فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب، سميع الدعاء، وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30] .. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.
والجزاء بم يكون؟ إما أن يكون بالنعيم المقيم في دار السلام.. في الجنة دار الأبرار التي وصفها خالقها عز وجل بما لا مزيد عليه في كتابه، ورفع إليها رسوله ومصطفاه؛ محمداً صلى الله عليه وسلم، وعاش فيها ساعة من الزمن، فرأى قصورها، وحورها، وأنهارها، وقد انتهى إلى سدرة المنتهى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:15-16].
وهذا العمل الذي يسعد، وينزل صاحبه منازل الأبرار هو الإيمان، وصالح الأعمال، كما أن العمل المشقي، المردي المخسر لأصحابه من عالمي الجن والإنس هو الشرك والمعاصي، وسر ذلك -معاشر المستمعين والمستمعات- أن الإيمان يدفع صاحبه إلى أن يعمل الصالحات، والصالحات أقوال وأفعال ونيات، ومن شأنها حسب تدبير الله في خلقه أنها تزكي النفس البشرية، وتطيبها، وتطهرها، فإذا زكت النفس -نفس الإنسي كنفس الجني- وطابت، وطهرت أصبحت متأهلة حسب قضاء الله وسنته لأن تنزل دار السلام بعد نهاية هذا الكون.
والكفر والمعاصي أو الشرك والمعاصي من شأنها أن تخبث النفس، وتلوثها، وتعفنها، فيصبح صاحبها غير أهل للنزول في دار الأبرار، أين ينزل؟ في دار البوار، المعبر عنها بالنار، هذا حكم الله وقضاؤه.
الصنف الأول: المؤمنون المتقون؛ الذين آمنوا بالغيب، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقهم الله، وآمنوا بكل كتاب أنزله الله، وعاشوا يطهرون أنفسهم ويزكونها، فهؤلاء قضى الله تعالى لهم بالفلاح: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].
والصنف الثاني: الكفرة؛ الجحدة؛ الفجرة؛ الذين ما آمنوا بالله ولقائه، ولا بكتابه ولا برسوله، فعلى أي شيء تزكو أنفسهم وتطيب وتطهر؟! وقد كفروا بأصل مواد التزكية والتطهير.
وهذا الصنف عرفنا أنه ينقسم إلى قسمين:
قسم توغلوا في الكفر والشرك والفساد، وواصلوا ذلك، فما أصبحوا أهلاً لأن يتوبوا إلى الله ويعودوا إليه، فهؤلاء لمواصلتهم الإجرام بلا انقطاع، كانت سنة الله فيهم أن ختم الله على قلوبهم، فما أصبح للإيمان منفذ ينفذ منه إلى قلوبهم، ولو حدثتهم من الصباح إلى المساء لا تجد مكاناً للإيمان في قلوبهم؛ إذ عليها ختم، وكذلك ختم على أسماعهم فلا يسمعون، اقرأ القرآن كله حرفاً حرفاً ما سمعوه، غن أو زمر واعبث يسمعون؛ لأن حاسة السمع فقدت صلاحيتها لما ران عليها من ذلك الشر والخبث والفساد، والأبصار كذلك ما أصبحت تبصر؛ لأن عليها غشاوة، لا يشاهدون في الكون آية تدل على أنه لا إله إلا الله!
وقسم آخر منهم: مستعدون، ولهذا دخلوا في الإسلام، وأصبحوا مسلمين مؤمنين.
الصنف الثالث: وهم المنافقون، وضرب الله تعالى لهم مثلين، ومن ثم عرفنا -والواقع شاهد- أن من المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من توغلوا في النفاق .. في الكيد .. في المكر .. في الخبث .. في الشر والفساد حتى أصبحوا غير أهل لأن يدخلوا في رحمة الله، فماتوا منافقين كافرين.
وقسم ما توغلوا في النفاق، ولا أكثروا من الشر والفساد فجلهم بل كلهم دخلوا في الإسلام، وماتوا إلى رحمة الله، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في المدينة منافق قط.
وشيء آخر علمتم زادكم الله علماً! أن هذه العبادة لا ينتفع الله بها، وإنما ينتفع بها العابدون، فهي تزكي أنفسهم وتطهرها؛ ليصبحوا أهلاً للملكوت الأعلى، وفي نفس الوقت تبعد عنهم الشر والفساد والخبث، فيعيشون أمناء أطهاراً، أصفياء، متوادين، متحابين، لا يوجد في حياتهم ما ينغصها أو يكدر صفوها، والله العظيم.
أما العبادات التي ترعب عنها النفوس وترتعد فما هي إلا قوانين رحمة، من شأنها أن تسعد صاحبها في ذاته وروحه، وفي حاله ومستقبله ومآله، لكن الشيطان قبحها لهم، وشوهها وخوفهم منها. يخافون من العبادة! العبادة نظام رباني يكمل عليه العابدون ويسعدون، ووالله لهو الواقع.
ومن رحمته تعالى، ومن ألطافه وإحسانه أنه تعرَّف إليهم إن كانوا جاهلين به لا يعرفون: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] أيها المخلوقون! وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] من المخلوقين، والخالق هو الذي ينبغي أن يبجل، ويرغب، ويعظم، ويعبد، أما الأصنام أو الشهوات، والأهواء، والبشر، والمخلوقات فهي مخلوقة مربوبة تموت، فكيف تعبد مع الله عز وجل؟
فما أجلَّها من نصيحة، وما أعظمها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أي: رجاء أن تتقوا ما يؤلمكم .. ما يحزنكم .. ما يشقيكم .. ما يرديكم، إي والله.
والعبادة امتثال قانون الله أو لا؟ والالتزام بهذا القانون يسعد صاحبه، فلا يشقى، ولا يردى، ولا يهلك، ولا يحزن، والعبادة وقاية مما نخاف ونرهب؛ من المصائب، والآلام، والأتعاب.
إذاً: يا عقلاء! يا بني آدم! يا بني الجن! فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] وهذه فذلكة عظيمة عجيبة، أبعد معرفتكم لما سمعتم تجعلون له أنداداً تضادونه بها فتدعونه كما يدعى الله، وتذلون لهم كما يذل لله، وتطيعونه كما يطاع الله، كيف يصح هذا؟!
وهنا تقرر التوحيد وثبت. وجاءت الدعوة إلى الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجمل هذه قررت لا إله إلا الله، والله العظيم أنه لا إله إلا الله، فليس هناك من يستحق أن يؤله .. أن يعبد .. أن يطاع إلا الله، إذ غير الله مخلوق .. مربوب، وفي الحديث: ( كان الله ولم يكن شيء غيره )، فلا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا ولي في الأولياء والصالحين يستحق أن يعبد مع الله فضلاً عن الجمادات والأصنام والأحجار، بله والشهوات والأهواء.
لا إله إلا الله، هل محمد رسول الله؟ آمنا بأن لا إله إلا الله، من يهدينا .. من يرشدنا .. من يأخذ بأيدينا .. من يعلمنا، كيف نعبد الله؟ آمنا بأن لا يعبد إلا الله، فنحن في حاجة ملحة ماسة إلى من يعلمنا كيف نعبد الله، فهذه حاجة ضرورية.
ومن اضطربت نفسه يقول تعالى له: إن كنت في شك .. في ريب مما نزلنا على عبدنا فائت بسورة من مثله، واستعن بمن شئت، فكان الخطاب إذن لكل الشاكين، المرتابين، المضطربين، القلقين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي أن هذا القرآن كلام الله: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، وطأطأت البشرية رأسها، ولم يرفع امرؤ رأسه، ويقول: أنا آت. وهذا هو التحدي العظيم.
وقال تعالى وهو الرحيم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:24] وأعلنتم عن عجزكم وما استطعتم؛ لأن الله ختم على قلوبكم وألسنتكم، وعوَّقكم ولن تستطيعوا، فقولوا: آمنا بالله، وبما أنزل الله، خير لكم.
وقال: وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]، فعرف الحاضرون والعالمون أن هذه كلمة لا يقولها إلا الله، فلا يستطيع مخلوق أن يقولها؛ لأن المخلوق لا يملك ما يجيء في غد، وما تأتي به الأيام، فكيف يقول: ولن تفعلوا إلى الأبد؟! فهذه كلمة الله فقولوا: آمنا بالله.
وَلَنْ تَفْعَلُوا هل فعلوا؟ أين بلغاء العرب وفصحاؤهم، وأرباب البيان والكلام فيهم؟ الذين هم عجب العجاب؛ يتكلم أحدهم من طلوع الشمس إلى غروبها لا يغلط في كلمة ولا يعيدها، أين هم؟ طأطئوا رءوسهم وقالوا: آمنا بالله، هل فعلوا؟ وَلَنْ تَفْعَلُوا .
وبناء على هذا فما هو المطلوب؟ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، ربكم ينصح لكم، وربكم يبين لكم سبيل نجاتكم: عجلوا، آمنوا، قولوا: آمنا، وافعلوا ما أمر الله ورسوله به تزكوا أنفسكم، وتتهذب أخلاقكم، وترتفع إلى الكمال معنوياتكم، وتصبحون قريبين من دار السلام، وما إن يموت أحدنا إلا ولا يبيت أو يصبح إلا فيها.
لم يبق إلا أن يقول الله لرسوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، آمنوا ما كفروا، عملوا الصالحات، زكوا أنفسهم، وما عصوا الله ورسوله.
بشرهم بماذا؟ بـ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، وانطوت الصفحة.
من أين هذا الكلام؟ من أين يأتي هذا العلم؟ من صاحبه؟ تحار العقول؟!
إنه كلام الخالق الرازق، خالق الذرة والكون وكل الخلق، الله جل جلاله، وعظم سلطانه.
إذاً: كيف تتم هدايتهم؟ تتم عن طريق ضرب الأمثال، والعرب عرفوا هذا في الجاهلية، ويقربون المعاني البعيدة إلى ذهن الشخص بالمثل يضربونه له.
وهؤلاء المنافقون والمتعنتون يقولون: ما هذه الأمثال؟! فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً [البقرة:26] فما دون البعوض .. فما فوق البعوضة في الصغر كجناحها.. كبيضة النملة، ولا حرج، لمَ؟ لأنه بر، رحيم، كريم، يريد هداية عباده، ويريد إكمالهم وإسعادهم، فيضرب لهم الأمثال ليفهموا، وليعوا وليدركوا؛ حتى يقووا على أن ينهضوا بهذه التكاليف، التي هي مزكيات لأرواحهم، ومسعدات لأنفسهم وأبدانهم، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26].
وصنف العباد إلى صنفين، وهو الواقع: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة:26]، وهذا الذي علمناه والله إنه الحق.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:26] أصحاب القلوب المظلمة أو الميتة: فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [البقرة:26]، فأجابهم الله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26]، يضل بالمثل يضربه، وبالقرآن ينزله، وبالآيات يظهرها، وبالمعجزات يبديها، يضل بذلك كثيراً من المتهيئين والمستعدين للضلال، ويهدي به كثيراً إلى سبل السلام وطرق السعادة والكمال. حقاً وصدقاً هذا خبر الله: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً.
ثم بين العلة: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26]، فإياك أن تفهم أن القرآن ينزل، وأن المؤمنين يصابون بالإلحاد وبالزندقة والنفاق بواسطته، لا، بل لا يزيدهم إلا نوراً، فهو غيث من السماء ينزل، كلما نزل ازدهرت الأرض واخضرت، وارتفعت أنوارها وزهورها، فالمؤمن حي مستقيم، كلما ينزل القرآن ويضرب الله مثلاً يزدادون شوقاً إلى الله، وإيماناً بلقائه، ولكن الذين يضنون ويهلكون هم الفاسقون.
وقد عرفنا من هم الفاسقون؟ هل هم بنو فلان أو بنو فلان .. عرب أم عجم؟! من الفاسقون؟ أتدرون من هم؟ هم الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، تقول: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، والذي لا يحل ما أحل الله، ولا يحرم ما حرم الله، ويأتي الحرام، ويترك الحلال هو فاسق. والذي لا يبالي بأوامر الله ورسوله، ولا بنواهيهما، ويفعل ما طاب له ولذ؛ منقاداً إلى الشياطين، وما تزينه له، وما تملي عليه، فهذا خرج عن منهاج الله، وعن الطريق المستقيم، ونقول فيه: إنه فاسق.
كما أخذ الميثاق على لسان عيسى وموسى ومن قبلهم، أي: من الأنبياء أنفسهم، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين ارتدوا بعد الإسلام، فالذي يعيش يوماً أو دهراً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الميثاق الأول، ثم ينقضه ويرتد ويصبح ملحداً أو زنديقاً فهذا نقض العهد.
قلت غير ما مرة: كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد عاهد الله، وأعطى العهد والميثاق ألا يعبد إلا الله، فإن ترك العبادة نقض عهده .. إن عبد مع الله غيره نقض عهده .. إن اعترف بعبادة غير الله نقض عهده .. إن لم يتبع رسول الله، ولم يمش وراءه، ولم يطبق شريعته وأحكامه نقض عهده؛ ومن قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم لا يمشي وراءه، ولا يأخذ عنه، ولا يقتدي به، فقد كذب نفسه، لم تقول: أشهد أن محمداً رسول الله؟!
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] هذه آثار الفسق، فإذا فسق المرء عن طاعة الله، وانغمس في المعاصي والجرائم فلا تعجب، قد يذبح أمه؛ لأنه فسق وخرج عن الطريق، وعلة هذا الفسق: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27].
وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27] أيضاً، وقد علم السامعون والسامعات معنى الفساد في الأرض، يحرفونها؟ يزيلون الجبال؟ يقطعون الأشجار؟
كيف يكون الفساد في الأرض؟ إنه -والله- بمعصية الله ورسوله؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول، كما هو القانون الإلهي والسماوي أنه لا سعادة ولا كمال إلا بالانتظام فيه والسير على منهاجه، فمن أهمله وأضاعه، وأعرض عنه، وخرج بعيداً يتخبط، يعمل الموبقات، وهذا أفسد في الأرض أو أصلح؟ والله أفسد.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وهذا نقوله؛ ليس من يفتح ماخوراً في بريطانيا، كالذي يفتحه في بلاد إسلامية سواء بسواء، لا والله العظيم، لم؟ لأن هذه البلاد أصلحها الله بالإيمان، وطاعته، وطاعة رسوله، فالذي يحدث فيها فجوراً أو باطلاً أو شراً أفسد فيها بعد إصلاحها، أما الذي يفسد في أمريكا أو بريطانيا فهي أرض فاسدة من أولها، ما أصلحها الله بالإسلام، وكيف -إذاً- بالذي يفسد في أرض صالحة إلى الآن.
فلهذا نقول لأبنائنا وإخواننا: اسمعوا يا سكان هذه المدينة، يا سكان هذا العالم الطاهر! من أراد أن يعيش على الفسق والفجور يخرج ويرحل من هذه الديار، وينزل في غيرها. لا يستطيعون؟ إذاً: فليتوبوا إلى الله، وليرجعوا إليه، أما أن يطهر الله أرضاً كهذه ويأتي عبد الله بالفساد والشر فيها، فهذا ذنب عظيم.
والآية ناصعة واضحة: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، أما ما كانت جاهلية وثنية؛ فالمعصية فيها خفيفة لا قيمة لها بالنسبة إلى الكفر والشرك والعياذ بالله.
إذاً: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [الأعراف:56] يا أهل المدينة! يا أهل مكة! يا أهل الرياض! يا أهل هذه الديار! من لا يستطيع أن يترك المحرمات فليرحل، فإن كان لا يستطيع أن يعيش في بلاد أخرى يتوب إلى الله، ويذعن له ويستسلم، أما أن يفسد في أرض صلحت فهذه جريمة قد لا تغتفر له، وقد يموت على سوء الخاتمة، والعياذ بالله.
قال: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28]، هل هناك من يقول: لا نموت؟ هانحن ندفن إخواننا كل يوم تباعاً، واحداً بعد واحد، والله لا يبقى منا واحد، نموت أو لا؟ إذاً: من أحيانا .. من أماتنا؟ الله، أيعجز أن يحيينا مرة ثانية؟ لا، والإعادة أسهل بكثير من البداية.
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28] رغم أنوفكم مريدين أو رافضين لابد من الرجوع لتتم عدالة الله وحكمته في الجزاء على الكسب في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28].
ثم قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، هذه العظمة، هذا الجلال والكمال، هذه القدرة التي لا يعجزها شيء، هذا العلم، وكلمة سبع سماوات تعني: سماء فوق سماء، وغلظ السماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأخرى مسيرة خمسمائة عام، ولما أراد الله أن يجتازها رسول الله اجتازها في دقائق معدودات. لا إله إلا الله!
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، هذا الذي يستحق أن يعبد أو لا؟ هذا الذي يستحق أن يطاع .. أن يذعن له .. أن يذل له .. أن يستجاب نداؤه، لا المخلوقات المربوبة، المتهالكة، العاجزة الضعيفة، سبحان الله! فلهذا هذا القرآن روح، والله لا حياة بدونه، وهذا القرآن نور، فلا هداية بدونه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
فما حييت أمة العرب إلا على هذا الروح، ولا اهتدت إلى عزها، وكمالها، وسيادتها، وطمأنينتها إلا على هذا النور، ومع هذا يجحدون هذا ويغطونه! فأين يذهب بعقولهم! وما زلنا نقول: والله العظيم! لن يستقيم أمر أمة ولا جماعة ولا أسرة في الأرض إلا على هذا الروح وهذا النور، وجربوا في الشرق والغرب.
وهنا انتهينا إلى الآية التي بدأنا درسها وشرحها في الدرس الماضي.
وقد عرف العدو هذا فصرف المسلمين من قرابة ألف سنة صرفاً كاملاً عن مصدر حياتهم وهدايتهم؛ حتى هبطوا، وذلوا، وأصابهم ما أصابهم، وما أفاقوا إلى الآن! ما زلنا.
فانظر واذكر يا رسولنا لهؤلاء البشر للسامعين وغيرهم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
تكلمنا في جزء الكلام عن الملائكة: من الملائكة؟ من أين اشتق هذا الاسم؟ وقلنا: إنه من ملأك كشمأل، ويجمع على شمائل، أي: ملائكة، ومأخوذ من الألوكة وهي الرسالة؛ إذ الملائكة رسل الله.
وهؤلاء الملائكة مادةُ خلقهم من النور، ومادةُ خلق الجان من النار، ومادةُ خلق الإنسان من الطين، وهل بقي شيء آخر؟ لا شيء، خلق الله عز وجل الناس بني آدم من الطين، إذ خلق أباهم آدم من الطين، وتناسلوا من ماء مهين، وخلق الجان من شواظ من نار، وتناسلوا وتوالدوا وملئوا الأرض.
وخلق الملائكة من النور، ولا يتوالدون إذ جنسهم خاص، لا يأكلون، لا يشربون، لا يتزوجون، لا يلدون، لا يمرضون، مخلوقون -أستغفر الله- كالآلة لا تعرف إلا طاعة الله عز وجل، ولكن يرهبون الله ويخافونه، وترتعد فرائصهم، ويغمى عليهم إذا سمعوا كلام الله عز وجل.
وقد عرفنا قيمة هذا العرش ومقداره، لما ضرب لذلك ابن عباس من مثل، قال: الكرسي أخبر تعالى أنه وسع السماوات والأرض: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، فهذه السماوات وهذه الأرضين كلها لو جعلت رقعة إلى جنب الأخرى، وألصقت بها ووضعنا الكرسي لكان الكرسي أكبر؛ لأن الله محيط بكل شيء: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من صفر ملقاة في صحراء .. في فلاة، فما هي نسبتها إلى الأرض؟!
ومع هذا أخبرنا الله ورسوله أن للعرش حملة وهم أربعة، ويوم القيامة يضاعفون بأربعة، فيصبحون ثمانية، إذ قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]. واليوم أربعة، والملائكة يحفون بالعرش طول الدهر: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75] فلا يعرف عددهم إلا الله. من خلقهم؟ خلقهم الرب العظيم الذي يقول للشيء: كن فيكون.
أتريد أن تعرف قدرة الله؟ هذا الكوكب الناري؛ الشمس التي نستفيد من حرارتها أكبر من الأرض بمليون ونصف المليون مرة، فمن جمع لنا نارها، وأوقدها، وعلقها مناراً في السماء؛ تدب كعقرب الساعة إلى يوم الساعة، من فعل هذا؟ السحرة! من ذاك؟! الله. فلهذا لو يزول الحجاب عن قلوبنا إذا ذكرنا الله يغمى علينا! وعلى الأقل المؤمنون إذا ذكر الله تضطرب نفوسهم، واقرءوا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].
أما الأموات: خاتم الذهب في يده، تقول له: يا عبد الله! حرام عليك. يسخر ويقول: هذا رجعي.
يا عبد الله! أنت تحلق، لا تحلق وجهك، خل علامة الرجولة، يسخر!
ففرق بين الحي والميت أم لا؟ وفرق بين المؤمن والكافر أم لا؟ فرق بين المهتدي والضال أم لا؟ نعم.
إذاً: المؤمن إذا وعظته خاف: يا عبد الله! أما تخاف الله! تجده -والله- يرمي المعصية من يده، ولا يصبر أبداً، فالمؤمن حي، والميت اقرأ القرآن كله عليه لا يشعر!
وعرفنا أن الملائكة ملئوا السماوات، فما من موضع قدم في السماء إلا وعليه ملك راكع أو ساجد.
وهنا ذكرت لكم لطيفة! إذا قال القائل: ما فائدة الحفظة ونحن نموت ونمرض ونهلك؟
قلنا: فائدة الحفظة أعطيتها في الرئيس .. الملك له حرس يحرسه خمسون .. مائة، ما الفائدة مادام لابد من الموت ولابد من قضاء الله؟ الجواب: لما يعرف الملك أو الرئيس أنه محروس تطمئن نفسه، ولا يبقى يلتفت، ولا يبقى في حيرة ولا يستطيع أن يقوم ولا يقعد، يكون هادئاً مطمئناً؛ لوجود حرس. وهذا غير مانع أن ينفذ أمر الله فيه، فكذلك نحن لما علمنا أننا محروسون لولا هذا العلم لكان أحدنا لا يستطيع النوم، كيف ينام والجن حوله وفوقه؟ كيف يمشي؟ كيف يستطيع؟ لكن عرف أنه محروس: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]. كم عدد الملائكة إذن في الأرض فقط؟
ولا تسأل عن وظائف الملائكة الكرام الكاتبون والحفظة، ثم من مع الأرواح، مع الأمطار، مع السحب، من ملك الموت، من أعوانه؟ قلنا: الكثير، وما ذكرنا إلا قطرة من بحر، عالم كبير، نحن ما نساوي فيه ولا العشر.
وعرفنا أنهم كما أخبر تعالى عنهم: لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، و لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، و لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، وكلهم نور.
الجواب: لا يدخلون، لكن يدخلون بيتاً فيه التلفاز، والعواهر تغني وترقص، وأصوات الكفار والماجنين تملأ الحجرة، والفحل مع بناته وامرأته يجلسون يتفرجون ويضحكون! فهنا ترحل الملائكة، والله لا تبقى! ويصبح ذلك البيت بؤرة من بؤر الفساد، ولو نعرف عاقبة ذلك لقلنا: قد يموتون على سوء الخاتمة.
أتعرفون التأثير أم لا؟ يتكلم الإنسان بكلمة تؤثر في نفسه، والفحول يعرفون إذا سمع صوت امرأة أجنبية يرتفع ويهيج في باطنه، ولهذا حرم الله على المؤمنة أن ترفع صوتها للأجانب: وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، والعميان، والضلال، والملاحدة لا يفهمون هذا، لم لا تتكلم؟ يا بشر! تعالوا فتعلموا، نحن نريد أن نحفظ زكاة أنفسنا لنرتقي إلى السماء والملكوت الأعلى، ولو كنا نريد الأرض فقط، والهبوط إلى المستوى الأسفل ما قلنا: هذا حرام ولا حلال، كل، وانكح، وافعل ما تشاء! لكنك تعد نفسك لترقى إلى السماء، وتنزل الدار دار الخلد .. دار الأبرار مع النبيين والصديقين، فكيف بالذي يجمع بناته وأولاده وامرأته وأمه ويشاهدون الكفار يتكلمون ويضحكون، والعاهرة ترقص، فهل يبقى الملائكة؟! يستطيع أهل هذا البيت أن يضمنوا أنهم يموتون على حسن الخاتمة؟! ومن يضمن أن قلوبهم لا تفسد، وأن لا يصابوا بالنفاق -والعياذ بالله- ويصبحوا كالحيوانات؟
يا شيخ! لم تشدد هذا التشدد؟ الجواب: أنا سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، ما هي الصورة؟ ليست عاهرة أو كافرة تتكلم، بل صورة موجود في ستارة على نافذة منسوجة بالخيوط، ما لها ملامح ولا صوت، منعت الملائكة! وعاهرة كافرة في بيتك ترقص، وأنت تضحك مع امرأتك وأولادك، يبقى إيمان .. يبقى نور؟ ما ندري، ولكن الذي نعلم حسب سنة الله أن من استمر هكذا في بيته أن يحصل له ما يموت به على سوء الخاتمة، فاحذروا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر