اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله، ومن دعا بدعوته، وعمل بسنته، ونصح لأمته، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! يقول الله عز وجل: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:26-29] .
أيها الإخوان! إن الله سبحانه وتعالى جاء بدين الإسلام من أجل أن يقرر قواعد لا بد منها، ولعل من أبرز هذه القواعد وأهمها: قضية التوحيد لله عز وجل، والإخلاص له في العبادة، وإقامة قواعد دينه على هذا الأساس، وتحطيم كل ما يعبد من دون الله من حي أو ميت، من أجل ذلك بوّأ الله سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مكان البيت، ثم أمره بأن يطهر البيت من الأصنام والأوثان، ثم أمره بأن ينادي بالحج من أجل أن يحضر المسلمون من كل صوب وحدب؛ ليشهدوا هذه المنافع؛ وذلك من أجل إقامة مآرب التوحيد.
ولقد استجاب نبينا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لهذا النداء، فبنى البيت كما أمره الله، ثم صعد على جبل أبي قبيس، وقال: أيها الناس! إن الله بنى لكم بيتاً فحجوا، فسمعه كل مخلوق كان أو لم يكن على وجه الأرض، حتى من كانوا في أصلاب آبائهم، فنادى الجميع بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك. ومنذ ذلك الحين والعالم يحج هذا البيت الذي وضعه الله عز وجل ليكون أول بيت وضع للناس في الأرض.
أما المنافع التي أرشدنا الله عز وجل إليها فهي كثيرة، والدليل على كثرتها: التنكير، فإن الله سبحانه وتعالى قال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] ، وحينئذٍ فإنها منافع عظيمة، يجب أن يبحث عنها المسلمون في كل فقرة من فقرات الحج، وفي كل زاوية من زوايا الأرض المقدسة.
هذه المنافع تبرز منذ تلك اللحظة التي يغادر فيها المرء أهله وعشيرته معتمداً على الله عز وجل، قد ولى وجهه شطر بيت الله الحرام، قد ودع الأهل والعشيرة، وانقطع من كل شيء سوى الله سبحانه وتعالى، ثم يأتي سر التجرد مما يملك، بحيث ينزع كل ما يملك عن بدنه، حتى ثيابه الرقيقة؛ ليرتدي ثياباً خشنة تشبه الأكفان، وكأنه يريد أن يتذكر ساعة الموت والفراق، يوم يلف بهذه اللفائف، وحينئذ يحضر ذلكم الاجتماع الكبير الذي يحكي لنا موقف يوم القيامة، يوم يجمع الله عز وجل الأولين والآخرين في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويُسمعهم الداعي، يحضرون من كل فج عميق ليبحثوا عن هذه المنافع.
معشر المسلمين! وفي الحج نتعلم الخضوع الكامل لله عز وجل، يوم ندور حول هذا البيت خاضعين أذلاء، تأخذنا السكينة والخشوع لله عز وجل، ثم نمد أيدينا لنستلم الحجر الأسود، ونحن في الحقيقة نمدها لنبرم عهداً وتوبة بيننا وبين الله عز وجل، في ذلكم الموقف الرهيب الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم وبكى، ثم التفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي بجواره، فيقول له: (يا
وإذا كان العالم يعيش اليوم في ذعر وخوف وقلق؛ لأنه تجرد عن العقيدة الصحيحة؛ فإنه يذهب هناك ليذوق طعم الأمن؛ لأن الله يقول عن ذلكم البيت: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57].
ذلكم المكان الذي يعلمنا كيف نجاهد في الله عز وجل حق جهاده، وحينما ننطلق بين منى وعرفات والمزدلفة إذا بنا نتعلم الطاعة المطلقة لله عز وجل؛ فإن الحجاج هناك لا يكادون ينزلون منزلاً إلا ويفارقونه بعد مدة وجيزة، دون أن يعرفوا الدوافع من أجل هذا النزول أو ذاك الرحيل، ولكنها طاعة لله واتباع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطاعة المطلقة التي لا تفكر في الحكمة ولا في الهدف، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
هناك في ذلك الصعيد يلتقي المسلمون بإخوتهم من جميع بقاع العالم؛ ليحلوا مشاكلهم؛ وليرى بعضهم بعضاً عن كثب.
هناك تعالج مشاكل المسلمين، وليس ذلك بدعاً في تاريخ الحج، فإن أول لبنة لدولة الإسلام في المدينة قد وضعت في أيام الحج بجوار جمرة العقبة.
أيها الإخوة المؤمنون! وإذا كانت هذه القوميات المعاصرة تتصارع اليوم على القضاء على الإسلام؛ فإن في الحج لنا خلاصاً، وإن في الحج لنا منعة، إن هذه القوميات لا تستطيع أن تلتهم المسلمين، ولا أن تحطم هذا الدين؛ لأن هذه الشرائع تتكرر من حين لآخر؛ من أجل أن تؤلف بين المسلمين وتربط بعضهم ببعض.
هناك الصلوات الخمس التي يكسوها اجتماع أكبر منها يوم الجمعة؛ ليكون هناك اجتماع ثالث أكبر وأوسع في أيام العيدين، ولكن هذه الاجتماعات المصغرة لا بد أن تتحد كلها وبأجمعها في اجتماع يلم كل هذه الاجتماعات، ومن أجل ذلك شرع الله عز وجل الحج، وكانت شريعة الحج آخر شرائع الإسلام.
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد هممت أن أبعث إلى هذه الأمصار فأنظر إلى من كان له جدة فلم يحج فأضرب عليه الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين).
ويقول علي رضي الله عنه: من كان له زاد وراحلة يبلغانه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
معشر المسلمين! تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والنحاس والذهب، وقد (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال، فقال: إيمان بالله ورسوله. قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: حج مبرور، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
الشرط الأول: أن تكون النفقة حلالاً طاهرة، أما النفقة الحرام التي تكسب من الربا أو المعاملات الربوية التي وضع عليها غطاء شفاف، أو الذي يكسب بالغش والخداع، أو بالغصب أو بالنهب، أو باللصوصية؛ فإنه لا يقبل؛ لأن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحاج إذا وضع رجله في الغرز -أي ركب دابته- فقال: لبيك اللهم لبيك، وكانت نفقته حراماً، نادى منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، نفقتك حرام، وزادك حرام، وراحلتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور. وإذا كانت النفقة حلالاً فقال: لبيك اللهم لبيك، نادى منادٍ: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور).
الشرط الثاني: أن يكون هذا الحج خالصاً لله، أما إذا كان للمفاخرة والمباهاة، أو أرقام يحصيها الإنسان لنفسه كم حجة حجها؟ فإن ذلك لن يزيده من الله إلا بعداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
الشرط الثالث: أن يكون صواباً، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حجته التي حجها فكانت نموذجاً للحجاج إلى يوم القيامة، (خذوا عني مناسككم)، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].
لذلك لا يجوز أن يسأل في هذه الأرض أحد غير الله عز وجل؛ فهو الذي يستطيع أن يكشف الضر، ويجلب الخير.
أما غيره من رسول مقرب أو أي إنسان فإنه لا يملك لنفسه بعد موته ضراً ولا نفعاً، فأخلصوا لله، واحذروا البدع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
واحذروا الشرك؛ فـإِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وقال تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال سبحانه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، واقدروا للأشهر الحرم قدرها، واقدروا لعشر ذي الحجة قدرها؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، قال طائفة من المفسرين: هذه الليال العشر هي عشر ذي الحجة.
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشرة -يعني عشرة ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء).
إنه فضل عظيم يرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سن صيام هذه الأيام العشرة، وأمر بالاجتهاد بالأعمال الصالحة فيها، ومن أهم هذه الأعمال: إحياء سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفل عنها الكثير من الناس، فكان الرسول والصحابة معه إذا دخلت أول ليلة من عشر ذي الحجة يرفعون أصواتهم بالتكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
يرددون هذه الكلمات، وفي غمرة هذه الحضارة التي نعيشها اليوم غفل كثير من الناس عن هذا التكبير، فكانت سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكاد اليوم أن تنسى، وإن من أحياها فإن له أجراً عظيماً؛ لأنه دل الناس على هدى النبي صلى الله عليه وسلم.
إن علينا أن نحيي هذه السنة، وأن نرفع أصواتنا بها في الأسواق، وفي مجامع الناس، وفي المساجد، في كل ساعة من الساعات نكرر هذا التكبير بقدر ما أوتينا من وسع.
أيها الإخوان! ولقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن من أراد أن يضحي فإنه لا يجوز له أن يمس شعره أو بشرته منذ أول ليلة من ليالي هذه العشر إلى أن يذبح أضحيته.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه، اللهم وعنا معهم، وارزقنا حبهم، واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم إنا نتوجه إليك في هذه الأيام المباركة، ونسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وتوحيدك أن تؤيد المسلمين بنصر منك.
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلا، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم أيد المجاهدين في كل شبر من أرضك الواسعة، اللهم وعليك بأعدائهم الذين يحاربون هذا الدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأسقط عليهم كسفاً من السماء، واجعل لنا فيهم آية وعظة وعبرة.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، واجعل ولايتنا وجميع أمورنا وأمور عبادك المسلمين في عبادك الصالحين، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وعبادك الصالحين أننا ننكر كل معصية لا نستطيع أن نغيرها، فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر