قال الله عز وجل في سورة غافر على لسان مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها عن مناظرة وجدال مؤمن آل فرعون لفرعون ومن معه، ودعوتهم إلى أن ينظروا في كلام موسى وأن يتريثوا، فلا يحكموا عليه حتى يروا ماذا يقول، وحتى يتدبروا كلامه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكان يخاطبهم بقوله: يا قوم! يا قوم! يتلطف معهم، ولم يظهر لهم إيمانه في البداية لعلهم يحكمون عقولهم، وحتى لا يصدوه عن سبيل الله سبحانه وتعالى إذا علموا أنه مؤمن، فكأن هذا المؤمن التقي أخفى إيمانه من هؤلاء خوفاً منهم، هذه ناحية، والناحية الأخرى: أنه أخفى إيمانه لأنه لو بدأ وقال: أنا مؤمن مع موسى، لكذبه فرعون ولأعرض عنه ولم يستمع إلى ما يقوله، ولذلك كتم إيمانه في البداية وبدأ يقول: تفكروا إذا كان هذا الرجل كاذباً فالله سيحاسبه على كذبه، وإذا كان صادقاً فسيصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو يعدكم بأنكم إذا آمنتم فلكم الجنة، وإذا كفرتم فلكم النار، وقد جربتم العذاب قبل ذلك، فلم لا تفكرون فيما يقول موسى عليه السلام؟
ثم ذكرهم بما حدث للأمم السابقة فقال: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30] قوله: (مثل يوم) أي: جنس الأيام التي جرت على الأحزاب الذين كانوا من قبلكم، قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وغيرهم ممن تحزبوا على أنبياء الله وأرادوا إيذاءهم وقتلهم، فجاءهم العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، فخوفهم بعقوبة الدنيا، ثم خوفهم بعقوبة الآخرة فقال: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32] أي: يوم القيامة يوم يستغيث بعضكم ببعض فلا ينفع بعضكم بعضاً.
ثم ذكرهم هذا الرجل المؤمن بأنه قد جاءهم قبل موسى نبي آخر وهو يوسف عليه السلام، جاء إلى مصر وكان يعمل على خزائن الأرض حفيظاً وأميناً ووزيراً لملك مصر، ودعاهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، فهو لما كان في السجن قال لمن معه: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:39-40] فأخبرهم بأن الإله الواحد سبحانه خير، وأن الأرباب المتفرقة التي تدعى شر، قال تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] أي: لفسدت السماوات والأرض، والمعروف عند البشر أنه إذا وجد أكثر من رئيس في مكان واحد يتعارض هذا مع هذا، وكل منهما يريد أن ينفذ ما يريد، فإذا كان هناك مركب واحد فيها رئيسان فستغرق المركب في النهاية؛ لأنه لا يصلح للسفينة إلا ربان واحد، ولا يصلح للعمل إلا رئيس واحد، فكيف يكون لهذا الكون كله أكثر من إله يحكم فيه ويدبره؟
قال تعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف:40] أي: أنهم سموا أشياء فعبدوها من دون الله سبحانه، عبدوا البقر وعبدوا العجل وعبدوا القمر وعبدوا الشمس وعبدوا أشياء كثيرة، حتى جاء فرعون فاستكثر هذه الأشياء فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] كأن لهم أرباباً غير الله وهو الرب الأعلى لهؤلاء، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54] .
والإسراف: هو التجاوز للحد في معصية الله سبحانه، فالإنسان الذي يعصي ربه سبحانه ينكت الله في قلبه نكتة سوداء، فإذا عصى ثانياً فعل به هكذا، وإذا عصى ثالثاً فلا يزال يطبع على قلبه بنكتة سوداء وأخرى سوداء وثالثة سوداء حتى يصير في غفلة، فيضله الله سبحانه فلا يتبين له الهدى أبداً.
قال تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34] أي: من هو متشكك في دين الله سبحانه.
قال تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر:35] أي: صار شيئاً كبيراً عظيماً فاحشاً عند الله وعند المؤمنين أن يجادل إنسان بالباطل في دين الله سبحانه، وكبر مقت وغضب الله عز وجل على صاحبه، ويبغضه أشد البغض، فالمقت أعظم الكراهية، والمبغوض والمكروه عند الله سبحانه وتعالى وكذلك عند المؤمنين من يجادل بغير حجة وبغير بينة.
وقوله: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35] هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو عمرو وابن عامر : (على كل قلبٍ متكبرٍ جبار) أي: الذي طبع على قلوب من قبله وجنوده وملئه سيطبع على قلوبهم، وكذلك كل إنسان يتكبر على دين الله سبحانه، ويتكبر على رسل الله، ويتكبر على من يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى يصير جباراً قاسي القلب صلباً عنيفاً قاسياً؛ لأن الله عز وجل يطبع على قلبه، فقوله: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ كأن المعنى على قراءة الجمهور: يطبع الله على قلوب الجبارين جميعهم قلباً قلباً، كل واحد يختم الله عز وجل على قلبه فلا يفقه ولا يفهم ولا يعي ما يقول، فإذا به يهرف بما لا يعرف، ويتكلم ويخوض فيما لا يعنيه، فيجادل في الله وفي آيات الله وفي رسل الله عليهم الصلاة والسلام بغير بينة.
أما القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عامر وقراءة أبي عمرو: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيكون المعني: أن صفة هذه القلوب الاستكبار والتجبر، فيطبع الله عز وجل على كل قلب صفته أنه متكبر وجبار، وصفة القلب هذه هي صفة لصاحبها، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فقلب الإنسان إذا كان صالحاً حكم بالصلاح على جميع الإنسان، وإذا كان فاسداً حكم بالفساد على الجميع، فالقلب هو الملك والأعضاء الرعية، فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، هذا هو المعنى الثاني على القراءة الثانية.
وقوله: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ هامان هو وزير فرعون الذي غره منصبه عن دين الله سبحانه، وعن النظر في آيات سبحانه، وعن التدبر فيما يقوله موسى عليه الصلاة والسلام، وظل يسير وراء فرعون، ويصدقه فيما يقول، فكان معه في الدنيا وسيكون معه في النار يوم القيامة والعياذ بالله.
قوله: ابْنِ لِي صَرْحًا [غافر:36] أي: ابن لي بناءًَ عالياً جداً حتى أصل إلى السماء، وأبحث فيها هل يوجد إله أم لا؟ ففرعون يستخف بقومه، قال: لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أي: سأصل إلى أبواب السماء وسأفتح الأبواب، وسأنظر هل فيها إله أم لا؟ وسأنزل إليكم لأخبركم بما رأيت، لكن اعلموا أن النتيجة معلومة من الآن أن هذا كذاب.
قال الله تعالى: أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:37] الأسباب بمعنى: الطرق، أو ارتفاعات السماء، أو الأمور التي تستمسك بها السماوات، فكأنه يقول: سنطلع نفحص السماء وننظر هل يوجد فيها إله كما يقول موسى أم أنه لا يوجد فيها إله.
قال تعالى: فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:37] قوله: (فأطلع) يقرؤها بالنصب على السببية حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء يقرءونها: فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى على العطف، وتأتي بمعنى (ثم) للتراخي، فعلى الأولى: ابن لي صرحاً حتى أبلغَ الأسباب وحتى أطلعَ، فنصبت على ذلك، وعلى الرفع (فأطلعُ) كأنه يقول: ابن لي صرحاً فأصعد على هذا الصرح ثم سأطّلِعُ وأنظر إلى هذه السماوات حتى أثبت لكم أن موسى يكذب عليكم.
قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا أي: كأن فرعون متشكك هل أموسى كذاب أو ليس بكذاب، فيقول لهم: أنا أظن أنه كذاب، وسأطلع إلى السماء لأؤكد لكم كذبه، ففرعون متشكك، ومع أنه يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] فكيف بإله يحكم بالظن؟! وهو يريد أن يبحث هل يوجد إله آخر أم لا؟!
قال تعالى: وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ أي: وكذلك بمثل هذه الصورة قد زين لفرعون سوء عمله، فهو رجلٌ عنده مال ومنصب وقوة، ولديه قوم خفاف العقول يسمعون لكلامه ويطيعونه، فزين له سوء عمله، فتراه يفرح بالذي يقوله، فكلما أتى بشيء كأنه أتى بما لم يأت به أحد قبله، ويعتقد أنه رجل ملهم؛ فهو يقول والناس تصدقه وتصفق له فيما يقول، وكذلك الضلال مثله يزين لكل ضال سوء عمله، فإذا به لا يقول شيئاً إلا ومن حوله يصفقون له، فيفرح بذلك.
وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى لكل ظالم؛ أنه يتركه مع شيطانه يزين له السوء، حتى يرى الخطأ ويرتكبه ويتأول لنفسه أنه على صواب، وأن ما يفعله هو الخير الذي لا بد أن يفعله.
قوله: وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي: صده الله سبحانه وتعالى عن الحق بأن ختم وطبع على قلبه، وقوله: وَصُدَّ عن السبيل هذه قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف ، وقراءة يعقوب وباقي القراء: وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ والمعنى: أنه زين له سوء عمله ففرح بما هو فيه من باطل، وتزين له الباطل أمامه فعمل به، وصد الناس عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [غافر:37] أي: كيد فرعون في هلاك وخسارة، يقول الله سبحانه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16] فإذا كاد الله عز وجل لواحد من خلقه فلابد أن يغلبه وأن يقهره وأن يذله ويفضحه، كما فعل بفرعون لعنة الله عليه وعلى أمثاله، قال سبحانه: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ أي: وما عمل فرعون فيما يكيد لموسى ويدبر من مؤامرات لموسى ليهلكه هو ومن معه، فإن كيده فِي تَبَابٍ وفي خسران وهلاك وضياع وباطل؛ لأنه يكيد لأنبياء الله ولأولياء الله، فالله عز وجل يكيد له، ولذلك أخذه الله من حيث لم يحتسب، فظن أنه سوف ينجو من اليم فأغرقه الله فيه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر