وبعد:
الهوى وما أدراك ما الهوى، المفسد العظيم من مفسدات القلوب، هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مدلوكا، ومدخل الشر مسلوكا، والهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي، ولا تفسدنك دنياك بحسن العوافي، فمدة اللهو تنقطع، وعارية الله ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم وتكتسبه من الجرائم.
والهوى حجاب بين العبد وربه، فيه حطت النار، واستحق به غضب الجبار، وحرم أتباعه منازل الأبرار، ولهذا عظمت منزلة مخالفته، فلم يجعل الله للجنة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباعه، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:37-41] قيل: هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها -أي المعصية- لله.
بل شرع الله له -للهوى- الجهاد، فجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن : يا أبا سعيد ! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.
قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أعظم من جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً؛ حتى يخرج إليهم -أي: للكفار- وبدون جهاد الهوى والنفس لا يمكن الخروج إلى جهاد الكفار، فلا بد أن ينتصر عليها أولاً.
فإذا كان هذا شأن الهوى فلابد من معرفته ليحذر ومعرفة أسبابه وطرق التخلص منه، وهذا موضوع الحديث في هذه الليلة بمشيئة الله: معنى الهوى لغةً واصطلاحاً والآيات والأحاديث الواردة فيه، وموقف التشريع من الهوى، وخطر الهوى، وما يتعلق باتباع الهوى والأهواء في التشريع وفي العقائد مما يضاد التشريع ويضاد العقائد ويضاد الأحكام الفقهية أيضاً، ونتحدث كذلك عن علاج الهوى.
ولقد تحدث الشاعر عن قوم رأى معاشرهم جنحوا بـ ... طبيعتهم في كل تيار في اتباع الهوى وقال عنهم:
تهوى نفوسهم هوى أجسامهم تهتك بكل دناءة وصغارِ |
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى ملئ الهوان بأهله فحذارِ |
فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عاري |
عار: يعني ليس عليه غطاء.
قاد الهوى الفجار بل قالوا لـه دأبت عليه مقادة الأبرار |
والهوى في الأصل: العشق في الخير أو الشر، وما تريده النفس، وجمعه: أهواء، وهوي إذا أحب.
قال ابن القيم رحمه الله في تعريف الهوى: الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحس لما تريده هذه النفس كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً، ولا مدحه مطلقاً، كما أن الغضب لا يذم مطلقاً ولا يحمد مطلقاً، وإنما يذم ما فيه إفراطٌ من النوعين، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار، وهناك غضب لله وهناك غضب للنفس، ذاك محمود وهذا مذموم، وكذلك الهوى هناك هوى فيما يحبه الله عندما تصبح النفس تهوى ما يحبه الله هذا هوى محمود: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) لكن الهوى المذموم أكثر، والمقصود أن الهوى من جملة السلوك الفطرية عند الإنسان، وهذا أمرٌ ضروريٌ وملازم وليس مكتسباً، ولذلك لا يذم مطلقاً ولا يمدح مطلقاً، وهنا يأتينا إشكال؛ وهو أننا وجدنا آيات في القرآن الكريم مفادها ذم الهوى مطلقاً فما هو وجه التوفيق بين هذا وبين ما تقدم؟ قال تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] وقال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] وكذلك ما جاء في السنة وكلام الصحابة والعلماء كما سيأتي.
قال ابن القيم رحمه الله في كلام له في رفع هذا الإشكال: ولما كان الغالب على متبع هواه وشهوته أنه لا يقل فيه عن حجم المنتفع به -يعني: المنتفع بهواه، أي أن الإنسان يمكنه أن يوجه الهوى توجيهاً ينتفع به منه- لكن لما كان الغالب على متبعي الهوى أنهم لا يقفون عند حد الانتفاع بل يتعدون -أطلق ذم الهوى؛ لأن الغالب هو استعماله واتباعه فيما يضر، ولذلك أطلق في عدد من النصوص ذمه بدون تفصيل لعموم غلبة الضرر، مثل الشهوة والغضب، فأنت ترى في كثير من النصوص ذم الشهوة مطلقاً، وهناك شهوة مباحة ومستحبة وهناك غضب محمود وذلك لأنها غالباً لا تنفع وإن لم تكن كلها أضرار، وبهذا يحصل التوفيق وتفهم القضية ويندر من يقصد العدل في هذه الأمور ويقف عندها؛ ولذلك لا تكاد تجد الهوى في الكتاب والسنة إلا مذموماً، وعندما ذكر الهوى في السنة بذم جيء به مقيداً، كما جاء في الحديث الذي صححه بعض أهل العلم وضعفه بعضهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فإذا كان هواك تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام كان هوى محموداً.
وقد جاء في الحديث نسبة الهوى إلى صاحبه كما قال: (والعاجز من أتبع نفسه هواها) مع تقصيره في طاعة الله واتباعه للشهوات لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع بل يتمنى العفو والجنة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار. (العاجز من غلبت عليه نفسه فأعطاها ما تشتهيه).
قال الحسن : [إن قوماً لهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لقوا حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب فإنه لو أحسن الظن أحسن العمل. وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]] وجاء في الحديث الصحيح في الحوار بين حذيفة وعمر لما روى حذيفة رضي الله عنه حديث عرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، وكيف يصبح قلب المؤمن في النهاية بعد التمحيص أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والقلب الآخر الذي نكتت فيه نكتة من المعصية على نكتة أخرى من معصية أخرى على ران يعلو القلب، قال: (والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فأضاف الهوى إلى القلب، وأضاف الله عز وجل الهوى دون أن ينقصه إلى الكفار لأن أهواءهم ليست على الحق بخلاف المؤمن فإن هواه موافق للحق، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فالكافر هواه كله باطل، والمؤمن قد يرتقي هواه حتى يصير تابعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا مال إلى شيء كان ذلك الشيء سنة وطاعة وعلى أدنى الأحوال مباح.. فهوى المؤمن إذا ارتقى يصبح موافقاً لما في الكتاب والسنة.
ومما ورد من استعمالٍ في الهوى الذي لا يذم ما تقدم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغار على اللاتي يهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51] وأيضاً قال الله له: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] قالت عائشة : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك).
وفي صحيح مسلم في قضية الأسرى بعد معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر -لوزيريه- مستشيراً: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال
إذاً: مال إلى قول الصديق ، وسماه هوى مع أنه أخذ به لمصلحة الإسلام في ظنه، وليس لأجل اتباع الهوى المخالف للحق، فكان ذلك الاجتهاد من النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه: نأخذ ما ننتفع به من المال منهم ليس لجيوبنا بل لمصلحة الإسلام، ولعل الله أن يهديهم فيموتوا على الإسلام بدلاً من أن نقتلهم على الكفر، هوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق ، فنـزل القرآن مصوباً لرأي عمر رضي الله عنه؛ لأنه ليس له أي مدخل في الدنيا، وإنما ضرب الرقاب إثخاناً لهؤلاء الكفار لتنكسر شوكتهم، وقدم على أخذ الأموال وإطلاق هؤلاء الذين ربما يعودون في الجيش القادم ضد المسلمين..
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فقوله صلى الله عليه وسلم: (والقلب يهوى ويتمنى) ليس في الشر فقط بل في الخير أيضاً، ولهذا قال بعده: (ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) ما هو المنهي عنه بالنسبة لنا الآن وأي هوى الذي ننهى عنه؟
لو نظرنا في المواضع التي نزلت في الكتاب العزيز لعرفنا أننا نهينا عن اتباع الكفار كما تقدم، وقال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] هل هذا مثل الذي يتبع هواه؟ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] وهذا الاتباع فيه التقصي للشيء من كل وجه؛ لأن الاتباع في الأصل المشي خلف الشيء، فالذي يكون متبعاً لهواه يتأمل دقة العبارة في القرآن وبلاغة القرآن: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28] إذا قلت: فلان اتبع فلاناً، أي: مشى وراءه، واحدة واحدة، حذو النعل بالنعل، فقول الله تعالى: وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14] فكأن الهوى هو القائد وهم يسيرون خلفه فيتبعونه، فحيثما مال بهم الهوى مالوا، وحيثما قادهم انقادوا وهكذا.
وقد جاءت السنة بهذا التعبير عن أبي أمية الشعباني قال: (سألت
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) وهو حديث صحيح فقيد الهوى بمضلات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، كل إنسان في نفسه هوى وشهوة، فهل يعاقب لأن في نفسه هوى وشهوة؟ هل يطلب من كل إنسان أن يستخرج الهوى والشهوة من نفسه وينبذها خارجاً؟ الجواب: لا. ولا يستطيع، يعني: لا يأثم على وجودها وليس مطالباً بإخراجها لأنه لا يمكن انتزاع الهوى والشهوة من النفس وإسقاطهما، ولذلك قال شيخ الإسلام : "ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليها، بل على اتباعه والعمل به" إذا صار يتبع شهوته في كل شيء، ويتبع الهوى في كل شيء فالعقوبة على الاتباع لا على نفس الشهوة، وهذا كلام دقيق موزون، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، وكان في جهاد: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:40-41] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الغضب والرضا) وهذا حديث حسنه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة .
وقوله في الحديث: (هوىً متبع) فيه دليلٌ على أن المتبع هو مقامة النفس، كقوله: (شحٌ مطاع)وجعل الشح المطاع أنه هو الآمر وجعل الهوى متبعاً لأن المتبع قد يكون إماماً يقتدى به ولا يكون آمراً.
عندما خلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة، قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] فلجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، وإنما هو أعظم داءٍ فيه تلفها، وتضع الداء موضع الدواء، والدواء موضع الداء، وكله بسبب الظلم والجهل والهوى فيتولد بذلك عللٌ وأمراض، كيف لو أن إنساناً داوى نفسه بشيء ٍيجلب له المرض، وداء المنية كانت هي الداءُ، كيف سيكون حاله؟ فيتولد من ذلك عللٌ وأمراض، وهي مع ذلك تبلغ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال، وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح في ظلمها فتقول النفس لله: أنت قدمت علي، وأنت كتبت، وأنت كذا وأنا بريئة، وأنا مغصوبة وأنا مجبورة مع أنها تملك الإرادة في الاختيار وفيها قوة الممانعة والمداهنة.
فهاتان الخصلتان: الظلم والجهل هما أساس كل شرٍ عند الإنسان، ولا يظن ظان أن ظلم الإنسان وجهله يكون في حق غيره.. بل إن أول من يتضرر بهذا هي نفسه التي بين جنبيه، والتشريع إنما جاء لإصلاح الإنسان في دنياه وآخرته ولصلاحه كذلك، وأما هواه المبني على الظلم والجهل فلا يمكن أن يحقق له سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا علمت حقيقة التضاد بين الهوى والشرع، وحقيقة الظلم والجهل في النفس، وأن والهوى مركب فيها، وأن التشريع جاء لإصلاحها فمن المتوقع أن يحدث هناك تعارض بين الشرع وبين النفس، لأنك تهوى وتجهل وتظلم، والشرع يريد صلاحاً وإصلاحاً وعدلاً فمن المتوقع أن يحدث اصطدام بين الشرع والنفس، وهذا الحق والشرع واتباع الهوى نقيضان لا يجتمعان، فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع، يأتي النهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم نجد فيه أن الأمر باتباع الشرع جاء مقروناً بالنهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم؟
وهنا تصريح باتباع الشرع وأعقبه بالنهي عن اتباع الهوى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثـية:18].
والشرع يأتي مناقضاً للهوى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26] قال الشاطبي: "حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما".
يعني: لا يوجد إلا شريعة وهوى ولا يوجد شيء ثالث، وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده وهو الباطل، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في فصل تعارض العقل والنقل في الوجه السادس والستون: أخبر سبحانه أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية لا من أحكام العلم والهدى، فقال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50] فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، فإذا رغب عن اتباع ما أنزله الله سيقع حتماً في اتباع الهوى، وإذا تعدى ما أنزل الله؛ حتماً سيقع في اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكم الله إلا حكم الجاهلين -وقد كان شيخ الإسلام يحارب في جبهة المنطق وعلم الكلام يحاربهم ويقف ضدهم فكان يقنعهم يقول يعني: غير النصوص الشرعية اتباع الهوى- فهذه الأشياء التي تخالفون إنما هي قواعد فلسفية بل هي اتباع هوى ضلال، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية -كما فعل الأشاعرة - وتحاكموا إليها، والنص إذا خالف القواطع العقلية والبراهين اليقينية يؤول ويسمى بغير اسمه.
كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد، وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقا.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في نصيحة له لعموم المسلمين قال في أولها: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يرى هذا الخطاب من المسلمين سلك الله به السبيل إلى المسلمين، وأعاذني وإياكم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين، قال في نصيحته: وكل من أعرض عن القرآن والسنة فهو متابعٌ لهواه عاصٍ لمولاه، مستحقٌ للنقد والعقوبة كما قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50] وقال تعالى في نقص الكفار: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23].
وهذه القضية -أيها الإخوة- متفقة مع فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وبدون مخالفة الهوى تفسد السماوات والأرض، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ولهذا كان من مقاصد الشرع تعبيد الناس لرب العالمين وتخليصهم من رق الهوى وأسره.
قال الشاطبي رحمه الله: المقصد الأصلي من وضع الشريعة في هذه الأحكام، إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً.
الآن نحن هل نستطيع الخروج عن الكون إطلاقاً؟! لا . فنحن عبيد غصباً عنا من هذه الناحية، فهل يمكن أن تخرج عن نواميس الله الكونية؟ لا يمكن، فأنت رغماً عنك عبد، لكن ممكن أن تعصي الله وممكن أن تفعل المنكرات والمحرمات، والشرع جاء ليجعلك متبعاً لهدى الله اختياراً كما أنك عبدٌ له اضطراراً، فالآن الكفار عبيد لله بالاضطرار، فإذا أراد أن يمرضهم أمرضهم رغماً عنهم ، وإذا أراد أن يحضرهم أحضرهم غصباً عنهم، وإذا أراد أن يميتهم قبض أرواحهم رغماً عنهم، فهم عبيدٌ رغماً عنهم، من هذه الجهة جهة اضطرار، لكن الشريعة لا تريد العبودية من جهة الاضطرار فقط، بل تريد أيضاً أن تكون عبداً من جهة الاختيار، فيصلي لله بنفسه، ويزكي بنفسه، ويذكر بنفسه، ويدعو بنفسه، ويترك الحرام اختياراً منه، فيؤجر، حتى يعبد الله اختياراً كما أنه يعبده اضطراراً.
فالشريعة جاءت بتعبيد النفس لله، ولذلك تجد أن الشريعة لا تأمر بأشياء تهواها النفس أصلاً، ليس هناك أوامر كثيرة في القرآن الكريم والسنة تقول: لا تنسوا الأكل، عليكم بالأكل والمأكولات، وعليكم بالشرب، يا أيها الناس! الشرب والشراب، من شرب فله كذا كذا حسنة، انكحوا ومن نكح فله كذا كذا، اشتروا وحصلوا الأموال، من حصل الأموال فله كذا، لماذا لم تأت الشريعة بنصوص من هذا النوع؟ وإنما تجد شيئاً شاقاً وثقيلاً على النفس؛ فكم من نصٍ ورد في الصلاة وكم من نص ورد في الجهاد! لأنها ثقيلة على النفس، لكن الأشياء الخفيفة التي تهواها النفس بطبيعتها هل تجد فيها آيات كثيرة؟!
هل تجد آيات كثيرة تحث على الأكل والشرب والنوم والنكاح والبيع والشراء؟
لا.
لماذا؟
لأن هوى العبد معه، فلا يحتاج إلى مؤكدات ومحفزات ومرغبات فيه، لكن الأشياء التي تخالف حظ النفس كالصلاة والجهاد والصيام وإخراج الأموال والصدقات والبذل والتضحية وردت فيها النصوص الكثيرة والمرغبات؛ لأن الشريعة تريد أن يكون العبد متبعاً لمولاه لا متبعاً لهواه، وأن يكون عبداً اختياراً كما هو عبدٌ اضطراراً.
والمقصود العقل المتبع الموافق للشرع وليس العقل المخالف للشرع، فالمخالف للشرع ليس بعقل في الحقيقة، وإنما سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عما يضره.
وقال الماوردي رحمه الله في كلام نفيس له: فلما كان الهوى غالباً، وإلى سبيل المهالك مورداً؛ جُعل العقل عليه رقيباً مجاذباً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع ذاكرة خطوته، وخداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه؛ قوة السلطان وخفاؤه.
أما الوجه الأول: فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه حتى يستولي عليه -أي: على العقل- مغالبة الشهوات، فيكل العقل عن دفعها، أي: أن أي إنسان واحد يمكن أن يكون عنده عقل يدفع به الشهوة، لكن إذا كثرت الشهوات سيتعب العقل من الدفع والدرء فيخف سلطانه ويقوى الهجوم فيضعف عن المنع فيقع، مع أنها واضحة في العقل أنها غلط، قال: وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وإنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، وفعلاً تجد بعض الناس يقول: يا أخي! نحن شباب، وبعض الآباء أيضاً يعذرون أبناءهم الشباب بهذه.. فإذا عوتب بتصرف ولده الخطأ قال: هذا شاب مراهق، هذه الفترة لا بد منها، وماذا يعني لا بد منها؟ كأن يقول: لا تؤاخذ هذا الولد الشاب، فيقول الماوردي إنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، كما قال محمد بن البشير:
كلٌ يرى أن الشباب له في كل مبلغ لذةٍ عذرا |
كلما أراد أن يتبع لذة محرمة هونت عليه القضية أنه شاب، يقول: مازال شاباً صغيراً اصبر عليه، الآن يلعب ويلهو في الحرام لأنه شاب.
قال: وحسم ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة.
أي: نحن في تربية الشباب لا بد أن نقوي عندهم داعي العقل الذي يعني: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: طريق الخير وطريق الشر، فيعرف الحق والباطل، الطاعة والمعصية، يعرف ما يضره وما ينفعه، على الأقل يعرف الشيء الذي يضر والشيء الذي ينفع، هذا الميزان والقوة التي في النفس، وقوة العقل إذا نميناها عند الشباب يصير عنده مركز تحكم قوي وعنده مقاومة قوية، أما إذا كان داعي العقل عنده ضعيف ولا يميز بين ما يضره وينفعه وليس عنده تلك القوة والسلطان، فعند ذلك إذا اجتمعت عليه الشهوات غلبت عقله الضعيف المسكين.
قال: وحق ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام، أي: يقال له: فكر! أنت الآن عندما تذهب تتابع الفتيات بالحرام ثم تقع في الزنا والفاحشة، أليس ذلك ضرراً عليك؟ هتكت عرضاً والله يغار أن تنتهك حرماته فتسببت في إنجاب ولد حرام فضيحة عليك وفضيحة عليها، وسمعتك تتلوث، وتجلب لنفسك المرض، وتفعل وتفعل، يعني: هذه الأشياء فيها تربية، وداعي العقل، هي أن تفكر وتستعمل العقل، فكر ما حالك في القبر؟ يوم القيامة وأنت في تنور من نار، وفي عذاب الزناة، فماذا تختار؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
إذاً: لابد أن نركز على هذا حتى يثمر العقل، فنقول للشباب والشابات ذكوراً وإناثاً: فكر بالعواقب والنتائج والمآلات، هذه المسألة فإذا انقادت النفس للعقل بما أُشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير العقل مشهوراً وفي النفس مقهورا، ثم له الحظ الأوفر في الثواب الصالح وثناء المخلوقين، فالشاب يقول: أنا لو اتبعت الهدى فسأنال ثواب الله وثواب المخلصين، وإذا اتبعت الهوى يحصل علي كذا، في الدنيا فضيحة ومرض ... الخ، وفي الآخرة سخط الله والعذاب الأليم.
قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:40-41]. وقال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى.
وقال بعض الحكماء:أعز العز الامتناع من ملك الهوى.
وقال بعض البلغاء : خير الناس من عصى هواه بطاعة ربه.
وقال بعض الأدباء: من أمات شهوته أحيا مروءته.
وطبعاً ليس المقصود بإماتة الشهوة المباحة والمستحبة، كلا، هي توجيه وعملية تنظيم وضبط الغريزة.
وقال بعض العلماء كلاماً بليغاً: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله، فهو شر من البهائم.
وقيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس وأحراهم في الظفر في مجاهدته؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه.
قد يدرك الحازم من رأى المنى بطاعة الحزم وعصيان الهوى |
قال الماوردي : وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره حتى تتموه أفعاله على العقل، يعني: ليس كل حرام يأتي إلى الإنسان واضحاً وصريحاً، الهوى يستعمل أسلوب اللف والدوران والإخفاء والتدبير والتمويه والتغريب في قالبٍ يحبه الناس.
والهوى يموه فيتصور القبيح حسناً، والضار نفعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون للنفس ميلٌ إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وتتصوره حسناً لشدة ميلها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة، وضبطها شيخٌ لي في النحو قرأت عليه: يعمي ويصمي.
وقال علي رضي الله عنه: الهوى عمى.
وأما السبب الثاني: فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتهى، فيطلب الراحة في اتباع ما تسهل حتى يظن أن ذلك أوثق الأمرين، وأحمد الحالين، اغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم، فلا يعدم أن يتورط بخدع الهوى، وريبة المكر، في كل حسن ومكروه.
ولذلك قال عامر بن الطلق : الهوى يقظان والعقل غلب فهذا سبب نجاح عملية التمويل، فالهوى يقظان والعقل راقد والنفس تطلب الأسهل.
وقال سليمان بن وهب الهوى أمنع، والرأي أنفع.
وقيل في المثل: العقل الوزير الناصح، والهوى وكيل فاضح.
كيف نتغلب على السبب الأول وعلى السبب الثاني؟
التغلب أن يجعل فكر قلبه حكماً على نظر عينه، فإن العين رائد الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل.
وقال بعض الحكماء: نظر الجاهل بعينه، ونظر العاقل بقلبه، يعني أن الجاهل يبنى أنه حسن أو لا بالشيء السطحي الظاهر أمام العين، العاقل أو الذي سوف ينجو ينظر بعقله لا بعينه، ولذلك ممكن يكون أعمى وهو نادر، ثم يتهم نفسه في فوات ما أحبت وتشتيت ما اشتهت، إذاً من الطرق الكبيرة لمعالجة الهوى أن تنظر أين ميل نفسك، إذا رأيتها تميل في اتجاه معين اتهم نفسك وشك فيها أنها تريد هذا وهو محرم، أو فيه أمر لا يرضاه الله، ولذلك مالت إلى نفسك، فخالف الأصل فاتهم نفسك فيما أحبت وما اشتهت.
ثم انظر إذا صرت بين أمرين أيهما أثقل على النفس، فإن النفس عادة تريد الأسهل؛ لأن النفس عن الحق أنفر، وللهوى آثر؛ ولذلك قال العباس: إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك وخذ أثقلهما عليك، والثقيل يبطئ النفس وتظهر القضية بشكل أوضح مع البطء.
وقال علي رضي الله عنه: [من تفكر أبصر، والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالإقدام عليه، فيكون استدراك ولا ينفع التفكير بعد العمل، ولا الاستبانة بعد الفوز -إذاً: خرجنا الآن بأمرين فانظر ما تميل إليه نفسك فخالفه- وإذا تعرضت لأمرين فانظر أثقلهما عليك فرجح أن يكون فيه الصواب وأخفهما على نفسك فشك ورجح أن هذا فيه الخطأ والباطل].
إذا نظرنا إلى قول الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23] أي: اتخذ دينه هواه، لا يهوى شيئاً إلا ركبه، فهؤلاء الكفار لا يؤمنون بالله، ولا يحرمون ما حرمه، ولا يحللون ما أحله، إنما دينهم اتباع الهوى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ولا يخاف الله، هذه بعض عبارات المفسرين في تفسير هذه الآية، حتى كان الواحد من العرب الكفار يعبد حجراً، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وعبد الثاني، لماذا؟: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثـية:23] أفرأيت -يا محمد- من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له ملكية كل شيء وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثـية:23] فليس في علمه طريق حقٍ يسير فيه.
وحق الهوى أن الهـوى سبب الهـوى ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى |
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، ألا ترى أنه جعل الضلالة والحيرة فيمن أضله عن علم: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثـية:23] وهذا أشد شيء، ألا ترى أن العاشق من شدة إعجابه يكاد يعبد المعشوق.
ألا ترى أن أهل البدع لبس عليهم وأضلهم الله وبعضهم على علم، هل تظن أن شيوخ أهل البدع لم يطلعوا على كلام أهل السنة ؟ أنت تظن أن رهبان النصارى الكبار مثل الفاتيكان ما قرءوا بمقارنة الأديان؟!
إذاً: لماذا لا زالوا يصرون على ما هم عليه؟ اتباع الهوى، فهم يقولون: أتباعنا بالملايين، إذا تركنا هذا ذهب علينا المنصب والجاه والعلاوات والمميزات فهم لا يزالون على ضلالهم فقد أضلهم الله على علم.
فاتبع هواه في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات والنذر فمثله في الخسة كمثل الكلب في أخس أحواله، وفي عدم التأثر بالمواعظ والبقاء على الضلالة، إن تحمل عليه وتزجره يلهث، أو تتركه من غير زجر يلهث، ولذلك قيل: كل حيوان يلهث من تعبٍ أو عطشٍ سوى الكلب فإنه يلهث بكل حال من الراحة والشدة والعطش والشبع والري والجوع، الكلب يلهث في كل حال، قال: وكذلك متبع هواه يلهث على غرض نفسه، ويتعطش إلى الدنيا وإلى الحظ العاجز ولا يلتفت إلى الوعظ ولا إلى غيره, فانظر حب الدنيا ما يفعل بالعلماء: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175] عالم فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:175-176] نزول هائل جداً، من عالم إلى كلب.
كيف ولماذا؟
آتيناه آياتنا لكنه أعرض عنها وانسلخ، والسلخ الفصل التام وانظروا إلى التعبير القرآني! انسلخ بحيث لا تقع مماسة مع أي شيء انسلخ.. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176] هذا الانحدار كيف يصبح قبيحاً جداً، فعلى الإنسان ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع الضرر ومواقع المنجى، وترى بعض الحيوانات لا يأكل أشياء؛ لأنه يعلم أن هذا ضرر عليه إن أكله، والإنسان قد أعطي عقلاً فالواجب عليه أن يميز بين ما يضره وما ينفعه، وكيف يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه؟ والبهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيشٍ هنيءٍ خالٍ عن الحزن والهم، البهيمة لا تصوم في الحقيقة، ولا تعاني من هم ولا غم، ولذلك تساق إلى منحرها وهي منهمكة على الشهوات لفقدان العلم بالعواقب، ولا تعرف ماذا يحدث بعد الذبح؟
والآدمي لا يناله ما ينال الحيوان لقوة الفكر الشاغل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ولأعطي الإنسان من القوة للشهوات كالبهيمة وأكثر من ذلك.
ثم لنتأمل حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... نحن نتكلم عن الهوى في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، وعرفنا ماذا قال تعالى في موضوع الهوى وعرفنا قول الله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] ثم عرفنا من مثال الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه، نأتي على حديث في الصحيحين في موضوع الهوى ونتأمل الأحوال التي تتعلق بالهوى، وموقع ابن آدم منها: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..) إذا تأملت السبعة كما يقول ابن القيم رحمه الله الذين يظلهم الله في العرش يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى.. فإن الإمام العادل صار عادلاً عندما خالف هواه، وإلا لبطش وسرق ونهب وضرب، والشاب المؤثر لعبادة الله نشأ في طاعة الله، وما استطاع أن يصل إلى هذا إلا بمخالفة هواه، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد لولا مخالفة هواه لصار قلبه معلقاً بالمسارح والأغاني والأسواق، وصور النساء والأشكال الجميلة، وكذلك المتصدق لولا مخالفة هوى النفس الداعية للشح والبخل ما أخرج، فكيف وقد أخرج إخفاءً حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وذلك الذي دعته المرأة الجميلة فخالف هواه مخافة لله، وهذا الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما أوصله إلى هذه المرحلة التي يخشع بها لهذه الدرجة مخالفة الهوى. فلذلك كان حر الموقف بعيداً عنه، وشدة الموقف زائلة عن هؤلاء.
يا أخي: إذا لم نحرم الأولاد من شيء أبداً، ولم نقف في طريقهم لنيل مطلوب نفسي عندهم أبداً، ونلبي كل ما يطلبون، ولا نقف عائقاً في طريق ما يشتهون، نكون قد أضررنا بهم، وربيناهم على اتباع الهوى منذ الصغر، ولذلك القضية في اتباع الهوى تنشأ منذ أن يقوم الأب بترفيه الولد وإعطائه ما يريد من البداية، يريد مالاً أعطيناه، يريد جوالاً أعطيناه، يريد دشاً ركبناه له، يريد سيارة أعطيناه، والبنت نفس الشيء تريد أن تتسلى على الدش ورسيفر والجوال، نحن تحت الخدمة.
إذاً: نحن منذ أن ننشئ أطفالنا ويكبروا ويصبحوا شباباً على مبدأ: (خذ) وبالذات إذا كان الأب مقتدراً وغنياً، بل يقول لك: أنا أقطع لقمتي لأعطي ولدي، جزاك الله خيراً، لكن ماذا تعطيه؟ لقمة يأكلها بالحلال فهذا حسن، لكن إذا قلت: أعطيه أي لعبة، فهل فكرت هل هذه اللعبة حلال أو حرام؟ يريد أن يعمل شيئاً، هل فكرت أن هذا الشيء حلال أم حرام؟ وإذا نام عن صلاة الفجر قالوا: دعوه يرتاح مسكين تعبان، فنحن الذين ربيناهم على اتباع الهوى في ذلك، وجعلناهم يمشون على هذا المبدأ منذ الصغر.
قال الشيخ محمد قطب في منهج التربية الإسلامية : والأم التي ترضع طفلها كلما بكى لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي تضره بذلك؛ لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط من صغره فلا يتعود في كبره، ومن منا تتركه ظروفه الصعبة في حياته لرغباته يشبعها كما يشاء، وذلك فضلاً عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط، ويتعوده منذ باكر عمره؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم بالنفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها فتنساق معها، وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط الشهوات والرغبات، حتى وإن كانت في دائرة المباح الذي لا حكم فيه في ذاته؛ لكنه قد يصبح إثماً فيما يشغل عن الجهاد.. المباح يصبح إثماً حينما يشغل عن الجهاد: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فكل ما ذكرته الآية ليس محرماً في ذاته، فالمساكن ليست حراماً في ذاتها، وتجارة تخشون كسادها ليست حراماً في ذاتها، كلا، لكنه صار فسقاً وحراماً حين أصبح سبباً في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فما الوسيلة للاستقامة على دين الله إلا ضبط هذه الرغبات والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله.
ألا ترون أن صحابية جليلة أخبرتنا بأنهم كانوا يُصوِّمون صبيانهم الرضع في عاشوراء، أي: على أقل يوم في السنة وإذا بكوا أعطيناهم اللعب من العهن ينشغلوا بها حتى وقت المغرب. حتى الرضع كانوا يصومونهم في عاشوراء.
قال: والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها، وعادة يتعلمها، وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها، وأكثر تمكناً منها فيجدها حاضرة في أعقابه حين تفجعه الأحداث؛ لأنه متدرب، كما قال بعضهم: إنه كان يرافق شيخاً فأراد في طريقه أن يشرب من بئر فقال: اصبر إلى البئر التي تليه، فلما وصل البئر التي تليها أراد أن يشرب قال: اصبر إلى البئر التي تليها، وهكذا.. ثم تركه يشرب في النهاية وقال: عود نفسك أنه ليس كل ما دعت النفس مباشرة تستجيب، أحياناً احرمها من بعض الأشياء بما لا يضرها، لكن بحيث يرق ذلك في نفسك قدرة على الاستغناء عن الشيء المباح في حالة عدم وجوده.
ومن أسباب فشل أولادنا في المجتمع أنه متعود أن يلبـى له كل طلب، إذا خرج المجتمع ووجد الحياة صعبة وأنه في الوظيفة يحرم من أشياء، ويخصم منه أشياء، ويطرد من أشياء ويجد كلمة غليظة فلا يتحمل العمل؛ لأنه تعود على إعطاء كل شيء على هواه، وكذلك تجد بعض أولاد الأغنياء إذا افتقر أبوه فجأة أو مات وضاعت الأموال لا يستطيع أن يعيش، متعود على مستوى ثانٍ، والبنت إذا خرجت من عند أبٍ يدللها بأي شيء إلى زوج قليل ذات اليد لا تستطيع أن تعيش، فتطلق بعد وقت قصير، لنفس السبب.
قال: أبو قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وقال الحسن بن سيرين: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوهم.
أما إذا جاهر وانتشر فإن البعض يتبعه، وخاصة حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة، كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].
قال الشاطبي في الموافقات : مخالفة ما تهوى النفس شاقٌ عليك، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى في أهله مبالغ لا يبلغها غيره، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، أي: صار العشاق مثل المجانين، عندما اتبعوا أهواءهم فلو تنظر في كتاباتهم وأفعالهم تجدها كأفعال المجانين، وكذلك حال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين فقد أصروا على باطل حتى قدموا نفوسهم وأموالهم في بدر قتلاً وفي غير بدر !! لهذه الدرجة مستعدين أن يقدموا نفوسهم وأموالهم ضد الحق؛ لأن الحق يخالف أهواءهم: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23] .. أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14].
قال ابن القيم رحمه الله: إن سلامة القلب لا تتم إلا لخمسة أشياء، يعني: لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، فما هو القلب السليم؟ وسليم من ماذا؟ سليم أي: سالم، قال: حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض الاتباع، وهذه الخمسة حجبٌ عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة لا تحصى أفرادها، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم.
قال الفضيل بن عياض: [من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق]. لكن اتبع هواه فصرف الله عنه التوفيق، لا يوفقه باتباع الهوى.
وقال بعض العلماء: الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرغبة، والرهبة، ثم قال: رأيت منهن اثنتين: رجلٌ غضب فقتل أمه -يقول: أنا اطلعت على قصة واقعية أن رجلاً وصل به الغضب لدرجة أنه قتل أمه- ورجلٌ: عشق فتنصر. أي: وقع في الشهوة والهوى حتى أخرجه ذلك عن الإسلام إلى النصرانية ، مثلما حصل لذلك الذي كان مجاهداً مع الجيش الإسلامي وهم يحاصرون حصناً للكفار، فاطلعت امرأة من الحصن نصرانية فعشقها من أول نظرة، فدعته فطلب الدخول فأدخلته، فطلب أن يتزوجها، قالت: حتى تتنصر، فتنصر ودخل في النصرانية . قال: وكان رجلٌ يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ |
يقول: أهوى هوى الدين.. أحب الدين، وفي نفس الوقت واللذات تعجبني، فكيف لي بهوى اللذات والدين؟ كيف أجمع بينهم، المشكلة أن بعض الناس يتصور أنه ممكن الجمع بينهما، وهذا من المحال، لا يمكن؛ لأنها متضادة كما قلنا في أول الدرس
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ |
والمرأة تسمع.. فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.
والابتداع هو الضلال وكل ضلال في النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا من أضرار اتباع الهوى أنه يتعدى إلى الآخرين.
قال المعتصم يوماً لبعض أصحابه: يا فلان! إذا نصر الهوى ذهب الرأي.
وقال ابن القيم : وسمعت رجلاً يقول لشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- إذا خان الرجل في نقص الدراهم سلبه الله معرفة النقد.
الآن هناك أناس يميزون بين الدراهم الزائفة والدراهم الصحيحة، وكان الواحد منهم يأخذ دينار الذهب أو درهم الفضة بمجرد مسكه ووزنه في يده وصوته وهو يضرب في بعضه يعرف هل هذا صحيح أم مزور، وهذه خبرة؛ فقال: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد. فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم واتبع هواه فإن الله عز وجل يسلبه المعرفة والعلم.
قال محمد بن أبي الورد : "إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه"
ما هو هذا اليوم؟ إنه يوم القيامة، والدليل على أن يوم القيامة له شر قوله تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ [الإنسان:11] .. يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7] فالذي يتبع الهوى لا ينجو من شر ذلك اليوم.
قال محمد بن أبي الورد : إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه، وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته أي: أن صريع شهوته أبطأ الناس قياماً من الصرع.
قيل لـيحيى بن معاذ : من أصح الناس عقلاً؟ قال: الغالب لهواه.
ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن مهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن النساء وجهاً، فقال له سليمان : كيف ترى هذه الجارية؟ فقال: أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط، فقال له: خذ بيدها، فقال: ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة إعجابه بها، قال: ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب.
هذا الأمير كان عاقلاً، قال: خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب.. فأخذ ذلك بيدها وهو لا يكاد يصدق، أنه وهب هذه الأمة، وخرج وهو يقول:
لقد حباني وأعطاني وفضلنـي عن غير مسألة منه سليمان |
أعطاني البدر قوداً في محاسنهـا والبدر لم يعطه إنس ولا جان |
ولست يوماً بناسٍ فضله أبـداً حتى يغيبني لحدٌ وأكفانُ |
قال بعضهم: أسرع المطايا إلى الجنة الزهد في الدنيا، وأسرع المطايا إلى النار حب الشهوات، ومن استوى على متن هواه أسرع فيه إلى وادي الهلكات.
وقال بعضهم: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا، واستصعب قياده على الهوى.
وقال عطاء: من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح، أي: يوم الفضيحة الكبرى.
من غلب هواه عقله: يعني الهوى تغلَّب على العقل فصار العقل فيه الفضيحة، ومخالفة الهوى مخرجة للداء عن القلب والبدن، ومتابعة الهوى مجلبة للداء في القلب والبدن، وأمراض القلب كلها إذا فتشتها كلها وجدتها من متابعة الهوى.
قال أبو بكر الوراق : إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغض القلب.
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عَذاباً |
مآراب كانت في الشباب لأهلها |
عذاباً: جمع عذب وهو ماء طيبٌ وما يستساغ من الشراب.
مآراب: أغراض نفسية وشهوات.
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عذاباً |
فلو تأملت كل صاحب حال سيئة لرأيت بدايته الذهاب مع هواه، وإيثار الهوى على العقل، ومن كانت بدايته مخالفة هواه كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس.
قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله في حال كهولته، ومن ملكته شهوته في حال الشباب أذله الله في حال الكهولة.
وابن جرير الطبري رحمه الله كان من أصحاب السمت الحسن، والعبادة والطاعة والدين، وكان يغلب ويقهر هواه، ولذلك بلغ عمره الثمانين بل أكثر من الثمانين، فكان مرة في مجلس علم مع طلابه والناس، وفجأة قام قومة شديدة كأنشط ما يكون، فاستغربوا أن ابن الثمانين يقوم هذه القومة، وكأن بعضهم قال: هذا الشيخ لا تليق به هذه القومة، قال: تلك جوارحنا حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
وقيل للمهلب بم نلت ما نلت؟ يعني وصلت إلى هذه الدرجة والمستوى، قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. هذا في الدنيا لكن في الآخرة جعل الله الجنة نهاية عظيمة لمن خالف هواه، والنار نهاية شنيعة لمن اتبع هواه.
قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعـات:37-41].
وهذه أقوال لبعض السلف في ذم الهوى لكي تعلم كيف كان موقفهم منه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] والقدع: هو الكف والمنع: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] أي: كفوها وامنعوها من الشهوات. [فإنها طلاعة تنـزع إلى شر غاية، وإن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيفٌ وبيء، وترك الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلا].
وقال عبد الله بن مسعود: [إذا رأيت الناس قد أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكذب، وأكثروا الحلف، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيدوا الزنا، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، فالنجاة ثم النجاة ثكلتك أمك!] انج بنفسك، لا يعاش بينهم.
قال أبو الدرداء : [إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله، فيومه يومٌ صالح]
قال الزبير بن عبد المطلب:
وأجتنب الكبائر حيث كانت وأترك ما هويت لما خشيتُ |
أي: فأنا مستعد أن أترك ما يدعوني إليه الهوى لأجل خشيتي لله عز وجل.
وعن علي رضي الله عنه قال: [إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل].
وقال رضي الله عنه: [إياكم وتحكيم الشهوات على العقول؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها -يعني النفس- تنقاد بالتحذير والإرهاب فسوفها بالتأنيب والإرغاب فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت].
وعن ابن عباس قال: [ليأتين على الناس زمانٌ يكون همة أحدهم فيه بطنه، ودينه هواه] مثل أهل البدع، دينهم أهواء، يهوى شيئاً فيتبعه ويجعله ديناً.
وعن أبي الدرداء كان يقول: [من كان الأجوفان همه خسر ميزانه يوم القيامة].
وقال رجل: العقل والهوى يصطرعان فأيهما غلب مال بصاحبه.
وقال ابن جريب:
وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا |
والفعل علا، والفاعل عقله.
وقال عمر بن عبد العزيز: أفضل الجهاد جهاد الهوى.
وقال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعاً، ومن المحقرات التي يحقرها الناس تنتج الموبقات.
ويقولون: إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقالُ |
قال ابن عبد البر: لو قال: إلى كل ما فيه عليك مقال، كان أبلغ وأحسن، قال ابن مفلح: وما قاله ابن عبد البر متوجه.
وقال بعض الحكماء: إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه، يعني: لو قيل هذا حكيم كبير في السن، فلماذا يشاور؟! يقال: حتى يتجرد رأيه عن هواه.
وقال بعضهم: اعص النساء وهواك واصنع ما شئت.
قال ابن عبد البر : لو قال اعص الهوى لاكتفى، لا يوجد داعي لذكر النساء، قال: اعص الهوى، ثم إن الهوى قد يأتي من رجل وقد يأتي من امرأة، قال ابن مفلح : وصدق ابن عبد البر وكان أوجز.
لأن الهوى هو كل شيء، إذا عصيت الهوى خلصت، وقد امتدح بعضهم جماعة من الحكماء لتركهم الهوى.
و للشافعي:
إذا حار وهمك في معنيين وأعياك حيث الهوى والصواب |
لم تستطع أن ترجح أيهما، ولم تعرف أيهما الهوى وأيهما الصواب
فدع ما هويت فإن الهــوى يقود النفوس إلى ما يُعاب |
كان يقال: إذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب هواك فهو لعدوك.
قال عمر لـمعاوية : من أغضب الناس؟ قال: من كان رأيه رداً لهواه.
قال أعرابي: أشد جولة الرأي عند الهوى، وأشد فطام النفس عند الضبط.
وقال قائل: إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها -إذا صار فيها صدى- وكذلك نفسك لا تريك عيوبك في هواها.
قال الشعبي: [إنما سمي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه]، وقال الأوزاعي: [قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات ذاك شيء قُرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه، قالوا: فبث فيهم الأهواء].
هل الأهواء هم أهل البدع، وأصحاب الطرق البدعية. سواءً كانت بدعهم في القضاء والقدر كـالجبرية والقدرية، أو كانت بدعهم في الأسماء والصفات كـالمعتزلة والأشاعرة والجهمية قبلهم، أو كانت بدعتهم في الإيمان كـالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأصحاب هؤلاء الفرق هل كل واحد منهم كل يوم يتوب إلى الله من بدعته؟ هل يستغفر الله من بدعته؟ لا، لماذا؟ لأنه يرى نفسه على حق: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104] ولذلك تعهد إبليس أن ينشر في البشر اتباع الأهواء حتى يرى الواحد منهم نفسه على الحق، فلماذا يستغفر؟ فيستمر؛ لكن لو أن إبليس اكتفى بإيقاع الناس في الزنا والخمر والربا فقط فإن الناس سيعرفون أنها حرام، وقد يوفق أناس للتوبة، لكن إذا أوقعهم في البدع والأهواء فكل واحد يرى نفسه على صواب فلا يستغفر، إذا نصحته يقول: استغفر لنفسك أنت!
وعن جعفر بن الجمرخان قال: بلغني عن أبي منبه أنه قال: إن من أعوان الخلائق على الدين الزهاد في الدنيا، وأوشكها رداً اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف وإن من حب المال والشرف، استحلال الحرام وغضب الله.
وقال أبو سهل: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سئل أبي ما الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى لأجل خشية الله، والآخرة تترك الهوى.
وقال أبو حازم : قاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك.
وقال ابن المبارك :
ومن البلاء وللبلاء علامة ألا ترى لك عن هواك نزوعُ |
العبد عبد النفس في شهواتـها والحر يشبع مرة ويجوعُ |
إذا غلبت أمواج الهوى يصبح العالم مفتوناً بالدنيا، يبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل عاشقٌ له، مستمد لفتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكل قد شغله الشيطان بخوف الفقر، وقد كان من عادة السلف -هذه سنة مفقودة- المراسلة فيما بينهم، كل واحد يوصي الثاني.. كل فترة يرسل رسالة لأخيه يوصيه، كل واحد يوصي الآخر بالحق والصبر، وهذه من الممكن أن تحصل اليوم في بعض الناس الذين يرسلون رسائل في الجوالات، يتفقد فيها أخاه برسالة قصيرة ونصيحة موجزة.
فهذا إسحاق بن عبد المرسل الدمشقي يرسل إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي في أنطاكيا وذاك في دمشق. فكان في كتابه: إذا أصبحنا في جهل .. حيرة تضطرب علينا أمواج الهوى، فالعالم منا مفتون بالدنيا ليبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل منا عاشقٌ لها مستمدٌ من فتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكلٌ قد شغل الشيطان قلبه بخوف الفقر، فأعاذنا الله وإياك من قبول عزة إبليس، وترك عزة رب العالمين.
يا أخي! لا تصحب إلا مؤمناً يعظك بعقله، ومقاديح قوله، أو مؤمناً تقياً، فمتى صحبت غير هؤلاء أورثوك النقص في دينك، وقبح السريرة في أمورك، وإياك والحرص والرغبة فإنهما يسلبانك القناعة والرضا، وإياك والميل إلى هواك، فإنه يصدك عن الحق، وإياك أن تظهر أنك تخشى الله وقلبك فارغ، وإياك أن تضمر ما أظهرته فإنك إن أظهرته أخزاك، وإن أضمرته أرداك. والسلام.
وقال إبراهيم: أشد الجهاد جهاد الهوى، ومن منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلائها، وكان محفوظاً من أذاها، الهوى جرحٌ، وخوف الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك إذا خفت من تعلم بأنه يراك.
وقال أيضاً: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال لـخالد بن صفوان : عظني وأوجز، فقال: يا أمير المؤمنين! إن أقواماً غرهم ستر الله، وفتنهم حسن الثناء فلا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعما افترض الله علينا متخلفين ومقصرين، وإلى الأهواء مسارعين ثم قال: أعاذنا الله وإياك من اتباع الهوى.
والهوى تركه دواء واتباعه داء، فاصبر على الدواء كما تخاف من الداء.
وقال الشاعر:
صبرت على الأيام حتى تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرتِ |
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا تفلتِ |
وقال معاوية : المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى، فاتباع الهوى يُذهب المروءة، ومخالفته تنعشها، وقال ابن عبد القوي رحمه الله في منظومة الآداب الجميلة الجليلة التي هي جديرة بالحفظ على طولها:
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليدِ |
وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي ميلها ما تشتهي ذل سرمدِ |
ولا تشتغل إلا بما يكسب العلا ولا تلقي النفس النفيسة في الردي |
وفي خلوة الإنسان بالعلم أنسه ويسلم دين المرء عند التوحدِ |
ويسلم من قيلٍ وقالٍ ومن أذى جليسٍ ومن واشٍ بغيضٍ وحسدِ |
فكن خلف بيتٍ فهو سترٌ لعورة وحرز الفتى عن كل غاوٍ ومفسدِ |
وخير جليس المرء كتب تفيده علوماً وآداباً وعقلاً مؤيد |
وخالط إذا خالطت كل موفقٍ من العلما أهل التقى والتهجدِ |
يفيدك تعليماً وينهاك عن هوى فصاحبه تهدى من هداه وترشدِ |
وإياك والهماز إن قمت عنه والـ ـبذي فإن المرء بالمرء يقتدي |
ولا تصحب الحمقى ففي الجهل إن ترم صلاحاً لشيء يا أخا العزم يفسدِ |
والمتبرعون بالفتيا التي ترضي أهواء الناس متواترون، وهذا من البلاء، ويظن البعض أنه إذا وضع بينه وبين النار شيخاً -بزعمه- نجا، بل هو هالك وشيخه معه؛ لأنه اتبعه لما يرضي هواه؛ ولأن فتواه وافقت هواه اتبعه، ولو أنها لم توافق هواه لواصل البحث عن شيخٍ آخر وهكذا..
وإذا ذكر الهوى تبادر إلى الذهن أنه يتعلق بالأمور العملية من الشهوات واللذات، بينما إذا نظرنا إلى الشريعة وجدنا أن الهوى يجمع كل مخالفة في الكتاب والسنة، وقد جعل الله تعالى الهوى مضاداً للشرع، فأي شيء مضاد للشرع فهو هوى، وفي باب العلميات من العقائد بعضهم لا يشعر بأنه يخالف أصلاً، بل ربما يشعر أنه على الحق وأنت على الباطل، ولذلك سبق الكلام بأن إبليس دخل عليهم من باب اتباع الأهواء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان من خرج عن وجه الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعباد يُجعل من أهل الأهواء" كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تحدث عن الطرق المبتدعة وأن أصحابها أتباع الهوى، وأن أتباع السنة أصحاب العلم والعدل والهدى، ومخالفو السنة أصحاب هوىً وجهل وظلم.
وقد قال عز وجل: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الجاثـية:18-19] فالشريعة معلومة وكل ذوق ووجد وتفكير ووجهة لا تشهد لها الشريعة فهي من أهواء الذين لا يعلمون، ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، ويذمونهم، ويأمرون بأن لا يغتر بهم، وهكذا.
قال يوسف بن عبد الأعلى: قلت للشافعي : تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا -يريد الليث بن سعد- كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به ولا تكلمه، فقال الشافعي: فإنه والله ما قصر. هؤلاء المبتدعة مثل بعض الصوفية يدعون كرامات وهم على ضلال، فقال الليث رحمه الله: لا تثق به ولا تعبأ به، ولو رأيته يمشي على الماء ويطير في الهواء.
لماذا؟ لأن الشياطين تساعدهم على مقاصدهم السيئة وتجعل الناس معجبين بهم، ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يذهب لمناظرتهم، يقول: كنت أدخل على الواحد منهم حوله الناس وهو في الهواء معلق، وشيخ الإسلام يعرف أن هذا تحمله الشياطين فيقول له أتباع هذا: انظر إلى شيخنا وكراماته هاهو في الهواء -مع أنه شيخ صوفي مبتدع منحرف- قال شيخ الإسلام : فأقرأ آية الكرسي فيسقط، ولذلك وإن رأيته يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتر بخوارقه، فالعادة تنخرق للمشرك والمسلم والكافر والموحد والمبتدع والمتبع، والعادة من الممكن أن تنخرق للولي وللكافر، وترى في الهند بعض الهندوس أو بعض البوذيين أو بعض السيخ أو بعض الكفرة المشركين يحصل لهم شيء عجيب، يدخل سيفاً من البطن ويخرجه من الظهر، ويدخل خنجراً في دماغه ولا يسيل منه قطرة دم، كيف هذا؟ تعينهم الشياطين، فالجني الذي كان مستعداً ليأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها، ويعبر به الجدران والنوافذ والأبواب، ويطير به من اليمن إلى الشام إلى سليمان عليه السلام، أيعجز أن يدخل السيف من البطن ويخرجه من الظهر؟! والجن عندهم قدرات. فهؤلاء مثل أصحاب الطرق الرفاعية وغيرهم الذين تكلم عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية كـالبطائحية الذين يلفون الخرق الخضراء وغيرها، وأصحاب الطرق الذين يدعون أن عندهم كرامات، يقولون: انظروا هذا يخرق بطنه بالسيف ويضع الخنجر في دماغه ولا تحدث مشكلة، ويدخل سيخاً من جهة ويخرجه من الجهة الأخرى ولا يصير به شيء، ويمكن أن يصعد في الهواء كأنه يصعد على سلم، بل ويذهب في نفس اليوم إلى مكة ويرجع، ويقول الحُجَّاج الذين رجعوا بعد شهر وشهرين رأيناه في عرفة وفي مكة ورأيناه في الحرم.
قال شيخ الإسلام: ومن منكراتهم أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، لأن الجني مستعجل، لا يقف لهم حتى يحرموا يذهب بهم بسرعة ويرجعهم، فيمرون بالميقات دون إحرام.
فإذاً: يقول الليث بن سعد رحمه الله: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به، ولا تكلمه. قال الشافعي : فإنه والله ما قصر.
وقال عاصم : قال أبو العالية: [تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأبواق التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فحدثت
وقال أبي بن كعب : [عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت به عيناه من خشية الله سيعذبه -يعني: إذا فعل هذا لا يمكن أن يعذب- وما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك -يعني على هذه اليبوسة- إذا أصابتها ريحٌ شديدة فتحات عنها ورقها ولتحط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم].
وكذلك قال عبد الله بن مسعود : [الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة]وقيل لـأبي بكر بن عياش وهو رجل فاضل من المقرئين الكبار في هذه الأمة، لما حضره الموت قال لابنه: يا بني لا تعص الله في هذه الحجرة فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة. هذا عند الموت، فهو يريد أن يعظ ولده، قال: لا تعص الله في هذه الغرفة.
وقيل لـأبي بكر بن عياش : يا أبا بكر من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها، وهذا أصلٌ عظيم، فالسني إذا ذكرت عنده الأهواء والبدع لا يدافع عنها إطلاقاً، بل إنه يغضب منها ولا يغضب لها، وهذا أصلٌ عظيم من أصول سبيل الله وطريقه.
وكذلك فإن شيخ الإسلام قد تحدث عن بعض أهل الأهواء الذين جعلوا رسوماً وألواناً وملابس معينة، وخطوات معينة، وأشكالاً معينة لهم، وقالوا: هذه أشكال الصالحين، وابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، مثل: حلق الرأس في غير الحج والعمرة. -وطبعاً تعود حلق الرأس في غير الحج والعمرة مكروه- وهو من فعل الخوارج سيماهم التحليق.
ولذلك قال: اتخذ طوائف من فقراء الصوفية ديناً، جعلوه شعاراً وعلامة على أهل الدين والنسك والخير؛ من شكل معين وملابس معينة وأكل معين، وقالوا: هذا هو الطريق.
وذات مرة ذهب أحد علماء هذا العصر وكان في بداية أمره يبحث عن الحق -وكان شاباً- فوجد في البلد رجلاً يدعي المشيخة ويدعي أنه من الصالحين، وأنه من أولياء الله، فقال: ماذا عندك؟ قال: أنا أوصلك إلى الله في أربعين يوماً، قال: كيف؟ قال: تأخذ هذه الأذكار وتقرؤها كل يوم، وتأكل سبع حبات عدس وتفعل كذا كذا، وبعد أربعين يوماً تصل إلى الله.. قال: اكتب لي بهذا ورقة؛ فكتب، قال: اختمها لي فوقع عليها، ووقع عليها، ثم ذهب ورجع بعد أربعين يوماً وقال: أنا جربت هذه الطريقة وما وصلت إلى الله، وهذا يزعم أنه يكلم الله -تعالى الله عن ذلك- يكلم الله بحبل سرواله ثم قال ذلك الشاب: أيها الناس هذا ضلال شيخكم المزعوم كتب في أوراق وقال: توصلك إلى الله في أربعين يوماً.
وهذه البدع الجديدة لا شك أنها من اتباع الهوى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] والاحتجاج بهذه الآية يرد عليه بأحد جوابين كبيرين أشار إليهما أهل العلم:
الأول: أن الآية منسوخة بآية السيف: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36].
الرد الثاني لمن استدل بالآية هذه: أنها خاصة بأهل الكتاب إذا رضوا بدفع الجزية، فإذا وصلنا إلى بلد في الجهاد ووجدنا أناساً من أهل الكتاب وقالوا: لا نقاتلكم وادخلوا إلى بلدنا واحكموا بشريعة الإسلام، لكن نريد البقاء على ديننا، وندفع لكم الجزية، نقول: قد أجاز لكم ديننا هذا ما دمتم حكمتمونا في بلادكم، وفتحتم لنا طريقها لتحكم بالإسلام ولتدفعوا الجزية لقاء بقائكم تحت حماية المسلمين، فهذا حق لكم: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] وهذه أقوى الأجوبة على من احتج بهذه الآية؛ لأن كثيراً من أصحاب حرية العقيدة أول ما يذكر هذه الآية ويشرحها ينطلق منها بالضلال والهوى.
وقد أحدث الناس صنوفاً من الأهواء المعارضة للكتاب والسنة سموها تارة بحرية الرأي، أو حرية الفكر، وإن شئت فقدم الكاف على الفاء لتكون حرية الكفر، وهي في الحقيقة كافها قبل الفاء (كفر وليس فكر) وتارة يدخلون من باب سماحة الدين الإسلامي ونحو ذلك، ولقد رفعوا لواء حرية العقل والرأي وحرية العقيدة بهدم الدين الإسلامي، فماذا تعني حرية الرأي، أليست الإذن بقول كلمة الكفر؟! أليس حرية الرأي السماح بالطعن في الإسلام؟! أليس من حرية الرأي الاعتراض على حكم الله ورسوله؟! أليس من حرية الرأي التشكيك في دين الله عز وجل؟! كل هذه من باب حرية الرأي وليقل من شاء ما شاء، فالمجال مفتوح، والطريق واسع، والصدر رحب، ونحن نستوعب الرأي والرأي الآخر، وقد يكون الرأي الآخر كفراً وردة، وبدعة، وظلماً، وحراماً، وانحرافاً عن الدين، ويقولون: حرية الرأي، ولقد جاء الإسلام بالدعوة إلى دينٍ واحد وعقيدة واحدة، وجاء الإسلام بالجهاد في سبيل الله، وجاء الإسلام بمحو الكفر: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] فهذا الذي يدعو إليه الإسلام ولا يدعو الدين أبداً إلى إبقاء الكفرة على ما هم عليه وترك الكفر يسرح في الأرض، وإلا فما معنى أن الله عز وجل أنزل هذا الدين؟ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] وحينما نستعير مصطلحات الشرق والغرب ثم نلصقها بدين الله تكون مصيبة، فالمصيبة أن يأتي أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ويقولون: حرية الرأي، حرية الفكر، ويأتون بأدلة من القرآن والسنة على حرية الرأي وحرية الفكر: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] ونحوه.
فمن المؤسف أن نستعير مصطلحات الشرق والغرب ثم نلصقها بدين الله ونأتي عليها بأحاديث وأدلة.
وتحت ضغط الواقع المنحرف يشتد هؤلاء على المسلمين، ويرفعون لواء هذه الجريمة المسماة: بحرية الرأي، ويفتحون الطريق للمنافقين وللمرتدين وللكفار ليطعنوا في الإسلام، وليعلنوا المخالفة لدين الله سبحانه وتعالى، وهذه انهزامية مقيتة، وبدعة جديدة، وكأن هؤلاء لم يقرءوا قول الله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] فظهر جيل لا يقر من الدين إلا بما يوافق هواه، وغزيت البيوت بهذه الموجات، وقيل: إن كل شيء معرض للنقد، وإنه ليس هناك مسلمات.
ولذلك ما تراه اليوم من الحوارات في القنوات كله مبني على هذا، قنوات الفضائية الآن هي التي تعرض هذا الفكر، الرأي والرأي الآخر، حوار مفتوح يناقش، هذا زنديق مرتد يعرض شبهاته على العامة باسم الرأي والرأي الآخر، باسم حرية الرأي، باسم كل شيء قابل للنقاش، فماذا يبقى لنا من مقدسات؟ وأي أحكام ثابتة بقيت في الدين؛ فكل شيء معرض للنقاش، فيقولون: تحريم الخمر قابل للنقاش، تعدد الزوجات قابل للنقاش، الربا قابل للنقاش، نتناقش يمكن نتوصل إلى نتيجة، هذا كله على العامة: النساء والصغار، والكبار، والمثقفين وغير المثقفين، والذين عندهم علم والجهلة يشاهدون، فهذا باب الفتنة الكبرى التي فتح بالقناة الفضائية في هذا العصر، هذا الهوى واتباع الهوى.
ولماذا كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع، ولا يقبلون بذلك.
جاء رجل يقول لـأيوب: كلمة! قال: ولا نصف كلمة، لا تعطى الفرصة للمبتدع وإذا نوقش يناقش في مجلس خاص، وقد يقول: أنتم لا تثقون بأنفسكم، نقول: بلى نثق بالله تعالى، لكن لا نرى من الحكمة أن يسمع الجهلة والعوام شبهاتك يا أيها الزنديق، نحن نخاف على دين العامة ما نخاف على أنفسنا نحن، نحن أعلم منك وأقدر منك على الجواب، لكن ليس من الحكمة أن نعرض دين العامة للفتنة؛ ولذلك هذا الطرح الذي يحدث الآن مخطط له، يؤدي بالنهاية إلى تشكيك العوام بأحكام الإسلام.
والاستفتاء حول تعدد الزوجات، كم الذين قالوا نعم، وكم الذين قالوا: لا. اطرح أي شيء في الاستفتاء، نعم، لا، لا أدري، أؤيد، لا أؤيد، متوقف، استفتاء!!
قال عبد الله بن مسعود : [من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يخاصمن أصحاب الأهواء].
وعن مجاهد قال: [ما أدري أي النعمتين عليَّ أعظم: أن هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء].
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا. لتقوما عني أو لأقومن، فخرجا فقال بعض القوم: يا أبا بكر وما كان عليك أن يقرأا عليك آية من كتاب الله؟ قال: إني خشيت أن يقرأا عليَّ آية من كتاب الله فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي.
وعن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من أصحاب الأهواء قال لـأيوب : يا أبا بكر أسألك عن كلمة، فولى وهو يشير بإصبعه ولا نصف كلمة، وأشار لنا سعيد بخنصره اليمنى.
من البدع العصرية التي خرجت ما يعرف بفقه التيسير، وفقه التيسير هو: عبارة عن اتباع الهوى، وجمع الرخص واختراعها، وهم لا يكتفون فقط بجمع الرخص التي هي زلات العلماء، فهناك -الآن- مدرسة فقه التيسير، هذه المدرسة القائمة على الحوارات على الفضائيات، وفقه التيسير يحاول أن يجمع لك أية رخصة أفتى بها، أو قالها عالم أو أحد في كتاب سابق من أي مذهب كان، وتجمع في قاموس فقه التيسير وإذا لم يجد يخترع فتوى جديدة، تناسب العصر -بزعمهم- توافق هوى الناس وتخالف الكتاب والسنة، فيقولون مثلاً: يبحث مثلاً من الذي قال: إن ربا النسيئة ربا الفضل؟ قال: هناك بعض العلماء، قبل أن يعلم الحكم يفتي بأحد نوعي الربا أنه جائز، وكان فلان يجيز أكل البرد في نهار رمضان، وكان فلان يرى بإباحة نكاح المتعة، لم يصل إليه التحريم، وكان فلان يبيح الغناء، وكان فلان كذا، فيجمعون لك هذه كلها ويجعلونها في قاموس يسمى: فقه التيسير، وإذا وردت مسألة عصرية جاء أناس فقالوا: نحن في الغرب نريد أن نشتري بيوتاً ولا يمكن أن نشتري إلا عن طريق البنوك الربوية، فالبنك يمول شراء البيت ونحن نقسط بزيادة، وهذا ربا واضح، فيقولون: هذه ضرورة عصرية، يعني: أيبقى الناس مستأجرين؟! نقول: هناك مدراء شركات مستأجرين، بل تجد (70% أو 80%) مستأجرين أين هم؟ هل كل هؤلاء مساكين يستحقون الزكاة، كل هذه البنايات والعمارات هل كل هؤلاء من أهل الزكاة؟ يقول: هذه ضرورة عصرية: الشراء عن طريق تمويل البنوك وجعلها في قاموس التيسير، وهكذا كثرت الأهواء في اتباع الرخص، ومن تتبع رخص العلماء تزندق وخرج من دينه، فإنه ما من عالم إلا وله سقطة أو زلة واحدة على الأقل؛ فإذا تتبع الإنسان هذه الرخص اجتمع فيه الشر كله، ومع طول عهد الناس بعصر النبوة والبعد عن وقت النبوة زادت الأهواء، واستولت الشهوات على النفوس، ورق الدين لدى الناس، وزاد الطين بلة ارتباط المسلمين بالغرب الذي استولى على مادياتهم وصدر إليهم الفكر الذي يعتنقونه ويرضخون له، وترك هذا الأمر أثره -مع الأسف- حتى على بعض الدعاة، أو الذين يزعمون نصرة الإسلام، ويتصدرون المجالس في الكلام، فصاروا يريدون إعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية، يقولون: ثقيلة على الناس، الناس لا يطيقونها، ماذا تريدون؟ قالوا: نخفف، نرغب الناس في الدين، فنقول لهم: أنتم تريدون إدخال الناس من باب ثم إخراجهم من الدين من باب آخر! أنتم تريدون إدخال الناس في دين ليس هو دين الله، أنتم تريدون أن تنشروا على الناس إسلاماً آخر غير الذي أنزله الله، أنتم تريدون أن تقدموا للناس أحكام غير أحكاماً الشريعة التي أتى بها رب العالمين، ماذا تريدون؟ ما هو نوعية الإسلام الذي تريدون تعليمه للناس؟ وأي شريعة هذه؟ وأي أحكام؟
ومن الناس من يتطوع لمتابعتهم، ولا شك أن الناس فيهم أهل هوى وأتباع كل ناعق، يريدون يسراً ولا يريدون مشقة، ويريدون سهولة ولا يريدون تكاليف صعبة، فنقول: أفتهم بعدم صلاة الفجر؛ لأن صلاة الفجر فيها مشقة، وأفتهم بعدم الصوم في الصيف الحار؛ لأن الصوم في الصيف الحار مشقة، أفتهم بالفطر والقضاء، وأفتهم بصلاة الفجر الساعة الثامنة، فما دمت تريد أن تخفف على الناس خفف، وقل إن الربا ضرورة عصرية، وهكذا صار الإسلام الذي يقدم للناس غير الإسلام الذي أنزله الله.
لكن كيف يعني: (القابض على دينه كالقابض على الجمر) هذا الحديث ما معناه؟ إذاً: ماذا بعد أن نلغي أي أحكام ونقول: هذه يعاد النظر فيها؟ فكيف يحس الواحد أنه قابض على الجمر؟ كيف يحس أن هنا فتنة وابتلاء من الله، الله ابتلى الناس بالتكاليف وابتلاهم بالمشاق، ماذا يعني إسباغ الوضوء على المكاره؟ ماذا يعني حفت الجنة بالمكاره؟ إذا كنت تريد إلغاء المكاره من الدين، فأين الجنة هذه التي تريدون دخولها؟ الجنة حفت بالمكاره فأين المكاره؟ أنتم تريدون إلغاء المكاره كلها بحجة التخفيف على الناس وترغيبهم في الإسلام، أنتم ترغبونهم في شيء آخر غير الإسلام، ترغبون في دين آخر تشرعونه من عندكم، وهذا التمادي يجعل الداعية هذا أو المتصدر المتزعم المدعي للعلم عبداً لأهواء البشر.
يا شيخ هذه ثقيلة. يقول: (خلاص بلاش) يا شيخ والله ما قدرت، قال: هذا مباح، وهكذا يصبح الشرع وفق أهواء الناس وشهواتهم ويعاد تشكيل دين جديد، وأحكام جديدة وفقه جديد، اسمه: فقه التيسير، وهو قائم على تمييع الشريعة ومراعاة أهواء الناس، ماذا يقول الناس؟ ما هو رأي الأغلبية؟ يجوز.
ويجب أن يقوم الدعاة إلى الله بمقاومة داعي الهوى، فالشريعة جاءت لمقاومة الهوى، وتربية الناس على تعظيم نصوص الشرع والتسليم لها وترك الاعتراض عليها، وأن النص الشرعي حاكم لا محكوم، وأنه غير قابل للمعارضة ولا للمساومة ولا للرد ولا للتجزئة ولا للتخفيض، وليذكّر العامة والخاصة بقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36] فلابد من تربية الناس على التعلق بالآخرة، وأن الدنيا دار شهوات وأهواء وظل زائل، وأن الجنة قد حجبت بالمكاره، والنار قد حجبت بالشهوات، وأن اليقين ما دل عليه الشرع، وما جاء به الشرع هو مصلحة الناس ولو جهلوا، ولو قالوا: ليس في هذا مصلحتنا، وأن من مقاصد الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين، وأن الواحد يركب المشاق حتى يتعبد ويذلل نفسه لله.
قال الشاطبي : المقصد الشرعي من وضع الشريعة؛ إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً.
إذاً: ما هو المقصد الشرعي من وضع الشريعة؟ لماذا ألزم الله الناس بالشريعة؟ الغرض من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله، وليتذكر هؤلاء القوم أن مجاراة الناس في الترخص والتيسير لا تقف عند حد، فماذا نفعل بمن تتبرم من لبس الحجاب؟ ومن يتبرم من صيام الحر في رمضان؟ ومن يتثاقل من السفر للحج لما فيه من المشقة والأمراض المعدية؟ وماذا نصنع بالجهاد الذي فيه تضحية بالنفس والمال؟ فإذا كنا نريد أن ننسلخ من أي شيء فيه ثقل فأي دين هذا الذي نريد اتباعه، والتيسير الذي يسره الله للناس ورخص فيه -هذا الشرعي أما الآخر فتيسير بدعي- التيسير الشرعي، كالمسح على الخفين والجورب للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، هذا تيسير شرعي: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] هذا تيسير شرعي، أما أن تأتي وتقول: الربا ضرورة عصرية، فهذا كلام فارغ.
أولاً: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه عز وجل أن يوفق العبد ويقيه شر هذه الأهواء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، وكان إبراهيم يدعو فيقول: [اللهم اعصمني بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى بغير هدى، ومن سبيل الضلال، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ واللف والخصومات].
وفي كتاب روضة المحبين لـابن القيم ذكر فصلاً في علاج الهوى، قال فيه: فإن قيل كيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه؟ فالجواب بأمور:
أحدها: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها؛ حتى تتخلص من الهوى وتقاوم الهوى، فإنك تحتاج إلى عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها.
ثانياً: بجرعة صبرٍ يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
فكر كيف تحفظ منزلتك عند الله وقدم هذا على لذة الهوى.
قد هيئوك لأمر لو فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل |
فأفضل الناس من لم يرتكب سبباً حتى يميز بما تدني عواقبه |
الثاني عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور ثم ينزل نفسه تلك المنـزلة.
من العلاجات ما ذكره ابن مسعود : من أنه إذا دعاه داعي الهوى وقال اذهب للزنا بامرأة، قال ابن مسعود : إذا أعجب أحدكم امرأة فليذكر مناتنها. تذكر ما في مناتنها من البول، وما في أنفها مما تعافه النفس، وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين :
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يفديه لم يفده |
لو فكر العاشق في هذا الشخص الذي عشقه وشكل المعشوق بعد سبعين سنة.
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يفديه لم يفده |
قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، وفي الحديث الصحيح: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وكلما تمرن العبد على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته.
كما قال أبو علي الثقفي : من غلبه هواه توارى عنه عقله.
فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه. العقل والهوى يتنازعان، فالتوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنفس واقفة بينهما فأيهما غلب كانت النفس معه، النفس تتفرج على حلبة الصراع بين العبد والهوى وتتبع الغالب.
رب مستور فدته شهوة فتعرى جسره فانتهكا |
صاحب الشهوة عبدٌ فإذا غلب الشهوة أضحى ملكا |
وقال ابن المبارك :
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا ترى لك عن هواك نزوعُ |
العبد عبد النفس في شهواتـها والحر يشبع مرة ويجوعُ |
ومن الرؤى والمنامات الصالحة لـسفيان الثوري ما رآه عبد الرحمن بن مهدي بعد موت سفيان الثوري -وهم علماء من زمان العلماء، وهؤلاء طلاب عند العلماء وأهل العبادة والزهد والورع والعلم والدين إخوة في الله، الواحد يشتاق للآخر جداً، وإذا مات صعب عليه وتمنى لو يراه في المنام، تمنى لو يكون له خبراً عن حاله- وعبد الرحمن بن مهدي لما مات سفيان الثوري رآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أجول بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركة إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، قال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟
-تحفظ أنك يوم من الأيام قدمت الله على هواك؟- قلت: إي والله، فتأخذني النثار من كل جانب، والنثار ما يلقى على العروس عادة أو على الحضور قال: فأخذني النثار من كل جانب.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفينا دواعي الهوى، وأن يخلف عنا سبل الردى، وأن يجعل التوفيق لنا رائداً، والعقل لنا مرشداً، وأن يجعلنا ممن يتعظون، ومن الذين يتعلمون قبل أن يعملوا، وكذلك فإن هذا الأمر وهو اتباع الهوى جدير بأن يدرس ويفكر فيه وأن يكون العبد على حزن، والله منه نسأل أن يوفقنا لكل خير.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر