إسلام ويب

شرح منظومة الزمزمي [3]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كثيرة هي الآيات القرآنية التي لا يظهر معناها والمقصود من ورائها إلا بمعرفة أسباب النزول الصريحة الواردة في ذلك. أما علم القراءات فهو إعجاز قرآني آخر يبين مدى اهتمام السلف صحابة ومن بعدهم ببيان أوجه القراءات المختلفة الواردة في ذلك بالأسانيد الصحيحة.

    1.   

    إشكال حول حديث نزول سورة الكوثر

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    هناك حديث مشكل، وهو حديث نزول سورة الكوثر، وهو قول أنس كما في صحيح مسلم : ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا في المسجد، إذ غفا إغفاءةً ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3] )، هذه الرواية المجملة في نزول سورة الكوثر فيها عبارة (غفا إغفاءة) وسبق أن بينا أن للعلماء مذهبين في المراد بالإغفاءة: المذهب الأول أنها حالة من الحالات التي تعتري النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي. والمذهب الثاني أنه نوم، وإذا كان نوماً فوقع عندنا سؤال: أنه لو قيل: بأنه نزل عليه جبريل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين، وإنما قال: ( أنزلت عليّ آنفاً سورة )، ونحن نعلم أن الذي ينزل بالقرآن هو جبريل عليه السلام، فقوله: ( أنزلت عليّ آنفاً ) لا يحتاج أن يقول: أنزل عليّ جبريل؛ لأن هذا هو الأصل، فمعنى ذلك: أن جبريل آتاه بالمنام، والمنام نوع من أنواع الوحي، ولو ثبت نزول هذه السورة بالمنام كما ذكرت لكم، فإنه لا يؤثر على نقل القرآن، وليس فيه أي أثر علمي فاسد.

    وبناءً عليه فإنه لا يشكل على نقل القرآن؛ لأن الصحابة قد تلقوا هذه السورة، وقرءوا بها على أنها من القرآن.

    1.   

    أسباب النزول

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [ العاشر: أسباب النزول.

    وصنف الأئمة الأسفارا فيه فيمم نحوها استفسارا

    ما فيه يروى عن صحابي رفع وإن بغير سند فمنقطع

    أو تابعي فمرسل وصحت أشيا كما لإفكهم من قصة

    والسعي والحجاب من آيات خلف المقام الأمر بالصلاة]

    أسباب النزول وهو النوع العاشر في الأمر الأول وهو ما يتعلق بالنزول.

    المصنفات في أسباب النزول

    يقول الناظم: (وصنف الأئمة الأسفار فيه)، أي: في أسباب النزول، وقد ذكر السيوطي في إتمام الدراية كتابين: الكتاب الأول هو كتاب الواحدي أسباب النزول، وهو أشهر كتب أسباب النزول، والكتاب محقق في عدة طبعات، وذكر الكتاب الثاني: وهو لـابن حجر رحمه الله تعالى، وقال عنه: أنه في غاية النفاسة وهذا صحيح، وقد طبع جزء منه، والكتاب لم يكتمل، وفيه خلاف هل أكمله ابن حجر أو لم يكمله؟ يعني: هل أكمله مسوداً ولم يبيضه؟ خلاف لا يؤثر عندنا؛ لأن الموجود منه الآن هو قطعة، ثم كتب بعد ذلك السيوطي لباب النقول، واستفاد مما كتبه ابن حجر العسقلاني .

    والكتابة في أسباب النزول كثيرة جداً، والكتب المطولات وخصوصاً الكتب التي تعتني بالإسناد يوجد فيها قطعة كبيرة جداً من أسباب النزول، ومن كتابات المعاصرين: كتاب الشيخ الدكتور خالد المزيني ، أستاذ التفسير في جامعة القصيم، واسم كتابه المحرر في أسباب النزول من خلال الكتب التسعة، وهو كتاب نفيس، وفيه مقدمة نفيسة حرر فيها أشياء تتعلق بأسباب النزول يحسن الرجوع إلى هذا الكتاب والاستفادة منه.

    قال: (فيمم نحوها استفساراً)، كأنه يقول: إن أردت معرفة أساب النزول فارجع إلى هذه الكتب.

    رواية الصحابة لأسباب النزول

    ثم قال: (ما فيه يروى عن صحابي رفع)، يعني: ما في أسباب النزول مما يروى عن الصحابي فحكمه الرفع، يعني: هذا النوع الأول: ما يروى عن الصحابي، هل يتصور رواية سبب النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! من خلال النظر في الآثار لا يوجد سبب النزول مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا القاعدة: أن أسباب النزول لها حكم الرفع، مثل ما ذكر هنا قال: (ما فيه يروى عن صحابي رفع).

    ويقول السيوطي في النقاية: وما روي عن صحابي فمرفوع، ومعنى ذلك: أن أسباب النزول الصريحة إذا ثبتت عن الصحابي فإن لها حكم الرفع، أما أسباب النزول غير الصريحة فإنه لا يلزم فيها أن تكون من ما هو له حكم الرفع؛ لأنها قد تكون قيلت بالاجتهاد، وسنأتي إن شاء الله إلى تحرير هذه، لكن الآن الكلام عن أساب النزول الصريحة.

    قال: (وإن بغير سند فمنقطع)، كأنه يقول: فإن كان بلا سند كما هو عبارة السيوطي فمنقطع، بمعنى أنه إذا قيل: (روي) يكون مثل المعلقات، فإذا قيل: روي عن ابن عباس في سبب نزول آية كذا كذا، فهذا انقطاع.

    رواية التابعي لأسباب النزول

    ثم قال: (أو تابعي فمرسل)، بمعنى أنه: إذا روى التابعي سبب النزول دون أن يذكر الصحابي فهو مرسل؛ لأنه يحكي حدثاً حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير شاهد له، فدل على وجود واسطة وهو الصحابي.

    فإذاً حكم أسباب النزول التي يرويها التابعون، يروونها مباشرةً أن يقول التابعي مثل مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في كذا، أو أن يقول: كان كذا فأنزل الله كذا، هذا له حكم المرسل؛ لسقوط الواسطة بين الصحابي وبين زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

    القرائن المتعلقة بأسباب النزول

    نرجع الآن إلى ما يتعلق بأسباب النزول نقرر بعض المسائل المهمة، مثلاً هو يقول: إذا كان عن الصحابي فمرفوع، المشكلة عندنا أن هذا هو سبب النزول، فما هي القرائن التي نحكم بها فنقول: هذا سبب نزول ونحكم بقرائن أخرى فنقول: هذا ليس سبب نزول؟

    من أول القرائن هي عبارة النزول، ومن أفضل من فصل فيها هو شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته، فأشار: إلى أنه إذا قال الصحابي: كان كذا وكذا، فأنزل الله أو فنزلت، فهذه على أنها سبب نزول مباشرة، بمعنى: أن قولهم: (كان كذا وكذا فأنزل الله أو فنزلت)، هي من أقوى القرائن على إرادة السببية، أما إذا قال الصحابي: نزلت هذه الآية في فلان أو نزلت هذه الآية في كذا، فهذا يحتمل أن يكون من باب الاجتهاد. وهذا هو الغالب على هاتين الصيغتين.

    إذاً جاءت فاء التعقيب: (فأنزل الله) فالغالب عليها أنها في أسباب النزول الصريحة، وإذا جاءت عبارة (نزلت في كذا) سواء كان شخصاً أو قضية، فالغالب أنها من باب التفسير، لكننا مع ذلك قد تأتي عبارات (نزلت في كذا) ويراد بها سبب النزول، وهذا التفصيل موجود اختصاراً في شرح مقدمة شيخ الإسلام .

    فإذاً الآن عندنا القرينة الكبرى فيما يتعلق بأسباب النزول، لكن ليس حكماً قاطعاً أن عبارة: (فأنزل الله) أنها سبب نزول مباشر، ولا أيضاً حكم قاطع أنها نزلت هي من باب التفسير، لكن نقول: الغالب على تلك الصيغة السببية، والغالب على ذلك تلك الصيغة التفسير.

    كيفية التعامل مع المرسلات في أسباب النزول

    عندنا قضية أخرى في أسباب النزول: وهي أنه لما ذكر قول التابعي وأنه مرسل، قال: فإن كان بلا سند فمنقطع، وإن كان رواه تابعي فمرسل، كيف نتعامل مع هذه المرسلات في أسباب النزول؟

    إذا جاءنا سبب نزول عن أحد التابعين وهو صريح، كأن يقول: كان كذا فأنزل الله، فهل الأصل قبوله أو التوقف فيه؟ الأصل التوقف؛ لأن حكم المرسل أنه من الضعيف، لكن لو أجرينا عملية التفسير في آية من الآيات، وظهر لنا أن ما ذكره التابعي يدخل في معنى الآية، فيجوز لنا أن نعتبره من قبيل التفسير أو لا يجوز؟ يجوز، بمعنى أن لا نغفل أسباب النزول؛ لأن القاعدة الكلية أن أسباب النزول أمثلة للفظ العام الذي نزلت به الآية، هذا هو الأصل، بمعنى أن أسباب النزول أمثلة للفظ العام الذي نزلت به الآية، وما دام أصلاً، فمعنى ذلك: أنه قد يكون عندنا بعض الأمثلة لا تدخل ضمن هذا الأصل؛ لأن سيكون هنا ما يخالف الأصل، لكن أغلب أسباب النزول هي أمثلة للعمومات الواردة في الآية، فإذا أخذنا أن أسباب النزول أمثلة، فلن يشكل عندنا من جهة التفسير أمر سبب النزول؛ لأننا سننظر هل المعنى الوارد في السبب يدخل ضمن معنى الآية أو لا يدخل؟

    النظر الثاني: فيما لو أردنا أن نحرر هل هذا هو سبب النزول الصريح أو لا؟ هذه قضية أخرى، يعني: يجب أن نفرق في المقام في دراسة هذا الأثر، في الأول لا يعنينا كون هذا الأثر هو سبب نزول صريح أو ليس بصريح، صح أم لم يصح؛ لأننا ننظر إلى المعنى وصحة دخوله في الآية، لكن لو كنا نريد أن نحرر في السبب المباشر الذي عندنا خلاف فيه، وما المراد به، فهنا يأتي تحرير الإسناد في هذا المقام.

    من جانب آخر في أسباب النزول هناك أمر يغفل عنه بعض من تعرض لأسباب النزول؛ لأنه أدخل مسائل علم في علم آخر، عندما قلنا: لو جاءنا سبب نزول مرسل، ولكن وجدنا أنه يدخل في معنى الآية، فنحن ندخله من باب التفسير، وليس من باب السببية الصريحة.

    وفي هذا المقام نقول: أسباب النزول هل الجانب فيها جانب معنى أو جانب تاريخ، يعني: هي حكاية معاني أو حكاية تاريخ؟ هي حكاية تاريخ؛ مثلاً سبب نزول آية الإفك هي فيها جانب تاريخ أو ما فيها جانب تاريخي؟ فيها أسماء أشخاص وفيها واقعة، وفيها أيضاً: المدة التي بقيت فيها عائشة رضي الله عنها في هذا الحادث وهي لا تعلمه.

    إذاً القضية مرتبطة بقصة، فإذاً عندنا هذا الجانب وذاك.

    التحرير في سبب النزول وفائدته

    التحرير في أسباب النزول في هذا المجال: هو بحث تاريخي محض، وربط قصة سبب النزول بالآية هذا عمل تفسيري، بمعنى: أنه يجب أن نفرق بين المهمتين. ماذا يفيدنا هذا؟ هذا يفيدنا في ما لو وقع خلاف بين المفسرين فيمن نزلت فيه الآية، إذا كان من نزلت فيه الآية يؤثر على معنى الآية، فنحن سنحرر السبب لكي يتبين لنا المعنى، وإذا كان الذي نزلت فيه الآية لا يؤثر على المعنى، فبالنسبة للتفسير لا يؤثر عندنا: هي نزلت في فلان أو نزلت في فلان، مثل: آية اللعان، قيل: نزلت في هلال ، يعني: أن صاحب القصة هلال بن أمية ، وقيل: عويمر العجلاني ، في خلاف بين العلماء فيمن نزلت فيه، يعني: من هو صاحب القصة الذي وقع له اللعان، وتحرير الخلاف فيها هل يؤثر في فهم المعنى؟ لا يؤثر، فإذاً هذا من البحث التاريخي، وليس من البحث التفسيري.

    إذا تأملنا هذا الأمر فإنه سيخف عندنا شيء كبير جداً مما يتعلق بأسباب النزول، في أن النظر عندنا سيتجه إلى قضية النظر التفسيري أكثر من النظر التاريخي، وسيفيدنا في أمثله كثيرة جداً، منها: أن بعض الصحابة أو التابعين يحكي نزول الآيات المتقدمة في أحداث متأخرة، فلو أردت أن تحرر من جهة التاريخ ستقول أن هذا الحدث لا علاقة له بالآية؛ لأن الآية نزلت قبله بوقت طويل، فهذا نظر تاريخي، لكن النظر التفسيري أن تقول: هل ما في هذا الحدث يدخل في معنى الآية أو لا يدخل؟

    مثال ذلك: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ [الأنفال:71]، قيل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح ، لكن الآية في غزوة بدر، وحال عبد الله بن أبي السرح إنما كان بعده متأخر، فمعنى ذلك: أن الآية متقدمة على الحدث، فلا يمكن أن يكون عبد الله بن أبي السرح هو سبب نزول الآية، فلو كنا نحرر من هذه الجهة لقلنا من قال: إن سبب نزول الآية، إذا كان يريد سبب نزول مباشر، إنه قد أخطأ؛ لأننا في بحث تاريخي لا بد من ربط الآية بالحدث، لكن قلنا: أن من قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي السرح أراد أن يضرب مثالاً لمن خان الله سبحانه وتعالى ورسوله فأمكن الله منه، يدخل عبد الله بن أبي سرح أو ما يدخل؟ يدخل.

    فإذاً يجب أن يكون عندنا تفريق بين البحث التاريخي والعمل التفسيري، فمهمتنا هي العمل التفسيري أكثر من البحث التاريخي، فلا نحتاج للبحث التاريخي إلا في حدود ضيقة جداً، ولهذا ضل قوم وانحرفوا من المعاصرين ممن درس أسباب النزول بأساليب ومناهج غير مناهجنا، فجاء مثلاً: إلى حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزلت عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، كما روى أبو هريرة و ابن عباس : أنه صعد الصفا، وقال: (واصباحاه)، الحديث، فادعى كذب هذين العلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهما لم يحضرا هذه الحادثة، وهذا لا شك أنه إما جهل وإما تجاهل؛ لأن أبا هريرة و ابن عباس ما قالا: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبرا عن الحدث كأي مخبر آخر.

    فإذاً لما ينقل مثل هذه عن صحابي من الصحابة في حدث هو لم يحضره، فإنه بالنسبة لنا عندنا مقبول؛ لأنه لم يدعِ حضوره وإنما هو يرويه، فنجزم يقيناً أن ابن عباس و أبا هريرة نقلاً هذا الأثر ولم يشهداه؛ لأن أبا هريرة إنما أسلم في المدينة و ابن عباس ما ولد إلا بعد هذا الحدث بفترة، فأيضاً لا يقع تلبيس من هذه الجهة.

    كذلك إذا ورد عندنا أيضاً في التفسير أسباب نزول عن تابعين وليست موجودة عن صحابة، يعني: إذا ورد عن أكثر من تابعي، فأقل الأحوال في هذا: أن هذه المرسلات تدل على أصل القصة، بحيث أن نقول: إن تكاثر هذه المرسلات يشير إلى أن هذه القصة لها ارتباط بهذه الآية، وأنها سبب نزول لها، هذا أقل الأحول، كما قلنا سابقاً: نحن ننظر إلى العمل التفسيري، فإذا كانت هذه الأقوال المرسلة التي اتفقت على حدث عام تدخل في معنى الآية، فلا إشكال في تفسير الآية بها.

    ذكر بعض أسباب النزول الصحيحة

    يقول بعد ذلك: (وصحت أشياء كما)، يعني: صحت في أسباب النزول مجموعة من الأسباب، وذكر لها أمثلة مثل: قصة الإفك، والسعي: حيث أن الأنصار كانت لا تسعى بين الصفا والمروة، يعني: لا تطوف بينهما تحرجاً، وكذلك آية الحجاب، وكذلك الصلاة خلف المقام كما هو ثابت عن عمر بن الخطاب ، فمعنى ذلك: أنه صحت مجموعة من أسباب النزول وهي كثيرة، فهذا مما يجب أن ينتبه له أن ما صح من أسباب النزول كثير وليس قليلاً.

    بعض الانحرافات الجديدة فيما يخص أسباب النزول

    هناك قضايا مهمة جداً خصوصاً في هذا العصر حيث وجدت انحرافات في علوم القرآن، وبعض هذه الانحرافات مع الأسف تصدر من أناس من أهل الصلاح، ليسوا من أهل الانحراف التام، وقد شاهدت مؤخراً مناظرة بين أحد الدكاترة المتخصصين في الدارسات القرآنية، ورجل آخر لا أعرف ما هو تخصصه، فكان يقول: أي سبب نزول لم يصرح به القرآن فأنا لا أقبله! وهذا طبعاً لا شك أنه من الغرائب، وله كتاب في أسباب النزول، وضمنه مثل هذه الأفكار.

    فعندنا الآن أفكار بدأت تظهر فيها انحرافات، فنحتاج الحقيقة إلى أن يكون عندنا مع هذا التأصيل أيضاً تنبه إلى كيف نعرف أخطاء هؤلاء القوم؛ كما قال شيخ الإسلام في المقدمة: العلم بالحق هذه مرتبة، والعلم بضد الحق الذي هو الباطل مرتبة، والاستدلال للحق مرتبة، وإبطال الباطل بأدلته مرتبة، بمعنى: أنه لا بد يكون عندنا جميع هذه المراتب.

    أثر أسباب النزول في التفسير

    الآن أسباب النزول بناءً على ما سبق لها أثر في التفسير أو ليس لها أثر؟

    نعم. أسباب النزول الأصل فيها أن لها أثراً في التفسير، وهذا هو الغالب، فمثلاً: لما نأت إلى قول الله سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، ما المراد بالبيوت هنا؟ معمر بن المثنى من كبار علماء اللغة لما جاء يفسر: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، قال: اطرقوا العلم من بابي ولا تسألوا الجهال، يعني: كأنه جعلها معنىً مجازي؛ لئن يسأل العالم ولا يُسأل الجاهل، ولو لم يكن عندنا سبب النزول، فاحتمال أن يكون هذا المعنى الذي ذكره صحيحاً؛ لأنه جاء بعد قول سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، لكن إذا رجعنا إلى ما ثبت عن الصحابة والتابعين مع اختلافهم في سبب النزول: أن البيوت هنا: هي البيوت المسكونة، يعني: أسباب النزول وإن اختلفت فيما بينهم، إلا أنهم جعلوا البيوت البيوت المسكونة، فيتحدد عندنا الآن مدلول البيوت. إذاً له أثر في فهم المعنى، هذا هو الأصل والغالب.

    لكن بعض الآيات التي نزلت على أسباب قد تكون معلومة المعنى من دون السبب لا يؤثر فيها السبب، لكنها لا تكسر هذه القاعدة أو هذا الأصل، مثلاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، لو تأملت الآيات في ظاهرها ستصل إلى المعنى بدون أي عناء، ولا تحتاج فيه لسبب النزول، ولو لم تعلم أنها نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة وما حصل منه لما أراد أن يخبر قريش بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح، فإنه لا يؤثر على فهمك للمعنى، فالآيات واضحة بدون أن يكون السبب مصاحباً لها، لكن لا شك أن وجود السبب يقوي صحة هذا المعنى.

    فإذاً ينتبه هل سبب النزول بالفعل إذا فقدناه في الآية أشكل علينا المعنى، أو أننا لو لم نكن نعلم به فإن المعنى معلوم؟ الأول: هو الذي تكلم عنه العلماء لما قال مثل ابن دقيق العيد : إن معرفة سبب نزول طريق قوي لمعرفة معنى الآية، وكذلك شيخ الإسلام أشار إلى هذا المعنى، فنقول: هذا في الغالب من أسباب النزول، لكن قد ترد بعض الآيات لها أسباب نزول، وتكون معلومة المعنى، وإن جهل السبب.

    1.   

    ذكر أول ما نزل من القرآن

    قال رحمه الله تعالى:

    [ الحادي عشر: أول ما نزل.

    اقرأ على الأصح فالمدثر أوله والعكس قوم يكثر

    أوله التطفيف ثم البقرة وقيل بالعكس بدار الهجرة ].

    الاختلاف في أول ما نزل من القرآن

    هذا النوع أول ما نزل، وهو النوع الحادي عشر يقول فيه:

    اقرأ على الأصح فالمدثر أوله والعكس قوم يكثر

    يعني: عكس قوم فجعلوا المدثر أول، والحقيقة الذي عكس ليس قوماً، إنما الذي عكس لم يذكر عن غير واحد من الصحابة، والحديث في الصحيحين يقول أبو سلمة بن عبد الرحمن : ( سألت جابر بن عبد الله الأنصاري : أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ [المدثر:1]، قلت: أو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، قال: أحدثكم بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء، قال: فإذا هو، يعني: جبريل، قال: فأخذتني رجفة فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ [المدثر:1] ).

    وهناك رواية أخرى في الصحيحين أيضاً قال: (فرفعت رأسي)، يعني: لما سمع صوت: (فإذا الملك الذي أتاني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت فقلت: زملوني زملوني)، الحديث.

    إذا تأملنا الحديث وأردنا أن نستنبط منه الإشكالية التي وقعت عند جابر بن عبد الله ، سنأخذ هذه الاحتمالات، الآن جابر بن عبد الله هل يثبت نزول الملك قبل المدثر أو ما يثبته؟ يثبته؛ لأنه قال: ( فرفعت رأسي فإذا الملك الذي أتاني بحراء )، فإذاً هو يثبت نزول الملك بحراء، لكن لما أثبت نزول الملك بحراء، هل أثبت نزوله بقرآن أو بدون قرآن؟ بناءً على رأي جابر أنه نزل بدون قرآن.

    وكونه الآن نزل بدون قرآن فيحتمل عندنا أحد احتمالين: إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل حدث جابراً هكذا، فاختصر النبي صلى الله عليه وسلم الرواية، يعني: لم يذكر نزول اقرأ، وإنما ذكر نزول المدثر، فظن جابر أن هذا هو أول ما نزل، والاحتمال الثاني: أن يكون جابر أيضاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قد شرع في الحديث، فلم يسمع منه أول الكلام واستمع منه بقية الكلام، هذا احتمال آخر؛ لأن النص واضح فيه: أن جابراً يثبت نزول الملك في حراء قبل نزول آية المدثر، وهذا هو منطوق كلام جابر .

    فإذاً إذا نظرنا إلى منطوق كلام جابر فإنه سيدلنا على أن جابراً لم يسمع من النبي عليه الصلاة والسلام ماذا نزل مع الملك في حراء، فإذاً وقع عنده شبهة أو ما وقع؟ وقع عنده شبهة، وانفرد بهذا الرأي. ومن روي عنه من الصحابة ومن جاء بعده من التابعين، من روي عنه أول ما نزل، فإنهم قد اتفقوا على أن أول ما نزل هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وهو ثابت في الصحيحين عن عائشة وعن غيرها.

    فإذاً نقول إن جابراً -وهذا هو الصواب- يثبت نزول الملك في حراء، ولكنه لا يعلم أنه نزل بقرآن من خلال الرواية، وأول ما سمع من الآيات التي نزلت مع الملك هي: يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ [المدثر:1]، فظن أنها هي أول ما نزل على الإطلاق.

    وبعض العلماء لما جاء إلى هذا الأثر اجتهد في أن يخرج الأثر ظناً منه أن جابر يقول: بأن (اقرأ) هي أول ما نزل، مع أن نص جابر صريح جداً بأن (اقرأ) ليست هي أول ما نزل، وسؤال أبي عبد الرحمن صريح عن أول ما نزل؟ يعني: ما الذي نزل قبل؟ قال: المدثر، فذكر له: أو اقرأ؟ فقال: أنا أحدثكم ما حدثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يريد أن يرد عليه أنها ليست اقرأ، فبعض العلماء قال: إن جابراً أراد أن ينبه على أن أول ما نزل على الإطلاق هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، وأن (يا أيها المدثر) نزلت بالرسالة، يعني: اقرأ بالنبوة والمدثر بالرسالة، وهذا تخريج جيد لو كان جابر يثبت نزول اقرأ قبل المدثر، لكن جابراً ينفي أن تكون اقرأ نزلت قبل المدثر.

    فإذاً نحن لا نحتاج لهذا التكلفات في أن نجعل جابراً يرى أن اقرأ نزلت قبل المدثر، بل نقول: أن جابراً مذهبه أن اقرأ نزلت بعد المدثر، وأنه وقع عنده شبهة، وسببها هو أحد الأمرين الذي قلنا: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثه اختصر صلى الله عليه وسلم فلم يذكر له نزول الملك بقرآن، أو أن جابراً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث فلم يدرك من الحديث إلا ما سمعه، فظن أن هذا هو أول الحديث فذكره كما سمعه.

    الأثر المترتب على الخلاف في أول ما نزل

    ثم بعد ذلك -وهذه أيضاً من الفوائد التي ينتبه لها-: وقوع هذا الخلاف في أول ما نزل، هل له أثر علمي؟ يعني: هل له ما يشكل علينا نحن المسلمين في نقل القرآن أو في تاريخ القرآن؟ هل يؤثر على شيء؟ ما يؤثر، يعني: كونه ينفرد واحد من الصحابة برأي في مثل هذه المسألة لا يؤثر، فما يأتينا أحد ويشغب على هذا، وأن المسلمين لا يعرفون تاريخ كتابهم، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فكيف جابر بن عبد الله من كبار علماء وفقهاء الصحابة وقد خالف غيره، هذا لا يؤثر، هذه مسألة علمية ليس لها أثر إطلاقاً، فلا يشوش علينا بمثل هذه الأمور؛ لأنها لا تؤثر لا من قريب ولا من بعيد على صحة نقل القرآن، وهي مسألة علمية بحتة، يعني: تناقش كما نناقشها الآن، وينتهي الأمر في أن قول جابر رضي الله عنه ليس هو الصواب، وأن الصواب هو مع قول الجماعة، وهو اتفاق منهم على أن أول ما نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].

    أول ما نزل على التقييد

    قوله: (أوله التطفيف ثم البقرة، وقيل بالعكس) المذكورات هذه أول ما نزل، وهي أوليات مقيدة، يعني: حديثنا سابقاً عن الأولية المطلقة، يعني: ما أول ما نزل على الإطلاق؟ هذه المسألة الأولى، وما ذكر أن أول ما نزل آية المطففين أو سورة البقرة، فهذه أولية مقيدة، يعني: أول ما نزل في المدينة، هذه أولية مقيدة، فالأولية إذاً عندنا نوعان: أولية مطلقة، وأولية مقيدة، ولم يقل: أول ما نزل قوله سبحانه وتعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [النحل:67]، فنعلم أن مراده أول ما نزل مقيداً، أي: في الخمر، فنقل: أول ما نزل سورة البقرة، أي: في المدينة، وآخر يقول: أول ما نزل سورة المطففين، أي: في المدينة، على خلاف بينهم، وهذا نسميه أولية مقيدة.

    فإذاً عندنا أولية مطلقة وأولية مقيدة، فالحديث هنا عن الأوليات المقيدة، ولهذا قال ابن عباس : أول ما نزل بالمدينة: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1]، ثم البقرة.

    وهناك طبعاً من يخالفه في هذا المذهب.

    أثر معرفة الأولية المطلقة والمقيدة لأول ما نزل في فهم المعنى

    وهنا سؤال: هل معرفتنا للأولية المقيدة أو الأولية المطلقة يؤثر في فهم المعنى؟ لا يؤثر، يعني: هو من علوم القرآن، لكن الأولية المقيدة في بعض فيما يتعلق بالأحكام لها أثر في بيان الأحكام أو ليس لها أثر؟ لها أثر، يعني: الأولية مرتبطة بقضية تاريخية، ما الذي نزل أول ثم ما الذي نزل بعده؟ والأولية هذه نستفيدها فيما يتعلق بالأحكام، فمثلاً لما نأت للخمر إذا عرفنا أن أول ما نزل: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [النحل:67]، فنجعل هذه أول مرتبة من مراتب تحريم الخمر، ثم بدأت الأحكام تتدرج وتنزل شيئاً بعد شيء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، ثم تأتينا الآية التي بعدها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، حتى تأتينا الآية الآخرة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ [المائدة:90]، فهذا إذاً أفادنا في قضية ترتيب هذا الحكم، فالأولية أفادتنا هنا، لكن ونحن نرتب هذا الحكم في الأولية لم تؤثر على المعاني، وإنما أثرت على الأحكام، وسبق أن نبهنا أنه يجب أن نفرق بين بيان المعاني ومسائل الأحكام، أما بيان الحكم من حيث هو حكم كما قلنا من التفسير، لكن ترتيب هذه الأحكام لا يؤثر على المعنى.

    فإذاً هذا أيضاً ينظر فيه، وهو التفريق بين ما له أثر في المعنى، وله أثر في الأحكام، وهو في النهاية سيكون من علوم القرآن وليس من علوم التفسير.

    1.   

    آخر ما نزل من القرآن

    قال رحمه الله تعالى:

    [ الثاني عشر: آخر ما نزل.

    وآية الكلالة الأخيرة قيل الربا أيضاً وقيل غيره ].

    خلاف العلماء في آخر ما نزل من الآيات والسور

    آخر ما نزل مقابل أول ما نزل، إذا كان هناك اتفاق على الأولية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فإننا لا نجد اتفاقاً على الآخرية، لا من حيث السور ولا من حيث الآيات، يعني: الآخرية من حيث السور مختلف فيها، والآخرية من حيث الآيات مختلف فيها، هذه الآخرية المطلقة. والآخرية النسبية موجودة، يعني: مقابل الأولية النسبية، فهنا خلاف أيضاً بين العلماء في آخر ما نزل، وقد ذكر في التحبير الأقوال واستوعبها، وأيضاً استوعبها في كتابه الكبير: الإتقان في آخر ما نزل، ومن أحسن من كتب من المعاصرين في أول ما نزل وآخر ما نزل هو: الزرقاني في كتاب مناهل العرفان، فهو من أحسن من كتب ورتب هذه المسألة.

    القول الأول: آية الكلالة. وهذا رواه الشيخان عن البراء بن عازب ، وكان آخر ما نزل، أي: من سورة النساء، من الكلالة ذكرت في أول سورة النساء، وذكرت في آخر سورة النساء، فكان يقول: آخر آية نزلت في النساء هي آية الكلالة، فكأنها آخرية نسبية، وليست آخرية مطلقة.

    القول الآخر: آية الربا، وآية الربا وقع فيما بعدها خلاف في: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ [البقرة:281]، بعضهم قال: إن آية الربا وما بعدها: هي آخر ما نزل، فكل واحد من الصحابة أو من التابعين ممن رووا عن الصحابة، حكى جزءاً من هذا المقطع، لكن إذا تأملنا سنجد أن المقطع بتمامه كأنه مقطع كامل نزل كآخر ما نزل، هل هو آخر ما نزل من سورة البقرة؟ محتمل، أو آخر ما نزل من القرآن مطلقاً؟ أيضاً محتمل.

    والآخرية فيها خلاف شديد جداً بين العلماء، قيل: آخر ما نزل من السور سورة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، وقيل: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعش بعدها إلا قرابة ثلاثة وثمانين يوماً، وقيل: أن آخر آية هي آية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ [البقرة:281].

    أثر الاختلاف في آخر ما نزل من القرآن

    وقيل: آخر ما نزلت سورة براءة، وإذا تأملنا هذه الخلافات في آخر ما نزل، سنرجع مرة أخرى إلى القضية الأولى: هل لمعرفة آخر ما نزل أثر في فهم المعاني؟ إذاً هذه تدخل في علوم القرآن.

    والآخرية المطلقة فيها خلاف شديد، وعندنا آخريات نسبية، وهي تدل على تمام عناية العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم بضبط مسائل القرآن وتاريخه، ولاحظوا: قد يأتي مستشرق يطعن في القرآن، ويجعلها محمدة، ويقول: انظر إلى عناية المسلمين بكتابهم، وتحريهم في آخر ما نزل، وبعضهم يقول كذا وبعضهم يقول كذا، فيجعلها جانباً إيجابياً، يأتي ويطعن في هذا الجانب يقول: انظر كيف اختلفوا في آخر ما نزل، وأنهم لا يضبطون كتابهم، فمن جانب يراها عناية، ومن جانب آخر يعتبرها سلبية، وهذه لا شك عين ظالمة في النظر.

    ومن تأمل عمل العلماء مع القرآن والنظر في أحواله وتاريخه ونصوصه، يقطع يقيناً إذا كان متجرداً بأن هؤلاء كان لهم العناية التامة، وإن وقع بينهم اختلاف فالاختلاف طبيعي، فليس هناك نصوص قاطعة بأن نقول: والله هذا النص قاطع، لكن مثلاً: في حديث أول ما نزل عندنا نصوص واضحة جداً وقاطعة فنقول: أول ما نزل سورة اقرأ، وأن ما قاله جابر رضي الله عنه خطأ، فهذا واضح وبين، لكن في غيرها نجد المسألة فيها نوع من الاختلافات بين الصحابة رضي الله عنهم.

    إذاً إذا أردنا أن نقول: المفترض أن يحمل على أنه جانب حسن ومحمدة في عناية العلماء وضبطهم حتى لمثل هذه المسائل الدقيقة التي لا تؤثر فهم المعنى.

    1.   

    التواتر في القراءات

    قال رحمه الله تعالى:

    [ العقد الثاني: ما يرجع إلى السند، وهي ستة أنواع:

    النوع الأول، والثاني، والثالث: المتواتر، والآحاد، والشاذ.

    والسبعة القراء ما قد نقلوا فمتواتر وليس يعمل

    بغيره في الحكم ما لم يجر مجرى التفاسير وإلا فادر

    قولين إن عارضه المرفوع قدمه ذا القول هو المسموع ].

    يقول: النوع الثاني وسماه هنا العقد الثاني: ما يرجع إلى السند، قال: المتواتر والآحاد والشاذ، وسيكمل أيضاً المشهور إلى آخره.

    تأثر بعض مفردات علوم القرآن بعلم مصطلح الحديث

    هنا سؤال: بأي العلوم تأثر البلقيني الذي هو صاحب الأصل ثم تبعه السيوطي في هذا المتن وفي التحبير، ونظم بناءً عليه الزمزمي رحم الله الجميع، بأي العلوم تأثر من كتب هذا العنوان ومن قسم هذا التقسيم؟ تأثر بعلم مصطلح الحديث، يعني: هذا أثر من آثار علم مصطلح الحديث، وسببه أن من كتب في علوم القرآن، أراد أن يكتب كتاباً نظيراً لمصطلح الحديث عند المحدثين، فكأن ما ذكره وهو هنا مقابل لمصطلح الحديث عند المحدثين، فتأثر بمصطلح الحديث في تعبيره عن هذه القراءات كما سيأتي.

    قوله: (والسبعة القراء ما قد نقلوا فمتواتر)، كأنه يقول: القراءات السبع متواترة، والقراء السبعة هم: نافع ، و ابن كثير و أبو عمرو ، و ابن عامر ، و عاصم ، و حمزة و الكسائي .

    العمل بالقراءات السبع وغيرها

    بعد ذلك قال:

    (وليس يعمل بغيره في الحكم ما لم يجرِ مجرى التفاسيرِ).

    ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أنه لا يعمل بما هو خارج السبعة في الأحكام إلا إذا كان من قبيل التفسير فيعمل به، يعني: كأنه إذا زاد معنى لا يقبله إلا إذا كان من قبيل التفسير، وإلا قال: (فادر) قولين، و السيوطي رحمه الله تعالى ذكر فيما يتعلق بما روي عن السبعة، إلا ما كان من قبيل الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف الهمز، قال: فإنه ليس بمتواتر، وإنما التواتر في جوهر اللفظ، أما في الأداء فإنه ليس بمتواتر، وهذا ما قاله ابن الحاجب قال: ورد بأنه يلزم تواتر اللفظ تواتر هيئته، ثم ذكر تعليق ابن الجزري في أنه ليس لـابن الحاجب سلف في هذا المذهب.

    علاقة القياس بالخلاف في القراءات والأداء

    الآن إذا جئنا إلى هذا الأمر: وهو قضية الخلاف في القراءات وفي الأداء، هل للقياس مدخل في القراءة أو لا؟ يعني: وما لقياس في القراءة مدخل، لكن إذا رجعت إلى كتاب أبي عمرو الداني جامع البيان أو إلى كتاب النشر في القراءات العشر لـابن الجزري وجدت القياس كثيراً عندهم، يقول: وهذا قياس وهذا قياس وهذا قياس، وهذا يحتاج إلى باحث من أصحاب الدراية في علم القراءات أن يبين ما الذي يصح القياس فيه، ومن الذي لا يصح فيها شيء، فليس صحيحاً أنه لا يجوز القياس بإطلاق، لماذا نقول هذا؟ لأننا سنأتي إلى أن تواتر الأداء لا إشكال فيه، لكن تواتر الأداء يكفينا فيه تواتره أصله، وليس تواتره في كل لفظ، ولكي نفهم المسألة: هل المد متواتر كأصل في الأداء أو غير متواتر؟

    خذوا المد المتصل كمثال هل هو متواتر عند القراء أو غير متواتر كأصل؟

    متواتر، لماذا؟ لأنه لا يوجد قارئ من القراء السبعة كما قال الجزري ، ولا حتى في العشرة ولا حتى في الشواذ، من جعل المد المتصل كالمد الطبيعي، إنما يمد مداً أعلى من المد الطبيعي، وبالمراتب المعروفة. فإذاً الأصل في المد المتصل عند الجميع المد، واختلافهم في المقادير لا يؤثر على تواتر الأصل، يعني: ثلاث أربع خمس ست، لا يؤثر على تواتر الأصل، وإذا أخذنا مسألة الأداء بهذه الطريقة فلن يوجد عندنا أداء إلا وهو متواتر؛ لأنه كما قال: إن تواتر اللفظ مرتبط بتواتر هيئته.

    كذلك لو جئنا إلى الإشمام والروم التي بعض من لا يعرف القراءة، وليس له علاقة بالقراءة قد ينكرها، لو جاء قارئ وقال: المرفوع إذا كان آخر الكلمة مضموم مثل: نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ففيها السكون المحض والروم والإشمام، وإذا كانت: الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، ففيها السكون المحض والإشمام، وإذا كانت مفتوحة مثل: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ففيها فقط السكون المحض، فيأتي معترض ويقول: أثبتوا لنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم، والذي أخذت عنه هذه القراءات، قد وقف على هذه بهذه الأوجه التي تذكرونها: بالروم والإشمام والسكون، هل نحن نحتاج إلى أن نثبت هذا، أو نثبت الأصل؟ نثبت الأصل.

    ولهذا أنا أقول: إن الذي يلزمنا هو إثبات الأصل ثم نقيس عليه، وقد قلنا: القول بأنه (ما لقياس في القراءة مدخل). ليس على إطلاقه، فإذا ثبت الأصل صح القياس عليه في هذا الجانب، وليس دائماً يصح القياس.

    إذاً الروم والإشمام متواتر كأداء أو غير متواتر؟ متواتر بلا ريب، بل الأعجب من ذلك أن الروم والإشمام أصلاً ثابتة عند العرب قبل نزول القرآن، فالقرآن إذاً أخذ من أداء العرب هذا النوع، يعني: موجودة في القرآن ومثبتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إلى كتاب سيبويه ستجدون أن باب الروم والإشمام والتضعيف والسكون أربعة، يعني: باب ما الوقف عليه، وذكر أربعة أنواع: السكون، الروم، الإشمام، التضعيف.

    لماذا لم يرد التضعيف في القراءة؟ لأنه لم يثبت، والتضعيف هو شدة، فإذا قلت: خالد تقول: خالدّ هكذا من باب بيان الحرف الأخير ما هو وبيان حركته، وهذا موجود عند العرب أصلاً، فإذاً إذا نظرنا إلى هذا وأخذناه بهذه الفكرة: أننا ننظر إلى أصل الأداء ثم نقيس عليه، فنقول: إن أصل الأداء بلا ريب أنه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يقع القياس فيما يصح القياس فيه، وقد نمنع القياس فيما لا يصح القياس فيه، وقضية القياس تحتاج إلى بحث مستقل.

    قال رحمه الله تعالى:

    [ والثاني الآحاد كالثلاثة تتبعها قراءة الصحابة ].

    قوله: (الثاني: الآحاد كالثلاثة)، الثلاثة من هم الثلاثة المتممة للعشر، جعلها آحاداً، وقال: (وما لم يصل إلى هذا العدد مما صح سنده) هو الآن لما جاء عند المتواتر السيوطي يقول: ما نقله جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن مثله إلى منتهاه، وهم السبعة.

    شبهة متعلقة بأسانيد القراءات

    وهنا مشكلة علمية ليس لها أثر في نقل القرآن، بمعنى: أن الحديث عنها لا يضعف نقل القرآن كما يتوهم بعضهم، وإنما هي مسألة علمية تناقش، لو جاء إنسان وقال: إن كلام السيوطي هذا عليه مدخل، لماذا؟ لأن السيوطي يقول: ما نقله جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، هل تجدون في أسانيد السبعة مثالاً واحداً ينطبق عليه ما يقوله السيوطي ، يعني: سند عاصم براوييه، سند حمزة ، سند الكسائي ، أليست كلها آحادية والا لا؟ فينتقض كلام السيوطي أو ما ينتقض؟

    إذاً المسألة الآن عندنا في نقل القرآن عن هؤلاء السبعة أو غيرهم ممن تعتبر قراءتهم، هل هي فقط النظر إلى الإسناد؟ الجواب: لا. فإذا حكمنا نحن في القراءات ليس بالنظر إلى الإسناد فقط، لو كنا ننظر إلى الإسناد نقول: هذه كلها قراءات آحادية، أثبت لي في طبقة عاصم من قرأ مثل عاصم في طبقته جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب، يستطيع أحد يثبت هذه الطريقة؟

    الجواب: لا.

    الضوابط في القراءات المتواترة المعتبرة

    إذاً ما هو النوع الذي نتكلم عنه في القراءات الذي يسمى عند بعضهم تواتراً، وإن كان هذا المصطلح أحدث ربكةً وإشكالاً، فلو جئنا نطبق المصطلح على طريقة الأصوليين ومن تبعهم والمحدثين سيقع إشكال، لكن الصواب: هو أن نأخذ هذا عن القراء، يعني: منهج القراء المتقدمين، تجدهم ما كانوا يذكرون قضية تواتر أبداً، إنما يذكرون: الاستفاضة، الشهرة، قراءة العامة، قراءة الجماعة، هذه العبارات التي عبر بها الداني ، وعبر بها مكي ، وعبر بها صاحب السبعة الذي هو ابن مجاهد ، وعبر بها الطبري ، وعبر بها أبو عبيد القاسم بن سلام قبلهم. فالاستفاضة مثلاً، لما نأت إلى قراءة عاصم براوييه، هل تتصورون لو كان في قراءة عاصم خطأ في لفظة من اللفظات الطبقة التي كانت في عصره من القراء يغمضون عن خطئه ويسكتون؟ أبداً، لا يتصور هذا ألبتة، فإذاً كون عاصم يُقرئ وعنده أئمة القراءة في زمانه شرقاً وغرباً، ويأتيه الناس من كل حدب وصوب، وينقلون قراءته، ولم ينقل عن أحد منهم أنه خطّأ عاصماً في حرف واحد، فهذا يدل على استفاضة قراءة عاصماً ، فهذا النوع من نقل العلم: هو النوع المعتبر في القراءات، وليس قضية أن يتواتر في الطبقة الواحدة كذا وكذا؛ لأننا لن نستطيع من خلال الموجود بين أيدينا أن نذكر مثل هذه الطبقات، لكن الذي ذهب إليه ابن الجزري في آخر أمره، هو قضية الشهرة والاستفاضة، ولا يمكن أن يصح السند ويشتهر ويستفيض ويتلقاه العلماء بالقبول الذي هو الضابط الثاني. وفيه إشكال أبداً.

    فإذاً أول قيد في هذه القراءات المقبولة التي تسمى مصطلحاً بالمتواترة: هو شهرتها واستفاضتها.

    القيد الثاني: تلقي العلماء لها بالقبول، وممكن نضيف قيداً آخر يذكرونه كثيراً وهو صحة السند، يعني: صحة السند، واشتهار القراءة، وتلقي العلماء لها بالقبول، هذا الذي ذهب إليه ابن الجزري في آخر أمره: صحة السند، واشتهار القراءة، وتلقي العلماء لها بالقبول، فإذا توافر في هذه القراءة فهي القراءة المقبولة، أنا الآن سميتها متواترة واصطلحت عليها، وقلت: هل أراد المراد بالمتواترة: ما ذكره ابن الجزري فهذه قضية مصطلح، وإن كان كما قلت لفظ متواتر فيه إشكال، وسيدل على الإشكال الآن كلامه عن القراءات الثلاث المتممة للعشر.

    إذاً إذا نظرنا إلى هذه الضوابط الثلاثة في القراءة المقبولة، فسنجد أن قراءة السبعة تدخل فيها بلا إشكال، وأن أئمة القراءة كانوا يعرفون جملة هذه الروايات أو أغلبها، وما الدليل على ذلك؟ نأخذ مثالاً واحداً: نافع لما كان في المدينة يُقرئ من يأتيه من أهل المدينة، ومن يأتيه من الأمصار، هل كان يُقرئهم بالقراءة التي اختارها لـقالون أو القراءة التي قرأ بها ورش ؟

    القراءة المعتبرة عنده التي كان يُقرئ بها واختارها لنفسه هي قراءة قالون ، كيف وصلت القراءة عند نافع ؟ ورد في بعض الآثار عنه: أنه قرأ على سبعين من التابعين، وانتخب قراءته من قراءتهم، فيما يسمى بالاختيار أو الانتخاب، يعني: انتخب القراءة التي يُقرئ بها أهل المدينة من قراءة هؤلاء الذين سمع منهم، يعني: قرأ على سبعين، وانتخب منهم هذه القراءة، وهذه القراءة هي التي تسميها المالكية قراءة السنة، يعني: قراءة قالون عن نافع ؛ لأنه من عمل أهل المدينة، وعندهم أن عمل أهل المدينة سنة فيسمونها: قراءة السنة.

    لما جاء ورش كما في خبره إلى نافع ، وطلب القراءة على نافع بقصة معروفة ومشهورة، فقرأ على نافع ، هل قرأ على نافع بالقراءة التي يُقرئ بها نافع أهل المدينة، أو قرأ عليه بقراءة أخرى؟ طبعاً قرأ بقراءة أخرى، يعني: قرأ ورش بما سمعه من أشياخه في مصر، وجاء يعرض هذه القراءة، لكن هل ذكر أن نافعاً رده في حرف واحد؟ هل ذكر أن نافعاً ألزمه بقراءته؟ وهذا يدل على أن هذا الوجه الذي قرأ به ورش معلوم بحذافيره عند نافع ؛ ولكنه ليس هو الاختيار الذي يختاره في الإقراء، ولم يلزم ورشاً بأن يقرأ بما يُقرئ به، مما دل على أن نافعاً صحح قراءة ورش ؛ لأنها معروفة ومشهورة عنده أو لا؟

    إذاً هذا هو أسلوب القراء في التعامل مع القراءات، الذي هو الاستفاضة والشهرة، ولو كان في قراءة ورش خطأ لنقل إلينا أن نافعاً أوقفه عند هذا الحرف وصحح له، وقال له: هذا الحرف ليس بصحيح وصححه له، لكن ما وجدنا أي شيء من هذا، وإذا سمعتم قراءة برواية قالون وقراءة برواية ورش تجدون بوناً شاسعاً في الأداء، فهذا أيضاً أحد الأدلة التي تدلنا على أن قضية القراءة ليست قضية جمع عن جمع كما يذكره السيوطي وأنه الصواب، وقضية الاستفاضة والشهرة بين أهل هذا المصر من علماء القراءة.

    وهناك أيضاً دليل آخر: أننا في عهد ابن مجاهد لما خرج من خرج وقرأ بقراءة شاذة، وأقرأ الناس بها أقيم له محضر استتابة الذي هو في المقسم، مع أنه من كبار علماء القرآن، لكنه أخطأ لما أجاز القراءة بكل ما صح عربيةً، فوقع عنده الإشكال فأقيم له محضر وأدب من السلطان.

    والمقصود من ذلك: أنه لو كانت المسألة مفتوحة ليس لها ضوابط لكان دخل علينا قراءات متعددة كثيرة، لكن المسألة مضبوطة ومعروفة، وعلماء القراءة يعرفون الصحيح من الضعيف، ويعرفون أن هذه قراءة صحيحة، وهذه قراءة ليست بصحيحة، هذا الأداء صحيح وهذا الأداء ليس بصحيح، وهذا الأداء صح عن فلان من طريق فلان، ولم يصح عنه من طريق فلان، كل هذه الدقائق موجودة في الكتب ومعروفة عندهم، فكيف يقال بعد هذا أنه قد يقع شك أو إشكال في نقل القرآن؟! لا يمكن ألبتة، يعني: من عرف أحوال القراء جزم يقيناً -ولو كان رجلاً حيادياً- جزم يقيناً أنه لا يمكن أن ينخرم وجه من وجوه القراءة عند هؤلاء القراء لم يُقرأ به، أو أن يقرءوا بما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً نحن بحاجة إلى نقول: إن صحة السند، والاستفاضة والشهرة وتلقي علماء القراءة لها بالقبول هو المعتبر في القراءة المقبولة، والاعتراضات التي حصلت على بعض القراءات لا تؤثر أيضاً على صحة القراءات، وهذا الموضوع طويل ولا نريد أن ندخل فيه، لكن من باب الفائدة نقول: المرجع هم أهل القراءة الذين تلقوا القراءات وجلسوا لها، فاعتراض فلان أو علان من كبار العلماء رحمهم الله على قراءة من القراءات لم يؤثر إطلاقاً، وإلى اليوم تُقرأ هذه القراءات التي اعترض عليها أو استنكرها أو كرهها بعض علمائنا المتقدمين من الفقهاء رحمهم الله، لكنها تبقى آراء شخصية لهم لم تؤثر على نقل هذه القراءة.

    أوجه اختلاف القراءات الأحادية عن القراءات السبع والثلاث

    عندنا إشكال: وهو إذا كانت هذه القراءات آحادية، هل هناك فرق في نقلها بين القراءات السبع، وقراءة الثلاثة من جهة الإسناد؟ إذا مشينا في الإسناد سنجد أن نقل قراءة الثلاثة من جهة الإسناد كنقل قراءة السبعة، وليس هناك أي خلاف في الإسناد.

    تاريخ القراءات السبع والمتممة لها

    لكن ما الذي وقع؟ الذي وقع عندنا في الثلاثة هو أن ابن مجاهد وهو أول من سبع السبعة أوقع في هذا الإشكال، وإلا القراءات المقبولة ليست هي السبعة، القراءات المقبولة قبل السبعة كثيرة جداً.

    ابن مجاهد توفي سنة (324ه)، وقبل ابن مجاهد وقبل أن يسبع السبعة هل نعلم نحن الآن كيف كانت القراءات؟ يعني: مع الأسف نحن معرفتنا بتاريخ القرآن وتاريخ القراءات ضعيف، وتوقع عن هذه السبعة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وهي كذلك، وليس كذلك. قبل تسبيع السبعة كان أئمة القراءة بالمئات بل بالألوف، وكانوا يقرءون بأوجه القراءة الصحيحة متعددون في جميع الأمصار والأوطان، والقراءة كانت شائعة فيهم باختيارات متعددة.

    الآن لو أن حاذقاً قال: سأتتبع اختيار الطبري فما كان له فيه وجهان ذكرته، وما اختار فيه وجهاً على وجه حددته، سيخرج الآن لنا بقراءة، لو قلنا له: اقرأ الآن اختيار الطبري ، هل يخرج اختيار الطبري عن القراءات السبع؟ السؤال بشكل آخر: الطبري في التفسير له اختيار يأتي عند قراءة ويقول: هذه قراءة حتى لو كانت عندنا متواترة قد يضعفها، المهم اختيار الطبري هل سنجد اختياراً من الاختيارات خارج إطار السبعة؟ الجواب: لا، لكن كونه يخالف حمزة ويخالف كذا في هذا، هذه قضية أخرى، لكنه لن يخرج عن السبعة، وكونه يضعف قراءة هذا ما زال في إطار السبعة، وجميع القراء المعتبرون قبل ابن مجاهد لا يخرجون عن هذه الأوجه المعتبرة، معنى ذلك: أن ابن مجاهد لما رأى هذا الاتساع في الطرق، أراد أن يخفف الأمر في أن يذكر سبعة من القراء، تجتمع فيهم أشهر الطرق، وأشهر القراءات فجمعها، فاستدرك عليه من جاء بعده، بل بعض قراء عصره استدركوا عليه بعض الوجوه الصحيحة التي هي على شرط ابن مجاهد والمعتبرة عند العلماء وهي الثلاثة هذه فأضافوها.

    فإذاً ليس هناك خلاف بين ما عمله ابن مجاهد وما عمله من استدرك عليه إلا مسألة في الاستدراك فقط، وأنه ترك شيئاً من الوجوه هو مقروء ومعتبر بنفس الطريق وبنفس الشرط الذي اشترطه ابن مجاهد .

    فإذاً كل هذه القراءات كانت موجودة قبلهم ومشهورة ومعتبرة، ولكن الذين يقرءون بها ألوف، يعني: إن أردت أن أقرب الصورة فقلت: كم عدد قراء العالم الإسلامي؟ يعني: افتراضاً كذا أنهم ألف قارئ، لو واحد منا قال: أنا سأطوف هذه البلاد أقرأ على كل هؤلاء القراء الألف، وآخذ منهم أسانيدهم، طبعاً لا شك أن الأسانيد فيما بعد اتفقت، لكن لما كنا في القرن الثاني والثالث، ويأتي واحد ويأخذ عن ألف قارئ، أسانيدهم تتفق في أسماء، وتختلف في أسماء وتتشعب، مثل: كتاب الكامل للهذلي ، وهو من أنفس كتب القراءات التي جمعت خمسين قراءة، يعني: الكامل في القراءات الخمسين، لو واحد منا انبرى فقط لجعل شجرة لسلسلة القراءات، فإن رأسه يكاد ينفجر من كثرة هذه الطرق وضبطها، ومن قرأ على من ومن قرأ على من وقراءة سعيد بن جبير وقراءة الزهري وقراءة.. وأخذتها بالإسناد عن فلان عن فلان، طرق كثيرة جداً، فضبطها بهذه الطريقة لا شك أنه مشكل، فمن عمل السبعة أراد أن يخفف على المسلمين في أن يضبط أصول هذه القراءة، ثم جاء التتميم بالعشرة، فالعشرة لا تخالف السبعة في أي شيء إلا أنه استدرك فقط على الإمام ابن مجاهد في أن هذه القراءات الأخرى على شرطه ومعتبره، وقد تلقاها العلماء بالقبول، فلا يحسن في نظري أن نقول: إن تلك متواترة وهذه آحاد أو تلك متواترة وهذه مشهورة، لا بل هي كلها بالنسبة لنا في البحث العلمي متساوية في هذا الجانب، أنها منقولة بنفس الطريق وبنفس الاعتبار، وإنما المسألة هي مسألة استدراك فقط.

    علاقة حديث (نزل القرآن على سبعة أحرف) بالقراءات

    أما حديث: ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) فما له علاقة بالقراءات، يعني: القراءة تشعبت من الأحرف، والوجوه هذه المتكاثرة هي جزء من الأحرف في النهاية.

    لنفرض مثلاً أننا في طبقة الصحابة، زر بن حبيش يتلقى القراءة على ابن مسعود ، لما يقرأ: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، ابن مسعود يقرأ بأحد الوجهين إما: بِضَنِينٍ [التكوير:24]، وإما (بظنين)، يعني: بالظاء وإما بالضاد، زر بن حبيش وهو في التابعين يقول لأحد القراء الآخرين- وهو عارف بوجوه القراءات-: هي في قراءتنا كذا، يعني: عن ابن مسعود ، وهي في قراءتكم كذا، يعني: بالوجه الثاني، الآن: بِضَنِينٍ [التكوير:24]، و (بظنين)، لو رجعنا إلى السبعة، وأردنا أن نشعب الطرق، كم طريقاً ستصل إلى هذا الثنائي في القراءات؟ كم تتصورون؟ أربع طرق، خمس طرق، ست طرق محتملة، يعني نقول مثلاً: من قرأ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، قرأ مثلاً شعبة عن عاصم : بِضَنِينٍ [التكوير:24]، وقرأ مثلاً حفص عن عاصم : (بظنين)، وقرأ مثلاً قالون عن نافع (بظنين)، وقرأ ورش عن نافع : بِضَنِينٍ [التكوير:24]، وهكذا، فإذا شعبت ستجد عندك تشعبات كلها في النهاية قراءات متعددة، والأصل فيها وجهان أو حرفان بالأحرى.

    فالأحرف باختصار: هي ما يئول إليه اختلاف القراءات من الأوجه، واختلاف القراءات قد يكون ثنائياً، وقد يكون ثلاثياً، وقد يكون رباعياً، وقد يكون خماسياً، وقد يكون سداسياً، وقد يكون سباعياً، هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت الرخصة بالأحرف السبعة، لكن في واقع القراءات اليوم المقبولة عندنا لا نكاد نصل إلا إلى السداسي في كلمة: جبريل وأف، والخماسي قليل والرباعي أقل منه، والثلاثي أقل والثنائي أكثره، يعني: أكثر الخلافات ثنائية، أنت لا تنظر إلى الطرق، إذا نظرت إلى الطرق، هو سبع قراءات عشر قراءات فتكثر عليك، دعها كلها، وردها في النهاية إلى الأصل، مثلاً: وَالضُّحَى [الضحى:1]، كم وجهاً أو كم حرفاً في الضحى؟ فتقول لي: ثلاثة، الفتح، والتقليل، والإمالة، لكن لما تشعبت الطرق بالفتح والتقليل والإمالة، تجد عندك شجرة كبيرة جداً ممن قرأ بالفتح والتقليل والإمالة، لكن إذا رجعتها إلى الأحرف الأصلية ستجد أنها ثلاثة، وهذا هو المراد بالأحرف؟

    ما الذي حصل الآن؟ كيف انتقلت إلى القراءات؟ يعني: كل واحد يختار من الأئمة قراءة من القراءات، فتنتشر عنه باختياره، وتنتشر عن الثاني باختياره، وعن الثالث باختياره، لكن ما في أحد من القراء أبداً قرأ: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]، بوجه ثالث معتبر، وليس عندنا تنتهي إلى هذين الوجهين.

    كذلك فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ [الفجر:25]، وفي قراءة أخرى: (فيومئذ لا يعذَّب عذابه) وجهان، (فتلقى آدمَ من ربه كلمات)، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37]، وجهان ما هناك وجه ثالث، هما الحرفان، يعني: هذه الألفاظ نزلت على حرفين وهكذا، إذا رجعتها إلى هذه ستجد أنك في النهاية قد حلت عندك مشكلة الأحرف، وأن القراءات كثرت بسبب الاختيار وكثرة الطرق، كل واحد يقرأ عن فلان عن فلان عن فلان، ثم تكاثرت هذه الطرق.

    هذا باختصار ما يتعلق بهذه وتلك والعلاقة بينهما.

    1.   

    القراءة الشاذة

    قال رحمه الله تعالى:

    [ والثالث الشاذ الذي لم يشتهر مما قراه التابعون واستطر

    وليس يقرأ بغير الأول وصحة الإسناد شرط ينجلي

    له كشهرة الرجال الضبط وفاق لفظ العربي والخط ].

    قيد القراءة الشاذة

    القراءة الثالثة التي ذكرها: الشاذ، وقال: (الذي لم يشتهر مما قراه التابعون)، هذا القيد (أنه مما قراه التابعون) هل هو صحيح؟ يعني: ليس هناك قراءة شاذة منسوبة للصحابة؟ بل هناك قراءة شاذة منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك قراءات منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحكم عليها العلماء بالشذوذ، وسنأتي بسبب ذلك.

    قال السيوطي : ما لم يشتهر في قراءات التابعين لغرابته أو ضعف إسناده، قال: كذا تبعنا البلقيني في هذا التقسيم، ثم قال: وحررنا الكلام في هذه الأنواع في التحبير بما لا مزيد عليه، ونقلنا فيه خلاصة كلام الفقهاء والقراء، وأن الثلاثة من المتواتر، ولا يُقرأ بغير الأول، أي: بالآحاد والشاذ وجوباً، ويعمل به في الأحكام.

    قد تأتي روايات مفردة منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقال عنها: أنها شاذة، وقد تأتي روايات منسوبة للصحابة ويقال عنها: شاذة، وقد تأتي روايات منسوبة للتابعين ويقال عنها شاذة، ما كان خارجاً عن العشرة فإنه شاذ.

    ولن نأتي إلى التاريخ في كيف شذ بالقراءات؛ لأن بها طول، لكن عندنا القيد ما كان خارج العشرة، فالأصل فيه أنه شاذ، الأربعة المتممة للعشرة لم يتلقاها العلماء بالقبول، فكانت مما له حكم الشذوذ، وهي التي يصلح عليها أن يقال: أنها من القراءات المشهورة، يعني: لو أردنا مصطلحات المحدثين، هذه قراءة مشهورة، لكنها غير متلقاة بالقبول، وهي مسندة إلى الآن يقرأ بها، يعني: بعض القراء إذا انتهى من العشرة يمكن أن يأخذ إسناد بالأربع المتممة للعشرة يسمونها الثلاث أو أربع عشر، وهذه قراءة الأربع بالذات تجد أن لها إسناداً مستقلاً إلى من قرأ بها، إلى الحسن البصري وإلى الأعمش ومن معهم.

    إذاً القيد الذي عندنا وهو ما خرج عن العشرة، فنعتبره شاذاً.

    أنواع القراءة الشاذة

    والشذوذ أنواع: يدخل في الشاذ: ما له إسناد ولكنه خارج العشرة، حتى لو صح الإسناد، ويدخل في الشاذ ما نسب إلى أحد الصحابة والتابعين أو من دونهم بدون إسناد، يعني يقولون: قرأ فلان، ويدخل في الشاذ ما حكي قراءةً وإن لم ينسب. هذه ثلاثة أنواع من الشذوذ أن يذكر إسناده لكنه خارج العشرة، يعني: مفرد، الثاني: أن ينسب إلى أحد القراء من الصحابة والتابعين وأتباعهم بدون إسناده، الثالث: أن يحكى بدون قائل، يعني: بدون تعليق، لا يقال: قرأ فلان، قُرئ كذا.

    الرابع: هو المكذوب، وهذا قليل جداً لكنه موجود، فكل هذه في الحقيقة حكمها حكم الشاذ، وهي مراتب في قضية القبول، يعني: فرق بين الرواية المسندة التي صحت إلى من قرأ بها، والرواية المعلقة التي لا نعلم لها إسناداً، وفرق بين الرواية المعلقة التي يذكرها بعض الأئمة الحجة، والرواية التي تحكى بدون تعليق يقال: حكي، وفرق بين الرواية تحكى، والرواية التي تنص على كذبها، يعني: أن الشاذ مراتب.

    فإذاً القراءات في النهاية عندنا تئول إلى نوعين: النوع الأول: القراءة المقبولة التي اتصفت بأنها صحيحة السند، مشتهرة بين القراء، ومقبولة عندنهم.

    والنوع الثاني: الشاذ، وهو أنواع. هذا مآل القراءات، فتعديد أو تنويع المصطلحات الشاذة والمشهور والآحاد، لسنا بحاجته في القراءات، إذا كان علماء الحديث يحتاجونه في المصطلح، وإن كانوا لا يطبقونه أصلاً في الاستدلال، فهذا شأنه شأن ذاك العلم الذي هو مصطلح علم الحديث، لكن نحن في القراءة لا يعنينا هل هي آحاد أو ليست بآحاد، هل هي آحاد أو هل هي مشهورة أو هل هي شاذة؟ كلها نسميها بالشاذ، إلا النوع الأخير بالذات المكذوب هذا لا بد من النص عليه وإبعاده، وكذلك ما قُرئ من دون أن يسند إلى أحد، فإن الأصل عدم قبوله، وعدم الاستفادة منه، أما إذا نسب إلى أحد، فإن حفت به قرائن تدل على صحة نسبته، فهذا يمكن أن يستفاد منه خصوصاً في اللغة، وأما النوع الأول الذي صح إسناده فهذا الذي يقبل في اللغة وفي الأحكام.

    النوع الثاني: ما نسب إلى الصحابي أو التابعي دون أن يذكر الإسناد، فهذا قصارى ما يستفاد منه في بيان المعاني وفي اللغة. وأما النوع الثالث الذي يحكى، فهذا الاستفادة منها أقل.

    وأما النوع الرابع: فإنه لا يستفاد منه ألبتة؛ لأنه مكذوب، يعني: هذا ما يتعلق بقضية القراءة الشاذة وأنواعها.

    فإذاً نحن في الحكم الكلي لا نحتاج إلى أن نأتي ونأخذ من علماء الحديث مصطلحاتهم وننزلها عندنا، لا الحكم الكلي عندنا هو في النظر إلى كونه متواتراً أو شاذاً، ثم الشاذ ما هي مرتبته فقط، إن كنا أردنا الاستدلال به.

    1.   

    شروط صحة القراءة المتواترة

    قال: (وليس يُقرأ بغير الأول)، غير الأول بناءً على السبعة.

    اشتراط صحة الإسناد

    قال: (وصحة الإسناد شرط ينجلي)، يعني: الآن بدأ يتكلم عن الصحة، هو ذكر مثالاً لما لا يصح سنده، مثل برفع الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، بنسب الخشية لله سبحانه وتعالى، وهذه القراءة ليست بصحيحة، يعني: قراءة مكذوبة، هو مثل لها، والقراءة المنسوبة أيضاً لـأبي حنيفة يعتبرونها من القراءات المكذوبة، والعهدة فيها ليست على أبي حنيفة ولا على من رواه ممن جاء من الطبقة الأخيرة، وإنما من بعض الرواة.

    عندنا شروط القراءة التي ذكرها، قال: صحة السند، ما فائدة صحة السند مع التواتر؟ لو الأول قال: (والسبعة القراء ما قد نقلوا فمتواتر)، يعني: لا قيمة لصحة السند مع وجود التواتر في النقل؛ لأن التواتر مغن عن صحة السند، ولكن لما تنبه ابن الجزري في آخر الأمر إلى هذه الإشكالية، فأبعد لفظة التواتر هذه، ونظر إلى أن المتواتر: هو ما صح سنده واشتهر وتلقاه العلماء بالقبول، ثم ما وافق رسم المصحف، ثم ما وافق وجهاً من العربية.

    اشتراط التوافق مع اللغة العربية

    الشرط الثاني: قال: (وفاق لفظ العربي والخط)، إذاً الشرط الثاني أن يكون موافقاً للعربية، هل يتصور أن توجد قراءة متواترة لا توافق العربية؟ فإذاً هذا ليس شرطاً، وإنما هو يدخل في باب الضوابط، إذا أردنا أن ندقق في المصطلحات نقول: إذا كان متواتراً، فلا يتصور أن يخالف العربية؛ لأن العربية تؤخذ منه، فدل على أن هذا ليس الشرط على أسلوب الأصوليين، وإنما هو من باب الضوابط فقط، فدرجته أقل؛ لأنه لا يتصور أن تأتي قراءة متواترة تخالف العربية، بل العربية تؤخذ من المتواتر.

    اشتراط التوافق مع الخط

    قوله: (والخط)، أن يكون موافقاً للخط ولو احتمالاً، وهذه أيضاً تحتاج إلى فك ونظر، الآن ما علاقة الخط بالمحفوظ؟ نسأل سؤالاً آخر: أيهما أسبق: الحفظ أو الخط؟ الحفظ في الصدور أسبق من الحفظ في السطور، الرسول صلى الله عليه وسلم ابتدأ بالحفظ في الصدور ثم في آخر أمره بدأ يعتني بالحفظ في السطور، يعني: إحقاقاً لكثير من الآيات: يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البينة:2]، وقوله: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [عبس:13]، إذا كان المراد بها القرآن، وقوله سبحانه وتعالى: أَلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2]، إذا قلنا القرآن الكتاب بمعنى: المكتوب، فكلها إشارات إلى حفظه بالكتابة كما أنه محفوظ في الصدور.

    إذاً الحفظ أسبق.

    سؤال آخر: أيهم أكثر في جيل الصحابة: المحفوظ أو المكتوب؟ المحفوظ، بمعنى: أننا إذا جئنا إلى جيل الصحابة فالمحفوظ كان أكثر من المكتوب. في جيل أتباع التابعين أيهم أكثر المحفوظ أو المكتوب؟

    المحفوظ ما يزال هو الأكثر.

    الذي أريد أن ننتبه له من كل هذا: أن الأصل في القرآن هو الحفظ في الصدور، وأن الحفظ في السطور تبع للحفظ في الصدور، وأن علماء المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم ليست عمدتهم المحفوظ في السطور، وإنما عمدتهم المحفوظ في الصدور، ولهذا لما بدأ علماؤنا يضبطون المرسوم شيئاً بعد شيء لحاجته للضبط، ولكن لا يستطيع أن يفهم هذا الضبط إلا عالم بالضبط والرسم.

    فلو قلت مثلاً: لماذا وضعوا الفتحتين بهذا الشكل .. الضمتين بهذا الشكل؟ هذه الألف الخنجرية لماذا وضعوها بهذا الشكل؟ سنجد أنها طلاسم؛ لأننا لا نعرف تاريخ ضبط المصحف.

    قضية أخرى أيضاً: إذا جلس بجواركم واحد من الناس في يوم الجمعة، وهو كبير في السن وهو يقرأ سورة الكهف، كل أسبوع يقرأها، ألا تجدون عنده أخطاء جلية وشنيعة كثيرة؛ لأنه يقرأ من محفوظه، يعني: هو ضبطها حفظاً؟ لا، لو كان ضبطها حفظاً ما وقع في خطأ، لكنه لا يقرأ إلا من المصحف، فيقع عنده الخطأ والخلل، وهذا كله ينبهنا على أن الأصل هو المحفوظ.

    فإذاً قيمة المرسوم أمام المحفوظ كم ستكون نسبتها قليلة أو ليست بقليلة؟ قليلة، فحينما يأتي المستشرقون أو بعض النصارى الذي يجهلون أصلاً تاريخ كتابنا، وإن تعلموا فإنهم يطعنون أو يلقون الشبه من أجل الطعن، فإنهم يثيرون الإشكالات في المرسوم، ويأتي بعض المسلمين ليدافع وهو لا ينتبه إلى هذه الإشكالية، أصلاً لو لم يكن المرسوم موجوداً، فلن يكون هذا القرآن ذاهباً عن الصدور أبداً؛ لأن الأصل هو الصدور، فالمرسوم إذاً هو لضبط الملفوظ.

    نأتي الآن إلى سؤال آخر في قضية الخط: هل يلزم أن يضبط المرسوم جميع المنطوق؟ لا، في جميع لغات العالم ليس عندنا فقط، يعني: في جميع لغات العالم يقصر الرسم عن ضبط جميع اللفظ، واللي عندهم الآن لغات يعرفون هذا، فالذي عنده لغة ألمانية نقول له: أليسوا يكتبون أحرفاً لا ينطقونها أو ينطقون شيئاً ليس موجوداً؟ يعني: للزيادة والحذف، كذلك في الإنجليزية أليسوا ينطقون أحرفاً ليست مكتوبة أو يكتبون أحرفاً ليست منطوقة، يعني: نفس الفكرة الموجودة عندنا في المصحف، اللي هو باب الحذف والزيادة موجود في جميع رسوم العالم، يعني: ليس القرآن بدعاً فيها ولا لغة العرب بدعاً فيها، يعني: إملاء العرب، بل هو موجود في جميع لغات العالم.

    إذا فهمنا هذه القضية بهذا الشكل، فإن مخالفة المرسوم للمحفوظ ليس لها أثر؛ لأن الأصل مقدم عندنا هو الحفظ، لكن العلماء أيضاً من أجل دقة الضبط اشترطوا -وهو ضابط وليس شرطاً على الصحيح- الرسم ولو احتمالاً، وتوسعوا في مسألة الاحتمال هذه توسعاً زائداً، لكن لو لم نشترط هذا، فإنه لا يؤثر أيضاً على نقل القرآن، والدليل على ذلك: أنه قد كتب في جميع المصاحف (الصراط) بالصاد، ولم يكتب في أي مصحف من المصاحف التي أرسلها عثمان بالسين، مع أنه تُقرأ بالصاد وبالسين، هل أثر عدم كتابة هذه اللفظة بالسين على عدم قراءتها بالسين؟ هل قالوا لنا: لم تكتب بالسين إذاً لا نقرأ بالسين؟ لا، هي مكتوبة بالصاد ويقرءون بالسين، هي مكتوبة بالصاد ويشمون الصاد زاياً.

    عندنا أيضاً: لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19]، هكذا في جميع المصاحف، وقرأ ورش والرواية أيضاً عن أبي عمرو : (ليهب) بالياء، فلو كانت المسألة مرتبطة بأنه لا بد من تحقق الرسم في كل لفظة لوقع إشكال أنه من أين جاء ورش بـ (ليهب)؟

    فإذاً المسألة رجعت إلى المحفوظ المقروء في الصدور، هذا هو الأصل، وأن الرسم مجرد ضبط لهذا الملفوظ، ولا يلزم في جميع لغات العالم أن يتوافق الملفوظ مع المرسوم بحذافيره، فإذا وصلنا إلى هذا، فلا يشكل عندنا أن تأتي بعض الكلمات لا تتوافق توافقاً تاماً مع الملفوظ، لا يؤثر عليه أبداً.

    هذا باختصار ما يتعلق بهذه الشروط، والصواب لو قلنا بالتواتر أن هذه من باب الضوابط، وليست من باب الشروط، لكن نحن نجعلها من باب الشروط؛ لأننا سنرتب عليها مع صحة السند واشتهار القراءة وتلقي العلماء بالقبول، أن تكون موافقةً للعربية وللرسم، فترتقي في هذا، ولا تكون مثل ما لو قلنا: بأنها متواترة. ولعلنا نقف عند هذا الحد.

    1.   

    الأسئلة

    الجمع بين إخبار عائشة (بعدم نزول الوحي في فراش امرأة غيرها) وإخبار أم سلمة بوقوع ذلك

    السؤال: كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم في حق عائشة : (ما نزل عليّ الوحي في فراش امرأة غيرها)، وبين آية الثلاثة الذين خلفوا التي نزلت في فراش أم سلمة ؟

    الجواب: هذا يكون على قاعدة مثل ما حصل من جابر : أن كل حدث بما يعلم، يعني: أم سلمة حدثت بما حصل لها وعلمت، و عائشة حدثت بما حصل لها وعلمت، وظنت أنه لم يحصل لغيرها فقط.

    كتب تنفع طالب العلم المبتدئ في علم القراءات

    السؤال: هل هناك كتب تنصح بها الرجوع إليها في القراءات تنفع طالب العلم المبتدئ؟

    الجواب: هذه اسألوا فيها القراء، هذه يرجع فيها إلى القراء، وأنا ليس عندي قراءات، فما أعرفها.

    مرجع مشهور لمنظومة الزمزمي

    السؤال: هل يوجد مرجع مشهور لهذه المنظومة؟

    الجواب: من أراد أن يفهم المنظومة يرجع إلى إتمام الدراية لقراء النقاية للسيوطي ؛ لأن الزمزمي رحمه الله تعالى اعتمد على المتن اللي هو الرسالة نفسها وعلى شرح السيوطي ، ولذا أنا معي إتمام الدراية أنقل لكم أحياناً منه؛ لأنه مشى عليه تماماً، هو موجود لها شروح، لكن من رجع إلى هذا فهو أفضل؛ لأن الزمزمي لم يخرج عن هذا الكتاب.

    كتب متعلقة بتاريخ القرآن

    السؤال: ذكرت شيخنا الفاضل أن ثقافتنا بتاريخ القرآن ضعيفة جداً، فما هي الكتب التي تنصحنا بقراءتها؟

    الجواب: لفظة تاريخ القرآن لها ظلال استشراقية، ونحن عندما نتكلم عن تاريخ القرآن نقصد ما ورد في علوم القرآن مما يتعلق بالقضايا التاريخية المرتبطة بالقرآن، ولا يوجد كتاب أذكره الآن، يمكن أن يعطينا مثل هذه القضايا، لكن الرجوع إلى كتب أهل العلم التي كتبت في علوم القرآن ودراسة القضايا المرتبطة، مثل: المكي والمدني وأسباب النزول وغيرها، والتمحيص فيها والنظر، هو الطريق الأمثل لضبط هذه المسائل، كيف كتب هذا المصحف؟ كيف تواتر عليه العلماء جيلاً بعد جيل وضبطوه؟ كيف تنوعت صور الضبط عندهم؟ وكيف استقر المصحف على ما نراه اليوم بين أئمة القراءة؟ ولا يزال هناك نوع من الخلافات في الضبط وليس في الرسم؛ لأن الرسم ثابت، لكن بالضبط، هذا كله لما تقرأ في كتب الضبط سيعطيك ملكة في معرفة قضايا تاريخية حول القرآن، كذلك ما يتعلق بتاريخ القراءات، وقد كتب فيه كتابات يمكن الرجوع إليها والاستفادة منها، ومعرفة مناهج المؤلفين في القراءات، كل هذه القراءات المتنوعة والمتكاثرة ستعطيك ثقافة واسعة بما يتعلق بتاريخ القرآن.

    كيفية نزول القرآن

    السؤال: هل نزول القرآن الكريم آية آية أم سورةً سورة؟

    الجواب: طبعاً يختلف فيما نزلت سورة كاملة، وفيما نزل مقطع من سورة، مثل سورة: اقرأ، نزلت الخمس الآيات الأولى، فيما نزل آية، وفيما نزل جملة من الآيات، وفي ما نزل كلمة، أو مقطع مثل غيره، فيختلف نزول القرآن وترتيبه، خصوصاً ترتيب الآيات باتفاق أنه بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.

    تسمية السورة

    السؤال: هل تسمية السورة اجتهادي أم توقيفي؟

    الجواب: تسمية السورة في نظري لا يصلح أن يقال عنها: اجتهادي وتوقيفي، إلا إذا اعترض طبعاً معترض، لكن إذا قلنا: توقيفي، هل يجوز الاجتهاد مع التوقيف؟ إذا كان الجواب: لا، فإذاً لا نبحث عن ترتيب السور بهذا النظر، وإنما نقول: ترتيب السور له مراتب، وهذا الذي أقول به وأدرسه بهذه الطريقة، أن نقول: مراتب؛ المرتبة الأولى: ما ثبتت تسميته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    والمرتبة الثانية: ما ثبتت تسميته عن الصحابي؛ لأنه احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

    والمرتبة الثالثة: ما ثبتت تسميته عن من دون الصحابي إلى اليوم، أو ما سماه من دون الصحابي إلى اليوم، وهذا يدخله الاجتهاد، وواقع تسمية السور يثبت دخول الاجتهاد بالتسمية، فدل على أن المسألة لا علاقة لها بالتوقيف؛ لأننا إذا قلنا: أن التوقيف يقابله الاجتهاد، وإذا قلنا بالتوقيف لا يجوز الاجتهاد، أو يخالف عمل المسلمين، يعني: إجماع المسلمين قاطبةً على جواز تسمية السور، وإنما نقول: هي مراتب، فنبحث في المرتبة الأولى على أن الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم، ونبحث عن حكمة التسمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سماها، وهو صلى الله عليه وسلم لا يصدر عنه إلا حكمة، وما ثبت عن الصحابي فالاحتمال أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن نبحث عن حكمته، لكن ما دون ذلك، فإننا لا نحتاج أن نبحث عن حكمته، ولماذا سميت السورة بهذا.

    لكن لو قال من قال بالتوقيف: أنا قصدي أنه قد ثبت توقيف النبي صلى الله عليه وسلم لبعض السور بالأسماء، وليس مرادي أنه لا يجوز الاجتهاد، فصار هذا مصطلح خاص عنده، لكن إذا قلنا: التوقيف مقابل الاجتهاد، وأنه مع التوقيف لا يجوز الاجتهاد، فلا يصلح أن يطلق على هذا مبحث هل هو توقيفي أو اجتهادي.

    قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءات

    السؤال: هل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءات كلها؟

    الجواب: نعم، لأنها نزلت عليه؛ لأنه قال: ( نزل القرآن على سبعة أحرف )، وقال: ( أقرأني جبريل )، فدل على أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم كلها، وأقرأه بها كلها، يعني: على الطريقة التي ذكرتها لكم، أما قضية الأداء، فهذه قضية أخرى، لكن: بِضَنِينٍ [التكوير:24]، (بظنين)، الصِّرَاطَ [الفاتحة:6]، (السراط)، (الزراط)، لو لم يقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه جاز للمسلمين أن يقرءوا بما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يجوز؛ لأن حديث الأحرف السبعة واضح منه جداً الالتزام بما نزل، وقال: ( اقرءوا كما علمتم )، كما في بعض الآثار الصحيحة الواردة عن علي بن أبي طالب ، لما سمع الصحابة يتجادلون في القرآن، فلما خرج علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم وكان في بيته فقال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرءوا كما علمتم ). فإذاً من الذي علمهم؟ هو النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولعلنا إن شاء الله نفصل هذه القضية؛ لأن هذه فيها إشكال، لكن إذا فهم وجه الاختلاف في قضية الأحرف السبعة، أو الصواب فيه، وأنها مرتبطة بالأوجه، سيتبين في النهاية أن المسألة هي كلها متلقاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا حررنا ما يمكن أن يكون فيه القياس، سنجد أنه يمكن أن يكون هناك قياس في بعض الأداء، ولا يمنع منه عمل العلماء، وهو واضح عندهم، والقياس يمكن أن يثبت من خلاله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756504667