إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب تعليق الطلاق بالشروط [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قد يحلف الزوج بالطلاق على أمر يريد أن يمنع زوجته منه أو يحثها عليه، فيترتب على هذا الحلف مسائل في الطلاق بحثها العلماء رحمهم الله بتفاصيلها.

    1.   

    تعليق الطلاق على الطلاق بـ(كلما)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق. فوجدا، طلقت بالأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً ].

    تقدم معنا أن الطلاق له حالتان:

    الحالة الأولى: أن يوقعه الزوج منجزاً، كقوله لامرأته: أنت طالقٌ، فهذا طلاق منجز، حيث أمضى طلاقها دون أن يعلقه على شيء.

    الحالة الثانية: أن يكون معلقاً، والتعليق له مسائل وأحكام اعتنى العلماء -رحمهم الله- ببيانها وتفصيلها، وبين المصنف -رحمه الله- مسائل التعليق، وذكرنا أن التعليق لا يكون إلا من زوج، وبينا أنه إذا وقع من الأجنبي فلا يقع على أصح أقوال العلماء رحمهم الله.

    ثم هذا التعليق يشتمل على ربط حصول مضمون جملة على حصول مضمون جملة أخرى، وبينا أن لهذا التعليق أدواتٍ يتم من خلالها ربط الجمل بعضها ببعض، ومنها ما يقتضي التكرار، ومنها ما لا يقتضي التكرار، وبينا مسائل الطلاق بالشروط، وفصلنا جملة من تلك المسائل، وما زال المصنف -رحمه الله- في نوع خاص من التعليق، في معرض بيانه لتعليق الطلاق على الطلاق، فالطلاق قد يعلق على وقوع شيء إذا وقع وقع الطلاق، فيعلق إما على أقوال وإما على أفعال، ثم هذا الشيء إذا كان من جنس الطلاق فإنه يعتبر فرداً من أفراد تعليق الطلاق على وقوع الشيء، لأن التعليق قد يكون على الأقوال وقد يكون على الأفعال، والطلاق من الأقوال، فالمصنف -رحمه الله- لا زال في معرض بيانه للمسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق على الطلاق، وتعليق الطلاق على الطلاق تارةً يكون تعليقاً لطلقة على وقوع طلاق منه، وتارةً ينسحب الطلاق ويتكرر.

    قال رحمه الله: [ وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ].

    الفرق بين: (كلما طلقتك) و(كلما وقع عليك طلاقي)

    هناك فرق بين الجملتين، فقوله: (كلما طلقتك) لا تقع الطلقة إلا بعد وقوع الطلاق منه، فأصبح الطلاق معلقاً عليه هو، وليس على وقوع الطلقة، وهناك فرق بين أن يعلق الطلاق على وقوعه من المطلق وبين أن يعلق الطلاق على مجرد وقوع الطلاق، فإذا علقه على تطليقه فلا تطلق إلا بتطليقه، ويكون الطلاق منحصراً في ذلك التطليق الذي يقع منه، وأما (كلما وقع عليك طلاقي) فقد علق الطلاق على وقوع الطلاق، فينسحب الطلاق وراء بعضه، فتطلق لوقوع الشرط الطلقة الأولى، فإن وقعت الطلقة الأولى جاء الشرط وتحقق للطلقة الثانية؛ لأنه كلما وقع عليها طلاق تقع طلقة ثانية لشرط ثان مستأنف، ويكون هذا مقتضياً للتكرار.

    اللفظة الأولى: كلما طلقتك فأنت طالق، فلو قال لها: أنت طالقٌ فإنها تطلق عليه طلقتين:

    الطلقة الأولى: بقوله: أنت طالق، والطلقة الثانية: مرتبة على شرط بينه وبين الله، أنه إن طلقها فهي طالق، فيكون الطلاق معلقاً على وقوعه من المطلق، ولا تستطيع أن تحدث طلقة ثالثة بعد هاتين الطلقتين لأنه يتقيد الطلاق في هذا الشرط بأن يحصل منه الطلاق، ولم يحصل منه إلا مرةً واحدة فلا يتكرر.

    اللفظة الثانية: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فقد علق الطلاق على وقوع الطلاق، فإذا قال لها: أنت طالق، وقع عليها الطلاق فتطلق الطلقة الثانية، فإذا طلقت الطلقة الثانية، وقع عليها طلاق فوقع الشرط فتطلق الثالثة، هذا الفرق بين الصورة الأولى والصورة الثانية، يقول رحمه الله:

    (وإن قال كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق).

    (كلما طلقتك) أسند إلى نفسه، (كلما وقع عليك طلاقي) أسند الطلاق ورتبه على وقوع الطلاق، وفي كلتا الصورتين لا يمكن أن يقع الطلاق في الابتداء إلا إذا حصل منه طلاق، فإذا حصل منه طلاق في قوله: (كلما طلقتك) فأسند الطلاق إلى نفسه؛ فتطلق طلقة واحدة مع الطلقة التي طلقها، لكن في قوله: كلما وقع عليك الطلاق مني فأنت طالق، فإنه إذا طلقها الطلقة الأولى؛ جاءت الطلقة الثانية بالشرط مثل الصورة الأولى، لكن هناك أمر آخر مرتب على الطلقة الثانية، وهو أنه كلما وقع طلاق تقع طلقة، فوقعت الثانية بالشرط ووقعت الثالثة بعدها بالوقوع؛ لأنه وقع طلاق فتحقق الشرط مرتين، ففي المرة الأولى تحقق بتطليقه، وفي المرة الثانية تحقق بوقوعه لتحقق الشرط فتطلق عليه ثلاثا.

    ففي اللفظ الأول تطلق عليه مرتين، الطلقة الأولى بناءً على لفظه وتطليقه، والطلقة الثانية بناءً على شرطه، وأما في اللفظ الثاني: فإنها تطلق عليه ثلاثا، تطلق عليه الطلقة الأولى؛ لأنه طلق، وتطلق عليه الطلقة الثانية؛ لأنه وقع عليها طلاقه، وتطلق عليه الطلقة الثالثة لأنه وقع طلاقه بالطلقة الثانية، ولو كان الطلاق عشرين لانسحب الطلاق وراء بعضه حتى يستتم العشرين، هذا الفرق بين الصورة الأولى والثانية.

    في الصورة الأولى: التكرار بوقوع الطلاق منه، وفي الصورة الثانية: التكرار بوقوع الطلاق؛ و(كلما) تقتضي التكرار، فيتكرر عليه الطلاق في الصورة الأولى بتكرره منه، كلما وقع منه طلاقه، ولا يتكرر إذا لم يقع منه طلاق، وفي الصورة الثانية: تقتضي (كلما) التكرار لحدوث الطلاق ويسحب بعضه بعضاً، فالطلقة الأولى موجبةٌ للثانية، والثانية موجبةٌ للثالثة، وهكذا حتى يستتم عدد الطلاق.

    1.   

    تعليق الطلاق على الحلف

    حكم إيقاع الطلاق بالحلف بالطلاق

    قال رحمه الله تعالى: [ فصل: إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال ].

    شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، والحقيقة أن الحلف له بابٌ مخصوص وهو باب الأيمان، والحلف شيء والطلاق شيءٌ آخر، لكن تجوّز العلماء وتسامحوا في إطلاق الحلف على الطلاق، وهذا لا يستلزم أن الطلاق يأخذ أحكام اليمين كلها، إنما هذا تجوز لوجه الشبه بين اليمين الذي هو الحلف وبين الطلاق، ووجه الشبه ينحصر في صور خاصة، منها: الطلاق في هذه الصورة في تعليق الطلاق بالشرط لقصد الكف أو الحمل على الفعل، فإذا علق الطلاق على شيء زاجراً امرأته عن ذلك الشيء أو حاثاً لها على ذلك الشيء، فإنه حينئذٍ يكون في معنى اليمين من جهة الحث على الترك أو على الفعل، لا أنه يمين؛ لأن الحلف لا يصلح بغير الله عز وجل، ولا ينعقد بغير الله عز وجل: (ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فليس بيمين شرعي من كل وجه، وإن كان بعض العلماء يرى أنه يكفر كفارة يمين، لكن هذا قول مرجوح، وجمهور السلف والأئمة -رحمهم الله- على وقوع الطلاق المعلق بالشرط الذي ألزم فيه المكلف نفسه فيما بينه وبين الله أن امرأته إن خرجت طلقت عليه، فلا فرق بين قوله: إن جاء الغد أو إن طلعت الشمس فأنت طالق، وبين قوله: إن قمت فأنت طالق، أو إن قعدت، أو إن سلمت على أبيك، أو إن زرت أهلك، فكلٌ منهما بمعنىً واحد، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة، فإذا علق فيما بينه وبين الله عز وجل من أجل أن يحث امرأته على فعل أو يمنعها ويزجرها من فعل فإنه في معنى اليمين من جهة الحث والمنع، لكنه لا يأخذ حكم اليمين من كل وجه، هذا من حيث الأصل، قال بعض العلماء: إنه يكون في حكم اليمين، وهذا قول مرجوح لأنه مبني على القياس والنظر، وأنتم تعلمون أن الطلاق مبناه تعبدي، وألفاظه في الأصل تعبدية في الكيفية، فالشرع جعل الطلاق جده جدٌ وهزله جدٌ، يقول العلماء: لفظ الطلاق على الخطر والمخاطرة، فالأصل أنه لا يتكلم متكلم بهذا الطلاق إلا ألزمه الشرع به، هذا هو الأصل، فلن يستطيع أحد أن يسقط هذا الإلزام الذي ألزم به المكلف نفسه إلا بدليل شرعي يبين أنه لا يأخذ حكم الطلاق، حتى الهازل الذي لا يقصد ولا يريد إيقاع الطلاق أمضى الشرع عليه الطلاق، مع أنه لا نية له، والشرع يعظم أمر النية، وقد تقدم بيان حكمة الشرع في اعتماد الطلاق، وأخذ الناس فيه بالحزم وبالجد، حتى أن الرجل لو قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله قصد أنها طالق من حبل؛ فإنها تطلق عليه قضاءً، كل هذا حتى لا يتلاعب الناس بهذا اللفظ المبني على الخطر، وأنه ينبغي أن يحتاط في أمر دينه، فهو حينما يقول لامرأته: إن خرجت من الدار فأنت طالق، لا يختلف اثنان أنه فيما بينه وبين الله عز وجل يريد إيقاع الطلاق إن خرجت من داره، وكونه يريد أن يمنعها أو يريد أن يحثها على الفعل؛ هذا أمر خارج عن صلب الموضوع، صلب الموضوع أن الله أعطاه إذا تلفظ بهذا الطلاق أن يمضي عليه الطلاق، هذا الذي مضت عليه الشريعة في جد الطلاق وهزله، وإذا ثبت كونه يقصد المنع فهذا أمر جاء تبعاً، وشرع الله ألزم كل مطلق بطلاقه، وجمهور العلماء على وقوع الطلاق المعلق بشرط سواءً تضمن الشرط حثاً أو منعاً وزجراً بحيث يقصد منه أن يحث امرأته على شيء أو تمتنع منه، فإن وقع الشرط وقع المشروط، فلو قال لها: إن خرجت فأنت طالق، فكل شخص يعرف معنى الطلاق، ويعرف أنه يقول لزوجته: إن خرجت -يعني: بينه وبين الله- فأنت طالق، فلا فرق بين قوله: إن خرجت فأنت طالق، وبين قوله: إن جاء الغد فأنت طالق، هذا قصده في الزمان، وهذا قصده في وقوع الفعل أو عدم وقوعه إن لم تقومي، إن لم تذهبي، إن لم تأتي، إن لم تعملي، كل هذا بينه وبين الله، وجاء بصيغة معروفةٍ في لسان العرب، وربط مضمون جملة بمضمون جملة أخرى، فنلزمه فيما بينه وبين الله بطلاقه، هذا من حيث الأصل.

    إذا ثبت هذا، فإن تسمية الطلاق حلفاً ليس المراد أنه من كل وجه يأخذ حكم اليمين، ولا تشرع فيه كفارة اليمين، وما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً في الطلاق أن يكفر كفارة يمين، ولا عن واحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفتى أحداً في مسألة من مسائل الطلاق أن يكفر كفارة يمين، بل جماهير السلف من العلماء والأئمة -رحمهم الله- على أن من علق طلاقاً بينه وبين الله عز وجل على وقوع الشيء الذي اشترطه؛ أنه يلزم بالطلاق، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على زمان أو مكان أو بين أن يعلق على وقوع شيء أمراً وحثاً أو زجراً وتركاً.

    تعليق الطلاق على الحلف بالطلاق

    شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، وكما ذكرنا أنه إذا قال لها: إن ذهبت إلى أمك، إن ذهبت إلى أهلك، إن قمت، إن قعدت، إن لم تتكلمي، إن لم تعملي، إن تكلمت فأنت طالق، إن خرجت فأنت طالق، وكان يقصد منعها من الخروج، أو منعها من الكلام... إلخ. هذه يسميها العلماء الحلف بالطلاق، ويتجوزون في تسمية الطلاق بالحلف.

    فهنا كي يبين المصنف حكم التعليق على وجود أمرٍ آخر مرتبط بالحث على فعل شيء أو ترك شيء قال رحمه الله:

    (إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال).

    (إذا حلفت بطلاقك) أي: إذا وقعت مني صيغة الحلف بالطلاق فإنك طالقة، بناءً على هذا: ننتظر منه أن يقول هذه الصيغة، فلو قال لها بعد هذا: إن قمت فأنت طالق، فإنها تطلق؛ لأنها وجدت صيغة الحلف؛ لأنه لا يريد منها القيام إن قال لها: إن قمت، أو قال لها: إن خرجت، فهو لا يريد منها الخروج، فهذا في معنى الحلف لما ذكرنا، فعلق الطلاق على الحلف وكأنه قال: إن علقت طلاقك على فعلك شيئاً أو تركك شيئاً فأنت طالق، فإن وقع منه تعليق على هذا الوجه فإنه يحكم بالطلاق، سواءً قال لها: إن قمت، إن قعدت، إن أكلت، إن تكلمت ونحو ذلك من صيغ التعليق فإنها تطلق في الحال، ولو قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالقٌ، قال ذلك -مثلاً- الساعة الواحدة ظهراً، ثم الساعة الثانية قال لها: إن ذهبت إلى بيت أبيك فأنت طالق، طلقت في الساعة الثانية ظهراً بالتعليق الأول؛ لأنه وقع منه تعليق على الخروج، وهو بمعنى الحلف، ثم ننتظر إن خرجت إلى أبيها وقعت الطلقة الثانية، وهذا مبني على ما ذكرناه من مسألة التعليق على الحلف.

    قال المصنف رحمه الله: [لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرط لا حلف].

    تقدمت معنا مسائل التعليق على الزمان، وإضافته إلى الزمان المستقبل، وبينا الصور والمسائل التي ذكرها العلماء في هذا الموضع.

    صورة المسألة التي ذكرها المصنف: أن يقول لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن طلعت الشمس فأنت طالق، (إن طلعت الشمس) ليست بحلف؛ لأنها لا تتضمن حثاً على فعل، ولا منعاً من شيء، فهذه الجملة ليست عندهم في معنى اليمين ولا في معنى الحلف، وقالوا: في هذه الحالة علق طلاقه على طلوع الشمس فإن طلعت الشمس حكم بطلاقها، وفي هذه المسألة بعض العلماء يقول: إنها تطلق حالاً، والجمهور على أنها تطلق بطلوع الشمس، فعلى هذا إذا اشترط الحلف فلا بد وأن تتضمن صيغة التعليق أمراً بشيء أو نهياً عنه كما ذكرنا.

    تكرار صيغة (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق)

    قال المصنف رحمه الله: [ وإن حلفت بطلاقك فأنت طالق أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فاثنتان وثلاثا فثلاث ].

    (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق) يقع الطلاق فيها بصورتين:

    الصورة الأولى: أن يحلف وتقع منه صيغة ثانية غير الصيغة التي قالها أولاً، مثال ذلك: أن يقول: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق؛ ثم يقول لها: إن قمت فأنت طالق، فإنها تطلق في الحال؛ لأنه حلف بطلاقها بقوله: إن قمت، وهي صيغة للحلف غير الصيغة التي ذكرها أولاً.

    الصورة الثانية: أن يكون التطليق بهذا التعليق بنفس الصيغة، مثال ذلك: أن يقول لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم بعد وقت قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، فهذا حلفٌ بالطلاق فتطلق عليه، ولو جاء مرة ثانية وقال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق فالطلقة ثانية، وإن جاء مرة ثالثة وقال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، تطلق الطلقة الثالثة؛ لأنه في كل إعادة يعيدها وقعت منه صيغة الحلف، ووقع منه التعليق الذي يوصف بكونه حلفا عند من يسميه بهذا الاسم من العلماء رحمهم الله.

    إذاً: (إن حلفت بطلاقك) لها صورتان:

    إما أن يحلف بطلاقها حقيقة وحينئذٍ لا إشكال، إذا وقع الشرط وقع المشروط.

    وإما أن يكرر نفس الصيغة، وهي من صيغ الحلف.

    فالتطليق يكون إما بوقوع حلف خارجٍ عن الصيغة الأساسية أو يكون بتكرار الصيغة نفسها؛ لأنه فيما بينه وبين الله أنه مطلقٌ لها إن وقعت منه صيغة الحلف، فإن طلقنا عليه في المرة الأولى فقد طلقنا عليه بصيغة الحلف وتحقق الشرط، وهكذا في المرة الثانية، وهكذا في المرة الثالثة.

    (أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فاثنتان، وثلاثاً فثلاث).

    (أو إن كلمتك فأنت طالق) في هذه الحالة لو جاء وقال لها مرة ثانية: إن كلمتك فأنت طالق، فقد كلمها، مثلاً: قال لها الآن: إن كلمتك فأنت طالق، ثم بعد دقيقة قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، فإنها تطلق عليه، فإن رجع مرة ثانية وقال: إن كلمتك فأنت طالق، فطلقة ثانية، وإن رجع فثالثةً؛ لأنه تكلم، وإذا وقع الشرط فقد وقع المشروط، بناءً على ذلك: يحكم بطلاقها ثلاثاً إن تكرر منه ذلك ثلاثاً.

    1.   

    تعليق الطلاق على الكلام

    قال رحمه الله تعالى:

    [فصل: إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، فتحققي، أو قال: تنحي، أو اسكتي، طلقت ].

    هذه أمثلة لا يستغرب الإنسان منها، فهي نوع من الرياضة لذهن الفقيه وطالب العلم الذي سيجلس غداً للفتوى أو للقضاء أو للتعليم، ومن علم بهذه المسائل الغريبة العجيبة فإنه سيأتيه مثلها، ولكل أهل زمان أسلوبهم وطريقتهم، فلا يظن الطالب أن هذا شيء غريب معقد، بل هذا نوع من الترويض، وهو مدروس من العلماء رحمهم الله، وهم أبعد من أن يضيعوا أوقاتهم وأوقات من يدرس كتبهم، بل هذه المسائل تدرس بعناية، ويراد بها الترويض للذهن على المسائل الغريبة في الطلاق، وسيأتيك من أسئلة الناس ما لم يخطر لك على بال، فالعلماء يضربون أمثلة متعددة، وكلمات غريبة، ويقصدون منها وضع ضوابط للفقيه بحيث إذا سئل عن أي مسألة يعرف أصلها، فقد يأتي رجل لم يقرأ الفقه البتة؛ ويأتيك بشيء أشبه ما يكون بما ذكره العلماء، وقد رأينا في مجالس علمائنا ومشائخنا من يأتي بكلمات مبنية على كلام العلماء رحمهم الله، لكنها اختلفت باختلاف عادات الناس وأساليبهم، فالكلمات التي يذكرها العلماء مثل قولهم: إذا علق الطلاق على شيء، إذا علق على شيء آخر؛ كل هذا ترويض لطالب العلم الذي سيكون فقيها أو مدرساً أو مفتياً أو قاضياً، حتى لا يستغرب شيئاً مما يقع بين يديه، ويستطيع أن يقيس، والقاضي تأتيه المسائل من كل حدب وصوب، وليست معينة، وكذلك المفتي، وكذلك من يدرس ويعلم.

    فنحن دائماً في المسائل الغريبة ننبه على هذه التنبيهات لأنها تربط طالب العلم بهذه الأشياء، وتجعله ينتبه للأساسيات، ونحن لا يهمنا تحقق الكلمة، والذي يهمنا الأصل والقاعدة والضابط الذي يبنى عليه، وترتبط به مسائل الباب، والذي يدرس الفقه بلا معرفة لقواعده وضوابطه لا يستطيع أن يتصدر للفتوى في المسائل الغريبة التي لم يدرسها، لكن الذي يعرف الضوابط والأصول يستطيع أن يستذكر، ويستطيع أن يحفظ، ويستطيع أن يستحضر عند الحاجة إلى ذلك.

    قوله: (إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، أو قال: تنحي، أو اسكتي، طلقت).

    هذا الفصل فيه تعليق الطلاق على الكلام، إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، فتحققي، جملة (تحققي) كلام يتحقق به ما اشترطه على نفسه: إن كلمتك فأنت طالق، فأي شيء يصير بعد هذه الصيغة من الكلام ويصدق عليه أنه كلام، فإنه يحكم بوقوع الطلاق به، فإذا قال لها: قومي، اقعدي، اسكتي، ارفعي هذا، ضعي هذا، فقد وقع الشرط ويحكم بطلاق المرأة.

    هل الإشارة كالكلام؟

    الجواب: هو قال: إن كلمتك، والإشارة شيء، والكلام شيءٌ آخر، فالكلام يكون صوتاً مشتملاً على الحروف الهجائية، فإذا حصل منه كلامٌ حُكِم بالطلاق، وإن حصلت منه إشارة فلا طلاق، فلا بد وأن يتحقق الشرط على الصفة المعتبرة: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، تثبتي، تريثي، انتبهي، وقعت جملة من الكلام بعد صيغة الشرط فيحكم بطلاقها.

    لاحظ حينما قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فانتبهي، البعض قد يظن أنها مرتبطة، والواقع أنه كلامٌ بعد الصيغة، فتطلق به، كما لو قال لها بعد عشر دقائق: احذري، فلو قال لها: انتبهي احذري، موصولاً بصيغته أو مفصولاً فالحكم واحد، ومراد المصنف: أن اتصال الكلام بالصيغة وانفصاله سواء في الحكم، وانظر إلى دقته: مثَّل بكلام متصل بالصيغة حتى تفهم أنه إذا انفصل فتطلق من باب أولى وأحرى؛ لأنه لو قال لها: (إن كلمتك فأنت طالق، ثم كلمها، طلقت)، قد يظن الظان أنه ما يقع إلا إذا كلمها بعد الصيغة فقط، لكن قال المصنف: إن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، والكلام متصل بالصيغة، فإذا حُكِم بطلاقها بشيء متصل فمن باب أولى أن يحكم بطلاقها إذا انفصل الكلام.

    تعليق الطلاق على الابتداء بالكلام

    قال المصنف رحمه الله: [وإن بدأتك بكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه ما لم ينو عدم البداءة في مجلس آخر].

    (إن بدأتك بكلام فأنت طالق، قالت هي: إن بدأتك بالكلام فعبدي حرٌ) إذاً كلٌ منهما قد اشترط شيئا، الرجل يشترط الطلاق إذا ابتدأها بالكلام، وهي تشترط العتق إذا ابتدأته بالكلام، فهو حينما قال لها: إذا ابتدأتك بكلام فأنت طالق، هذه الصيغة فيما بينه وبين الله أن زوجته طالق إن كان هو المبتدئ أولاً بالكلام، فلما تكلمت بعد الصيغة أسقطت هذا الحلف، وأسقطت هذا التعليق؛ لأنها ردت عليه وقالت: إن بدأتك، ولما ردت عليه سقطت البداءة منه، وفي هذه الحالة لا يتحقق شرطه، ويحكم برفع الصيغة، ولا يقع الطلاق، ولا يحكم بوقوعه إلا إذا قصد البداءة في مجلس آخر، مثلاً قال لها: لا تكلميني في الغرفة، قالت: وأنت لا تكلمني في الغرفة، قال: إن بدأتك بالكلام في الغرفة فأنت طالق، قالت: وإن بدأتك بالكلام في الغرفة فعبدي حر، في هذه الحالة الكلام وقع قبل المحل المعتبر بالشرط، فننتظر حتى يدخلا الغرفة، ثم من بدأ منهما وقع عليه ما اشترطه.

    وبهذا يفرق بين أن يقول: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، يعني: بعد كلامي هذا، فإذا قالت له: إن بدأتك، أسقطت البداءة كما في الصورة الأولى، وبين أن يقصد مجلساً آخر مثل ما ذكرنا في الصورة الثانية، أو يقصد موضعاً آخر أو زماناً آخر، مثلاً: قال لها: لا تكلميني عند أبي، قالت: وأنت لا تتكلم عند أبي، قال: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، قالت: وإن بدأتك بالكلام فعبدي حر، معناه: عند حضور الوالد، وحينئذ يبقى الاثنان أخرسين وإلا وقع الطلاق ووقع العتق، فتسكت ويسكت، فأيهما خاطب الثاني فإنه يُحكم عليه بما التزم به، إن كان الرجل فطلاق وإن كانت المرأة فعتق، هذا بالنسبة لمسألة تعليق الطلاق على الكلام.

    1.   

    تعليق الطلاق بالخروج بغير إذن

    قال رحمه الله تعالى:

    [ فصل: إذا قال: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق، فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه أو أذن لها ولم تعلم أو خرجت تريد الحمام وغيره أو عدلت منه إلى غيره طلقت في الكل ].

    عدم جواز خروج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها

    أولاً: لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، وهذا أمر لا إشكال فيه وأجمع عليه العلماء رحمهم الله، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها)، فإذا كانت عند خروجها إلى بيت الله، وخروجها إلى طاعة الله، وخروجها إلى فريضة من فرائض الله عز وجل تستأذن، فمن باب أولى ما عدا ذلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذن زوجها، هذا الأصل، وإذا خرجت من دون إذن الزوج، وصارت تخرج بدون إذنه، فإن هذا نشوز، ويحكم بنشوزها وتسري عليها أحكام المرأة الناشزة؛ لأن من حق الزوج على زوجته: أن لا تخرج إلا بإذنه، وهذا حق القوامة الذي تقدم بيانه في الحقوق الزوجية؛ وخروجها بغير إذنه طعن في رجولة الرجل، وحرمان له من حقه في القيام على المرأة، والله يقول: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، فجعل المرأة تحت قوامته؛ لأن أمور الزوجية لا تستقيم إلا بهذا، وإذا صارت المرأة تخرج بدون إذن فهذا نوع من الاسترجال، وقد (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسترجلات) واسترجال المرأة يكون بالكلام ويكون بالفعل، فإذا استرجلت المرأة وصارت تخرج من بيت زوجها بدون إذن زوجها فإنها -والعياذ بالله- يُخشى عليها هذا الوعيد الشديد، وهو لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه: أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159]، نسأل الله السلامة والعافية، فالأصل: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذن الزوج، وله أن يمنع زوجه بقوله: إن خرجت من البيت فأنت طالق، أو يقول لها: إن خرجت من هذه الغرفة فأنت طالق، إما أن يُطْلِق اللفظ ويقول: إن خرجت، دون أن يقيد اللفظ بزمان ولا بوقت معين ولا بظرف معين، وإما أن يقيد ويقول: إن خرجت اليوم فأنت طالق، إن خرجت هذا الأسبوع، إن خرجت هذه الساعة، وهذا كله تقييد يتقيد به تعليق الطلاق.

    الفرق بين الكل والجزء في تعليق الطلاق بالخروج

    إذا قال لها: إن خرجت فأنت طالق؛ فوقع خروج من المرأة حكمنا بطلاقها، ويشترط أن يتحقق وصف الخروج، فلو أخرجت يدها، أو أخرجت رجلها؛ فلا طلاق، فإن خروج الجزءِ ليس كخروج الكل، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدني إلى عائشة رضي الله عنها رأسه وهو معتكفٌ بالمسجد وهي في حجرتها، والمعتكف لا يجوز له الخروج من المسجد، فأخرج جزأه وهو الرأس ولم يحكم بانتقاض اعتكافه، قالت: (إن كان يدني إليّ رأسه فأرجله)، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـعائشة وهو في المسجد: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك)، لأنها ظنت أنها لو ناولته وأدخلت يدها أنه كدخولها كلها، وليس كما ظن بعضهم أن المعنى: حيضتك ليست في يدك، أي: لا تستطيعين رفع هذا العذر عنك، لأن هذا مجاز، والحديث على الحقيقة، واليد هي المعروفة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر الحمل على الحقيقة، (إن حيضتك ليست في يدك) أي: أنك إذا ناولتيني باليد، فإنها جزءٌ، والجزء لا يأخذ حكم الكل.

    إذا ثبت هذا: فالخروج الذي يعلق عليه الطلاق لا بد وأن يقع كاملاً، فلو خرج بعضها لم يحكم بطلاقها على التفصيل السابق.

    حالات وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن

    إذا خرجت حُكم بطلاقها، إلا إذا قيد فقال: إن خرجت بدون إذني فأنت طالق، فخرجت بدون إذنه نقول: تطلق؛ لأنه إما أن يطلق فيقول: إن خرجت فأنت طالق، وإما أن يقيد فيقول: إن خرجت اليوم، فهذا مقيد بزمان، أو إن خرجت بإذني، فهذا مقيد بصفة، فقوله: إن خرجت بدون إذني فأنت طالق، معناه: إن خرجت بالإذن فلا طلاق.

    (إذا قال: إن خرجت بغير إذني).

    رتب الطلاق على الصفة، وهي: أن لا يوجد الإذن.

    (أو إلا بإذني).

    إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق؛ فما بعد (إلا) يخالف ما قبلها في الحكم، فهو يقول لها: أنت طالق إن خرجت إلا أن تخرجي بإذني، هذا أصل التقدير، فمعنى ذلك: أنها إذا استأذنت لا تطلق، فقوله: إن خرجت بغير إذني أو: إن خرجت إلا بإذني، المعنى واحد، وهو انتفاء الإذن.

    (أو حتى آذن لك)

    إذا قال لها: حتى آذن لك فمعناه: أنك ممنوعة من الخروج إلا أن آذن لك وإلا تكوني طالقاً إن خرجت بدون إذني، أي: إن خرجت فأنت طالق حتى آذن لك؛ هذا التقدير، واللفظة الأخيرة: إن خرجت فأنت طالق حتى آذن لك، يعني: حتى آذن لك بالخروج.

    (أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق).

    (إن خرجت إلى غير الحمام) في هذه الحالة تصبح إما أن يقصد أن خروجها إلى الحمام موجب للطلاق، أو يقصد أنها إن خرجت إلى أي شيء طالق إلا أن تخرج إلى الحمام فلا طلاق، فيقول: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فالمعنى: أنها لو خرجت لشراء حوائجها أو لصلة رحمها أو لبر والديها لا تطلق؛ لأنه قيد طلاقها بالخروج إلى الحمام.

    وإن قال لها: إن خرجت لغير الحمام فأنت طالق، معناه: أنها إذا خرجت إلى الحمام لا تطلق، وإن خرجت إلى صلة رحمها أو بر والديها أو غير ذلك حُكم بطلاقها، وهذا كله ترويض للأفهام لفهم الألفاظ التي يذكرها الناس، والمعنى: أنه يرتب طلاقها ويعلقه على شيء لم يأذن لها به.

    (فخرجت مرة بإذنه).

    إن قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فقالت له: يا أبا فلان أريد أن أذهب إلى أبي، قال لها: اذهبي، هذه المرة الأولى، ثم خرجت المرة الثانية بدون إذن، فإن الطلاق يقع بالمرة الثانية لا بالأولى.

    (ثم خرجت بغير إذنه)

    خرجت في الأولى بإذنه وخرجت في الثانية بدون إذنه.

    (أو أذن لها ولم تعلم)

    يقول لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، ثم جلس مع أصحابه أو جلس مع والديها، فندم، وقال: أذنت لها، ولكنها لم تعلم، فخرجت بدون إذنه، فهنا نعلم أنه في الأصل ترتب الطلاق على الخروج بدون إذن، ومعنى نشوز المرأة وخروجها من بيت الزوجية بدون إذن موجود، حتى ولو أذن لها، مثلاً: وقع الإذن الساعة الثانية ظهراً، ووقع خروجها الساعة الثالثة عصراً، ولم تعلم بإذن الزوج، فحينئذٍ المعنى الذي يقصده من نشوزها عليه وعصيانها لأمره قد تحقق، وكونه أذن بدون علمها لا يؤثر، ولذلك يحكم بطلاقها.

    (أو خرجت تريد الحمام وغيره)

    قال لها: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام والبقالة، فإنها تطلق.

    وقد كانت هناك حمامات خاصة بالنساء كانت في القديم؛ لأن البيوت كان يصعب فيها وجود الماء، فكان من الصعوبة أن المرأة تتنظف في بيتها، فكان هناك نوع من الحمامات للرجال وللنساء، وهو مكان للتنظيف بالبخار، وهو موجود إلى الآن في بعض المناطق الإسلامية، وكان موجوداً في المدينة إلى عهد قريب.

    فإن قال لها: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فقالت: أريد أن أخرج إلى الحمام وإلى البقالة، فأشتري ما أريد، فوقع خروجها لأمرين، الحمام الذي منعت منه، والبقالة التي لم تمنع منها، ففي هذه الحالة يرد السؤال: -والعلماء يقصدون الصور والمعاني والضوابط أكثر مما يقصدون اللفظ نفسه والاسم نفسه- هل إذا جمعت بين المحظور وغيره، وبين المأذون به وغير المأذون به، هل يكون الحكم كما لو انفردت بمحظور غير مأذون به؟

    الجواب: نعم، سواءً خرجت إلى الحمام قصداً أو خرجت إلى الحمام مع غيره، وعلى هذا: يحكم بطلاقها؛ لأن الصفة -وهي خروجها إلى الحمام- قد تحققت بذهابها إليه، سواء ذهبت إلى غيره أو لم تذهب، وسواء ذهبت إلى غيره قبل، أو ذهبت إلى غيره بعد، فالصفة المعتبرة للحكم بالطلاق موجودة.

    )أو عدلت منه إلى غيره طلقت في الكل)

    خرجت إلى الحمام ثم عدلت أثناء الطريق إلى غيره، فالأمر الذي من أجله تركبت الصيغة -وهو نشوزها وخروجها من البيت- تحقق، فهي إذا خرجت إلى الحمام فبمجرد ما تخطو خطوةً واحدة من البيت خارجة إلى الحمام فقد تحقق خروجها، بخلاف ما إذا قال لها: إذا دخلت الحمام -لا حظ الفرق، وهذا هو الذي يقصده الفقهاء بهذه العبارات، الدقة في الحكم على الشيء- لو قال لها: إذا دخلت الحمام بغير إذني فأنت طالق، وخرجت تريد دخول الحمام، لكنها في الطريق عدلت، لم تطلق؛ لأنه ركب الشيء على وجود شيء معين وهو صفة الدخول، لكن إذا قال لها: إن خرجت إلى الحمام من غير إذني، فننظر أول خروجها من البيت لما خطت الخطوة الأولى خارج البيت فإنها قصدت أن تخرج إلى الحمام بدون إذنه فيحكم بطلاقها.

    حالات عدم وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن

    قال المصنف رحمه الله: [ لا إن أذن فيه كلما شاءت ].

    أذن لها بعد ذلك، وقال لها: كلما شئت اذهبي إلى الحمام، فهذا ناقض لما قبله، ولاحظ: هناك فرق بين أن يأذن لها مرة وبين أن يقول لها: متى ما شئت فاذهبي، متى ما شئت فزوري والدك، ولا شك أن قوله: إذا ذهبت إلى والدك، إذا زرت والدك فأنت طالق، لا يجوز؛ لأن هذا من العقوق، ولا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من برها لوالديها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما السمع والطاعة بالمعروف، فالمرأة لا تطيع زوجها إذا قال لها: لا تكلمي أباك ولا تكلمي أمك، فلا سمع له -ولا كرامة- ولا طاعة له في هذا، لكن المشكلة إذا علق الطلاق على هذا، ففي هذه الحالة إذا قال لها: إذا ذهبت إلى أبيك، إذا زرت أباك، وقصد ظرفاً معينا في حال الخصومة أو علم أن والدتها تفسدها في هذا الوقت وهذا الظرف، فقال لها: إن خرجت إلى والدتك فأنت طالق، ووقعت بهذا الظرف المعين، فقال: إن شئت، قال لها في الأول: إن ذهبت إلى أمك بغير إذني فأنت طالق، وهو يقصد أنها إذا ذهبت لابد أن يكون معها حتى لا تفسدها أمها وحتى لا تدخل بينه وبينها، فاستأذنت، فقال لها: اذهبي متى شئت، هذا إذن عام، فلو ذهبت المرة الأولى ثم ذهبت بعدها مرة ثانية لم تطلق، بخلاف الذي ذكرناه أولاً، فيما لو أذن لها مرةً واحدة، فبين المصنف -رحمه الله- الفرق بين الإذن العام والإذن الخاص، فإن أذن لها إذنا خاصا، تقيد الحكم به ولا طلاق في ذلك المأذون به، ويقع الطلاق في غيره، فلو استأذنته يوم السبت أن تذهب إلى أمها فأذن لها، ثم خرجت الأحد بدون استئذان، وقع الطلاق في خروجها يوم الأحد، وإن استأذنته يوم الاثنين لخروجها إلى أمها، فقال لها: اذهبي متى شئت، وزوري أمك متى أردت، فإنه حينئذ لا تطلق بزيارتها بعد ذلك؛ لأنه قد أذن لها وارتفع الحلف.

    قال المصنف رحمه الله: [ أو قال: إلا بإذن زيد، فمات زيد ثم خرجت ].

    قال: أنت طالق إن خرجت من البيت إلا بإذن زيد، وزيد أخوها مثلاً، زوجها أراد أن يسافر، فقال لها: أنت طالق إن خرجت من البيت إلا بإذن زيد، ففي هذه الحالة، علق الأمر على إذن زيد، فلو مات زيد فما الحكم؟

    مثل ما ذكرنا هناك أنه إذا أذن لها إذناً عاماً ارتفع تعليقه، كذلك هنا: إن مات من علق الطلاق على عدم إذنه؛ ارتفع تعليقه في هذه الحالة، وانتهى الأمر، ويرتفع التعليق؛ لأن التعليق مقيد بوجوده فإذا توفي ارتفع بوفاته.

    1.   

    الأسئلة

    معنى قولهم: تطلق قضاء

    السؤال: أشكلت عليّ عبارة: تطلق قضاء، ولا تطلق بينه وبين الله عز وجل؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

    فعند العلماء: القضاء والديانة، والحكم والديانة، الديانة: فيما بينك وبين الله عز وجل، مثلاً: قال رجلٌ لامرأته: أنت طالق، وقصد من حبل، والله يشهد عليه بقرارة قلبه أنه ما قصد الطلاق، إنما قصد أنها طالق من وثاق، أو طالق من حبل، فسألته وقالت له: أنا طالق؟ قال: قصدت أنك طالق من حبل، إذا صدقته وتعرف فيه الصدق وسكتت؛ فحينئذ هي زوجة له وتعمل على ظاهر هذا، ولا إشكال لأنه ديانة فيما بينه وبين الله ينفعه ذلك، وهي إذا صدقته بقيا على ما هما عليه، ولو كان جالسا مع أصحابه فقال: امرأتي طالق، وكانت امرأته مربوطة، أو كانت مسحورة، وقصد أنها طالق من سحرها، أو أطلقها الله من سحرها، أو انحل عنها بلاؤها، وقصد هذا، ولم تعلم زوجه، ولم يرفع ذلك إلى القاضي، حُكِم بالظاهر وأنها زوجته ونفعه فيما بينه وبين الله، لكن لو رفع إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بأنه مطلق لزوجته على الأصل، فيقول له القاضي: هل قلت: امرأتي طالق؟ قال: قلت امرأتي طالق، يقول القاضي: هذا اللفظ لفظ طلاق، وعندي أن هذا اللفظ إذا صدر من زوج مكلف وتوفرت فيه شروط الطلاق فإنني أحكم بطلاقه قضاءً؛ لأنه لو فتح الباب للناس لتجرأ الفساق والفجار؛ فيطلق أحدهم امرأته ويقول: قصدت أنها طالق من حبل، فيتلاعب الناس بالشرع، وهذا الذي جعل الشريعة تحكم بأن الطلاق جده جدٌ وهزله جدٌ، فهذا يدل على أن الطلاق فيه ديانة فيما بين العبد وبين الله، وفيه قضاء في حكم الحكام والقضاة.

    وبهذا يحكم على الظالم، وهذا المعنى له نظائر -ليس في القضاء فقط- فلو أن شخصاً ادعى أن له على فلان عشرة آلاف ريال وجاء بشاهدي زور -والعياذ بالله- وزُكي الشاهدان، فالقاضي يحكم على الظاهر، بأن له عشرة آلاف ريال، القضاء ينفذ، ويلزم المظلوم بدفع العشرة آلاف، لكن هذا قضاء، وأما ديانةً بينه وبين الله فالظالم هذا يعتبر آثما، وآكلاً للمال بالباطل مع أنه حكم له بالقضاء، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيتُ له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)، يعني: ما ينفعه حكم القضاء، ولذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، وقصد الحبل، ونفذ عليه حكم القاضي بأنها طلقة، وكانت آخر طلقة، فهي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها ليست زوجةً له فيما بينه وبين الناس، فهذا الحكم الظاهر والحكم الباطن، فلو أنها تعلم أنه صادق فيما يقول، فيجوز لها أن تمكنه من نفسها إذا صدقته ووثقت بقوله، وإن حكم القاضي على الظاهر بالطلاق، لكن لو اطلع القاضي على الجماع، وثبت عنده بإقرار أنه جامعها بعد حكم القضاء فإنه في حكم الزاني، هذا حكم القضاء وحكم الديانة، ولذلك لا يحكم في القضاء إلا بالظاهر، بناءً على الأصول المعتبرة لإثبات الأحكام والدعاوى.

    وعلى هذا: فالحكم بالطلاق قد يحكم به ديانة وقضاءً، وقد يحكم به ديانة لا قضاءً، وقد يحكم به قضاءً لا ديانة.

    يحكم به ديانة وقضاءً: لو أن شخصاً قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله: أنه مطلق لها، فثبت عند القاضي لفظه فحكم بالطلاق قضاءً، والحكم ديانة أنه مطلق لزوجته.

    ويحكم به ديانة لا قضاء: لو أنه -مثلاً- قال لامرأته: الحقي بأهلك، وقصد الطلاق، وهذه كناية طلاق، فقيل له: ماذا قصدت؟ قال: قصدت أن تلحق بأهلها وما قصدت الطلاق، ففي هذه الحالة لا ينفذ الطلاق قضاءً، ويحكم بأنها كناية طلاق يشترط فيها النية -كما تقدم معنا- لكنه فيما بينه وبين الله نوى الطلاق فتطلق عليه ديانةً ولا تطلق عليه قضاءً. وتطلق عليه قضاءً لا ديانة: مثل: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق ويتقيد بالنية، ولم يقصد به الطلاق، فيحكم بالطلاق على ظاهره، مع أنه في الحقيقة والباطن غير مطلق لزوجته. والله تعالى أعلم.

    دلائل طلب العبد لرضوان الله

    السؤال: ما دلائل طلب العبد لرضوان الله تعالى؟

    الجواب: ما أعطى الله عبداً بعد الإيمان به وتوحيده شيئاً أحب ولا أكرم عليه من طلبه لرضوان الله سبحانه عنه؛ ولذلك عظم الله رضوانه، وأخبر أنه أكبر من كل شيء، فذكر نعيم الجنة وما أعد لأوليائه فيها ثم قال: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، وفي الحديث الصحيح: (أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة ورأوا ما فيها من النعيم وما فيها من الفضل والتكريم، قال الله تعالى: هل أزيدكم؟ أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا)، فأعظم النعم وأجل المنن -بعد نعمة الإيمان- أن يكون العبد مرضياً عنه، وإذا رضي الله عن العبد أرضاه، وإذا أرضى ربك عبده أسعده في الدنيا والآخرة، فما ظنك بولي الله الصالح الذي قرت عينه بمرضاة ربه عليه، فلن يسلك سبيلاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً من الخير والبر إلا فتحه الله في وجهه، وبارك له فيه، وتأذن له بحبه، رضوان الله جل جلاله هو الغاية العظيمة والأمنية الجليلة الكريمة التي من أجلها بكت عيون الخاشعين، وتقرحت قلوب الصالحين، ومن أجله انتفضت الأقدام في جوف الليل بين يدي الله من المتهجدين الراكعين الساجدين، ومن أجلها سالت دماء الشهداء، طلباً لمرضاة الله جل جلاله، فبيعت الأنفس من أجل أن يشتري العبد مرضاة ربه، باع نفسه وربح البيع وربحت التجارة مع ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، رضوان الله هو الأمنية العظيمة التي يتمناها العبد السعيد من ربه.

    وهناك دلائل تبشر العبد بأنه يطلب مرضاة الله، أول هذه الدلائل: سرٌ بينك وبين الله جل جلاله، فأول ما يدل على أن العبد يريد وجه الله أن يمتلأ قلبه بتوحيد الله والإيمان به سبحانه، فتصبح جميع أموره وجميع شئونه لله لا لأحدٍ سواه، أول دلائل وبشائر الطلب الصادق لمحبة الله ورضوانه أن يكون الإنسان مخلصاً لله وحده لا شريك له: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، هذا الإخلاص وهذا التوجه الذي يجعل العبد في جميع أموره يريد وجه الله ولا يريد شيئاً سواه، والذي يريد مرضاة الله لا يتكلم إلا لربه، ولا يعمل إلا لربه، ليله ونهاره وصبحه ومساؤه كله لله وحده لا شريك له، فليس في قوله رياء ولا سمعة، وأكره ما يكره أن يطلع عبدٌ على طاعة بينه وبين الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن ربه يحب منه أن يخفي عبادته، ويحب منه أن يقصد وجهه ولا يقصد أحداً سواه، فأول الدلائل وأول الأمارات: الإخلاص لوجه الله جل جلاله في جميع شئونه وأحواله، منذُ أن يلتزم ويسير على منهج الله ليس له وجه يتوجه إليه ويقصده إلا وجه الله سبحانه وتعالى، عند ذلك يطيب قوله، ويطيب عمله، فلم تطب الأقوال والأعمال إلا بالإخلاص لذي العزة والجلال.

    ومن دلائل طلب مرضاة الله عز وجل: أن يسعى العبد في أحب الأشياء إلى الله فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس، فلا يسمع بكلمة تقربه من ربه أو ترضي ربه عنه إلا تكلم بها، ولو رأى الموت بين عينيه، ولا يعلم بعملٍ يقربه من ربه ويرضي ربه عنه إلا سعى في تحقيقه، وسعى في طلبه غاية جهده، كذلك أيضاً يسعى فيما بينه وبين الناس في كل شيء يقربه إلى الله جل جلاله، ويبدأ أول ما يبدأ بوالديه، ثم بأولاده، ثم بزوجته، وأدناه أدناه من الأقربين، يطلب رضى ربه عنه فيما بينه وبين والديه، وفيما بينه وبين رحمه، ولن تجد أحداً رضي الله عنه إلا وجدته باراً بوالديه، فرضي الله عمن أرضى والديه، يشتري مرضاة الله بابتسامة والده، يشتري مرضاة الله في أبٍ وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا، يلتمس مرضاة الله في ابتسامة يجدها من هذا الأب أو في سرور يدخله عليه، أو في كربةٍ ينفسها عنه، أو في حاجةٍ يقضيها له، أو في ضيق يوسعه عنه بإذن الله جل جلاله، يشتري مرضاة الله ويضحي ويبذل كل ما يستطيع بذله من نفسه وماله طلباً لهذه المرضاة، لأنه سمع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (رضا الله من رضا الوالدين)، فينتظر هذا الرضا بفارغ الصبر، فلا تشرق عليه شمس يوم إلا جعل والديه بين عينيه، في كلامه، فلا يقول إلا الكلمة التي ترضي الله، وفي فعله، فلا يفعل إلا ما يرضيه، ثم ينطلق رضيا راضيا مرضيا عنه في ذوي رحمه وقرابته، ويبدأ بأولاده، يدخل السرور عليهم، ويعلم أن الله يرضى عنه عندما يكون رحيماً بأولاده، قائماً بحقوقهم، مؤدياً الواجبات إليهم، يرعاهم في دينهم، ويتفقدهم في شئونهم، ويأمرهم بما أمرهم الله به، وينهاهم عما نهاهم الله عنه، ويعلمهم ويرشدهم، ولا يدخر عنهم شيئاً من الخير من أمر دينهم أو دنياهم أو آخرتهم، فإذا أرضى الله في أهله وولده رضي الله عنه، ولذلك تجد الرجل الموفق السعيد محافظاً على أولاده، محافظاً على فلذة كبده وذريته، يتفقدهم في أوامر الله، نشّأهم منذ نعومة أظفارهم على الطاعة والصلاة، فيعرفون بيوت الله، ويعرفون فريضة الله، ويؤدون الصلاة على أتم وجه وأكمله، ويرى ذلك عزيمة وفريضة عليه، فرضوان الله لا يكون بالتشهي ولا بالتمني ولا بالدعوى ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.

