إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [6]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أسماء الله الرزاق ذو القوة المتين، وهذه الأسماء تتضمن صفات عظيمة يجب وصف الله بها حقيقة. أثبت الله عز وجل لنفسه الإرادة والمشيئة، ويندرج تحتها كل ما شاءه الله عز وجل وقدره وقضاه، وإرادة الله عز وجل نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية على حسب ما وردت به النصوص، خلافاً لأهل البدع الذين يثبتون إرادة واحدة، معارضين بذلك النصوص الواردة في المسألة.

    1.   

    إثبات القدرة والقوة لله تعالى

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    [ وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وقوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39]، وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، وقوله: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] ].

    فرغنا من الكلام على الآيات التي ساقها المؤلف رحمه الله لإثبات صفة العلم لله تعالى، وبعد فراغه من تلك الآيات ذكر الآيات الدالة على قدرة الله جل وعلا، وذلك في قوله: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، فهاتان الآيتان أثبتتا لله جل وعلا القدرة والقوة، وصفة القدرة والقوة معناهما متقارب، فالقدرة هي القوة على الفعل، وقد أثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقوله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الطلاق:12] فيه إثبات صفة القدرة، وأنها عامة تتعلق بكل شيء.

    واعلم أن القدرة تتعلق بالموجودات، فكل موجود فالله جل وعلا عليه قدير، فهي تتعلق بالممكنات، وتتعلق أيضاً بالواجبات مما يتصف به سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى قادر على فعل نفسه قادر على غيره، وكل هذا مما ثبت في القرآن، وقد ثبت في القرآن إثبات القدرة المتعدية التي تتعلق بالخلق، وإثبات القدرة التي تختص به سبحانه وتعالى، وهي القدرة على أفعاله، فمن الأدلة على القدرة على أفعاله سبحانه وتعالى: قوله جل وعلا: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4]، فهذه الآية أفادت أن الله سبحانه وتعالى قادر على فعله، والآيات التي تثبت قدرة الله جل وعلا على فعله كثيرة.

    وبهذا نفهم أن قدرة الله سبحانه وتعالى تتعلق بفعله المتعدي واللازم؛ لأن أفعال الله سبحانه وتعالى تنقسم: إلى أفعال متعدية، وأفعال لازمة، مثال للأفعال اللازمة: الاستواء الإتيان المجيء، مثال للأفعال المتعدية: الرزق الإحياء الإماتة الرفع الخفض البسط، أفعال كثيرة لا حصر لها، فهو: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، فالله جل وعلا قادر على هذا وعلى هذا.

    بقي عندنا الممتنعات، أو المستحيلات، هل تتعلق بها القدرة أم لا؟

    الممتنع هو الذي لا يمكن أن يوجد، كثبوت صفة الوجود والعدم لشيء واحد، هل يمكن أن يتصف شيء بأنه موجود وفي نفس الوقت معدوم؟ لا يمكن، فهل هذه الأمور من المحالات والممتنعات تتعلق بها القدرة؟

    الجواب: لا تتعلق بها القدرة؛ لأن الممنوعات والمحالات لا تسمى شيئاً في لسان العرب؛ فهي لا تدخل في عموم قوله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الطلاق:12]، فلا يدخل في هذا إلا الممكنات والواجبات.

    وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ [الذاريات:58]، أي: صاحب القوة، والقوة أبلغ من القدرة، فالقوة هي الكمال في القدرة، (الْمَتِينُ) أي: الشديد، وهذا فيه وصف قوته بالشدة؛ فهاتان الآيتان أثبتت لله سبحانه وتعالى هاتين الصفتين، وفيه أيضاً إثبات صفة الرزق، وذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) وهذا تبع، لكن المقصود هو إثبات القدرة من خلال سياق هاتين الآيتين.

    1.   

    إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى

    قال رحمه الله بعد ذلك: وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، هذا فيه إثبات صفتي السمع والبصر لله سبحانه وتعالى بعد ذكر الصفتين المتقدمتين: العلم والقدرة، والسمع والبصر صفتان ثابتان لله جل وعلا بالكتاب والسنة، والإجماع والعقل؛ فإن السمع والبصر من صفات الكمال التي يدل عليها العقل؛ ولذلك فإن مثبتتة الصفات من أهل الكلام يثبتون السمع والبصر، لا لكونهما ثبتتا بالكتاب والسنة بل لكون العقل قد دل على ثبوتهما، فقالوا: إذا كان الله عز وجل حياً قادراً عليماً؛ فإما أن يكون يسمع أو لا يسمع، وإما أن يكون يبصر أو لا يبصر، وعدم السمع والبصر نقص، واتصافه بهما كمال؛ ولذلك أثبتوا لله عز وجل السمع والبصر.

    معنى السمع والبصر في القرآن

    السمع في كتاب الله عز وجل يطلق على معنيين: المعنى الأول: إدراك الأصوات، وفهم معناها، وهذا هو السمع العام الذي لا يخرج عنه شيء، فقد أحاط سمعه بكل شيء سبحانه وتعالى، يسمع دبيب النملة على الصخرة، ولا تخفى عليه خافية.

    أما المعنى الثاني الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل، وجاء به الكتاب والسنة: سمع الإجابة والإثابة والقبول، وهذا سمع خاص، وذلك في مثل قوله جل وعلا: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، وفي مثل قول المصلي عند رفعه من الركوع: سمع الله لمن حمده، فإنه لا يثبت السمع العام الذي هو إدراك الأصوات وفهم معناها -وهذا مما لا إشكال فيه- وإنما يثبت السمع الخاص، وهو سمع الإثابة والإجابة والقبول، وكلا النوعين ثابتان لله سبحانه وتعالى، فحيثما ذكر السماع لله عز وجل في الدعاء أو العبادة فإنه سماع الإجابة والقبول والإثابة، وأما إذا ورد مطلقاً كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فالمراد إثبات السمع العام الذي يفيد إدراك الأصوات وفهم المعاني، هذا بالنسبة لصفة السمع.

    أما صفة البصر فهو إدراك المبصرات، فالله جل وعلا يرى كل ما خلقه، ويقع بصره عليه، وهذا البصر لم يرد تقسيمه إلى بصر عام وبصر خاص، وإنما الوارد في البصر هو البصر العام، أما الرؤية والنظر فهناك أقسام لها وهي بمعنى البصر.

    الرد على متأولي صفتي السمع والبصر

    وقوله: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، هذا أيضاً فيه إثبات هذين الوصفين لله سبحانه وتعالى، وهذا في آية النساء التي فيها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ولما بلغ قوله (سميعاً بصيراً) أشار بإبهامه إلى أذنه، وبسبابته إلى عينه، وهذا ثابت في السنن بسند صحيح، فما المراد من هذه الإشارة؟

    هل المراد من هذه الإشارة التمثيل؟ لا، وحاشا أن يريد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك التمثيل، إنما مراده تحقيق اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة، وأنه موصوف بها على حقيقتها، وهذا فيه الرد على الذين تأولوا هاتين الصفتين، فقالوا: السمع والبصر في كتاب الله المراد بهما العلم، وهذا عليه طائفة من المتكلمين، فقالوا: إن قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، لا نثبت منه سمعاً ولا بصراً، إنما نثبت به لله عز وجل صفة العلم، وهذا بخس لما دلت عليه النصوص، وجناية على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن صفة العلم ثابتة لله عز وجل ولا إشكال في ثبوتها، وقد أضافت النصوص صفتي السمع والبصر إلى الله؛ فوجب إثبات هذين له سبحانه وتعالى، وهما غير العلم؛ ولذلك ورد ذكرهما في كتاب الله عز وجل منفصلين، ولو كان المراد بهما العلم لكفى أحد الوصفين عن الآخر لإثبات العلم، ولاقتصر على أن يقول: وهو البصير، أو يقول: وهو السميع، ويحصل بذلك المقصود في إثبات العلم، ففرق الله جل وعلا بين هذين الوصفين في كثير من الآيات، ففي الآية الأولى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، وفي الثانية: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)، وقال سبحانه وتعالى لموسى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فدل ذلك على أن كل وصف مستقل عن الآخر.

    ثم إن الله سبحانه وتعالى قد قرن بين السمع والعلم في آيات عديدة، فدل ذلك على أنهما وصفان، وليسا وصفاً واحداً، ومن ذلك قوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200]، فدل ذلك على أن السمع غير العلم، ومن فسر السمع بالعلم فقد جنى على النصوص، ولم يثبت ما أثبتت.

    1.   

    إثبات صفتي المشيئة والإرادة لله تعالى

    ثم انتقل المؤلف رحمه الله بعد إثبات هذين الوصفين له سبحانه وتعالى إلى إثبات المشيئة والإرادة، فقال: [وقوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39]، وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، وقوله: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]].

    هذه الآيات فيها إثبات صفة المشيئة، وصفة الإرادة لله سبحانه وتعالى، والمشيئة والإرادة معناهما متقارب، إلا أن بينهما فروقاً: فالمشيئة واحدة لا تنقسم، ويندرج تحتها كل ما شاءه الله عز وجل، كل ما قضاه الله وقدره في هذا الكون فإنه مندرج تحت المشيئة؛ فالخير والشر وكل حادث وكائن في هذا الكون مندرج تحت مشيئة الله عز وجل، مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، فالمشيئة شيء واحد يندرج تحته كل خلق الله جل وعلا؛ إذ كل شيء خلقه الله عز وجل فقد شاءه.

    أقسام الإرادة والفرق بينهما

    أما الإرادة فإنها تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: إرادة أمرية شرعية دينية:

    والقسم الثاني: إرادة كونية خلقية، فما الفرق بينهما؟

    الفرق بينهما: أن الإرادة الشرعية الدينية الأمرية يندرج فيها كل ما يحبه الله عز وجل، فكل ما أمر الله به ديناً من الواجبات والمستحبات فإنه يدخل تحت الإرادة الشرعية، فالأمر بالصلاة والإحسان إلى الأقارب من الإرادة الشرعية، وهكذا كل ما أمر الله به ورسوله.

    والإرادة الكونية الخلقية بمعنى المشيئة التي تقدم ذكرها، فالإرادة الكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهل هناك فرق بينهما؟

    الجواب: نعم، هناك فرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية:

    الإرادة الشرعية لا يلزم وقوع المراد فيها، فالله عز وجل أراد من عباده أن يعبدوه، قال الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فهل تحققت هذه الإرادة؟ لا، قال الله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13]، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:8]، فالآيات التي تدل على أن مراد الله عز وجل أن يعبده الناس كثيرة، وهذا لم يتحقق، فعلمنا بهذا أن الإرادة الشرعية لا يلزم وقوعها، فقد يريد الله عز وجل الشيء شرعاً، لكنه لا يقع كوناً.

    هناك أيضاً وصف آخر تتميز به الإرادة الشرعية: وهي أنها تتعلق بما يحبه الله سبحانه وتعالى؛ فكل ما يحبه الله مندرج تحت الإرادة الشرعية؛ لأنه لا يأمر شرعاً إلا بما يحب.

    أما الإرادة الكونية الخلقية القدرية فإنها لا تتعلق بمحاب الله عز وجل، وما تضمنته وما يندرج تحتها ليس لازماً أن يكون مما يحبه الله عز وجل، بل يقضي الله كوناً وقدراً وخلقاً ما يكرهه ويبغضه ويسخطه، هذا أولاً، والثاني: أنها إرادة لازمة الوقوع، فما أراده الله كوناً لابد أن يقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فما قضاه كوناً لابد أن يقع، وبهذا نفهم أن قوله: (لا راد لقضائه) المراد بالقضاء هنا القضاء الكوني.

    ننظر فيما ذكر المؤلف من الآيات لنرى أيها المندرج تحت الكونية، وأيها المندرج تحت الشرعية.

    يقول رحمه الله: (وقوله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39])، هذا فيه إثبات المشيئة التي هي الإرادة الكونية، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، هذه أيضاً تثبت لله مشيئة كونية؛ لأن القتال لا يحبه سبحانه وتعالى، فلما وقع علمنا أنه من الإرادة الكونية.

    أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1] الإرادة هنا هي الإرادة الشرعية، وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) لو أن الآية اقتصرت على هذا لكانت شرعية، لكن لما ذكر الله جل وعلا إرادته للأمرين في سياق واحد كانت الإرادة هنا كونية، وهي نظير قوله تعالى: مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، فالإرادة هنا إرادة كونية قدرية أمرية.

    وهل نقول: هناك مشيئة شرعية ومشيئة قدرية؟

    لا، فإن المشيئة لا تنقسم.

    ما تتعلق به الإرادة والمشيئة

    هذه الإرادة بماذا تتعلق، هل تتعلق بكل شيء؟

    كل ما وجد وخلق فالإرادة الكونية والمشيئة تتعلق به.

    وأفعاله سبحانه وتعالى هل تتعلق بها إرادته؟

    نعم تتعلق بها إرادته.

    والممتنع والمحال هل تتعلق بهما الإرادة؟

    الجواب: لا تتعلق بهما الإرادة ؛ لأن الممتنع والمحال ليسا بشيء، ففهمنا من هذا أن القدرة والإرادة أمرهما واحد في كونهما يتعلقان بالممكنات وبالواجبات، أما الممتنعات فإنهما لا يتعلقان بها، وهذا ما أشار إليه السفاريني رحمه الله لما ذكر الصفات فقال:

    له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر

    بقدرة تعلقت بممكن كذا إرادة فعي واستبن

    (فعي واستبن) أي: انتبه واستوضح، ففهمنا من هذا: أن الإرادة والقدرة لا تعلق لهما بالمحالات والممتنعات، وإنما ننبه على هذا حتى لا يأتينا أحد ويقول: هل يستطيع الله جل وعلا أن يوجد مثل نفسه؟

    الجواب: هذا مما لا تتعلق به القدرة، والصواب في السؤال أن يقال: هل يقدر الله جل وعلا أن يوجد مثله أو أن يعدم نفسه؟

    هذا سؤال من سفيه لم يقدر الله حق قدره، والجواب عليه: أن القدرة لا تتعلق بالممتنعات، وهذا منها، وكذلك الإرادة لا تتعلق بالممتنعات، وهذا منها.

    الفرق التي ضلت في الإرادة

    اعلم أن تقسيم الإرادة إلى قسمين هو منهج ومذهب أهل السنة والجماعة كما دلت على ذلك النصوص، وقد ضل في هذا طوائف الجبرية والقدرية وغيرهم، فجعلوا الإرادة نوعاً واحداً، وجعلوا أمر الله عز وجل بالصلاة كغيره من أوامره، وقضاء الله الشرعي بالصلاة كقضائه بوجود المحرمات، وهذا سفه ومخالفة لما دلت عليه النصوص من التمييز بين هذين النوعين من الإرادة الإرادة القدرية والإرادة الشرعية، ويتبين عدم تمييزهم بما سيأتي مما يذكره المؤلف رحمه الله من إثبات صفة المحبة له سبحانه وتعالى.

    المهم أن الجبرية والقدرية وجماعة من مثبتة الصفات جعلوا الإرادة نوعاً واحداً، فكل ما في هذا الكون يصدر عن إرادة واحدة، ولا يميزون بين محبوبات الله وبين ما لا يحبه مما اقتضت حكمته أن يكون.

    1.   

    إثبات صفة المحبة لله تعالى

    قال رحمه الله: [ وقوله: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقوله: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، وقوله: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:7]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]، وقوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14] ].

