أفكار خبيثة رديئة.
إن الفلاح والنجاح في رد الناس إلى طاعة الله ومرضاته، في تعبيد الناس لله، في أن يكون في قلوب الناس لله وقار: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13] أول وأعظم وأجل وأكبر نجاح في أمر الدعوة أن تتحول القلوب القاسية، الصماء، إلى قلوب لينة تخشع وتهتز وتضطرب حينما تسمع كلام الله، تذكر الله خالياً فتفيض الأعين بالدمع، تسابق إلى الجماعات، تنافس في الطاعات: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
فيا أحبابنا! لم لا ننتبه إلى حقيقة مهمة ينبغي لنا أن نعتني بها غاية العناية؟ أقول: ما أكثر الذين نراهم يحضرون مناسبات عديدة، لكن مناسبات كهذه، ورياض جنان كهذه، وحلق ذكر كهذه، ودروس علمية تراهم لا يحضرونها ولا يشهدونها، ذاك لا يصلي مع الجماعة، ولا يأتي الجمعة إلا دباراً، وهذا لا يحب الدروس العلمية، وذاك لا يفضل حلق الذكر، وآخر لا يلتفت إلى محاضرات أو ندوات لا حضوراً ولا استماعاً، لكنهم يجلسون مجالس القيل والقال، والبيع والشراء، ارتفعت الأسهم، انخفضت الأسهم، زادت البرصة، انخفض الين، ارتفع المارك، سقط الدولار، هلك الجنيه... هكذا كلامهم، وهذه مجالسهم، ولو سألتهم عن ذكر الله! لا حرج أن تبيعوا وتشتروا، لا حرج أن تتاجروا فيما أباح الله، ولكن أكل المجالس هكذا؟ أكل الأوقات هكذا؟ أكل الساعات هكذا؟ لا يوجد ذكر لله؟ لا ترطب الألسنة والقلوب بذكر الله عز وجل؟ لا، مجالس الإيمان، حلق الذكر لا يحضرونها البتة.
ثم بعد ذلك إذا قلت له: لا تكن من الغافلين. قال: أنا من الغافلين؟! سبحان الله العظيم! لا يشهدون الجمعة ولا الجماعة ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يأتون الجمعة إلا دباراً، وفي غفلة عظيمة ومع ذلك ينكر أحدهم أن يكون من الغافلين!! ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
لا بأس أن تؤجر -كما قلت- عشرين سنة، عقد ثلاثين سنة، خطة خمسية، عشرية، ربع قرن، ليس هناك إشكال، خطط لخمسين سنة قادمة لا إشكال، خطط للدعوة -أيضاً- خمسين سنة قادمة، ليس التخطيط فقط للهاتف أو للمواصلات أو للنفط أو لأمر آخر.. لا، خطط للدعوة -أيضاً- لمدة خمسين سنة قادمة، ما يمنع ذلك، لكن لا يعني أننا سنعيش خمسين سنة، لا يعني أننا سنعيش عشرين سنة إذا وقعنا عقد إيجار مدته عشرين سنة، فمشكلة كثير من الناس طول الأمل الذي أهلكهم وضيعهم، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل].
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته في شهوات الدنيا؛ فندم على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه مع سكرات الموت حسرات الفوت. وقد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح فقال سبحانه: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:54-56] أحد الذين حضرتهم المنية وبلغت به الروح الحلقوم، أخذ يلطم وجهه ويقول: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهب بأيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون |
ولا تغفل عن الإحسان فيهـا فما تدري السكون متى يكون |
ما دمنا في هبوب ريح العافية وإقبال ريح الشباب، ما دمنا في قوة، ما دمنا في منعة رجالاً ونساءً، فماذا علينا لو أننا رجعنا إلى الله رجوعاً صادقاً وعدنا إلى الله عوداً حميداً فيجعل الله سيئاتنا حسنات؟ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] يا معاشر الإخوة! ويا معاشر الأخوات! بادروا بادروا فوالله ما ندري متى نفارق، بادروا بادروا فالذنوب كثيرة والعمل قليل ولا ندري من المقبول، بادروا بادروا فجنود الشيطان وأعوانه قد جرت في الدماء ووسوست في الصدور، وزخرفت المعاصي، وقربت الخطيئات، وجعلت الهوى مطاعاً، والشح متبعاً، بادروا بادروا اليوم بل الآن قبل أن نعجز عن الاستدراك.
فيا أخي الحبيب! هل جعلت من دنياك على سبيل الاستمرار لا على سبيل المرة الواحدة فقط؟ هل جعلت منها في نشر العلم؟ هل جعلت منها في تحفيظ القرآن، وطباعة الكتب، وكفالة الدعاة، وسقيا الماء، وكفالة الأيتام، وكفالة المجاهدين، وإعانة المحتاجين؟ إذا كنت ذا دنيا فاجعل الدنيا مما يعينك على الآخرة، واستخدم الدنيا ولا تخدمها، واستعبدها ولا تكن عبداً لها.
إن أناساً -والله رأيناهم بأعيننا وعرفناهم- أصبحوا عبيداً للدنيا، أذلتهم، كسرت رقابهم، خضعت برءوسهم إلى الأرض، ولو أنهم استخدموها لوجدوا في تسخيرها لطاعة الله عزاً وكرامةً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم) رواه البخاري . فالذي لم يجعل من دنياه وأمواله جسوراً وأبواباً إلى مرضاة الله ونيل ثوابه واتقاء عقابه، فإنه عبد للدنيا تعيس، وعبد للدرهم تعيس، ذليل، خدم الدنيا وما خدمته، وصار عبداً لها وما رفعته وإن ملك ما ملك وسكن ما سكن، وتقلب فيما تقلب.
لقد حذر صلى الله عليه وسلم من الدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه الإمام أحمد ومسلم. وما أكثر الذين غفلوا عن الذكرى ولجَّوا في الغفلة لجوجاً بيّناً، وأمعنوا فيها إمعاناً واضحاً بسبب شهوات النساء وفتنتهن، تجد أحدهم متزوجاً يعاكس هذه ويخادن هذه ويخالل هذه، فلا ينتهي من علاقة إلا وقد توسط في أخرى وبدأ في علاقة أخرى، ولا ينتهي من علاقة إلا وقد تورط في أخرى ووقع في علاقة أخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله! وربما يقول: سأقلع فيما بعد: أقلع. ولكن متى يقلع؟ إذا كانت نهاية كل علاقة هي بداية لعلاقة جديدة، وعلى حد قول الشاعر:
وحلفت ألا أبتديك مودعاً حتى أهيئ موعداً للقائي |
بل إن بعضهم من شدة لجاجته في الغفلة واستحكام أمر الغفلة في شأنه في أمر النساء لا يدع امرأة إلا إذا رتب علاقة مع امرأة أخرى، ولذلك لا عجب أن يتقلب وأن يتدحرج وأن يسحب على وجهه في هذه الغفلات.
أيها الأحبة! إن كثيراً من الذين لجَّوا في الغفلة لجاجة واضحة كما قلت كان داؤهم ومرضهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما غفلوا بسبب الدنيا أو بسبب فتنة النساء، وفتنة النساء اليوم أصبحت أمراً خطيراً وتلونت، فليست فتنة المرأة في شيطانة تتسلط على رجل لتغريه، بل -أيضاً- في شياطين يتسلطون على النساء، ومنظمات عالمية لا يتسلطون على فرد أو على مجتمع بل يتسلطون على شعوب بأكملها لإفسادهم وتخريبهم عبر هذه القنوات، وإن فتنة النساء اليوم قد استحكمت في هذه القنوات أو ما يسمى بالدش فتنة عظيمة، وأصبحت القنوات الفضائية تنافس أيها أكثر خلاعة وأيها أكثر مجوناً، وأيها أكثر سخافة وإسفافاً، وكسراً للحياء، وهدماً للفضيلة حتى تنال من المشاهدين والمتابعين أكبر حظ ورصيد، فأصبحت فتنة المرأة فتنة عظيمة.
وخير للرجال والنساء العفة وغض الأبصار، لكن مكر الأعداء عظيم: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54].. وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46].. وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح:22] في أمر النساء والفتنة بالنساء، بداية بعضهم معاكسات، عبث بالهاتف، ثم لا تلبث أن تتطور إلى علاقات، ثم لا تلبث أن تتحكم في القلوب عشق الصور والمشاهد فلا يبالي أحدهم ولا يبالي كثير منهم أن يعمق ويسفي شهوة الصور بهذه القنوات وما يعرض فيها، فتعلق في القلوب صور وأشكال لغفلة أصحابها لا يجدون لها دواءً إلا الداء ذاته،
وداوني بالتي كانت هي الداء |
لا يجدون لها دواءً إلا أن يذهبوا إلى ما رأوا، وأن يركعوا ويخضعوا عند من وجدوا وعشقوا، ثم والعياذ بالله تستحكم فيهم هذه الغفلات، وبعضهم بهذا الشر يتسلط على بنات مجتمعه فيترصد لهن ليسقطهن وليغريهن وليقتنصهن في حبائل وشرك مغازلاته ومعاكساته، فكم من عفيفة انقلبت فاجرة! وكم من طيبة انقلبت فاسدة! وكم من صالحة تحولت أحوالها وبكت بعد الدمع وقبله دماً؛ بسبب هذه الفتنة العظيمة التي أورثت فتنةً لا أول لها ولا آخر، ولا سبيل إلى النجاة منها إلا عود صادق ورجوع وإياب بقوة إرادة وجلد وعزيمة وإصرار، تقول لكل معصية: الطلاق الطلاق الطلاق، ثلاثاً بتاتاً، بينونةً كبرى لا رجعة فيها أبداً؛ طاعةً لله، خوفاً من عذابه، رغبة في ثوابه. هو أحق أن يخشى، هو أحق أن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، فمن عظم أمر الله في قلبه شفي بإذن الله من داء الغفلة.
يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: ضحكت من مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه، وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.
فيا أيها الأحبة! هل نعود؟ وهل نرجع؟ وهل نئوب من هذه الغفلة أم نخلط ونلفق ونرقع؟
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع |
فطوبى لعبد آثر الله ربه وجاد بدنياه لما يتوقع |
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال لـه إياك إياك أن تبتل بالماء |
من تعود في منـزله المعصية، ومع جلسائه المعصية، وفي سيارته المعصية، وفي عمله المعصية، وفي علاقاته المعصية، وفي سمته وسلوكه المعصية .. كيف يريد أن يسلم من الغفلة؟ إذا أردت أن تسلم من الغفلة فاخرج عن هذا الوسط، أقلع، ابتعد، ابحث عن قومٍ تخالطهم، ومجتمع تخالطهم، وعلاقات تجددها في غير معصية الله، تعينك على طاعة الله، تذكرك إذا نسيت، تعينك إذا ذكرت، أما الذين تعودوا سهر المعصية ومجالس المعصية، ومهما تغيرت الأسماء: البشكة، الشلة، المجموعة التي فيها ما فيها، لا تخادع نفسك، أسأل: هل هم أهل غفلة فيجعلونك غافلاً معهم أم أهل ذكرى فيجعلونك من الذاكرين معهم؟ لا تزين هذا الفساد الذي تراه في شلتك وتسميهم: الشلة، الحبايب، الأصحاب، الفرندز.. لا، اجعل قولك ونطقك بهم صحيحاً: هم أهل غفلة أم أهل طاعة، أم أهل عودة إلى الله سبحانه وتعالى؟
لكن انظر إلى أصحاب الطاعة: الدنيا زاوية من زوايا قلوبهم، تجد الدنيا كلها يدخلها في زاوية من قلبه، لا أعني أنه يتعلق بها بل الدنيا صغيرة في قلبه، لكن أصحاب المعاصي والإصرار عليها والعناد والمكابرة؛ أتفه قضية تجعل الدنيا علامة إكس في وجهه ينتحر من أجلها، يحاول أن يتخلص من نفسه عند أدنى مشكلة، لكن انظر إلى أهل الإيمان وطاعة الرحمن:
ترددت في الأهوال حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر |
مصيبة تلو المصائب، تكسر النصال على النصال، ومع ذلك لا يزال رابط الجأش، ثابت الجنان، أشم كالجبل، كالطود العظيم من شدة ثقته بالله عز وجل، ما هذه الدنيا بالنسبة لما يرى؟ أما أهل المعاصي الذين يعودون ويئوبون ويتوبون ويرجعون فحيهلا على باب التوبة، وحي على الإنابة والرجوع، أما أهل المعاصي المصرون على هذه المعاصي، المعرضون عن ذكر الله وطاعته فيا ويح عيشهم! وما أبأس حالهم! وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طـه:124] لما استحكمت الغفلة شاع ما شاع وانتشر ما انتشر في كثير من الناس: أنواع القلق والاضطراب والاكتئاب، وضيق النفس، والأمراض النفسية، ولو تأملوا وعرفوا أن مرضهم وعلتهم وداءهم هو الغفلة، وعالجوه بذكر الله واليقظة والرجوع لوجدوا أنساً بالله، ولذة وسعادة بذكر الله عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ينافس أمسي في يومي تحرقـاً وتحسد أسحاري علي الأصائل |
إن كنت كذلك فأنت بإذن الله من أهل الذكرى إذا كنت تجعل ذلك في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله! إن من المصيبة -كما قلت- أن ترى من الناس من لا يعلم أنه في غفلة فلا تراه يتألم على فوات الجماعة أو قيام الليل، أو فوات العبادة أو انقضاء مواسم مضاعفة الأجر دون أن يستفيد منها، كل ذلك لا يهمه، بل لا يتحسر لِمَ لم يزرع في موسم الزراعة؟ لِمَ لم يقترض يوم أن كان البنك متاحاً؟ لِمَ لم يتوظف يوم أن كانت الوظيفة والفرصة سانحة؟ لِمَ لِمَ لِمَ ...؟ كل حسراته على فوات دنياه، والدنيا لا يسوفها أبداً ويبادر ويكابد من أجل الحصول عليها، ويتحسر على ما فات منها، وأما الآخرة فسيان عنده إن أقبلت أو أدبرت في أمرها، أو حصَّل أو فرط أو ضيع في شأنها.
ومن البلاء وللبلاء علامة ألا يرى لك عن هواك نزوع |
العبد عبد النفس في شهواتـها والحر يشبع مرة ويجوع |
أيها الأحبة! ما أعظم غفلتنا وإن عدنا الناس ملتزمين أو قالوا متكلمين، كيف لا نقر بالغفلة ونحن نرى التقصير الفاضح البين في قيام الليل وفي نوافل العبادات والتسابق إلى الخيرات؟
يا أيها الأحبة! حطموا قسوة القلوب بتمريغ الأنوف والجباه سجوداً لله، واشكو إلى الله قسوة قلوبكم وشدة غفلتكم وطول طريقكم وقلة زادكم، عسى أن تنجلي تلك الغشاوة من الغفلة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء) إذاً فهذه الغفلة سحابة على القلب يمكن أن تنجلي بإذن الله عز وجل، لكن سحابة الغفلات لا تنجلي بالأماني ولا تنجلي بالكلام وإنما تنجلي بالتطبيق، وتنجلي بالمجاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك |
وتترك ما غنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك |
فدود القبر في عينيك ترعى وترعى عين غيرك في ديارك |
إذا أردنا أن تنجلي هذه الغفلة فلنتذكر أننا راحلون، كم جنازة صلينا عليها تذكر أنك يوماً من الأيام واحدة من الجنائز التي يصلى عليها، زر المقابر وتأمل أحوال هذه المقابر:
أتيت القبور فناديتـها فأين المعظم والمحتقر |
وأين المدل بسلطانـه وأين الغني إذا ما افتقر |
أين الملوك ذوي التيجان من إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان |
أتى على الكل أمر لا مرد لـه حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا |
زر قبر الرئيس وقبر الزعيم، وقبر الأمير وقبر الوزير، وقبر الملك، وقبر الثري وقبر الفقير؛ كلها بجوار بعضها، أين الحجاب، وأين البواب، وأين الاستئذان، وأين البرتوكول، وأين المواعيد؟ انتهى الأمر: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] هذا هو المرد وهذه هي النهاية، فمن تذكر ذلك حتى وإن ركب ما ركب وسكن ما سكن وجمع ما جمع فإنه بإذن الله عز وجل يعود منكسراً إلى الله: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8] لذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، بل (لما جيء بجنازة وجلس صلى الله عليه وسلم على شفير القبر بكى حتى بل الثرى، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا) رواه ابن ماجة وغيره.
فليتفكر العبد في هذا، وليعلم أنه لا يعالجه من هذه الغفلة إلا أن يكسر ويحطم قسوة قلبه بأن يرى الأموات يغسلون، ويرى الأموات يكفنون، ويقف عند المقابر، ويزور المرضى، وينظر أحوال أصحاب العاهات الذين سلبت منهم العافية بين لحظة ولحظة ليعرف حاله وأن ما أصابهم ليس ببعيد أن يصيبه.
هكذا -أيها الأحبة- ينبغي أن ننتبه وأن نحذر من هذه الغفلة، ومن لازم ذكر الله عز وجل فهو في خير وعلى خير بإذن الله سبحانه وتعالى.
فليست هذه الدنيا بشيء تسوؤك حقبةً وتسر وقتا |
وغايتها إذا فكرت فيها كفيئك أو كحلمك إذ حلمتا |
سجنت بها وأنت لها محب فكيف تحب ما فيه سجنتا |
وتطعمك الطعام وعن قـريب ستطعم منك ما فيها طعمتا |
وتشهد كل يوم دفن خل كأنك لا تراد لما شهدتا |
ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجئت لما خلقتا |
وإن هدمت فزدها أنت هدمـاً وحصن أمر دينك ما استطعتا |
ولا تحزن على ما فات منهـا إذا ما أنت في أخراك فزتا |
فليس بنافع ما نلت منها من الفاني إذ الباقي حرمتا |
وتذكر مواقف يشيب لها الولدان، تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، الشمس تكور، النجوم تنكدر، السماء تنفطر، البحار تسجر، الجبال تتطاير كالعهن المنفوش، يجعلها الله قاعاً صفصفاً ... كل ذلك من الأهوال التي بين أيدينا سنراها ونعتقدها ونؤمن بها حق اليقين، أفلا يليق بواحد منا تأمل ذلك أن يقلع عن غفلته وأن يتدبر لنهايته؟
فيا أيها الأحبة! حري بنا أن نعد أنفسنا لما نحن قادمون عليه، يقول إبراهيم التيمي : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس! أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً. قلت: فأنت في الأمنية فاعملي، فأنت في الأمنية فاعملي.
وخف من سوء الخاتمة، وأعد لهذا الأمر عدته، لقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفاً من الذنوب؟ فأخذ جفنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذا وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة. قال ابن القيم: وهو من أعظم الفقه؛ أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة.
أفي دار الخراب تظل تبني وتعمر ما لعمران خلقتا |
وما تركت لك الأيام عـذراً لقد وعظتك لكن ما اتعظتا |
تنادى للرحيل بكل حين وتعلن إنما المقصود أنتا |
وتسمعك النداء وأنت لاه عن الداعي كأنك ما سمعتا |
وتعلم أنه سفر بعيـد وعن إعداد زاد قد غفلتا |
تنام وطالب الأيام ساع وراءك لا ينام فكيف نمتا |
معائب هذه الدنيا كثير وأنت على محبتها طبعتا |
يضيع العمر في لعب ولهو ولو أعطيت عقلاً ما لعبتا |
فما بعد الممات سـوى جحيم لعاص أو نعيم إن أطعتا |
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب أن يوقظنا وإياكم من هذه الغفلة، وألا يجعلنا من الغافلين، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، ومرداً إليك غير مخز ولا فاضح.
اللهم استعملنا في طاعتك، وتوفنا على مرضاتك، إلهي وربي وخالقي لا تدع لنا جميعاً في هذا المقام وفي هذا المسجد؛ ذكوراً وإناثاً، رجالاً ونساءً ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر