أحبتي في الله: إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه ويجمعنا في مستقر رحمته على منابر من نور، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ووالدينا ووالديكم وأحبابنا وأحبابكم، وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد محاضرة الطريق إلى الأقصى، نعود إلى شمائل محمد صلى الله عليه وسلم لنحيا معها كأننا نشاهدها بالعين، ونلمسها بالقلب، ونستشفها بالأرواح، كيف لا وهو الذي نذكره أكثر من ذكرنا أنفسنا وآبائنا وأولادنا، وحبه أغلى من أنفسنا وإلا فالإيمان مدخول.
أحبتي.. من أحب نفسه فوق حب محمد فليراجع إيمانه، الآن جددوا إيمانكم واعقدوه على حب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الفاروق : (إني أحبك يا رسول الله! أكثر من كل شيء إلا نفسي، قال: بعد يا
وحديثنا اليوم عن شمائله في زهده وهو إمام الزاهدين، والزهد أحبتي ليس كما يفهمه بعض الناس بأن يمتنع عن الطعام والكساء، وقلبه يتلظى ويتلهف، ويبتعد عن الدنيا وروحه لها ساجدة، ويبتعد عن الدرهم والدينار وله في قلبه صدىً، إنما الزهد هو زهد محمد صلى الله عليه وسلم لا يفرح إن زادت دنياه، ولا يحزن إن نقصت، إنما شعاره:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة |
لا خير إلا خيرك، لا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك.
قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132] هذه الآيات تتحدث عن زهد محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف رباه الله على ذلك: وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ [طه:131] وكأن العيون لصاحب الطمع تخرج من أحداقها وتمتد، فبعض الناس إذا لم يزهد أو يقنع بما آتاه الله، فقد تمتد عينه آلاف الكيلوات وهو في بيته أو على فراشه، يحسد البعيد والقريب، ويطمع في كل شيء ولا يرضى بما قسم الله له، ودائماً حياته في تعاسة وانتكاسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة) القطيفة: هي اللباس، يعبد هيئته وثيابه، دائماً ينظر في المرآة، وفي أعطافه، وفي لبسه، وفي عباءته، وفي ثوبه، وفي سرواله، فإذا لم ير التمام والكمال في ذلك فإنه يكون حزيناً، لا يحزن لأن زوجته لم تصل لكنه يحزن لأن ثيابه لم تكو، لهذا قال: (تعس عبد القطيفة -ثم قال:- تعس عبد الزوجة، تعس وانتكس -تعاسة وانتكاسة- وإذا شيك فلا انتقش) أي: إذا أصابته مصيبة فلا أعانه أحد عليها.
وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه:131] وإذا الدنيا زهرة والزهرة كما تعلمون تذبل وليست شجرة تخرج ثمرة، والزهور لها فصل معين بسيط ثم بعد ذلك تذوي وتذهب سريعاً كذهاب زهور الربيع، أما الكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأنت عليك أن تختار: دعوة الله التي تقوم على لا إله إلا الله وهي الكلمة الطيبة، أو تختار زهرة الحياة الدنيا ووراءها الفتنة: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
كثير من الناس عندما يسمع ورزق ربك ينحصر ذهنه بالمال، وإذا دعا يسأل المال، وإذا ذهب المال حزن، والله سبحانه وتعالى يخبر في كتابه الكريم: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] والإمام أحمد بن حنبل يقول: الزاهد من كان عنده ألف دينار لا يفرح إن زادت ولا يحزن إن نقصت، والإمام ابن القيم يقول: زهدني في الدنيا ثلاث آيات في كتاب الله: قوله تعالى عن أهل الدنيا: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
ثلاث آيات أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [الشعراء:205] وبينما هم في نضرة الشباب ولذة العمر يخبطون في الأرض، يلبسون جديداً ويأكلون لذيذاً، ويستمتعون بالشهوات، ويركبون أحسن المراكب، وينامون في أطيب القصور، ويستحمون في أفخر الحمامات، ويسافرون في الشرق والغرب، وفي المنتجعات وتحت الحدائق الغناء، ثم تجد أحدهم بعد ذلك تقدم له كأساً من الحليب، فيقول الطبيب: هذا فيه دسم ويضر بصحتي، وتقدم له قليلاً من الحلوى فيقول الطبيب: فيك سكر، تقدم له قليلاً من الشاي فيقول: فيك ضغط قلب، ماذا تأكل إذاً؟ آكل خبزاً محروقاً، والملايين؟ لا أستمتع بها، زالت: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
بقيت الحسرة وذهبت اللذة، ويا ليتها حسرة دنيا فقط؛ لأنه لا تكون شهوة ولذة حرام إلا على حساب الآخرة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20] ذهبت وانتهى كل شيء.
وإذا هو مضطجع على حصير قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم؛ فهملت عينا عمر أي: بكى عمر لهذا المنظر، وهذه العاطفة الجياشة يجب أن تكون في شعور كل مسلم تجاه محمد، وكلكم تذكرتم كيف ناشدناهم من أجل حب محمد صلى الله عليه وسلم الذي يستقبل صلاتهم في قبره في حياة برزخية لا يعلمها إلا الله، فيعلم من صلى وسلم عليه من أمته فيرد عليه ذلك، ناشدناهم أن يمنعوا هذا الرقص الذي حدث في المسرحية التي عرضت، لكنهم أثبتوا بالدليل القاطع والحجة الساطعة أنهم لا يحبون محمداً، ولا يقدرونه ولا يعزرونه ولا يوقرونه، أثبتوا ذلك فأصبحنا لا نتردد في تكفيرهم إلا أن يتوبوا ويستغفروا ويعودوا ويئوبوا، في أيام ميلاده وفي ليلة الجمعة يقهقهون على أفخاذ الراقصة، وهي ترفع الفستان شبراً شبراً إلى أن ظهرت ملابسها الداخلية!
من أجل خاطر عيونها أهدروا عيون محمد صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب هملت عيونه لأنه رأى أثر الحصير في جنب النبي صلى الله عليه وسلم، وبُعد الزمان وبُعد المكان ليس له اعتبار، فهو لا يزال رسول الله، ولا يزال أسوتنا وقدوتنا حياً وميتاً، فليس بكاء عمر على جنب النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الحصير يزيد عن بكائك أنت الآن لما أحضروا هذه الراقصة، وأهانوا بها يوم الجمعة وليلة الجمعة ذكرى الميلاد.
لهذا على كل مسلم أن يحزن وأن يتألم وأن تهمل عيناه، وإن لم يبك فليتباك في الليل ولو مرة واحدة، إذا تذكر هذه المأساة وهذه المصيبة، هذه المشاركة الشعورية والوجدانية لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهملت عينا عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك؟ أي: لماذا تبكي؟ فقال
معنى كلام عمر : أنت صفوة الله الذي اختاره من بين العباد، والكافر كسرى والكافر قيصر ينعمون بالقصور والحرير وهم كفرة، وأنت حبيب الله تنام على حصير يؤثر في جنبك؟!
لم أحتمل هذا المنظر فبكيت يا رسول الله! فماذا كان الجواب؟ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم محمراً وجهه، واحمرار الوجه يدل على انفعاله عليه الصلاة والسلام لهذا الكلام وعدم رضاه وتأثره التأثر البليغ، ويعرف ذلك في وجهه.
فقال عليه الصلاة والسلام: (أوفيَّ شك أنت يا
إنما قفز قفزة في كلامه ليطمئن ويتأكد أن قلب عمر راسخ بأن هذا رسول الله. فرسول الله نام على التراب ونام على الحصير وأصابه المرض وأصابه الجوع وأصابه السحر، فهذا رسول الله بشر: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110]. (أوفيَّ شك أنت يا
كفار يعطيهم الله كل هذا؟
ونحن الذين نعبده لنا الغبار ولنا الحر، فيبدأ يتزعزع ويقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويأتيه الشيطان فيقول: لا تصدق أن هناك نبياً اسمه محمد، ولو كانت أمته هي أمة الحق لانتصرت وتمكنت، انظر معظم المذبوحين على الأرض منهم، والدماء لا قيمة لها، والصادقون في السجون والمعتقلات، لماذا لا ينصرهم الله، لماذا ينصر أمريكا؟
لماذا ينصر روسيا؟
روسيا تقول: لا إله وتنكره، وجوها أجمل جو، أمطار وحقول، وزروع وأنهار وأولاد، وعابرات وناقلات، وحاملات وناطحات، وأقمار صناعية.
لكن الذي يدرس هذا الحديث يطمئن قلبه وتهدأ نفسه ويعلم أنهم في جنتهم المؤقتة، وأنك أنت أيها المعذب في أرض المنفى، وستنتقل عما قليل إلى جنات النعيم في جوار رب العالمين، وشتان بين هذه الحياة وتلك الحياة، وعليك أن تختار.
وأما الآخرة فنفحة من نفحات الجنان أذهبت من ذاكرته وعقله كل أنواع البؤس، قلعوا أظافره، وألهبوا جلده بالسياط، ومشطوه بأمشاط الحديد، هذا أمر لا ينسى، لكن نعيم الجنة أنساه: (أمر عليك بؤس قط؟ قال: لا وعزتك) ما كان له أن يقسم بعزة الله كاذباً، هو صادق لأنه لا يذكر شيئاً، أضرب لك مثالاً: ابنك قد يكون فيه صداع وفيه إسهال وفيه حمى ثم تفاجئه بالشهادة: ناجح يا بني. ناجح؟! ويقفز من السرير ويخطف الشهادة ويقبل والده ويتعلق في رقبته، ويتعشى ويجلس يشاهد التلفزيون.. أين الحمى؟
ذهبت الحمى وذهب المرض، وهذه فرحته بشهادته فكيف برؤية الله، ورؤية رسول الله والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟
قال: (لا. وعزتك ما مر علي بؤس قط) لهذا جاء في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
وكان الحافظ ابن حجر يسير في السوق فخرج إليه يهودي بائع دهن، ثيابه تقطر من الدهن، أشعث الرأس، طويل المخالب، عفن الوجه، وسخ الثياب، ثم تعلق بـالحافظ ابن حجر وقال له: تزعم أن نبيكم يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟) في أي جنة أنا وأنا فقير معدم منغمس بالزيت وهذه حالي؟ في أي جنة؟ فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن المؤمن في الدنيا لما أعد له من نعيم في الأخرى يُعتبر في سجن، وإنك في الدنيا لما أعد لك من عذاب في الأخرى فأنت في الجنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن لي مثل أحد ذهباً ما سرني أن تأتي علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين) رواه البخاري.
وهذا يعبر عن جوده وكرمه وزهده بالدنيا، فلا تقل: حاتم الطائي ، ولا تقل: ابن جدعان، ولا تضرب لي مثلاً في الكرم، من ينفق مثل جبل أحد ذهباً خلال ثلاثة أيام؟
وإذا ادخر منه شيئاً لا يدخره لنفسه، يدخره لدين عليه؛ لهذا أنت لا تتعجب عندما جاء أم المؤمنين عائشة من غنائم الشام -على ما أذكر- أربعين ألفاً أو يزيد، فما جاء المغرب إلا وليس لديها دينار وهي صائمة وليس لديها إفطار! فقالت لجاريتها: [أين الإفطار؟ قالت: لو أنك ادخرت ديناراً نتعشى به، قالت: ألا ذكرتني؟] أي: لم تذكريني أني صائمة وأنت صائمة وليس لدينا عشاء؟ هذه زوجته فكيف هو؟
ثم انظر إلى هموم الناس اليوم، ليس لهم هَمٌّ إلا تجميع الكماليات، وبعض الناس لا يستقر الأثاث عنده في البيت سنة، لا السجاد ولا المكيفات ولا الأواني ولا الملابس، وكل ما نزل شيء جديد اشترى هذا الجديد، عشرات الأطقم من الكاسات، وعشرات الأطقم من الأواني، وهؤلاء أصحاب المطاعم يتفننون، كل يوم يخترعون اسماً جديداً ونوعاً جديداً للشاي، والناس أصبحت تجري فقط خلف هذه الأمور، وهمك على قدر همك، خواطرك من جنس همك؛ فأصبح تفكير الناس محصوراً في ملعقة وكأس وقارورة، أمور تافهة من أمور الدنيا.
انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أم المؤمنين وإلى الصحابة، كيف تكون همومهم، هذا الحديث رواه البخاري عن عمر بن الحارث رضي الله عنهما قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة) رواه البخاري.
وقصة الدرع المرهونة عند اليهودي بشعير مشهورة، وحديثها صحيح.
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما فعل هذا كأنه يقول لأصحاب الأموال: يا إخواني، يا أحبابي.. لو أنكم رأيتم إنساناً لديه بيت بسيط، لكن الله رزقه الملايين وبنى له قصراً، فترك أمواله كلها في ذلك البيت الأول الخرب الذي لا يسكن فيه، والبيت لا فيه حارس ولا يأتي إليه ولا يأخذ منه درهم واحد.. هل يتركه الناس على هذا؟ سيأتيه كل الناس يقولون: يا مجنون! يا أهبل! تنتقل إلى قصرك الجديد ولا تأخذ أموالك معك، تتركها للصوص وقطاع الطرق؟!
سيعنفه ويلومه كل الناس، هذا حال من يموت ويحتضر وعنده الملايين وأولاده يقولون: يا أبانا! قل: لا إله إلا الله. فيقول: الشقة الرابعة والعشرون لم أقبض إيجارها؟ اذهبوا وخذوه خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] ويموت على هذا.
ويتشاجر الورثة، فلا هو انتفع فنقل أمواله إلى قصوره هناك في الجنان ولا هو أخذها، وكيف ينقل أمواله؟ ينقلها بالإنفاق وبالصدقة وبالبر وبالجود، وبالجهاد المالي، وبصلة الرحم، ومعظم هؤلاء الأثرياء لهم أرحام مقطوعة، بل يفرح إذا كان هناك من عائلته شخص أو اثنان أو ثلاثة فقراء لا يجدون شيئاً، يحس بالنشوة ويحس باللذة! ويعمل ديوانية كبيرة ثم يعزم الناس الأثرياء الشبعانين الذين ليس فيهم أحد يأكل خسة واحدة؛ لأن الطبيب منعه، ولا يذكر هذا المسكين من رحمه أو من قريبه أو حبيبه، ويقول له: تعال وتفضل عندنا.. لا. بل يقول: هذا أقل من مستواي، من أمره أن يصبح فقيراً؟ ألا يراني غنياً؟
وهكذا يستذلون الناس فيحرمه الله سبحانه وتعالى من هذه الأموال فلا يستفيد منها ولا ينتفع في الدنيا.
يا إخوان: نحن نرى نماذج عجيبة، مرة ذهبت وزرت أحد هؤلاء وهو لا يستطيع أن يتكلم ثلاث كلمات متصلة معي! أقول له: كيف حالك؟ فيرن التلفون، ويتكلم فترة بالتلفون ثم يغلقه، أقول له: كيف صحتك؟ فيدخل السكرتير ويقول: الجماعة ينتظرونك من الصباح من الساعة الثامنة وأنت لم تقابلهم، كلمتان أو ثلاث منقطعات ثم بعد ذلك يفر من المكتب لكي يكمل باقي المواعيد وباقي الأعمال.
وبعضهم الذي هو أشد من هذا يتكلم برقيات، أول ما يوصل بيتك ويسلم عليك يتكلم كلمتين، ثم يقول: أين التلفون، ويبدأ برقيات بالتليفون: هل عملت المعاملة التي في البلدية؟
ماذا قال المسئول؟
قابلني عند العمارة الفلانية، ثم يقوم وهو منحني؛ ما بك؟ فيقول: أين الحمام، أين الحمام؟ قال: من الصباح ولم أتبول، حسبي الله عليك! من الصباح؟! لماذا؟ قال: ليس لدي وقت، ماذا؟ ليس لديك وقت؟!
إذاً ما قيمة هذه الأموال التي تجمعها وتكنـزها؟ عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ [التوبة:85] وهذا الزهقان زهقان النفس متعلق فيها كذلك، النفس تتمنى أن تفتك منه وهو متعلق فيها، لهذا قال: (وَتَزْهَقَ) فنفسه راهقة منه وهو متعلق فيها إلى آخر اللحظات.
عند ذلك يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوموا، فقاموا معه فذهبوا إلى بيت رجل من الأنصار اسمه أبو الهيثم مالك بن التيهان فلم يجدوه في بيته، ووجدوا امرأته، فقالت: (مرحباً وأهلاً -ترحب بهم رضي الله عنها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ -يقصد زوجها
ذهب يستعذب لنا الماء، فجاء أبو الهيثم رضي الله عنه فلما رآهم فرح، قال: الحمد الله! لا أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، عند ذلك انطلق فأتى بغصن نخيل فيه بسر وتمر ورطب، فوضعه أمامهم ثم انطلق مرة ثانية ومعه السكين ليذبح لهم شاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) أي: لا تذبح لنا الحلوب التي تنتفعون من حليبها، لا يأخذك الحماس فتضر نفسك، عند ذلك ذبح لهم الشاة وشوى اللحم، وأكلوا وشربوا الماء العذب حتى شبعوا ورووا، ثم التفت إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم).
وهذا السؤال يا أحبابي ليس سؤال نقاش؛ فإنه من نوقش الحساب عذب يوم القيامة، إنما هذا سؤال العرض، الله يعرض نعيمه وفضله على عبده المؤمن الصالح، يذكره حتى يرى العبد نفسه أنه ما قدم لله شيئاً، أي: يأتيه العابد الزاهد الذي قام الليل وصام النهار وجاهد وقتل في سبيل الله ... إلخ فيقول الله له يوم القيامة: ألم أبرد لك الماء؟ ألم أهنئه؟ ألم أمرئه؟ ألم أيسر دخوله؟ ألم أيسر خروجه؟ ويعرض عليه النعم، عند ذلك يرى العبد كأنه ما فعل شيئاً لله، فما يبقى أمامه لدخول الجنة إلا رحمة الله وفضل الله.
لأنك لو بذلت بإمكانياتك الفردية لتحصيل كأس ماء بارد لن تستطيع، بل الدنيا كلها لا تستطيع، من الذي يملك الريح لإثارة السحاب؟
من الذي يملك الشمس لارتفاع البخار في الفضاء؟
من الذي يكثفه في طبقات الجو العليا على ذرات صغيرة ملقحة تتكور عليها قطرات الماء؟
من الذي يأتي بهذه السحب المبسوطة بأنواعها وأشكالها الركامي وغيره إلى الأرض، فيسوقها مخزونات في السماء، ثم مخزونات في الأرض، ثم تفجيرها من الأرض؟
وأشد من هذا كله تحويل الملح الأجاج إلى عذب فرات، بحر ملح أجاج تحول إلى عذب فرات برحمة الله وفضله تشرب منه كل يوم: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:5-8].
لا شك أن مجاعة أفريقيا هي من ظلم الإنسان للإنسان، الله يقول عن الأرض: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10] وهذا التقدير إلى يوم القيامة، لكن الإنسان هو الذي يظلم الإنسان، الله سبحانه وتعالى جعل في الأرض قطعاً متجاورات وجنات، وهذه القطع المتجاورات ينفق بعضها على بعض، فأنبت القمح في أمريكا ، وأنبت القمح في كثير من البلدان، لكن الذي يجب أن تأكله أفريقيا يحرقونه أو يرمونه في البحر، لكي يحافظوا على سعر السوق، أما يكفي الإنسان أن يرى جود الله حيث يضع حبة في الأرض فيخرج الله في الحبة سبع سنابل، السنبلة فيها مائة حبة، هذا فضل عظيم!!
وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:8] عن عائشة أنها قالت: (إن كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد ناراً، إنما هما الأسودان التمر والماء، إلا إنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن منائحهم -ألبان النوق- فيشرب ويسقينا من ذلك اللبن) متفق عليه.
أي: يمر عليه شهر وشهران غذاؤهم تمر وماء، وفي بعض الأحيان تأتيه هدايا من لبن الإبل، من بعض جيرانه من الأنصار.
وعن أنس قال: (ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق الله) المرقق: الخبز الرقيق، الذي يرمي في البيوت؛ لأن أولادنا لا يعرفونه ولا يأكلونه فقد تعودوا على الروتي والبفك، الرسول صلى الله عليه وسلم مات ولم يذق ولم يعرف ولم ير الرقاق عليه الصلاة والسلام.
بل إن بعض الصحابة ما اكتشفوا الرقاق إلا في حروبهم مع الفرس، في معركة من معارك الفرس بقيادة خالد بن الوليد لما قتل خالد القائد الفارسي وانهزم الجيش، كانوا قد وضعوا طعام الإفطار واختلفوا: يقاتلون أو يفطرون؟ فقالوا: لا. نفطر ثم نقاتل، فـخالد بن الوليد تركهم حتى جلسوا على الموائد وفوقها الطعام فشن حملة الهجوم بسرعة مباغتة فلم يتمالكوا أن يحملوا السلاح ويركبوا الخيول فأبادهم، ثم قال: احضروا جثة القائد، فسحبوه من كراعه وهو مقتول فجعله مسنداً؛ حتى يزرع العزة في قلوب المسلمين ويكسر قلوب الفرس، سحب الجثة بما فيها من ذهب -فقد كان يلبس الذهب- فجره واتكأ عليه وقال: أعطوني إفطاره، فأعطوه إفطاره ثم قال: إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فغنمنا طعاماً فنفل لنا النبي ذلك الطعام، وإني نفلتكم طعامهم هذا اليوم، فهجم الصحابة، فلما نزلوا على الخوان وجدوا هذا الخبز الرقاق، فقال أحدهم: ما هذا؟ قال له الآخر: ألا تعرفه؟ هذا الذي يقال عنه الرقاق.
(ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق الله، ولا شاة سميطاً) أي خروفاً مشوياً، وإنما رأى كتفاً وظهراً، هدايا بين الحين والحين يدعى لها، لكن خروفاً كاملاً لم يره، انظر الآن إلى العزائم والولائم التي ترى في النفايات والزبالات أشكال وألوان نسأل الله العافية: (ولا شاة سميطاً بعينه قط) رواه البخاري.
وقال عمر بن الخطاب : (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه) الدقل: أردأ أنواع التمر، يسمونه أهل الكويت: الدقل وهو نوع رديء جداً لا يأكله أحد، فهو خشن ويابس ومر، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يملأ بطنه منه لقلته، حديث رواه مسلم.
وعن أنس : (أنه مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة) الإهالة: دهن متغير الرائحة يؤتدم به، زيت قلي فيه منذ زمن كي يجعلونه مثل الإدام، يغمس فيه الخبزة ويؤتدم به.
قال: (جئته بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد رهن درعه عند يهودي فأخذ لأهله شعيراً، ولقد سمعته ذات يوم يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر ولا صاع حب) رواه البخاري . (وكان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير) حديث حسن رواه أحمد وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعاً من خبز بر حتى مضى لسبيله -أي: مات-) متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) أي: اجعل رزقنا ما يسد الجوع فقط، حتى لا نطغى ولا تصيبنا الأمراض، ولا السكر ولا التخمة ولا الإفراط، ولا كوليسترول الدم ولا غيره، والحمد لله كلهم صحتهم جيدة مائة بالمائة؛ لأنهم كانوا يأخذون من الطعام قوتاً.
أحبتي في الله: إن الله أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، الناس يزرعون وأنتم تأكلون، وينسجون وأنتم تلبسون، ويصنعون ونحن نستهلك، وفتح الله علينا خزائن الدنيا وخزائن الأرض، وكلها ببركة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال في الحديث الصحيح: (أوتيت مفاتح الدنيا، وخزائن الأرض) والنفط الذي نحن نسير فوقه ويسمى بالذهب الأسود، مفتاحه كان بيد محمد صلى الله عليه وسلم، انفتح لأمته في هذا البلد وفي جزيرة العرب، والآن انفتح في اليمن، واليوم أعلنوا عن أول شحنة باعتها اليمن للنفط بعد ما وجدوها، وأرسلوا كتب شكر إلى الكويت؛ لأنها هي التي بنت عندهم المدارس والمستشفيات والمآوي والمساجد، قالوا: أنتم مشكورون، نحن الآن سنصبح مثلكم أو أكثر منكم، وهكذا الحال تتغير من حال إلى حال، سبحان مغير الأحوال.
أحبتي في الله: نسأل الله الذي أحسن معنا الابتداء، أن يحسن معنا الانتهاء، وأن يرزقنا الحمد فإن الحمد قيد النعم، وأن يجعلنا من الشاكرين، ونعوذ بالله من الإسراف والمسرفين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر