أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:60-61].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس في الآيات السابقة علمنا أن المشركين في مكة اعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدم قبول الإسلام والدخول فيه، وعذرهم هو أنهم قالوا: إذا أسلمنا تألب علينا العرب وأخذوا أطفالنا وأموالنا وقتلونا! وبالتالي قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمح لنا يا محمد! ألا ندخل في دينك! وذلك من أجل أوساخ الدنيا وقاذوراتها لا أقل ولا أكثر، ولأجل أن تستمر تجارتهم وأموالهم ومتاعهم في هذه الحياة الدنيا.
وَزِينَتُهَا [القصص:60]، والزينة لا تبقى والله، إذ إنك قد تتزين وتتطيب فلا يبقى معك وإنما يزول، وهذا هو شأن الحياة الدنيا، إذ لا تخلد ولا تبقى أبداً، وكذلك المتاع الذي تتمتع به فإنه يزول ولا يستمر طول الحياة ولا يبقى.
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ [القصص:60]، من الذي آتاهم؟ أليس الله؟ ثم هذا الذي أوتيته أأنت خلقته؟ أأنت أوجدته؟ لقد وهبك الله إياه كما وهبك سمعك وبصرك وعقلك، ثم هل نحن صنعنا الزبدة؟ صنعنا اللبن؟ صنعنا التمر؟ صنعنا البر والشعير؟ إذاً من الصانع؟ من الخالق؟ إنه الله الذي آتانا كل هذا، وَمَا أُوتِيتُمْ [القصص:60]، فالمؤتي والمعطي هو الله تعالى، مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [القصص:60]، وهذا يدل على زوال هذا النعيم وفنائه؛ لأن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ [القصص:60]، مما تريدونه من متاع الدنيا، وَأَبْقَى [القصص:60]، حيث لا يفنى ولا ينتهي أبداً.
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا [القصص:61]، ومن وعده الله فحاشا أن يخلفه سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، وقد تم هذا بالحرف الواحد، إذ الوعد الإلهي يتم حتماً؛ لأن الله على كل شيء قدير، وَعْدًا حَسَنًا [القصص:61] ألا وهو الجنة، فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:61]، وجهاً لوجه، وذلك يوم أن يموت، وذلك ما أن نلفظ أنفاسنا حتى يأخذ أرواحنا موكب من الملائكة من يد ملك الموت، ويعرجون بها إلى السموات سماء بعد سماء، ويستأذنون لها فيؤذن لها حتى تنتهي إلى تحت العرش.
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [القصص:61]، يأكل ويشرب، وينكح ويلبس والنهاية معروفة، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61]، أي: في جهنم والعياذ بالله، فمن يحضرهم؟ من يأتي بهم؟ الذي خلقهم وبعثهم يأتي بهم إلى جهنم فهم فيها محضرون، ولا يغيب والله منهم أحداً.
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا [القصص:61]، من الموعِد؟ الله جل جلاله، فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:61]، ونلقى وعد الله يا عباد الله! عندما نلفظ أنفاسنا الأخيرة، وعما قريب يتم لنا هذا واحداً بعد واحد، ثم نلقى هذا النعيم المقيم ألا وهو الجنة دار السلام، كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ [القصص:61]، أي: كمن متعه الله تعالى، مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61]، أي: يحضرون في جهنم والعياذ بالله، إذ الذي يحضرهم هو الله خالقهم ورازقهم.
قال: [ وقوله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ [القصص:60]، أي: من مال ومتاع وإن كثر، فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [القصص:60]، أي: فهو متاع الحياة الدنيا، وَزِينَتُهَا [القصص:60]، أي: تتمتعون وتتزينون به أياماً أو أعواماً، ثم ينفد ويزول، أو تموتون عنه وتتركونه، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ [القصص:60]، من نعيم الجنة، خَيْرٌ وَأَبْقَى [القصص:60]، أي: خير في نوعه وأبقى في مدته، فالأول: رديء وتصحبه المنغصات ويعقبه الكدر، والثاني: جيد صالح خال من المنغصات والكدورات، وباق لا يبلى ولا يفنى ولا يزول ولا يموت صاحبه ويخلفه وراءه.
وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ [القصص:60]، يا من تؤثرون الفاني على الباقي! ]، أي: تفضلون الدنيا على الآخرة، قال: [ والرديء على الجيد! والخبيث على الطيب!
وقوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا [القصص:61]، وهو المؤمن الصادق في إيمانه، المؤكد له بصالح أعماله ]، أي: المؤكد لإيمانه بصالح أعماله، إذ الأعمال الصالحة تؤكد الإيمان وتقويه، قال: [ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا [القصص:61]، وهو الجنة دار السلام، فَهُوَ لاقِيهِ [القصص:61]، أي: لاقي موعده بإذن الله بمجرد أن يلفظ أنفاسه وتعرج روحه إلى السماء، كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [القصص:61]، فهو يأكل ويشرب وينكح كالبهائم، ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص:61]، في جهنم في دار العذاب والهوان، والجواب: لا يستويان أبداً، وشتان بينهما، فالأول وهو المؤمن الصالح الموعود بدار السلام لا يقارن -أبداً- بالكافر المتهالك على الدنيا، ثم يتركها فجأة ويجد نفسه مع أهل الكفر والإجرام في عذاب وهون لا يفارقه ولا يخرج منه أبداً ]، قولوا: الحمد لله على إيماننا وإسلامنا.
قال: [ ثانياً: بيان فضل الآخرة على الدنيا ]، بيان فضل الآخرة على الدنيا، إذ الدنيا متاع وزينة، والمتاع والزينة يفنى ويزول، وجرب هذا في نفسك، فأنت تتزين وتتجمل يومين أو ثلاثة ثم تزول هذه الزينة! وكذلك متاع الحياة الدنيا وزينتها هو متاع مؤقت ومحدود ومعدود بالأيام والساعات، بينما نعيم الآخرة لا تفنى زينتها وجمالها وكمالها؛ لأن الله عز وجل قد أوجد هذه الحياة الدنيا للعمل فيها، وأوجد الدار الآخرة للجزاء فيها، ودار العمل لا بد وأن تنتهي وينتهي العمل، ودار الجزاء لا تنتهي أبداً.
مرة أخرى: يا مستمعي الكرام! اعلموا هذه الفلسفة، لو سئلت: لم أوجد الله هذه الحياة الدنيا؟ بم ستجيب؟ أوجدها للعمل، من أجل أن يذكر فيها الله ويشكر، أو يكفر وينسى، وأوجد الدار الآخرة من أجل الجزاء على العمل في هذه الدنيا، فإن كان إيماناً وأعمالاً صالحة فالجنة دار النعيم الخالدة، وإن كان شركاً وكفراً وظلماً وشراً فالنار والجحيم عالم الخلود والعياذ بالله تعالى، وهذا هو السر، وحاشا لله أن يخلق عبثاً! إذ لم يخلقنا لنأكل ونشرب وننكح، وإنما أوجدنا لنذكره ونشكره، وأوجد الدار الآخرة ليكرمنا وينعم علينا، ويسعدنا في دار النعيم المقيم إلى الأبد بلا نهاية، ومن عصاه وترك شكره وذكره وكفر به فمصيره إلى عالم الشقاء، وعالم الشقاء في أسفل سافلين، وغمض عينيك وفكر وقل: أسفل! أسفل، إلى أين؟ إلى ما لا نهاية، وارفع رأسك وقل: إلى أين؟ جنات النعيم فوقنا، وفوقها عرش الرحمن.
قال: [ ثالثاً: وعد الله للمؤمن بالجنة خير مما يؤتاه الكافر من مال ومتاع وزينة في الحياة الدنيا ]، أي: وعد الله تعالى للمؤمنين بالجنة دار النعيم المقيم خير مما يلقاه الكافر في الدنيا ويتمتع به قطعاً، وبالتالي فلا يساويه ما عليه الكفار من الطعام والشراب والنكاح واللباس، إذ إن هذا فانٍ وزائل وأوساخ فقط، ومن ثم ينتهي بالموت أو ينتهي قبل موت الإنسان، وأما ما عند الله لأوليائه فهو خالد وباق من يوم أن نموت إلى ما لا نهاية أبداً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر