إسلام ويب

تفسير سورة النجم (4)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل حين خلق الخلق كلَّفهم بعبادته، ودعاهم إلى طاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه وزواجره، ثم يوم القيامة يجمعهم، وبين يديه يوقفهم، فأما أهل الكفر والإساءة فيجازيهم بما يستحقون من العذاب والإهانة، وأما الذين أطاعوه سبحانه، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإن الله يغفر ما أصابوه من اللمم، ويدخلهم في رحمته ويمنحهم جنات النعيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ...)

    الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فها نحن مع سورة النجم المكية، ومع هذه الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:31-32].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هكذا يخبرنا تعالى فيقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النجم:31], يخبر تعالى فيقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النجم:31] من الكائنات, كلها ملك الله؛ إذ هو خالقها، هو موجدها، هو المدبر لها, فهو مالكها، إذاً فمن العار والشنار والهبوط والسقوط أن تعلم أن ما في السماوات والأرض له وتسأل غيره، جنون هذا، فلهذا لا يدعى غير الله، لا يطلب شيء من غير الله، لماذا؟ لأنه هو المالك وغيره مملوك، وهل تطلب المملوك؟ اطلب مالكه أولاً، فلهذا كان الشرك من أعظم الذنوب وأفحشها وأقبحها لما علمتم.

    يخبر تعالى فيقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النجم:31] من الجنة والنار والملكوت والملائكة والكون كله هو خالقه وموجده، فكيف ترفع يديك إلى غيره وتسأله؟ أو تقول: يا فلان أو يا فلان؟ وبالأمس كانوا يدعون اللات والعزى ومناة، ويسمونها تسمية الإناث.

    وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [النجم:31], والحكمة في ذلك: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] إن قلت: لم أخبرنا بأن له ما في السماوات وما في الأرض؟

    فالجواب: من أجل أن نعلم أنه هو الذي يجزينا على عملنا، على كسبنا, نحن العاملون الكاسبون وهو خالقنا ويجزينا على كسبنا وعملنا، إن كان خيراً فخيراً, وإن كان شراً فشراً.

    معنى الإساءة والإحسان

    لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا [النجم:31] أي: عملوا السوء، أي: عملوا السيئات، والسيئات والسوء بمعنى واحد, وهو العمل أو القول الذي يسيء إلى نفسك, بعدما كانت مشرقة نيرة تصبح منتنة عفنة مظلمة.

    السوء والسيئة والسيئات: ما يسيء إلى النفس البشرية التي كانت كأرواح الملائكة في طهرها وصفائها، فإذا بالعبد الجاهل يصب عليها أطنان الذنوب والآثام فيدمرها ويسيء إليها، فهؤلاء الذين يسيئون إلى أنفسهم فيعفنونها وينتنونها حتى تصبح كأرواح الشياطين سيجزيهم الرب بذلك, ألا وهو أن يلقيهم في أتون جهنم بعملهم.

    لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا [النجم:31] أي: بعملهم، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا [النجم:31] إلى أنفسهم, ما أساءوا إليها، ما تركوا عبادة الله, أطاعوا الله ورسوله ففعلوا ما أمر الله به ورسوله وتركوا ما نهى الله عنه ورسوله، فبقيت نفوسهم زكية طاهرة نقية، والذين أساءوا إلى نفوسهم كان ذلك بمعصية الله ورسوله، أمر الله بكذا فما فعل، نهى الله عن كذا فما ترك، إذاً: هذه الإساءة تحول النفس البشرية إلى نفس منتنة عفنة مدساة مظلمة لا يقبلها الله في جواره أبداً.

    ولا ننس حكم الله العام: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه, وَقَدْ خَابَ [الشمس:10] أي: خسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] عفنها وأنتنها بأوضار الذنوب والآثام.

    هذا خبر الله, يقول تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] يجزيهم الذين أساءوا بجهنم، والذين أحسنوا يجزيهم بالجنة، المثوبة الحسنة والحسنى هي الجنة.

    إذاً: لا ننس أبداً أن العمل السوء هو معصية الله ورسوله، وعمل الحسنى هو طاعة الله وطاعة رسوله، ومن أفظع أنواع الظلم -والعياذ بالله تعالى- الشرك بالله تعالى، عبادة غير الله بالدعاء وبغير الدعاء، كل عبادة هي لله يصرفها عبد الله إلى غير الله من صنم أو حجر أو إنسان أو ملك, فيكون -والعياذ بالله تعالى- قد أغضب الله وأسخطه عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ...)

    ثم قال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32], من هم الذين عملوا بالحسنى؟ بين تعالى ذلك فقال: هم الذين يجتنبون، يبتعدون كل البعد عن كبائر الإثم والفواحش، يجتنبون ويخرجون جانباً عن كبائر الإثم، فلا ربا ولا زنا ولا قتل نفس ولا شرب خمر، تلك كبائر الإثم، والفواحش: جمع فاحشة, أقبحها الزنا واللواط -والعياذ بالله تعالى- والبخل كذلك، كل ما قبح واشتد قبحه فهو فاحشة وهو فاحش إذا كان ذكر.

    معنى اللمم وبيان حد الكبيرة

    الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ [النجم:32]، قال تعالى: إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32], هذا الاستثناء له معنيان سليمان صحيحان:

    الأول: أن الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره وارتكبوا الذنوب والآثام أيام كفرهم وشركهم حين يسلمون ويدخلون في الإسلام يمحو الله كل ذلك عنهم ولا يؤاخذهم به، فالذين كانوا مشركين كافرين في مكة وأسلموا يمحو الله تعالى ذنوبهم تلك، تسمى باللمم الذي ألموا به وفعلوه في الجاهلية والعياذ بالله تعالى، هذا الوجه مشرق للآية.

    الوجه الثاني أكثر إشراقاً, وهو أن اللمم ما كان دون كبائر الإثم، صغائر الذنوب تسمى باللمم، فالكبائر مضبوطة: فكل ما توعد الله عليه بالعذاب فهو كبيرة, وكل ما وضع الله حداً له يقام على صاحبه فهو كبيرة.

    فأقول: أولاً: أكبر الكبائر -والعياذ بالله تعالى- الشرك بالله, ما فوقه كبيرة.

    ثانياً: إذا أمر الله بأمر، فإذا كان هذا الأمر توعد من يتركه ويهمله بالعذاب فهو كبيرة، وإذا نهى عن شيء وتوعد الفاعل فهو كبيرة.

    والصغائر فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم, فنظرتك إلى امرأة هذه من الذنوب, ولكن صغيرة من الصغائر لا كبيرة، كلمة تقولها ما يترتب عليها قتل ولا سفك دماء هي إثم وذنب, ولكن صغيرة من الصغائر، تكفر بالتوبة والعمل الصالح.

    فالذنوب صنفان: كبائر وصغائر، فالذين يجتنبون الكبائر وعدهم الله بمحو الصغائر ولا يطالبهم بها, الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ [النجم:32] هؤلاء إن فعلوا صغائر الذنوب يغفر الله لهم ويعفو عنهم ولا يؤاخذهم.

    مرة ثانية أقول: الأمر الإلهي إذا كان قد توعد الله تعالى على تركه بالعذاب أو نهى عن شيء وجعل له حداً إذا فعله فهو كبيرة من كبائر الذنوب، والقول كالفعل أيضاً، والصغائر دون الكبائر, وهذا فضل الله علينا, يعفو عن ذنوبنا الصغيرة ويسترها ولا يؤاخذنا بها؛ لأن الكبائر تغطي ذلك وتستره، أما أصحاب الكبائر -والعياذ بالله تعالى- فإن لم يتوبوا قبل موتهم فهم -والعياذ بالله تعالى- من أهل العذاب.

    هكذا يقول تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا [النجم:31] وهم فاعلو كبائر الذنوب والآثام، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31] المبتعدون عن كبائر الذنوب والآثام, الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ [النجم:32] اجتناباً كاملاً, وَالْفَوَاحِشَ [النجم:32] يجتنبونها، وما الفواحش؟

    أظهرها الزنا واللواط والبخل، هكذا جاءت في السنة، وكل ذنب قبح وفحش فهو فاحشة.

    إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32] عفا الله عنه ولم يؤاخذ به أولياءه المؤمنين؛ لأنهم يقيمون الصلاة ويعبدون الله، ويتجنبون ما حرم الله, ويقع من أحدهم ذنب صغير فيعفو الله عنه, كالنظرة والكلمة والسماع بالأذن، هكذا فسر الرسول صلى الله عليه وسلم، يسمع الباطل فيأثم، ينظر فيأثم، يتكلم بالكلمة فيأثم, فما دامت من الصغائر فإنها تمحى بهذه الحسنات والحمد لله تعالى.

    معنى قوله تعالى: (إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم)

    ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] مغفرته واسعة تشمل الإنس والجن، الأولين والآخرين، الكبائر والصغائر، إذا أراد أن يغفر غفر ولو عُصي مليون سنة, هو قادر على مغفرة ذلك الإثم، ومغفرته ما هي ضيقة محدودة لبني فلان وفلان، هي عامة للبشرية كلها والجان معهم, وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] ما هو ضيق المغفرة أبداً, فلهذا يغفر الذنوب لمن تاب منها من كبائر وصغائر، ويغفر الصغائر لمن تجنب الكبائر.

    ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ [النجم:32] أيها العاملون, ربنا عليم بما نحن عليه, فنحن أمرنا بيننا مستور، ولكن الله عز وجل أعلم بنا، ما من أحد يعمل سوءاً إلا علمه الله؛ إذ هو الذي قدره وأوجده، ما من عبد يعمل صالحاً إلا علمه الله عز وجل, هو أعلم بكم من أنفسكم ومن غيركم؛ لأننا بين يدي الله.

    ودائماً نضرب المثل فنقول: حين تضع بين يديك صحفة أو ورقة فإنك تحيط بها من كل جانب، فالله عز وجل الكون كله بين يديه لا يخفى عليه من أمرنا شيء، واذكروا لذلك قوله تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] السماوات السبع يطويها كالورقة في يمينه! إذاً: هل يغيب عنه شيء من أمرنا؟ هو معكم أينما كنتم، يعلمنا ظاهراً وباطناً، فلهذا يجب أن ننقي نفوسنا ونطهرها وننظفها من كل الذنوب والآثام بالندم، بالاستغفار، بفعل الخيرات والصالحات حتى يمحى ذلك الأثر.

    ثم قال تعالى معللاً لكونه معنا: إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [النجم:32] أنشأنا من الأرض, أنشأ أبانا آدم عليه السلام من طينة الأرض، وأنشأ حواء أمنا من ضلعه الأيسر، والله العظيم! ما كان في البشرية أحد؛ إلا الملائكة في الجنة والسماء، فأراد الله عز وجل أن يخلق البشر ليعبدوه ويذكروه ويشكروه، فأمر الملائكة أن يصنعوا صورة إنسان، فنفخ فيها الروح فحيي آدم، ثم أمر ضلعه الأيسر فخرجت حواء, ومن ثم تزوجا وتناسلا وانتشرت البشرية وبلغت المليارات، من فعل هذا؟ الله عز وجل.

    إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [النجم:32], أولاً يعلمنا هكذا، ويعلمنا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، ما من جنين في البطن في رحم أمه إلا والله خالقه وهو العليم به، يستحيل أن يوجد جنين في بطن ما علمه الله أو ما أوجده أبداً؛ إذ قبل أن يخلقنا كتب كتاب المقادير وكتب فيه أنفسنا وذواتنا وأعمالنا وما نحن مقبلون عليه من خير أو غيره، ولا يقع شيء في الأرض إلا وقد سبق بذلك كتاب المقادير.

    هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [النجم:32] يعني: أنشأ أبانا آدم، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ [النجم:32] أي: وهو أعلم بكم إذ أنتم أجنة فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم:32] كنا في بطون أمهاتنا أو لا؟ وأمهاتنا كن في بطون أمهاتهن أو لا؟ من الخالق؟ من الرازق؟ من المحيي؟ من المميت؟ لا أحد إلا الله، إذاً: فلا نعبد إلا الله، لا ندعو غير الله، لا نستغيث بغير الله، لا نستعيذ بغير الله، لا نعطي لغير الله، لا نأكل ولا نشرب لغير الله، لا ننام ولا نستيقظ لغير الله، حياتنا كلها وقف على الله؛ إذ خلقنا لذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)

    ثم قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] هذه مسألة ذات أثر في النفوس.

    قوله: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] ليس معناه: لا تطيبوا نفوسكم ولا تطهروها، فذاك أمر الله به فقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9], فواجب كل مؤمن ومؤمنة أن يزكي نفسه, بمعنى: أن يطيبها ويطهرها بمواد التطييب والتطهير، ما هذه المواد؟ الإيمان والعمل الصالح مع البعد عن الشرك والكفر والذنوب والآثام، فتزكو وتطهر وتطيب، يجب على كل ذي عقل من رجل أو امرأة أن يزكي نفسه، كيف يزكيها؟ بمعنى: يطيبها ويطهرها بمواد خاصة, ألا وهي الإيمان والعمل الصالح، والبعد عن الشرك والذنوب والآثام، فهذه الغترة حين تتسخ بم ننظفها؟ بمادة خاصة هي الماء والصابون، والإثم إذا علق بالنفس فكانت ظلمة ونتناً فعلى عبد الله أن يزكي ذلك ويطهره بإيمان وعمل صالح.

    والآية تقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] يعني: لا تتبجح فتقول: أنا كذا، أنا أحج، أنا أتصدق، أنا أصوم, أنا شريف، أنا من كذا! هذا لا يجوز.. لا يجوز.. لا يجوز, فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] بدليل: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

    روى مسلم في صحيحه ( أن رجلاً أتى عثمان رضي الله عنه فأخذ يمدحه ويتمدح أمامه، فقام المقداد بن الأسود فأخذ حفنة تراب ورماها في وجهه وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي التراب في وجه المداحين ).

    إذاً: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] لا تقل: أنا فعلت، أنا أفعل، أنا أطيب الناس، أنا أطهرهم، أنا أصلحهم.. هذا حرام لا يجوز، ولا تقل لأخيك: فلان زكي النفس طاهر الخلق، لا يجوز هذا أبداً، واسمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمادح غيره: ( ويلك! قطعت عنق صاحبك ), سمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً يمدح آخر يقول: هو كذا وكذا وكذا، يذكر صالحاته، فقال: ( ويلك! قطعت عنق صاحبك ), ويلك! وقعت في العذاب, قطعت عنق أخيك، إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه وكان الصاحب كذلك حقاً فلا تزد على أن تقول: فلان إن شاء الله كذا وكذا، فلان إن شاء الله من الكمل أو السعداء، ولا تقل: هو كذا وكذا وكذا، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم, وليقل: أحسب فلاناً كذا وحسيبه الله ولا أزكي على الله أحداً.

    التزكية الواجبة والتزكية المحرمة

    فخلاصة هذا الحكم: أنه أولاً: يجب أن نزكي أنفسنا ونطهرها ونطيبها بمادة الإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والكفر.

    ثانياً: لا يجوز لأحدنا أن يزكي نفسه بلسانه فيقول: أنا صوام، أنا قوام، أنا أتصدق بكذا.

    ثالثاً: لا تقل: فلان كذا وكذا وكذا تزكيه، هذا نهى عنه الله بهذه الآية: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32]لم؟ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

    فأولاً: يجب أن نزكي أنفسنا، بماذا نزكيها؟ بالإيمان الصحيح والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والذنوب والآثام فتزكو وتطيب وتطهر، ويصبح صاحبها من المفلحين, قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9], هذا الحكم الأول.

    الحكم الثاني: لا يجوز، ولا يحل لأحد أن يزكي نفسه, بمعنى أن يقول: أنا فاعل كذا، أنا أصلحكم، أنا أتقاكم، أو يقول: فلان من أتقانا، من أطيبنا، من أطهرنا, ويزكيه، هذا حرمه الله في هذه الآية: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32], قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ [النجم:32] بدل أن تتبجح، فهو يعلم أو لا؟ فحين تمدح فلاناً فالله أعلم به منك, هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] ما معنى: اتقى؟ اتقى غضب الله، اتقى سخط الله, بماذا اتقاه؟ بحصن أو بسور أو بجيش؟ بم يتقى الله؟ والله! ما يتقى الله تعالى إلا بطاعته وطاعة رسوله، كيف نتقي عذاب الله وسخطه؟ ما نستطيع إلا بطاعته وطاعة رسوله؛ إذ تقوى الله طاعته وطاعة رسوله بفعل الأوامر وترك النواهي، بهذا يتقى الله، أما بالجيوش أو بالرجال فما يمكن أبداً، لا يتقى الله بشيء إلا بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: بفعل ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم من الإيمان وصالح الأعمال، واجتناب وترك ما نهى الله عنه وحرمه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فالتزكية الواجبة: أن نزكي أنفسنا بالإيمان والعمل الصالح.

    والتزكية المحرمة: أن تقول: أنا فعلت كذا, أو فلان فعل كذا، هذه التزكية باطلة، حرمها الله في هذه الآية: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    والآن مع هداية الآيات.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء, وهي مستلزمة لألوهيته ].

    من هداية هاتين الآيتين: أولاً: تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء؛ إذ هو مالك كل شيء وخالق كل شيء، وهذا يستلزم ألوهيته لعباده, أي: ليعبدوه وحده ولا يعبدوا معه غيره، الربوبية تستلزم الألوهية، ما دام أنه مالكنا وقادر على إعطائنا ومنعنا؛ فيجب أن نحبه وأن نخشاه وأن نطيعه، فلو كان غير قادر على إسعادنا أو إشقائنا فما نحن في حاجة إليه، لكن ما دمنا في قبضته وبين يديه وهو خالقنا ومالكنا فكيف نغمض أعيننا عنه وننظر إلى غيره؟ ولهذا كان الشرك من أفظع أنواع الذنوب والآثام.

    [ ثانياً: تقرير حرية إرادة الله, يهدي من يشاء ويضل, ويعذب من شاء ويرحم، إلا أن ذلك تابع لحكم عالية ].

    من هداية هاتين الآيتين: تقرير هداية الله تعالى لمن شاء أن يهديه وإضلاله لمن شاء أن يضله، وهنا يجب أن نطلب من الله الهداية؛ لأنها بيده، هو يهدي من يشاء, ومن هو الذي يشاء الله هدايته؟ هل السكران؟ المنغمس في الذنوب والآثام؟ والله! لا، الذي يشاء الله هدايته من يقول: يا رب! اهدني، ويطرح بين يديه، الذي يقرع باب الله: يا رب هدايتك، يا رب توفيقك، يا رب رحمتك, هذا الذي يشاء الله هدايته، أما المعرض المتكبر الجبار المنغمس في الذنوب والآثام فهذا الذي يشاء الله إضلاله.

    فالهداية بيد الله والإضلال بيد الله؛ إذ هو خالق كل شيء وبيده ملكوت كل شيء، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن هم الذين يشاء هدايتهم؟

    الذين يقرعون بابه ويطلبونه، يطرحون بين يديه، يطوفون ببيته، يرفعون أيديهم إليه سائلين ضارعين, هؤلاء يشاء الله هدايتهم، لأنهم طلبوها، والمعرضون والمتكبرون والمستكبرون والمستأنفون ما يريدونها, فهل يهديهم؟ لا يهديهم، لا بد أن يطلب الإنسان الهداية، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه وأضله.

    [ ثالثاً: تقرير قاعدة: الجزاء من جنس العمل ].

    هذه قاعدة في هاتين الآيتين: الجزاء من جنس العمل، من يعمل سوءاً يجز به سوءاً، ومن يعمل حسنة يجز بها حسنة, قاعدة عامة: الجزاء من جنس العمل، إذا كان العمل صالحاً فالجزاء صالح، وإذا كان العمل سيئاً فالجزاء سيء: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] الآية.

    [ رابعاً: تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر ].

    من هداية الآيتين: أن الذنوب الصغائر تكفر بترك الكبائر، الذنوب الصغائر تمحى ولا يؤاخذ بها المؤمن ولا المؤمنة بسبب تركه الكبائر.

    والكبائر كما علمتم: ما أمر الله به وأمر به رسوله وتوعد على تركه بالنار, أو نهى عنه وتوعد على فعله بالنار, أو جعل له حكماً كالقصاص مثلاً، فهذه الكبائر وهي موجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، من أعظم الكبائر الزنا والربا واللواط والبخل والعياذ بالله تعالى، هذه كبائر الإثم، وعقوق الأبوين وخيانة الجار والسرقة، كل هذه كبائر الذنوب، نبرأ إلى الله منها، فإذا نحن اجتنبنا الكبائر وأحدثنا الصغائر عفا عنا ولا نؤاخذ بها.

    [ خامساً: حرمة تزكية النفس, وهي مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال والتفوق ].

    من هداية الآيتين: حرمة تزكية النفس، يجب أن نزكي أنفسنا، ويحرم علينا أن نزكيها، فكيف هذا؟

    الجواب: التزكية الواجبة: أن نعمل الصالحات ونتجنب المفسدات لتزكو نفوسنا وتطيب وتطهر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].

    والتزكية المحرمة: أن تقول: أنا أقوم الليل، أنا أتصدق بكذا، فلان يفعل كذا.. هذه التزكية والتمدح والتبجح والتفاخر بالعمل باطل، فالله أعلم بك, ما هناك حاجة إلى أن تذكر هذا للناس.

    وإذا كان عبد صالح فإنك تقول: أرجو أن يكون كذا ولا أزكي على الله أحداً، لا تجزم بأنه في الجنة أو بأنه من أهل السعادة.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756887502