    كذلك من أسباب رضوان الله عز وجل عن العبد: أن يبدأ بقلبه، فينقي هذا القلب من الغِل والحسد وكراهية المسلمين وسوء الظن بهم، يبدأ بقلبه هذا فيغسله بماء الإيمان، ويعرضه على قوارع التنزيل، وأوامر العظيم الجليل، التي تأمره أن يكون أخاً صادقاً مع إخوانه، ويتذكر دائماً كلما رأى مسلما قول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، يحس أنه أخوه، وفي بعض الأحيان ربما تكون أخوة الإيمان في القلب أعظم من أخوة الحسب والنسب، فكما أنه يحب لأخيه من حسبه ونسبه ما يحب لنفسه؛ فإنه يحب لإخوانه في الدين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، لا يفرق بين غنيهم وفقيرهم، ولا رفيعهم ووضيعهم، ولا جليلهم وحقيرهم، فكلهم إخوانٌ له في الله، والله يشهد أنه في قرارة قلبه كذلك، يظهر على لسانه الكلام الطيب وفي قرارة قلبه ما هو أزكى منه وأجمل، ما عنده نفاق، وما يلقى الناس بوجه يضحك لهم وقلبه -والعياذ بالله- مكفهر، مليءٌ بسوء الظنون، وبالحسد، والكراهية، خاصة إذا كان من طلاب العلم، وخاصة إذا كان من الصالحين، فالأمر -والله- أشد ويعلم أن الله مطلع على سريرته، وسيحاسبه يوم القيامة من هو شهيد على العبد بما في الضمير، قال الله جل جلاله: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10]، الله يوم القيامة لا ينظر للابتسامات المكذوبة، والكلمات المعسولة، إنما ينظر إلى ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالله جل جلاله لا ينطلي عليه الكذب ولا يخادع سبحانه وتعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، فالذي يلتمس مرضاة الله بصدق بهذا الصفاء والنقاء والمودة والإخاء والأخوة الإسلامية المبنية على نصوص الكتاب والسنة لا يتلاعب بها، وليست عنده موازين مختلفة أبداً، فهو مسلم حقاً، وجه وجهه لله فعلاً، يلتمس مرضاة الله، وإذا جلس مع أفقر الناس فهو كما لو جلس مع أغنى الناس، يبتسم لهذا ويبتسم لهذا، وكان بعض علماء السلف -رحمهم الله- يعظمون الفقراء في بعض الأحيان أكثر من الأغنياء، ولذلك قيلت الكلمة المشهورة: (ما أعز من الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله) لأنه كان يطلب مرضاة الله بصدق، لا بالنفاق ولا بالكذب ولا بالدعاوى العريضة ولا بالخداع للمسلمين، الذي يلتمس مرضاة الله عبدٌ صادق يحب الصدق ويوالي بصدق.

    ومن دلائل رضوان الله على العبد: أن تظهر عليه أمارات في تصرفاته مع إخوانه المسلمين عموماً، وخاصةً مع العلماء والأئمة، وبالأخص سلف هذه الأمة، فلا يذكرهم إلا بكل خير، يترحم على أمواتهم، ويحسن المخرج لهم إن كان عندهم خطأ وزلل، ويعذرهم إن كان لهم عذر، وينشر ما كان منهم من الجميل، ويستر ما كان منهم من القبيح، تأسياً بقوله عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم)، فيكون مع أصلح خلق الله -وهم العلماء- كأحسن ما يكون، فالمؤمن يوالي المؤمن على أتم الوجوه، وأولى الناس بالموالاة والمحبة والصفاء والنقاء هم أهل العلم.

    واعلم أن الله أعلم بخلقه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فهؤلاء الصفوة اختارهم الله -جل جلاله- من فوق سبع سماوات حملةً لدينه، وأمناء على شرعه، إن كنت تلتمس مرضاة الله فكن كأحسن ما يكون مع علماء الأمة وسلفها، فاعتقد فضلهم وادع لهم وانشر محاسنهم، فإن العبد الذي يشتري مرضاة الله عز وجل يشتريها بمحبة الصالحين: (فمن أحب قوماً حُشِر معهم) كما قال صلى الله عليه وسلم.

    كذلك من دلائل مرضاة الله عز جل على العبد: أن يبارك له في وقته وفي عمره، فإذا التزم بهذا الدين وجدته لا تمضي عليه ساعة ولا لحظة إلا في خير وبر، وكذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، والعلماء العاملون؛ لا تضيع أوقاتهم هدرا، وإذا أردت أن ترى العلامة الصادقة على محبة الله للعبد فانظر كيف يبارك له في عمره، فإما أن يكون في مصلحة الدين فيما بينه وبين الله أو فيما بينه وبين الناس، يحرص من يشتري مرضاة الله على أن لا تمضي عليه ساعة إلا في ذكر الله وشكره، ويتقطع حرقة على كل ساعة مضت في غير ذكر الله أو شكره وطاعته، فإن (الدنيا ملعونة، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكر الله أو عالماً أو متعلماً)، فإذا بورك للإنسان في وقته وأصبحت كل أوقاته في طاعة الله؛ تجده يجلس في بيته إما أن يقرأ كتاباً ينتفع به، أو يسمع من والديه موعظة أو ذكرى أو عظة يتعظ بها أو قصة مؤثرة، أو يجلس مع أولاده يأمرهم بطاعة الله عز وجل ومرضاة الله، ويدلهم على كل خير، وهذه عمارة الأوقات، ومن أفضل ما تمضى به: ذكر الله جل جلاله، فالعبد الذي رضي الله عنه تجده دائماً موفقاً لطاعة الله في أوقاته حتى في ركوبه لدابته وسيارته لا تمضي عليه لحظة إلا وهي في ذكر أو شكر، يقرأ القرآن قائماً يقرأه قاعداً، يقرأه مضطجعاً، ويسبح ربه قائما وقاعدا ومضطجعا ليلا ونهارا عشيا وأبكارا، يقوم ويسبح، ويجلس ويسبح، إذا جلس مع إخوانه وأصحابه فوجد غفلة قال: سبحان الله والحمد لله، فذكر غافلا أو نبه ناسيا، فتجده من طاعة إلى طاعة، ومن بر إلى بر؛ لأن الله رضي عنه، ولما رضي الله عنه اختاره لأحب ما يحب، واصطفاه لأحب ما يحب سبحانه وتعالى، العبد الرضي الذي رضي الله عنه تجد دلائل الرضا عليه واضحة، وتوفيق الله له بالرضا واضح جلي كالشمس ترى في رابعة النهار، كل هذه شواهد يجعلها الله عز وجل دليلاً على محبته لعبده ورضوانه عليه، فليحرص الإنسان على الأخذ بالأسباب، ولا شك أن العبد لا يستطيع أن يصل إلى هذه الدرجة المنيفة والمقام العظيم إلا بأمرين هامين:

    أولهما: كثرة الدعاء، والثاني: الأخذ بالأسباب، والبعد عن المعوقات، فإذا أخذ بالأسباب التي ذكرنا، وابتعد عن كل شيء يعيقه، وصل إلى رضوان الله، وأعظم ما يعيقه عن رضوان الله: المعاصي، فلربما الكلمة والزلة من غيبة أو نميمة يختم بها على قلب العبد -والعياذ بالله- فلينتبه الإنسان وليحذر، ولتبكيه سيئته، وتحزنه معصيته، وليتفطر قلبه عن كل تقصير فيما بينه وبين الله، فيجعل الله نقصه كمالاً، ويجبر له الكسر، ويعظم له الأجر، ويغفر له الخطيئة والوزر.

    ودرجات الفلاح في الدين والدنيا والآخرة في الرضا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، وذلك هو المقام الكريم الذي يتمناه كل عبد صالح.

    فالثلاثة الأسباب هي: أن يسأل العبد ربه دائماً أن يجعله من أهل الرضا، والأخذ بالأسباب التي ذكرناها فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس، والبعد عن كل شيء يعيقه، وإذا وقع في زلة أو خطيئة استغفر ربه، والله يحب التوابين ويحب المستغفرين.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، ووجهه الكريم، أن يجعلنا من أهل الرضا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756633960