قال تبارك وتعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ *
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27].
(وإذ قال إبراهيم) قال
القاضي : أي: اذكر وقت قوله هذا؛ ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، يعني: هم يقولون:
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] ولو كان هؤلاء الكفار من العرب أو مشركي قريش عقلاء، وكان لابد من تقليد، فليقلدوا أباهم إبراهيم؛ فإن أشرف آبائهم هو إبراهيم عليه السلام.
(إنني براء مما تعبدون) أي: بريء من عبادتكم، أو من معبودكم.
و(براء) هي القراءة العامة، وهو مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة؛ لأن المصدر إذا استعمل في الصفة يكون فيه مبالغة، فإذا قلت: رجل عدل، أي: أنه هو نفس العدل، وقد تقدم بيان هذا مراراً، فلذلك أطلق على الواحد وغيره.
وقُرئ بضم الباء: (إنني بُراء) فيكون اسماً مفرداً صفة مبالغة، كطُوال وكُرام بضم الطاء والكاف.
وقوله: ((إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)) هذا استثناء منقطع، أو متصل على أن (ما) في قوله: (إنني براء مما) يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو (إلا) بمعنى غير فتكون صفة لـ(ما) أي: إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني أي: خلقني.
((فإنه سيهدين)) أي: للدين الحق واتباع سبيل الرشد، والسين إما للتأكيد، بدليل أن نفس الآية جاءت في نفس القصة جاءت في سورة الشعراء بدون سين: (يهدين) فهي للتأكيد، والمضارع في الموضعين للاستمرار، أي: استمرار هذه الهداية.
أو أن السين للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً، فيتغاير ما في الآيتين من المحكي بناءً على تكرر قصته عليه السلام.
براءة إبراهيم هي كلمة التوحيد
قال تبارك وتعالى: (
( بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ *
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ *
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ *
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:29-32].
قوله: (بل متعت هؤلاء) يعني: أهل مكة، (وآباءهم) أي: من قبلهم في الحياة فلم أعاجلهم على كفرهم (حتى جاءهم الحق) أي: دعوة التوحيد أو القرآن (ورسول مبين) أي: ظاهر الرسالة بالآيات والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته.
قال تعالى:
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (كافرون) أي: جاحدون، فازدادوا في ضلالهم لضمهم إلى شركهم معاندة الحق؛ لأن الكفر قابل للزيادة، والدليل:
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، والكفر نفسه درجات، فكلما ازداد الكافر في الصد عن سبيل الله عز وجل والتكذيب بآياته ازداد كفراً.
وقالوا أيضاً في مواجهة هذا الحق الذي أرسل إليهم:
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أي: لولا نزل هذا القرآن على رجل من إحدى القريتين المعهودتين في أذهانكم: من مكة أو الطائف، فالتعريف هنا للعهد.
وقوله: (عظيم) يقصدون بالعظمة الجاه والمال، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم.
قال
القاضي : ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
وقد أجابهم الله تبارك وتعالى بقوله:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ وهذا إنكار فيه تجهيل ورد لتحكمهم فيما لا يتولاه إلا هو تبارك وتعالى، وبيان أن هذا ليس إليهم، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، والله عز وجل يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فالنبوة هبة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك صح عن
ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما معناه: (إن الله نظر في قلوب العباد، فاختار من قلوب العباد قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصفى قلب وأطهر قلب وأكمل قلب، فاصطفاه لرسالته ولنبوته ولكتابه، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً رضي الله تعالى عنهم..) إلى آخر الأثر الموقوف الصحيح عن
ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
والمراد بالرحمة: النبوة، ولو وقفت على كلمة (رحمت) وقفت بالتاء مراعاة لرسم المصحف؛ لأنه إذا كانت التاء مكتوبة تاءً مفتوحة فإذا وقفت عليها تقف عليه بالتاء.
وقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: فجعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً، ورفعنا بعضهم بالغنى فوق بعض درجات.
وقوله: (ليتخذ بعضهم) يعني: ليتخذ الغني (بعضاً) يعني: الفقير (سخرياً) أي: مسخراً في العمل، وما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع؛ لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه.
وهذه الآية الكريمة كلها في الرد على الاقتراح، وبيان جهلهم بحكمة الله سبحانه وتعالى في المفاضلة في مراتب الناس؛ حيث جعلوا مقاييس المفاضلة هي المال والجاه، فرد الله عليهم أن ذلك ليس إليهم، ثم بين عز وجل ذلك فقال: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعض سخرياً)، أي: ليس المقصود الاستهزاء، وإنما يعني التسخير بالعمل، لأنه لو كان كل الناس وزراء فمن الذين سيخدمون الناس ويقومون بالوظائف الأخرى؟! لكن الله سبحانه وتعالى فاضل بين خلقه وخالف بين وظائفهم؛ كي ينتفع بعضهم من بعض، ويحصلوا بذلك مصالحهم، لكن ليس هذا التسخير بإعطاء البعض وتخصيصه بالغناء، والتقتير على البعض وكونه فقيراً، دليلاً على أن الغني أكمل من الفقير، أو أن الفقير أحقر من الغني، هذا الاعتبار إنما هو في موازين هؤلاء الماديين.
وقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: جعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً.
وقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أي: رفعنا الغني فوق الفقير درجات في الدنيا.
وقوله: (ليتخذ بعضهم) أي: الغني (بعضاً) أي: الفقير (سخرياً) يعني: مسخراً في العمل؛ لأن كل شيء لابد أن يكون فيه رئيس ومرءوس، حتى يحصل ما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع، وليس هذا الاختيار لكمال في الموسع عليه:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لكن هذا التفاضل لأن حاجة البشر ماسة إلى التضام والتآلف الذي به ينتظم شملهم، أما النفحات الربانية والعلوم اللدنية فليست مما يستدعي سعة ويساراً؛ لأنها اختصاص إلهي وفيض رحماني.
والسخري بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة، وهي الاستخدام والقهر على العمل.
وقوله: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة خير مما يجمعون من الحصاد الفاني، فرحمة ربك في أول الآية وفي آخرها مقصود بها النبوة، فإذا كانت رحمة ربك خيراً مما يجمعون من الأموال والغنى والسعة واليسار فإن العظيم حقاً هو الذي أعطيها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول
الشنقيطي في قوله تعالى:
وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وقال كفار مكة: (لولا) هلا، (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين) أي: على رجل من إحدى القريتين؛ وهما مكة والطائف (عظيم) يعنون كثرة ماله، وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو
الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي
مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : هو
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وعظيم الطائف هو
عروة بن مسعود ، وقيل:
حبيب بن عمرو بن عمير ، وقيل: هو
كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية: أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر، ففي البداية أنكروا واقترحوا أن الله يرسل عليهم ملائكة، ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر، تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين فقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)، وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم وسخافة عقولهم؛ حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجباً لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي، ولذا زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم، وقد بين تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم وسخافة عقولهم بقوله:
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن، كقوله تعالى في سورة الدخان:
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ *
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:5-6]، وقال في آخر سورة القصص:
وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]، وقال في آخر سورة الأنبياء:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال تعالى في سورة الكهف:
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الكهف:65]، على القول بأن الخضر عليه السلام نبي.
قال تعالى: (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ )) يعني: أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا، بل تولى قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً وهذا وضيعاً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً.. ونحو ذلك، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ولم يحكمهم فيها، بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟! فهذا مما لا يعقل، ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا التحقيق -إن شاء الله- أنه من التسخير، ومعنى تسخير بعضهم لبعض: خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض؛ لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي، فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي، فتنتظم المعيشة لكل منهما، وهكذا.
الرد على زعم واقتراحات الكفار في هذه السورة
بيان فساد قول الاشتراكيين في التسوية بين الناس
ختم
الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه الآية الكريمة بشيء هو حقيقة واقعة في فترة من الفترات في ظل الحكم الاشتراكي في عهد عدو الله
عبد الناصر ؛ حيث كانت هناك محاولة لتمرير مفاهيم الاشتراكية وفرضها على الناس، وجرت علينا الشؤم والبلاء في النظام، فإنها غصبت أموال الناس قهراً وظلماً، وحصل غير ذلك من المظالم التي ذاق الناس ويلاتها، فالشيخ
الشنقيطي رحمه الله تعالى كان يعيش في تلك الفترة في الجزيرة العربية؛ فلذلك يشير إلى هذا الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، يقول: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وهي قوله كقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، وقوله:
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71].. ونحو ذلك من الآيات دلت على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه:
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43]، وبذلك تحقق.
والعجيب أن العلامة
الشنقيطي يتكلم بهذا الكلام في وقت كنا هنا في مصر ونحن تلامذة في المدارس نحفظ الميثاق أكثر مما نحفظ آيات القرآن الكريم، وكان لابد في أي موضوع تعبير أو موضوع إنشاء من أنك ترصعه بنص من الميثاق، وكأنه آية قرآنية! حتى قالت
أمينة السعيد في يوم من الأيام: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟
وبعض هؤلاء يقول: إن الإسلام لا يتصادم مع الاشتراكية! حتى ألف أحد الدعاة الكبار المشهورين كتاباً اسمه: الاشتراكية في الإسلام، وأجهد نفسه هو وغيره في محاولتهم أن يأتوا من الشرق ومن الغرب بدليل أو شبهة حتى يثبتوا أن الإسلام دين الاشتراكية، وكأن الإسلام تابع لمذاهبهم ولضلالهم!
والعجيب أن العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى يتصدى لهذا المفهوم في وقت كانت فيه هذه المفاهيم حقائق مقررة، وكان لا يستطيع أحد أن يوقفها أبداً، ومع ذلك هو يجهر ويتنبأ بفشل هؤلاء، ونحن الآن نعيش بعد سنوات طويلة من حقب الاشتراكية السوداء المهينة، ونراجع تلك الأيام، وكيف عذبت الشعوب وقهرتها، وأذلتها وأفقرتها، حتى نفس روسيا التي كانت منظراً فقط للأسلحة النووية، تتسول اليوم من الشرق ومن الغرب، وأمريكا تذلها وتجبرها على الركوع تحت أقدامها، وغير ذلك من التهديدات التي نسمعها بين الحين والآخر.
الشاهد من هذا الكلام: أن العلامة
الشنقيطي يتكلم في جو ما كان أحد يتكلم بهذا الكلام فيه، بل كان الغالب والسائد في المؤلفات والخطب، والدروس والكتب والمطبوعات والإعلام، هو ترسيخ أن الإسلام هو دين الاشتراكية، وأن الإسلام يدعو للاشتراكية، وكانوا يرددون بيت لـ
حافظ إبراهيم يقول فيه:
الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء
يعني: يزعمون أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو إمام الاشتراكيين! مع أن الاشتراكية هذه أتت في وقت قريب، والله المستعان!
وبعدما ذكر بقوله تعالى:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ، وقوله تعالى:
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71]، يقول: وبذلك تتحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس.
فهم يظهرون للناس أن الاشتراكية تحقق وتوزع الحق بين الناس بالتساوي، وهم ينتقدون غيرها من المبادئ والأنظمة، سواء كان هذا نظاماً رأسمالياً أو غيره فيقولون: النظام الرأسمالي فيه استغلال لكن الاشتراكية توزع الفرص على الناس بالتساوي، وفي الحقيقة هم يريدون أن يستأثروا بالثروات؛ ولذلك فإن زعماء الشيوعية كانوا طوال عمرهم يعيشون حالة من الترف أشد من حالة الأباطرة والقياصرة أيام المملكة القيصرية؛ فيقتنون أعجب أنواع السيارات في العالم كله.
يقول: مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها، ويتصرفوا بها كيف شاءوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور، والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينظم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير.
وكان النظام الشيوعي يوزع كل شيء بالبطائق؛ لأن مبدأ الشيوعية أن يعطي كل واحد حسب حاجته لا حسب قدرته وبذله، يعني: كل واحد يبذل للدولة حسب قدرته، ويبذل أقصى طاقته في الإنتاج، ثم يوزع على الناس حسب حاجتهم، وليس الذي يسعى أكثر ينال أكثر، بل ينال كل واحد حسب حاجته.
قال: وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس، بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال عز وجل:
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].