إسلام ويب

شرح قسم الكتاب من الأدلة الشرعية [12]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لكل سورة في القرآن الكريم موضوع بارز فيها، وقد تكون بعض السور ذات مواضيع متعددة، ولكي يستطيع المسلم أن يفهم العلاقة بين مواضيع السورة الواحدة عليه أن يثبت للسورة وحدة موضوع جامعة لتلك المواضيع، ومن ثم يدرجها موضوعاً موضوعاً تحت تلك الوحدة، والقرآن الكريم نفسه وحدة موضوعية وهي: إثبات التوحيد، وتأييد النبوة وإثباتها، وإثبات البعث والجزاء، ومن الخطأ العظيم أن يؤخذ بعض ما في القرآن دون بعض، وتبنى الأحكام عليه، بل الصواب النظر الشمولي للقرآن، وهذا ما يسمى بتفسير القرآن بالقرآن.

    1.   

    تابع كيفية الوصول إلى الفهم الصحيح للقرآن الكريم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال الشاطبي رحمه الله تعالى: [المسألة الثالثة عشرة مبنية على ما قبلها، فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط، فمأخذ الوسط ربما كان مجهولاً، والإحالة على مجهول لا فائدة فيه، فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم، والقول في ذلك -والله المستعان- أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان، فالذي يكون على بالٍ من المستمع والمتفهم، والالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا يُنظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل، فبعضها متعلق بالبعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام عن أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام، فعما قريب يبدو له منه المعنى دون المراد، فعليه بالتعبد به، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل، فإنها تبين كثيراً من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر.

    غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحداً بكل اعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت، وعليه أكثر سور المفصل، وتارة يكون متعدداً في الاعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة، كسورة البقرة وآل عمران والنساء و(اقرأ باسم ربك) وأشباهها، ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة، أم نزلت شيئاً بعد شيء ].

    أقسام السور على حسب السياقات

    سبق شرح المقطع الأول في هذه المسألة، ثم أعقبه الإمام رحمه الله تعالى بقوله: (غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحداً بكل اعتبار، بمعنى: أنه أنزل في قضية واحدة، طالت أو قصرت، وعليه أكثر المفصل، وتارة يكون متعدداً في الاعتبار).

    فإذاً: هو قسم سور القرآن إلى قسمين، الحديث هنا يمكن أن يسمى: بموضوعات السورة، بمعنى أن هذه السورة تحدثت عن موضوعٍ واحد، على سبيل المثال: لما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، فهذه السورة القصيرة ممكن أن نقول: إن موضوعها واحد، كذلك إذا نظرنا إلى قوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3]، موضوعها أيضاً واحد، كذلك: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، أيضاً موضوعها واحد، وهكذا.

    فإذاً: كثير من سور المفصل يمكن أن يقال عنها: إنها تتحدث عن قضية واحدة أو عن موضوع واحد.

    قال: (وتارة يكون متعدداً في الاعتبار، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة، كسورة البقرة وآل عمران والنساء واقرأ باسم ربك وأشباهها)، قال: (ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة أم نزلت بعد شيئاً بعد شيء).

    وهذه أيضاً مهمة جداً للناظر في القرآن؛ لأنه سيأتي إن شاء الله تفصيل الإمام لها في أن ترتيب الآيات في السور إنما هو بوحي، لكن الفكرة التي يريد أن يطرحها هنا هي أن بعض السور قد تتحدث عن أكثر من قضية، فإذاً عندنا قسمان:

    سور تكون في قضية واحدة، وسور تكون في أكثر من قضية.

    وهذا القسم الثاني: وهي السور التي تكون في أكثر من قضية سيفصل فيه.

    كيفية النظر في السور ذات القضايا المتعددة

    قال رحمه الله: [ولكن هذا القسم له اعتباران: اعتبار من جهة تعدد القضايا، فتكون كل قضيةٍ مختصة بنظرها، ومن هنالك يُلتمس الفقه على وجه ظاهرٍ لا كلام فيه، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول، فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه، واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة؛ إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال، ويشترك معه أيضاً القسم الأول؛ لأنه نظم ألقي بالوحي، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجهٍ ظاهر، وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز، وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل، وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره، بحسب تلك الاعتبارات، فاعتبار جهة النظم مثلاً في السورة لا تتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر، فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها ].

    هذا القسم الثاني الذي يكون فيه أكثر من قضية، قال: له أيضاً اعتباران:

    اعتبار من جهة تعدد القضايا، وسيطرح له أمثلة بعد قليل.

    فإذا نظرنا من جهة تعدد القضايا قال: (فتكون كل قضية مختصة بنظرها، ومن هنالك يلتمس الفقه على وجهٍ ظاهر لا كلام فيه).

    بمعنى: أننا إذا نظرنا إلى سورة فيها أكثر من موضوع، فكل موضوع إذا قسمناه يلتمس منه وجه من العلم والفقه، ثم قال: (إنه بهذا الاعتبار يشترك مع القسم الأول الذي يكون لموضوعٍ واحد)؛ بأن تكون السورة في موضوع واحد، باعتبار جهة النظم، قال: (الذي وجدنا عليه السورة؛ إذ هو ترتيب بالوحي)، وهذا الاعتبار الثاني. معناه أن ترتيب الآيات أو ترتيب المقاطع كله لا دخل للرجال فيه، وإنما هو وحيٌ، قال: (ويشترك معه أيضاً القسم الأول)؛ فكون القسم الأول في قضية واحدة لا يعني أنها ليست وحياً، بمعنى أننا إذا نظرنا إلى سورة البقرة نقول: بداية سورة البقرة حديث عن المؤمنين، ثم آيتان عن الكفار، ثم آيات إلى العشرين عن المنافقين، إذاً عندنا ثلاثة قضايا، هذا الترتيب في الموضوعات وترتيب الآيات في كل موضوع هذا كله بوحي.

    أيضاً: السورة في قضية واحدة ترتيبها بوحي، إذاً من جهة النظم القرآني كله بوحيٍ لا مدخل فيه لآراء الرجال، والنظر فيه بهذا المنظار كما ذكر لا يلتمس منه فقه على وجهٍ ظاهر، بل يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز. وأحال إلى المسألة السابقة في ترتيب المدني على المكي، وهذه تختلف فيها أنظار العلماء واستنباطاتهم.

    وعلى سبيل المثال: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، في سورة البقرة وقعت هذه الآية في أحكام الطلاق، أليس كذلك؟ فهذه القضية: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] يستنبط منها وجه من الإعجاز، وهو البحث عن حكمة وضع هذه الآية في هذا الموطن في وسط أحكام الطلاق، كذلك آية الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، في سورة آل عمران، أيضاً وجدت في وسط قصة غزوة أُحد، فيُبحث في مثل هذا عن الحكمة في وضع هذه الآية في هذا المكان، فإذاً يدخل هذا في البحث عن الإعجاز، وفي سر وجود هذه الآية المختلفة في الموضوع عن الآيات التي قبلها والتي بعدها.

    وسيضرب أمثلة على نفس الفكرة هذه.

    أمثلة من القرآن في كيفية الوصول إلى فهم المعنى المراد

    قال رحمه الله: [فسورة البقرة مثلاً كلام واحد باعتبار النظم، واحتوت على أنواع من الكلام، بحسب ما بث فيها، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال، وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت، وما أشبه ذلك، ولا بد من تمثيل شيءٍ من هذه الأقسام، فيه يبين ما تقدم، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] إلى قوله: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى، وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية أدائه، وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها، ولا ينبني إلا عليها.

    ثم جاء قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، الآية، كلام آخر بين أحكاماً أخر، وقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وانتهى الكلام على قول طائفة، وعند أخرى أن قوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ [البقرة:189] الآية، من تمام مسألة الأهلة، وإن انجر معه شيء آخر، كما انجر على القولين معاً تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، نازلة في قضية واحدة، وسورة (اقرأ) نازلة في قضيتين، الأولى إلى قوله: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، والأخرى ما بقي إلى آخر السورة].

    وحدة الموضوع وعلاقة القضايا الجزئية به

    ضرب رحمه الله مثالاً بأكثر من سورة، وسيأتي أيضاً ذكر أمثلة أخرى.

    ففي سورة البقرة قال: (هو كلام واحد باعتبار النظم، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها)، من هذا الكلام أخذ بعض المعاصرين ما يسمى بالوحدة الموضوعية، الذي تنتظم السورة كلها عليه.

    هو يرى أن المقصود من هذه السورة تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب، كما قال: (منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم).

    مثال من سورة البقرة لقاعدة التمهيد للأحكام التي ذكرها الشاطبي

    فلو نظرنا إلى قصة البقرة على سبيل المثال، وأردنا أن نربطها بالأحكام، فما هي علاقة قصة البقرة وقصة بني إسرائيل بالقضية الكبرى التي ذكرها وهي قضية الأحكام.

    ولا يكاد يختلف العلماء على أن سورة البقرة من أوسع السور في آيات الأحكام، فإذاً نحتاج إلى النظر على نفس أسلوب الشاطبي رحمه الله تعالى، فقصة البقرة ما علاقتها بالأحكام؟ وهل يمكن أن نستنبط من قصة البقرة فروعاً فقهية ظاهرة؟ لو تأملنا قصة البقرة فلا نستطيع أن نستنبط منها أحكاماً مباشرة.

    ولو نظرنا نظراً آخر؛ لأنه قال: [كالمقدمات والتمهيدات]، فهل يمكن أن نعد قصة البقرة من باب المقدمة أو التمهيد لبث الأحكام في سورة البقرة؟ نقول: نعم، وذلك من خلال النظر إلى قصة البقرة والحدث فيها، فموسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فلم يحدد موسى عليه السلام نوع وصفة البقرة، بل أطلق، كما يقول ابن عباس وهو إجماع من السلف قال: لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم، فهم ذهبوا وسألوا عن صفة هذه البقرة، ثم سألوا عن لونها، فشددوا -كما قال السلف- فشدد الله عليهم.

    فالقضية التي يريد الله سبحانه وتعالى منا أن نعتبرها في قصة البقرة هي: أن من شدد في المسألة شدد الله عليه، فإذا أنزل الله سبحانه وتعالى الحكم على المؤمنين فإن عليهم أن يأخذوه بالتسليم، فلا يشددوا فيشدد الله سبحانه وتعالى عليهم، بمعنى: أن قصة البقرة مقدمة وتمهيد في أن الله سبحانه وتعالى سينزل عليكم أحكاماً، فإذا أنزلت عليكم هذه الأحكام فامتثلوا لهذه الأحكام ولا تجادلوا فيها، فتكونوا كبني إسرائيل الذين شددوا وجادلوا في قضية البقرة، فشدد الله عليهم.

    إذا فهمنا العبرة من قصة البقرة بهذا النظر، فإن هذا يجعلنا نفهم قول الإمام: (إن السورة نزلت تفصيلاً للأحكام، والآيات التي لا يُرى فيها ذلك تكون كالمقدمات والممهدات، أو كالمتممات والمؤكدات).

    بمعنى: أننا إذا قلنا: إن هذا هو موضوع السورة، فما من قضيةٍ تذكر بعد ذلك إلا وتكون إما ممهدة، وإما مؤكدة ومتممة؛ لأن المقصد الأسمى في الأحكام هو الاستسلام التام لحكم الله سبحانه وتعالى.

    فلو تأملت كل هذه القضايا في سورة البقرة فستجد أن فيها التنبيه على هذا المعنى، مثلاً قصة إبراهيم عليه السلام مع قضية الطير، هي ترجع إلى معنى الاستسلام التام لله سبحانه وتعالى, ولهذا الله سبحانه وتعالى قال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فدل على أنه من جهة الاستسلام مستسلم، ولكنه أراد زيادة على الاستسلام والإيمان وهو حق اليقين في كيفية إحياء الموتى.

    أما علم اليقين فكان عنده، وليس عنده فيه شك، وكذلك آخر السورة لما أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ [البقرة:284]، فالصحابة استشكلوا هذا وجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشتكون إليه ما فهموه من هذه الآية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( قولوا: سمعنا وأطعنا ولا تكونوا كبني إسرائيل )، فالسورة لو تأملناها برمتها تشير إلى هذا المعنى الذي يذكره الإمام؛ لأن الأحكام تحتاج إلى استسلامٍ وإلى تطبيق، فلو نظرنا إليها فسنجد أنها كقضية واحدة في هذا المعنى، وإن تعددت القضايا، فبداية السورة فيها إشارة إلى أهل الاستسلام، وهم المؤمنون وإلى من خالفهم في ذلك في الباطن ووافقهم في الظاهر، وإلى من خالفهم في الباطن والظاهر، فإذاً لو أعدنا كلامه، وتأملنا هذه السورة سنجد أن المقصود من إنزالها تفصيل الأحكام، والآيات التي لا تكون من الأحكام فهي كالمقدمات والممهدات، أو كالمؤكدات والمتممات.

    والتمثيل الذي ذكره في قضية آيات الصيام، وآيات الصيام نزلت في أوقاتٍ متعددة، لكنها من جهة الترتيب في المصحف جمعت في مكان واحد، لأنها تتكلم عن الصيام.

    وعندما تقرأها لا تحس بأن هناك أي تنافر بين الآيات، وكأنها نزلت في وقت واحد، فرتبت بهذا الترتيب المعجز.

    أيضاً جاء بعدها: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ثم جاء بعدها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، فإذاً كلها قضايا مرتبطة بالأحكام.

    وفي قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189] أشار إلى المسألة التي ذكرناها في قضية قوله سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، فإذا قلنا: إن المراد بها ما يتعلق بأحكام الحج، وهي العقيدة الجاهلية التي كان يعتقدها أهل الجاهلية في طريقتهم في الحج، وهي أن الإنسان إذا أحرم لم يجز له أن يدخل بيته من بابه، فإنما يتسور الحائط أو يخرق له في الجدار خرقاً يدخل منه، فهذه كأنها تبطل هذه العقيدة التي كانوا يعتقدونها في الحج، ورجعت الآيات إلى معنى الاستسلام لحكم الله سبحانه وتعالى، وبيان أن ما كنتم عليه من الشريعة فليس بصواب، وإن كنتم تريدون الشريعة الحق فإن البر هو في تقوى الله سبحانه وتعالى.

    الوحدة الموضوعية لسورة الكوثر وعلاقة أجزائها بها

    سورة إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، كما قال: نزلت في قضية واحدة، والقضية التي أُنزلت من أجلها سورة الكوثر كوحدة موضوعية هي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التفاصيل الجزئية وهي قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:2-3]، فالذي يربط كل هذه، وهي الرد على من اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر، وهذه كلها موضوعات جزئية من السورة، ولكن الكلام في السورة عن موضوع يمكن أن يربط جميع أجزاء السورة، فقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] هذه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، هذه أمر، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، هذا خبر، ففيها ثلاث قضايا، ويمكن أن نجمع بين هذه القضايا الثلاث بأنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في قوله: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:2] تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

    والعبادة كذلك فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً أنه كان يقول: ( أرحنا بالصلاة يا بلال )، وهذا من باب الاجتهاد، ويمكن أن يخرج المرء للسورة أكثر من موضوع يلمحه؛ ولذا تختلف أنظار المجتهدين في تحديد موضوعات السورة أو مقاصد السورة، وقد تكون كلها صحيحة، وهذه إذا صحت فإنها تدخل في باب من أبواب إعجاز القرآن، وذلك في كون السورة واحدة يكون لها أكثر من محور، أو أكثر من موضوع.

    الوحدة الموضوعية في سورة العلق وعلاقة أجزاء السورة بها

    فأخذ أيضاً سورة اقرأ قال: نزلت في قضيتين:

    الأولى: إلى قوله: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]؛ لأن بعدها قال: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]، القضية الأولى نضع لها موضوع العلم.

    والموضوع الثاني: بيان عداوة الكافر للنبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن تغيير العناوين، ولكن المقصد من ذلك أنه من باب التطبيق، وأن ما أراده الشاطبي رحمه الله تعالى هو أن هذه السورة منقسمة إلى قسمين، وواضح لنا أنها بالفعل منقسمة إلى قسمين، ولكن بعض الموضوعان قد يُختلف فيها، ويمكن أن يقال: موقف المشركين من الرسالة، وإن كان الموضوع أكثر اقتصاراً بقضية عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في الحرم؛ لأنها منصبة على هذا المعنى.

    وحدة الموضوع في سورة المؤمنين وعلاقته بالقضايا الجزئية

    قال المصنف رحمه الله: [وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة، وإن اشتملت على معاني كثيرة، فإنها من المكيات، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معاني، أصلها معنى واحد، وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى:

    أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على وجوه، كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة، من كونه مقرباً إلى الله زلفى، أو كونه ولداً أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.

    والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إليهم جميعاً، صادق فيما جاء به من عند الله، إلا أنه وارد على وجوه أيضاً، كإثبات كونه رسولاً حقاً، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.

    والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة، وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر بكل وجهٍ يمكن الكافر إنكاره به، فرد بكل وجهٍ يلزم الحجة، ويبكت الخصم، ويوضح الأمر.

    فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر، ما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها، فراجع إليها في محصول الأمر، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار، ووصف يوم القيامة، وأشباه ذلك ].

    وحدة الموضوع المشتركة بين السور المكية

    الإمام رحمه الله تعالى قد أشار إلى هذا سابقاً، وذكر هذه المقدمة وهي مهمة جداً، في الموضوعات الكلية التي تناقشها السور المكية.

    والموضوع الكلي للقرآن كما قال: (الدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى).

    بمعنى: أننا إذا جعلنا هذا هو المقصد الأول لإنزال القرآن، فإذا رأينا أي آية أو أي مقطع فإننا يمكن أن نستنبط منه أن المراد أو المقصد الأول هو عبادة الله سبحانه وتعالى.

    ولهذا لاحظ أنه يأتي في القصص القرآنية التنبيه على عبادة الله سبحانه وتعالى، إما في بداية القصة، وإما في ثناياها، وإما في خاتمتها، ولو رجعنا إلى قصة موسى عليه السلام في سورة طه، والقصة لما كان الحديث عن السامري ختمت بقوله: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98].

    إذاً: كأن ذكر هذه القصص هو في الحقيقة دعوة إلى التوحيد، الذي ذكره هو بقوله: (وهو الدعاء إلى عبادة الله سبحانه وتعالى)، تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى.

    إذاً: هذا هو الهدف الأكبر الذي أُنزل من أجله القرآن، ولو قلنا: هذا هو الموضع الأكبر لكان موضوعاً صادقاً، بحيث أننا يمكن أن نتبع جميع آيات القرآن، فهي تخدم هذا الغرض، ولا يكاد يختلف على هذا أحد.

    أما التفصيل الذي ذكره، وهو أن السور المكية تقرر ثلاث قضايا:

    تقرير الوحدانية لله، وتقرير النبوة، وإثبات البعث والدار الآخرة، فلو نظرنا إلى بعض الموضوعات الأخرى التابعة لها، مثل: الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار، فهي ترجع في الحقيقة إلى أحد هذه الموضوعات الثلاثة.

    لما نأتي إلى إثبات النبوة على سبيل المثال، ونقرأ قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:19-24].

    فهذا الحديث مختص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن وضعه في حد النبوة.

    قد يقول قائل: فما علاقة الحديث عن جبريل بقضية النبوة لما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20]؟

    نقول: إن الكلام عن النبوة وما حولها من القضايا المتعلقة بالنبوة، وجبريل عليه السلام هو الذي نزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخل في النبوة.

    والحديث عن الجنة والنار، لما يتكلم الله سبحانه وتعالى في قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف، فهذه القصة تدخل في قسم البعث والجزاء، لما قال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، والمقصد من ذلك أنك إذا تأملت القرآن استطعت أن توزعه على هذه القضايا الثلاث.

    وحدة الموضوع في سورة الفاتحة

    وقد تتداخل في بعض الأحيان بعض الآيات وبعض المقاطع في الثلاثة معاً، ولهذا سورة الفاتحة، لو أردت أن تقسمها على هذه الأقسام الثلاثة، فقوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هذه تدخل في النوع الأول وهو التوحيد قوله تعالى: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، كذلك في التوحيد، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] داخل في الثالث: البعث والجزاء، فإذاً: صار قوله: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، إشارة إلى عبوديته لتوحيد الألوهية والربوبية، الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1]، إشارة إلى النبوة، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، إشارة إلى البعث والجزاء، هذا هو الذي ذكره الإمام هنا، وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] بدأت تفصيلات لهذه القضايا الثلاث، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] واضحة جداً، لكن الخفاء في قوله تعالى: الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] على النبوة، وأن من لوازم رحمته قضية النبوة، لو أنت درست القرآن على هذا ستجد أن كل الآيات لا يمكن أن تخرج عن هذه القضايا الثلاث.

    ومثل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، تدخل في النوع الثالث: البعث والجزاء، ولها مساس في الأول: وهو التوحيد، ولكن الذي يغلب عليها الثالث.

    ولعلي مما أذكره أني قلت: إنه قد كثر الحديث عن تدبر القرآن، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا، أن يعود المسلمون إلى القرآن، وصار المسلم بجميع طبقاته يسأل عن هذا الموضوع، كيف يقرأ القرآن؟ كيف يفهم القرآن؟ كيف يتدبر القرآن؟ فأقول: إن مثل هذا الكلام هو منطلق من منطلقات التدبر وهو مهم جداً، وهو النظر الموضوعي للقرآن، بحيث أن المسلم حينما يقرأ يكون في ذهنه وهو يقرأ أن ينظر في هذه الموضوعات، وإذا كان عنده أصل سابق في الموضوعات الكلية التي أنزل من أجلها القرآن، ثم هذه الموضوعات التفصيلية استطاع أن يقرأ، وأن يتأمل، وأن يعرف كيف أن القرآن يناقش موضوعات معروفة وواضحة جداً جداً، ويمكن أن يربط بين هذه الموضوعات.

    فإذاً أقول: قراءة القرآن بالنظر الموضوعي من أنفع وسائل التدبر القرآني.

    أبرز ما ذكر في سورة المؤمنون من الأحداث

    قال رحمه الله: [ فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلاً، وجدنا في المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه، إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة، التي هي المدخل للمعنيين الباقيين، وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ترفعاً منهم، أن يرسل إليهم من هو مثلهم، أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن كانت، فجاءت السورة تبين وصف البشرية، وما تنازعوا فيه منها، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها، حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى، فافتتحت السورة بثلاث جمل:

    إحداها: وهي الآكد في المقام، بيان الأوصاف المكتسبة للعبد إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه، وذلك قوله: (( قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ))[المؤمنون:1]، إلى قوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:11].

    والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له، جارياً على مجاري الاعتبار والاختيار، بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلاً.

    والثالثة: بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق، والإعانة على إقامة الحياة، وأن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما، وكفى بهذا تشريفاً وتكريماً.

    ثم ذُكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزاءهم بهم بأمور منها كونهم من البشر، ففي قصة نوح مع قومه قولهم: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [المؤمنون:24]، ثم أجمل ذكر قوماً آخرين أُرسل فيهم رسولاً منهم -أي من البشر لا من الملائكة- فقالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ[المؤمنون:33]، الآية.

    وقوله: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، ثم قالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا [المؤمنون:38]، أي: هو من البشر، ثم قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ [المؤمنون:44]، فقوله: رَسُولُهَا [المؤمنون:44]، مشيراً إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها، ثم ذكر موسى وهارون، ورد فرعون وملئه بقولهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون:47]، إلى آخر الآيات، هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر، يأكلون ويشربون كجميع الناس، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى، فقال بعد تقرير رسالة موسى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:50]، وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان، ثم قال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ [المؤمنون:51]، أي: هذا من نعم الله عليكم، والعمل الصالح شكر تلك النعم، ومشرف للعامل به، وهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة.

    وقوله: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52]، إشارة إلى التماثل بينهم، وأنهم جميعاً مصطفون من البشر، ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57] إلى قوله: هُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61]، وإذا تُؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا، فُهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود، مضافاً إلى المعنى الآخر، وهو أنهم إنما قالوا ذلك، وغضوا من الرسل بوصف البشرية؛ استكباراً من أشرافهم، وعتواً على الله ورسوله، فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار، وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف، فإن التارات السبع أتت عليه، وهي كلها ضعف إلى ضعف، وأصله العدم، فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها، ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية، فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق، فهذا كله كالتنكيت عليهم، والله أعلم.

    ثم ذكر القصص في قوم نوح، قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [الأعراف:66]، والملأ هم الأشراف، وكذلك فيمن بعدهم، وَقَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ [المؤمنون:33] الآية، وفي قصة موسى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام، ثم قوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون:54]، إلى قوله: لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:56]، رجوعٌ إلى وصف أشراف قريش، وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين، فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف، وهو قوله: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم، وذكر النعم عليهم، والبراهين على صحة النبوة، وأن ما قال على الله حق من إثبات الوحدانية، ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين، فهذا النظر إذا اعتبر كلياً في السورة وُجد على أتم من هذا الوصف، لكن على منهاجه وطريقه، ومن أراد الاعتبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح، والتوفيق بيد الله، فسورة "المؤمنون" قصة واحدة في شيء واحد.

    وبالجملة فحيث ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون، فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام، وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة، فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله، وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة، بحسب اختلاف الأحوال، والجميع حقٌ واقع لا إشكال في صحته، وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يُحتذى بالنظر في القرآن، لمن أراد فهم القرآن، والله المستعان].

    في سورة المؤمنون لو أردنا أن نعرف الموضوع الذي أراد أن يطرقه المؤلف رحمه الله.

    لما تكلم فقال: (ثم رجع في الآيات إلى وصفهم في ترفهم، وحال مآلهم، وذكر النعم عليهم، والبراهين على صحة النبوة، وأن ما قال على الله حقٌ في إثبات الوحدانية).

    فأغلب السورة تتحدث عن إثبات النبوة والذي هو النوع الثاني، والحديث عن الجزاء وعن الله سبحانه وتعالى أقل من الحديث عن النبوة، ولهذا إذا تأملنا السورة وجدناها أغلب الحديث فيها حول موضوع النبوة، ولهذا قضية النبوة تتابعت في ذكر قصص الأنبياء، ولكن داخل موضوع النبوة الإشارة إلى بشرية الأنبياء، وأن المرسل إليهم قد عابوا على الأنبياء بشريتهم، ولهذا تلاحظ في قوله تعالى في نوح: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:24]، ثم هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء:3]، أيضاً في غير نوح، ثم قال: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا [المؤمنون:34]، ثم قال بعد ذلك: رسولها، أيضاً تشير إلى بشريته، ثم فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون:47]، فهم يذمون الأنبياء؛ لكونهم بشراً.#

    ‏1_1 الرد على من أنكر بشرية الرسول :-

    هنا فائدة لطيفة، وفيها عكس الحجة، لما قالوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون:47] أو قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [المؤمنون:24]، فأنتم تذمون بشريتهم، فهل الرسول دعاكم ببشريته؟ أو بغير بشريته؟ هم سيقولون: دعا ببشريته، فإن كان دعاكم ببشريته فأنتم أيضاً بشر، فلماذا نصدقكم ونكذبه؟ فلو كان أتباعهم يعقلون، لقالوا: ما دام هو بشر، وأنتم بشر، فهو دعانا إلى أن نصدقه، وأنتم تدعوننا إلى أن نكذبه، فلماذا نتبعكم أيها البشر ونتركه وهو بشر؟

    بمعنى: أن القضية التي أقاموا عليها إنكار النبوة لا تصلح؛ لأنها متفقة بينه وبينهم، ولهذا تكرار هذا عندهم، وهذا يدل على ضعفهم في الخصومة؛ لأن مثل هؤلاء في الغالب يكون عندهم من الوسائل ما يضللون به، فأرادوا أن يضللوا أصحابهم وأتباعهم بأن هذا الذي تتبعونه بشرٌ مثلكم واحد، فكيف تتبعون هذا الواحد؟ ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على أن كل الأنبياء إذا جاءوا يأمرون بعبادة الله، وهذه هي القضية الأولى، ولا يعبدون الناس لأنفسهم، مثل كلام هؤلاء.

    القضية الثانية: أنهم لا يطلبون على ذلك التعبيد أجراً، بخلاف غيرهم من البشر، فغيرهم من البشر يدعو لنفسه ويعبد الناس لنفسه، أما هؤلاء يدعون الناس إلى أن يكونوا عبيداً لله وحده فيكونوا متساويين، وأنهم لا يأخذون أجراً، أما من يعبد الناس لنفسه فإنه يأخذ أجراً من الناس، إما أجراً معنوياً وإما أجراً محسوساً مادياً، فهذا فرق ما بين الأنبياء وبين هؤلاء الذين يردون على الأنبياء. #

    ‏1_2 موضوعات سورة المؤمنون الجزئية :-

    لكن المقصد الذي ذكره الإمام الشاطبي في النهاية هو أن أغلب موضوع السورة يدل على قضية النبوة، وبدأ يشير في المقدمة إلى الموضوعات التي تحدثت عنها السورة.

    الموضوع الأول: تحدث عن قضية الأوصاف اللي هي أوصاف المؤمنين، ثم انتقلت إلى بيان أصل التكوين، ثم بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة، وذلك بتسخير السماوات والأرض وما بينهما، الذي هو الإمداد الحسي، والإمداد المعنوي فيما ذكره من قصص الأنبياء مع أقوامهم، فإذاً حصل للإنسان الإمداد الحسي والإمداد المعنوي، الإمداد حال الوجود والإمداد قبل الوجود حال كونه في بطن أمه، والذي هو أصل التكوين، منذ أن كان نطفة إلى أن خرج إلى هذه الحياة.

    وفي آخر هذه الجملة ذكر فائدة في ذكر قصص الأنبياء، وقال: إنها تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وتثبيت لفؤاده، وهذه من أعظم فوائد قصص الأنبياء، أن فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما يلقاه مَن قومه قد لقيه من قبله، وهي كذلك تسلية للمؤمنين بعده، ولهذا المؤمنون لا يزالون يتواصون بالحق وبالصبر، ويجعلون مثلهم محمداً صلى الله عليه وسلم فيما لاقاه وواجهه في دعوته.

    وكذلك أنها تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم، أيضاً لمواجهة ما يلقاه من هؤلاء، فسماعه لأخبار هؤلاء يثبت فؤاده؛ لأن عاقبة إخوانه هؤلاء هي عاقبة الخير، حيث انتصر بعضهم على أقوامهم، وأهلك الله أقواماً، أو تكون له العاقبة في الآخرة، وكما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يأتي النبي وليس معه أحد.

    إذاً أرجع وأقول في قضية التدبر: إنه يحسن أن نأخذ مثل هذا الكلام الذي ذكره الشاطبي رحمه الله تعالى نموذجاً نحتذي به في قضية النظر الموضوعي للقرآن حال القراءة.

    فعندما يقرأ الإنسان في سورة الفاتحة يجتهد في التأمل عن الموضوعات التي طرحتها هذه السورة، ويدون هذه الموضوعات، وهو يقرأ سورة البقرة على طولها، يتأمل الموضوعات التي تتحدث عنها هذه السورة، ثم يقيد هذه الموضوعات.

    قد يصل به النظر والاجتهاد فيما بعد إلى أن يعرف الروابط بين هذه الموضوعات، فيعرف فائدة ذكر هذه القضية بعد هذه القضية، وعلاقة هذه القضية بهذه القضية، ويمكن أن تتركب عنده بعد الاجتهاد أنظاراً حسنة في فهم ترابط هذه القصص في السور الطويلة أو في السور التي هي أقصر منها. #

    ‏1_3 وحدة الموضوع في القرآن عموماً بين النفي والإثبات :-

    قال الشاطبي رحمه الله: [فصل:

    وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد، بحسب خطاب العباد لا بحسبه في نفسه؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار، حسبما تبين في علم الكلام، وإنما مورد البحث هنا باعتبار خطاب العباد تنزلاً لما هو من معهودهم فيه، هذا محل احتمال وتفصيل.

    فيصح في الاعتبار أن يكون واحداً بالمعنى المتقدم، أي: يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما، وذلك أنه يبين بعضه بعضاً، حتى إن كثيراً منهم لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر، أو سورة أخرى؛ ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلاً مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك فبعضه متوقفاً على البعض في الفهم، فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد، فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار.

    ويصح ألا يكون كلاماً واحداً، وهو المعنى الأظهر فيه، فإنه أنزل سوراً مفصولاً بينها معنىً وابتداءً، فقد كانوا يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول: بسم الله الرحمن الرحيم في أول الكلام، وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع وأسباب يُعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للأفهام، وذلك لا إشكال فيه]. #

    ‏1_4 مذهب أهل السنة في كلام الله عز وجل والرد على المنحرفين في ذلك :-

    هنا ملحوظة متعلقة بالاعتقاد، وهو قول المؤلف رحمه الله تعالى: (فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا اعتبار، حسب ما تبين في علم الكلام).

    وهو يقصد بهذا الكلام النفسي، ومعلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة يرد القول بأن كلام الله كلام نفسي واحد؛ لأن معنى ذلك أن هذا القرآن عبارة عن الكلام النفسي، وإنما المذهب الحق: أن نقول: إن هذا القرآن الذي بين أيدينا تكلم الله سبحانه وتعالى به، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في غير ما آية، ونسب هذا إلى نفسه.

    أما على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى فإنه يرى أن القرآن كلام واحد، ولهذا قال بعضهم: إن كلام الله واحد، إن عُبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عُبر عنه بالسريانية فهو إنجيل، وإن عُبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وهذا لا شك أنه ظاهر البطلان، ولا يلزم منه أن يكون كلام الله واحداً لا يتعدد، ولا تتعدد موضوعاته ولا أغراضه، وإنما عين ما أنزل على موسى هو عين ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك أنه خلاف الحق. #

    ‏1_5 النظر الشمولي للقرآن الكريم وفائدته :-

    وما طرحه المؤلف هو كالخاتمة لما سبق، ولكن أفاد هنا فائدة وهي التي ذكرها شيخ الإسلام وغيره في قضية كون القرآن يفسر بعضه بعضاً، لما قال: (وذلك أنه يبين بعضه بعضاً، حتى إن كثيراً منه لا يُفهم معناه حق الفهم، إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى).

    ولو تأملنا هذا فسيدخل فيه ما يسمى بالنسخ، وما يسمى بالعموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين.. إلى آخره، يدخل ضمن هذا الكلام، ولنأخذ مثالاً يوضح ذلك:

    فعندما نأتي إلى قول الله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى:5]، أي: الملائكة، ونفهم من هذا الخطاب استغفار الملائكة للكفار؛ لأن قوله: لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى:5] عام، يشمل جميع أهل الأرض، وإذا جئنا لآية أخرى في سورة الشورى قال سبحانه وتعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، وهذا خاص، فدل على أنهم في هذا الآية يستغفرون للمؤمنين فقط، ولا يستغفرون للكفار.

    فعند حملنا هذه الآية على الآية الأولى تكون قد فسرنا القرآن بعضه ببعض مثلما ذكر، قال: (وذلك أنه يبن بعضه بعضاً حتى إن كثيراً منه لا يُفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضعٍ آخر أو سورة أخرى).

    وهذا الذي هو عدم النظر إلى موضوعات القرآن، وتفصيلاته في موطن، وإجمالاته في موطن، هذا الذي أوقع بعض الفرق في الضلال في باب القدر، أو حتى في باب الحكم مثل الخوارج، فأخذوا جزءاً وغفلوا عن جزء، أو عمموا في موطن لا يحتمل التعميم، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، هذه نزلت في الكفار، فهم يعممونها ويجعلونها أيضاً في عصاة المؤمنين، فيرى الخوارج أن الفساق إذا دخلوا النار لا يخرجون منها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، مع أن آيات أخرى تدل على خروج عصاة المؤمنين من النار، مثل آية الشفاعة وغيرها.

    فإذاً: المقصد من هذا أن هذا الذي ذكره الإمام مهمٌ جداً، وبناءً عليه قال: (فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار)؛ لأنه يفسر بعضه بعضاً. #

    ‏1_6 كلام الله عز وجل بين تعدد موضوعاته ووحدتها :-

    أما الاعتبار الثاني: ألا يكون كلاماً واحداً، قال: (وهو معنى الأباطيل، فإنه أنزل سوراً مفصولاً بينها معنىً وابتداءً)، فكأنه يريد أن يقول: كل سورة لها موضوع مستقل ومفصولة عما قبلها وعما بعدها.

    فبهذا الاعتبار لا يكون كلاماً واحداً، والحق أننا إن نظرنا إليه بتلك الجهة فهو كلام واحد، وإن نظرنا إليه بتلك الجهة فهو كلام متعدد، وليس بينهما تناقض بحيث نقول: هو كلام واحد أو كلام متعدد، فهو كلام واحد من جهة وكلام متعدد من جهة، خلاف بين هذين النظرين، وإنما اختلفت زاوية النظر فاختلف الحكم، فإذاً الجهة بينهما منفكة، ولا يقع الإشكال إلا في ما لو كان النظر واحداً، وإن قلنا بأحد النظرين سقط النظر الآخر.

    أما في مثل هذا المقام فكلا النظرين صحيح ومحتمل.

    1.   

    الأسئلة

    العلاقة بين السورة واسمها

    السؤال: يقول: هل لاسم السورة علاقة بموضوعها؟

    الجواب: نقول: نعم، في الغالب من طرائق البحث عن موضوع السورة البحث في اسمها، خصوصاً إذا كان وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكر الاسم إلا عن حكمة.

    أما من دونه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقد يسمون السورة، ولا يكون هناك حكمة مقصودة بعينها.

    سبب تسمية سورة البقرة بهذا الاسم

    السؤال: ما وجه تسمية سورة البقرة بهذا الاسم؟ رغم أن موضوعها هو الأحكام؟

    الجواب: هو الذي شرحت لك قبل قليل، الحكمة هي تنبيه المؤمنين على ألا يكونوا مثل بني إسرائيل في رد أحكام الله سبحانه وتعالى، وصارت البقرة مثالاً لهذا المعنى، فسميت بهذا الاسم، وقد يكون تذكيراً للمؤمنين بهذا المعنى.

    المقارنة بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم وحال المسلمين في ضوء القرآن

    السؤال: يقول: يقرأ المسلم آيات القتال في الأنفال والتوبة ومحمد والفتح والحجرات، وفيها بيان حال أهل النفاق وقلة المؤمنين، وأهل الكفر وكثرتهم، فإذا قرأ المسلم حال الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة ما لقاه، كما تذكره السورة، وحال المسلمين اليوم، فهل يقبل أن يقارن بينهما ويعلم أن النصر قريب للمؤمنين؟ فهل المقارنة سائغة؟

    الجواب: لا شك أن هذه من المقارنات الصحيحة والسائغة، في أن ما يصيب المسلمين اليوم شيء مشبه لما أصاب من قبلهم، حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الذي يقع من بعض الجماعات الإسلامية وهو أنهم أرادوا أن يطبقوا التاريخ بحذافيره، كما وقع مع النبي صلى الله عليه وسلم على تاريخهم هم، وهذا لا شك أنه غفلة عن الواقع وعن الشرع وعن القدر وعن التاريخ الذي مضى، فهم يظنون ظناً أنهم يجب أن يعملوا بالدعوة السرية مدة من السنين، ثم ينتقلوا إلى الدعوة الجهرية ويجلسوا ثلاث عشرة سنة، ثم يقيموا دولة الخلافة كما يقول بعضهم، ولا شك أن هذا من التنزيل الخاطئ جداً، لكن التنزيل في أيام دون أيام، وفي زمن دون زمن، وفي منطقة دون منطقة، ولا شك أن هذا هو المطلوب، ولهذا أنزل القرآن، وهذا جزء من فقه القرآن ومن تدبره، فهل يشك عاقل اليوم أن السلطة ليست بيد المسلمين اليوم؟ لا أحد يقول بغير هذا، ولا يشك عاقل بأن الكفار وخصوصاً النصارى متسلطون أشد التسلط اليوم على المسلمين في جميع أقطار العالم، لا أحد يشك في هذا، وما نراه اليوم في غزة أو في غيرها أو في العراق أو في غيرها من بلدان المسلمين فظاهر جداً للعيان، وهو أن الإسلام مقصود لذاته، سواء قسموه وسموه إسلاماً متطرفاً أو إسلاماً معتدلاً أياً كان، فهم لا يفرقون، وإنما هذه التقسيمات؛ لكي يأخذوا المسلمين شيئاً فشيئاً ويقتطعونهم شيئاً فشيئاً، ويقسمونهم على قاعدة: (فرق تسد)، وإلا فإن العدو كما قال سبحانه وتعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] سواء سموك معتدلاً، أو سموك صديقاً، أو سموك أياً كان، فإنه في النهاية سيتسلطون عليك.

    فإذاً: يجب أن نعلم أننا في مرحلة ضعف، ولكن لا نقول: نحن في مرحلة ضعف فيجب أن نذهب ونجر تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم بحذافيره ونبدأ نطبقه كتاريخ، لا، وإنما نستفيد منه ونستلهم منه العبر والعظات، وطريقة الفقه في مثل هذا ثم نعد الإسلام مرة أخرى للناس، ونعلم أنه بعد كل مرحلة ضعف إذا أحسن المسلمون التصرف فإن الله سبحانه وتعالى ينصرهم، وهذا ظاهر في تاريخ المسلمين.

    على سبيل المثال ما صنع التتار بالمسلين، وكانت البقية الباقية من المسلمين عصبة قليلة جداً، فلم يبقَ من القوة إلا ما كان في مصر، ثم ظهر قطز ومن معه وانتهى عهد التتار، أي: بدأ يتراجع ويتلاشى.

    كم أخذوا من بلاد المسلمين؟ أخذوا الشيء الكثير، ولكنهم في النهاية تراجعوا بل دخلوا في الإسلام.

    ولهذا من الحكم التي يحسن أن ينتبه إليها أن المسلمين إذا أحسنوا التصرف في مثل هذه الأحداث فإنهم بإذن الله يستطيعون أن يكتسحوا العدو، وعدو اليوم يكون بإذن الله مسلماً إذا أحسن المسلمون التصرف مع الأحداث.

    ولا يعني الضعف ألا نعمل، بل علينا أن نعمل، لكن الإشكالية أننا في حال الضعف نكل أمرنا إلى الله ونستسلم، مثل استسلام الصوفية لما أدخلوا نابليون وجروا له زمام خيله في وسط الأزهر، وكانوا يقولون: هذا قدر الله فسلمنا له.

    وحال كثير منا إن لم يكن مقاله هو نفس هذا الحال، أنه يستسلم ويذعن، ولا يدعو إلى الله ولا يكتب ولا يتحرك، ويقول: الله المستعان، غلب العدو، فقط، وهذا لا شك أنه مشكل.

    تسمية سور القرآن بين التوقيف والاجتهاد

    السؤال: يقول: أسماء السور في القرآن هل وردت كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم أم أن غيره سمى بعضها؟

    الجواب: أحسنت، هذا سؤال تكرر الإجابة عنه، لكن أقول: إن أسماء السور على ثلاث مراتب، وأنا أقصد هذه اللفظة مراتب؛ لأن بعضهم يتكلم هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ أنا لا أرى أن يدخل باب التوقيف والاجتهاد في هذا الباب، وإنما الأولى أن نقول: هي على ثلاث مراتب:

    المرتبة الأولى: ما ثبتت تسميته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    والمرتبة الثانية: ما ثبتت تسميته عن الصحابة رضي الله عنهم.

    والمرتبة الثالثة: ما سمى به من جاء بعد الصحابة إلى وقتنا الحاضر هذا.

    هذه ثلاث مراتب، ننظر أولاً وهي على نفس ترتيبها، المرتبة الأولى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، نقول: إن هذا فيه حكمة، فالبحث في علة التسمية في هذا الموطن بحث صحيح ولا غبار عليه.

    وما ثبت عن الصحابة يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فالبحث في حكمته أيضاً جائز أو حسن.

    أما إذا كان عن غير الصحابة، فإن البحث في علة التسمية ليس بلازم، ولهذا يغلب على التسميات أن تسمى السورة على بدايتها أو حكاية البداية، مثل أن يقال: سورة الزلزلة أو سورة إذا زلزلت، وفي سورة أرأيت، وسورة لم يكن، فيسمونها ببداية اسمها.

    وهذا كثير جداً، فإذاً نقول: إنه يجوز تسمية السور من غير النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى المسلمون منذ قرون، ولكنا حينما نبحث عن الحكم، فإنما نبحث عن الأسماء التي ثبت يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى بها، مثلما يقول: ( اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران )، وهذا من تسمية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يتعلق بأسماء السور.

    تفسير القرآن بالقرآن وما لا يدخل فيه

    السؤال: يقول: ما مثلت به الآن في بيان تفسير القرآن بالقرآن بحمل المطلق على المقيد، ألا يخالف ما ذهبت إليه في بعض مقالاتك؟ أن بعض الأوجه التي يذكرونها في تفسير القرآن بالقرآن لا يدخل في باب التفسير؟

    الجواب: لا، أنا قلت: تقييد المطلق يدخل في باب التفسير، والأخ لعله يرجع إلى المقال، أنا ذاكر أن النسخ الكلي، وتخصيص العام، وتقييد المطلق وبيان المجمل، هذا من صلب التفسير، إنما الذي ذكرته في بعض الأوجه مثلما يذكرونه عن قتادة رحمه الله تعالى لما يقول: خلق الله سبحانه وتعالى النجوم لثلاثة، فمن زعم غيرها فقد كفر، هو يقصد: أنها علامات، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، وأنها زينة، وأنها رجوماً للشياطين.

    فهذا لما نجمع المواطن الثلاث، هل هذا تفسير القرآن بالقرآن؟ هذا ليس من تفسير القرآن بالقرآن، وليس من صلب التفسير، إنما هي فائدة، ويسمى فوائد النجوم مثلاً.

    أو لما يقول: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20]، وقال: ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [الأعراف:107]ومرة قال: تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل:10]، فالاختلاف في هذه المواطن لما نجمعها لا نسميها تفسيراً للقرآن بالقرآن، لأنه لما أردنا أن نحل الإشكال الوارد في هذه الآيات هل حُل بآية أو باجتهاد عقلي؟ نجد أنه حُل باجتهاد عقلي مبني على السياقة، هذا ما يتعلق بما ذكرته في المقالات، نعم.

    تفسير القرآن خلاف تفسير السلف

    السؤال: يقول: يقع بعضهم في تنزيل بعض الألفاظ القرآنية في غير موضعها الذي اتفق عليه السلف الصالح في تفسيرهم، مثل قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، معناه: الخروج في سبيل الله للدعوة، وهذا أفضى إلى سؤال آخر، وهو هل ورد الخروج في القرآن في غير الخروج للجهاد والقتال؟

    الجواب: الشق الثاني يحتاج إلى استقراء مواطن الخروج في القرآن، ويمكن للأخ أن يراجعها، لكن السؤال الأول في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، الاستدلال به على الخروج في سبيل الله لا يصح، وهذا لا تدل عليه اللفظة بحال، فقوله (أخرجت) لا تدل على الخروج من جهة العربية، ولكن إن كان من لوازم ذلك أن كنا خير أمة أخرجت للناس، فإننا نخرج لدعوة غير المسلمين، فهذه قضية ليست مستنبطة من دلالة اللفظ، بل هي مستنبطة من سياقات أخرى، ولكن الكلام هنا أن هذا الاستنباط ليس بدقيق، وأن الخروج يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].

    تفسير قوله تعالى: (فإذا الذي بينك وبينه عداوة ...)

    السؤال: يقول: أشكل عليّ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35]، فما معنى الآية؟

    الجواب: لما قال سبحانه وتعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، فيها إشارة إلى أن مقابلة الإساءة بالإحسان مآلها بإذن الله إلى إحسان من يخاصمك في الغالب.

    فالله سبحانه وتعالى يقول: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، يعني: في مآله فأنك تحيده وينتهي عن عداوتك إن لم يكن صاحباً لك، وكذلك الله سبحانه قال: عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، وهذا فيه إشارة إلى هذا المعنى، وهو في الجهة أنهم قد يؤمنون، ولكن وهم كفار فليس بينكم وبينه مودة، وإن آمنوا فإنه لا شك يكون بينكم وبينه مودة.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756563962