إسلام ويب

وصف الطيبين في القرآن وجزائهمللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد وصف الله تعالى عباده الطيبين وصفاً رائعاً يدعو العاقل لأن يكون منهم، كما ذكر تعالى جزاءهم الطيب لأعمال قدموها في الدنيا: كذكره، والتوبة إليه، ومن المؤكد أنهم ما وصلوا إلى دار الطيبين إلا بعد التنقية في الدنيا وفي البرزخ وعند البعث.

    1.   

    صفات الطيبين وجزاؤهم

    الحمد لله رب العالمين، وإله الطيبين، لا منتهى لكرمه، ولا حد لجوده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثيل له، ذو الملك والملكوت، لا شبيه له في أسمائه والنعوت، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! في هذه اللحظات نقف مع وصف الله تعالى للطيبين وجزائهم، قال الله جل ثناؤه في كتابه الكريم في سورة النحل: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:30-32].

    قبولهم ما جاءت به الرسل

    في هذه الآية يبين الله عز وجل جزاء الطيبين، ومن هم هؤلاء الطيبون، فأخبر أولاً سبحانه بموقفهم من كتابه وشرعه، وأنهم سئلوا هذا السؤال العظيم، الذي وجه لغيرهم من البشر، وقد ذكره قبل هذه الآية، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل:24]، فهذا جواب الملحدين، وجواب الكافرين المعاندين، إذا سئلوا ما هو موقفهم مما جاء به الرسول، ومما أنزله الله من الوحي، قالوا: لا نؤمن بشيء من ذلك، إنما هو أساطير وخرافات جاء بها عن الأولين.

    والمؤمنون الطيبون مخالفون لهم في هذا الموقف جملة وتفصيلاً، لا يترددون، ولا يرتابون، ولا يشكون، أن ما جاءهم الله عز وجل به هو الخير كله، وهو السعادة كلها، يحمل لهم خير العاجل والآجل، وفلاح الدنيا وسعادة الآخرة؛ ولذلك لما سألهم الناس: ماذا أنزل ربكم؟ لم يترددوا في الجواب، فدلوا البشر على ما أنزل الله، وعلى حقيقته، (قالوا خيراً)، اختصروا الكلام الكثير في هذه العبارة الموجزة؛ ما أنزل الله هو الخير، قَالُوا خَيْرًا ، إنه الخير كله، خير الدنيا وسعادة الآخرة.

    جزاء الطيبين

    فأخبر الله تعالى عن جزائهم بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [النحل:30]، أي: الذين أحسنوا في هذه الدار، فأحسنوا في عبادة الخالق جل شأنه، فعبدوه بإخلاص، وأحسنوا إلى خلق الله فأدوا إليهم حقوقهم، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ، فهذا هو الجزاء العاجل، وحسنة الدنيا: العيش الرغيد، والسعادة التامة، والاطمئنان لقلوبهم، والفرح والسرور لأرواحهم، والسعة والرغد لأرزاقهم، والأمن والهناء لأوطانهم ومساكنهم، وهذا جزاء عاجل: وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ [النحل:30]، أي: ما يدخره الله عز وجل لهم بعد الموت خير لهم وأوفر مما عاشوه في دنياهم. وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل:30].

    نعمت جزاء المتقين الجنة فيها الأماني والمنى والمنة

    الدار التي يصفها الله خالق الخلق كلهم بأنها نعم الدار، وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل:30]، هي جَنَّاتُ عَدْنٍ [النحل:31]، أي: جنات الإقامة الدائمة، لا يتحولون عنها ولا تتحول، ولا يموتون فيها ولا تتبدل، لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ [النحل:31]، أي: لا يتمنى الواحد أمنية إلا كانت حاضرة بين يديه، حتى ما غاب عن ذهنه، وما لم يخطر بقلبه، ( يذكره الله عز وجل فيقول له: تمن، حتى إذا انقطعت به الأماني يقول الله: تمن كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني قال الله: ذلك لك وعشرة أمثاله معه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [النحل:31]، أي أنهم عالون على القصور، تجري من تحت قصورهم الأنهار، وتجري من تحت الأشجار الأنهار، فهذا هو جزاء المتقين، الذين اتقوا ربهم في هذه الدار فتجنبوا سخط الله، حيث فعلوا ما أمر الله بفعله، واجتنبوا ما أمر الله عز وجل باجتنابه، فعملوا بذلك بينهم وبين عذاب الله وقاية، فكان ذلك هو الجزاء.

    الصفة التي بها استحق الطيبون الجنة

    ثم أخبر سبحانه عن حالهم الذي أوجب لهم تلك المثوبة، فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32]، فإذا أردت أن تكون من أصحاب هذه المثوبة فكن من الطيبين الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ، قال أهل العلم: طابت قلوبهم بمعرفة الله ومحبته، وطابت ألسنتهم بالثناء على الله وذكره، وطابت جوارحهم بالإقبال على الله وطاعته، فطابت منهم الجوارح، وطابت الألسن والقلوب، فاستحقوا جزاء الطيبين.

    يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ [النحل:32]، تأتيهم الملائكة عند الموت بهذه البشرى العظيمة: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، سَلامٌ عَلَيْكُمُ [النحل:32]، حلت عليكم السلامة، فلا ينزل بكم مكروه، ولا يحيق بكم خوف، وأحاط بكم الأمن من جميع جوانبكم، من بين أيديكم، فلا تخافون من المستقبل الذي أنتم مقدمون عليه، ولا تحزنون على ما خلفتم وراء ظهوركم من الأولاد والزوجات والذرية، فهذا كله جزاء الطيب الذي اتصفوا به، يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، أي: نزلت عليكم السلامة بسبب طيبكم، فدار الله عز وجل طيبة لا يدخلها إلا الطيبون، حتى أهل الطيب الذين كدروا طيبهم بشيء من مظالم عباد الله، أو بشيء من التقصير في حقوق الله، فإنهم لا يدخلون تلك الدار إلا بعد أن ينقوا من ذلك الغبش، وبعد أن يخلصوا من ذلك الدخل، وبعد أن يهذبوا من ذلك الزيف، فلا يدخلون الجنة إلا بعد أن تتم طيبتهم، وبعد أن يكمل لهم الطيب ويأذن الله عز وجل لهم بدخول الجنة، فالجنة دار طيبة لا يدخلها إلا الطيبون، بهذا قضى الله عز وجل في كتابه، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا خلص المؤمنون من النار ) يعني: نجوا من النار، وتجاوزا النار، وعبروا الصراط، ونجاهم الله عز وجل من لفحها ولهيبها وأهوالها، قبل أن يدخلوا الجنة قال: ( حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار )، يحبسون على قنطرة، يعني: على جسر صغير؛ كالجسر الذي يربط بين ضفتي النهر، فهم يحبسون بعد أن يتجاوزوا النار وقبل أن يدخلوا الجنة ( يتقاصون مظالم كانت بينهم )، وهم أهل الجنة، الذين لم تحط سيئاتهم بحسناتهم، فثقلت موازينهم، وبيضت وجوههم، وكثرت صالحاتهم، ومع ذلك لا يأذن الله عز وجل لهم بدخول الجنة حتى يتم لهم الطيب، حتى إذا هذبوا أذن الله عز وجل لهم بدخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: ( فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل من داره التي كانت في الدنيا )، كما قال في سورة يونس: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [يونس:9]، أي: بإيمانهم يدلون على منازلهم في الجنة حين يدخلونها، فأحدهم يعرف بيته وقصره ومنزله أتم من معرفته لبيته في الدنيا، (والذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل من داره في الدنيا).

    في هذا الحديث العظيم يبين الله جل شأنه أن الطيبين لا بد لهم من تمحيص، ولا بد لهم من تطهير، وأن هذا التطهير على مراتب ومراحل، وآخر هذه المراحل هذا الحبس اليسير قبل دخول الجنة، يتَقاصُّون مظالم كانت بينهم، فيرد بعضهم إلى بعض، ويعفو بعضهم عن بعض، وتؤخذ من حسنات الظالم للمظلوم، حتى إذا هذبوا ونقوا من الكدر الذي يكدر الطيب أُذن لهم بدخول الجنة، ومن حكمة الله ورحمته أنه لم يهذبهم من هذا الكدر في ساحات القيامة أمام الشهود، ستراً لهم عن أعين الآخرين، حتى لا يشمت بهم خصومهم، وحتى لا يتشفى بهم أعداؤهم، فقد حبسهم بعد أن جاوزوا النار، وقبل أن يدخلوا الجنة، فأمنوا من الفزع الأكبر، وهم على الرجاء والطمع في أن يتخلصوا من هذه المظالم حتى يدخلوا الجنة، وهذا من رحمة الله بأوليائه، ولطفه بأحبابه، فإنه يعاملهم بالرفق واللين في سائر شئونهم، حتى في أخذ المظالم منهم: (حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار).

    أما الذين لم يصلوا إلى هذه القنطرة فإنهم يتعرضون قبلها لأنواع من التمحيص حتى يحصل الطيب، فلن يدخلوا الجنة إلا طيبين، ولن يؤذن لهم بولوج أبوابها حتى تسلم عليهم الملائكة بهذه الكلمات: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، فسبيل أهل الجنة إذاً الطيب، والطيب في العمل، والطيب في الكلام، والطيب في النيات، والطيب في الاعتقادات، فطيب قلبك بمعرفة الله تعالى حق معرفته، والاشتغال بحبه، والاعتراف بمنته، وطيب لسانك بالإكثار من ذكر الله والكلام الطيب، فلا يصعد إلى الله إلا الطيب، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وطيب جوارحك بالاشتغال بطاعة الله، والإقبال على ذلك، فإذا فعلت هذا كنت من الطيبين.

    وإذا لم تفعل فهناك وسائل شرعها الله يخلصك بها من الكدر، وينقيك بها من الغبش، فإذا كان لك منها أوفر الحظ والنصيب فزت بالطيب ومت من الطيبين.

    1.   

    المنقيات من الذنوب في الدنيا

    التوبة النصوح

    أول هذه المصفيات المخلصات المنقيات: التوبة النصوح، فإن التوبة تجب ما كان قبلها، ويعود بها صاحبها كمن لا ذنب له؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، ووعد الله في كتابه بأنه سيبدل سيئات التائب حسنات: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]، فإذا لم تكن التوبة نصوحاً، أو كانت ناقصة، أو تاب صاحبها من بعض ذنوبه دون بعض؛ فإن لطف الله عز وجل به وفقه إلى أعمال أخرى يستكمل بها طيبه، ومن ذلك:

    الحسنات الماحيات

    الحسنات الماحيات، فإن الحسنات يذهبن السيئات؛ كما أخبر الله في كتابه، فقال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فكل حسنة تعملها يدفع الله عز وجل بها عنك أنواعاً من الآثام، والحكم للغالب.

    الاستغفار

    فإن لم تكن من أهل هذا الموقف فكن من أهل الاستغفار، فإن الاستغفار يمحو الله عز وجل به ذنوب المستغفرين، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، فإن كان الاستغفار مدخولاً ناقصاً، بأن كان يصدر من لسان بغير قلب، فيستغفر اللسان والقلب مصر على العناد، أو يستغفر اللسان والقلب غافل عن المعرفة بالجناية والذنب، فإن هذا الاستغفار وإن كان حسناً إلا أنه لا يبلغ مرتبة محو الذنب ومحو السيئة، فيشرع الله عز وجل أنواعاً أخرى من المكفرات، منها:

    المصائب والآلام

    المصائب والآلام: ( فما من عبد يصاب بمصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )، أي: ما من هم ولا غم ولا نصب ولا تعب ولا كدر يصيب العبد المؤمن في الدنيا إلا أذهب الله عز وجل بقدره عنه من الذنوب والآثام، فهنيئاً للعبد الذي يلاقي قضاء الله بالاحتساب، ويلاقي قدر الله عز وجل بالرضا والصبر، فإن الله لا يقدر له إلا ما فيه الخير، كما قال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

    فهذه ممحصات أربعة المقصود منها تحصيل الطيب للعبد المؤمن حتى لا يموت إلا طيباً، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32]، فإذا كان منهم نزلت عليه هذه البشارة عند الوفاة: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فحتى تنال هذه البشارة بادر إلى التوبة، وسارع إلى الاستغفار، وأكثر من الحسنات الماحية، واحتسب جزاءك وأجرك على كل مصيبة تنزل بك في دنياك، فإذا فعلت ذلك كنت من أهل الطيب عند الممات، فإن لم يكتسب العبد هذا الطيب في حياته كان من رحمة الله به أنه يؤهله لأنواع أخرى من المخلصات الماحيات بعد مماته، وهذا ما تسمعونه في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الممحصات من الذنوب في البرزج وما بعده

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! مما شرعه الله عز وجل لينال به العبد الطيب المؤهل له لدخول الجنة بعد موته أمور ثلاثة في البرزخ، وأمور ثلاثة بعد قيام الناس لله رب العالمين.

    أمور ثلاثة في حياة البرزخ، يعني: في الحياة الفاصلة بين دار الدنيا ودار الجزاء الأخروي، الدار التي تبدأ بنشر العباد للوقوف لله رب العالمين، حياة البرزخ فيها ثلاثة من الممحصات:

    دعاء المؤمنين وشفاعتهم

    أولها: دعاء المؤمنين للميت وشفاعتهم له، فإن الله شرع صلاة الجنازة ودعاء المؤمنين للميت بالمغفرة والرحمة، فإن شاء الله عز وجل له الخير محا عنه ذنوبه، وقبل شفاعة الشافعين فيه، وخلصه من ذنوبه وآثامه، وصار من الطيبين الذين لا خوف عليهم في قبرهم وما بعد القبور.

    فتنة القبر

    وإلا شرع الله عز وجل بحكمته ممحصاً آخر في حياة البرزخ، وهي: الفتنة العظمى، الفتنة الكبرى التي يتعرض لها الإنسان في قبره: فتنة القبر، وسؤال الملكين، وضمة القبر للإنسان حتى تختلف أضلاعه، وأهوال القبور وما فيها من آلام، كل ذلك تمحيص له من ذنوبه، وتخليص له من سيئاته، والعبد الموفق هو الذي يسعى لتخليص نفسه قبل أن يصل لتلك المواقف الصعبة، فمن رحمة الله أنه يخلص بعض العباد في هذا الموقف قبل أن يصل إلى الموقف الأعظم.

    إهداء الأعمال الصالحة إليه كالصدقة ونحوها

    ومن المخلصات في حياة البرزخ: ما يهديه الناس بعضهم لبعض من الأعمال الصالحة، فإن الإنسان في قبره ينتفع بدعاء أهله وإخوانه، وينتفع بما يهدونه له من القرب والصالحات، فإنه ينتفع بصدقات المتصدقين عنه، وبدعاء الداعين له بإجماع العلماء، وينتفع بمن حج له أو اعتمر، وبمن قرأ له القرآن أو تصدق عنه، ينتفع بكل حسنة تهدى له وهو في قبره، ولذلك كان أهم ما ينبغي للإنسان أن يكتسبه في حياته ولداً صالحاً يدعو له بعد موته، ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: ولد صالح يدعو له )، فالقرب التي يهديها الأحياء للأموات من أنواع الممحصات المخلصات للإنسان من ذنوبه وآثامه في حياة البرزخ.

    فإن اشتد الكدر، وعظم الخبث، وكثرت الذنوب والسيئات، ولم تجد فيها كل هؤلاء المكفرات، ولم يتخلص الإنسان بكل هذه الممحصات، فهناك ثلاث ممحصات أخرى أعظم تنتظره في عرصات القيامة، وهي الفرص الأخيرة، قبل أن يلج النار، وقبل أن يهذب بالنار والعياذ بالله من النار، وهذه ثلاث ممحصات:

    أهوال القيامة

    أولها: أهوال القيامة وصرعاتها، أي: شدائد القيامة وما يلقاه العبد فيها، فإن الناس يسبحون في عرقهم فيها بقدر أعمالهم، ينظر الواحد عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، أهوال قال عنها الأبرار: يا لهول المطلع، يقول الواحد منهم مع شدة تقاه، ومع عظيم ما قدمه وأولاه: يا ليتني أخرج كفافاً لا لي ولا علي، أهوال يجعلها الله تمحيصاً لمن لم تمحصه المكفرات قبل ذلك.

    عفو الله عز وجل

    وهناك أنواع أخرى من التمحيص، وهو عفو الله سبحانه وتعالى ومغفرته، فإنه يتجاوز عن من شاء، ويمحو لمن شاء، ويغفر ويتجاوز لمن شاء، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ولكن الذين يرجون هذه المغفرة، ويطمعون في هذا العفو، ويؤملون في هذا الصفح، مطالبون بأن يحسنوا العمل في الدنيا؛ كما قال الحسن : لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]، فالذين يطمعون في عفو الله مطالبون بأن يحسنوا الظن في الله، فيقدروه حق قدره، ويعظموه حق عظمته، فيعاملوه بما يليق به سبحانه من الإجلال والإكرام، يقفون عند حدوده، وينفذون أوامره، ويتقربون إليه بحبه وذكره، ثم يطمعون بعد ذلك في عفوه وتجاوزه عما زلت به أقدامهم، أو هفت بهم قلوبهم، أو أخطأت به ألسنتهم، فهؤلاء هم أحرى الناس بعفو الله، وهم أرجى الناس بالطمع بمغفرة الله، وهذا الممحص هو آخر الممحصات قبل تهذيب النار وقبل تنقيتها.

    البقاء في النار مدة ثم الخروج منها

    فمن لم تُجدِ فيه كل هذه الممحصات قدر الله تعالى ألا يدخل الجنة إلا بعد أن يهذب من ذنوبه، ويطهر من سيئاته، فيأمر سبحانه وتعالى بإدخاله النار ليعذب بقدر ذنبه، فيمحص بهذه النار كما يمحص الذهب من الشوائب، وكما تخلص المعادن النفيسة من الأقذار التي تخالطها، يدخل النار ليهذب وينقى، فإذا هُذب ونُقي أمر الله بإخراجهم من النار، وحينها تقول لهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، فهذه الدنيا شرعت لاكتساب عمل الطيبين، والاقتداء بآثارهم، وأعطيت لك الفرصة والمنحة، فعمرك من أكبر نعم الله عز وجل عليك، وأكبرها الهداية والتوفيق لاستغلاله في أن تكون من الطيبين، فإذا كنت منهم فأبشر بخير العاجل والآجل.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يحيينا حياة طيبة، وأن يميتنا ميتة الطيبين.

    اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم فرج عن المسلمين في سوريا ما هم فيه يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين، ونجهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما تريد، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تنصر المسلمين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين.

    اللهم إنا نستنصرك لهم فانصرهم يا قوي يا عزيز، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، اللهم لا حول لهم ولا قوة إلا بك، اللهم قَلَّ الناصر، ولا غالب لمن نصرت يا قوي يا عزيز، اللهم إنا نستنصرك لهم فانصرهم بقوتك يا قوي يا عزيز، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم اقطع عنهم إمهالك، اللهم عاملهم بعدلك يا أحكم الحاكمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756656694