    الفرق بين الصفات الفعلية والذاتية

    هذه الآيات الكريمات فيها إثبات صفة فعلية من صفات الله عز وجل، وهي صفة المحبة، وهذا أول ما ذكره المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالصفات الفعلية، وتقدم لنا فيما سبق أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات فعلية، وصفات ذاتية، والصفات الذاتية هي الصفات التي لم يزل ولا يزال الله جل وعلا متصفاً بها أزلاً وأبداً، وتقدم لنا منها: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، وسيأتي بقية ما يكون من صفات الله عز وجل الذاتية، وهي ليست محصورة بالسبع، لكن أشهرها السبع التي يثبتها مثبتة الصفات من الأشاعرة والكلابية والماتريدية.

    أما الصفات الفعلية: فهي الصفات التي تتعلق بالمشيئة. هذا ضابطها: كل صفة تعلقت بالمشيئة فإنها صفة فعلية، فكل ما تعلق بالمشيئة: إن شاء الله فعله، وإن شاء لم يفعله فإنها من الصفات الفعلية، هذا هو الحد المميز أو الفاصل بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية.

    الصفة الفعلية التي ذكرها المؤلف هنا هي صفة المحبة، والآيات التي ساقها رحمه الله كلها تدل على إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، ومن حسن تصنيف المؤلف رحمه الله أنه أتى بهذه الصفة بعد ذكر المشيئة؛ لأن جماعة من المتكلمين المبتدعين جعلوا المشيئة هي المحبة، ففسروا المشيئة بالمحبة، والمحبة بالمشيئة، فقالوا: إن قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] هذه لا نثبت بها صفة المحبة بل هي المشيئة، فأولوا وعطلوا الرب جل وعلا عن هذه الصفة، فأتى رحمه الله بعد إثبات المشيئة ببيان هذه الصفة، والأدلة الدالة على ثبوتها.

    القدر الذي يثبته أهل السنة من صفة المحبة

    اعلم أن صفة المحبة صفة يثبتها أهل السنة والجماعة لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ كسائر ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    والمحبة التي يثبتها أهل السنة والجماعة هي محبة الله لعباده، ومحبة العباد لله جل وعلا، فيثبتون المحبة من الطرفين من الله لعباده ومن العباد لله سبحانه وتعالى، وكل هذا قد دل عليه الدليل، وقد جمع النوعين في قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)، فأثبت محبته لأوليائه وأصفيائه وعباده المتقين، وأثبت محبة عباده له سبحانه وتعالى، وقوله: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وقوله: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]؛ هذا فيه محبة الله لعباده ومحبة العباد له سبحانه وتعالى.

    ومن ذلك قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14] ومعنى: الودود المحب، فهو الغفور الودود جل وعلا، وهو سبحانه وتعالى الذي يحب.

    الفرق التي ضلت في صفة المحبة والرد عليهم

    دلت النصوص على إثبات هذين النوعين لله سبحانه وتعالى، وهي من الصفات الفعلية، وقد ضل في ذلك الجهمية، فأنكروا المحبة من الطرفين، فقالوا: إن الله لا يحِب ولا يُحَب! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، قالوا: إن الله لا يحب أحداً من عباده، ولا يحبه أحدٌ من عباده، سبحان الله العظيم! كيف يجرءون على هذا، ويعطلون ما دل عليه الكتاب والسنة؟! وعلتهم في هذا النفي أنهم:

    قالوا: إن المحبة إنما تكون بين متناسبين، ولا نسبة بين الخالق والمخلوق. هكذا زعموا وافتروا في إبطال ما أثبته الله لنفسه من محبته لعباده، وما أثبته من محبة عباده له.

    والجواب على هذا أن يقال: كذبتم بأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، ولا يلزم من ثبوت المحبة بين شيئين أن يكون بينهما تناسب، فالإنسان يحب سيارته ومركبه وبيته، وهل هناك تناسب بين الجماد والإنسان؟ ليس هناك تناسب، النسبة منقطعة بينهما تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جبل أحد: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، فأثبت له المحبة من طرفين وليسا متناسبين، هذا على التسليم بما قالوه من الشبهة التي عطلوا بها المحبة، وهي: لا نسبة بين الخالق والمخلوق، والصحيح أننا نمنع هذه الشبهة، ونقول: أعظم المناسبات هي المناسبة بين الصانع والمصنوع، فهو الذي خلقك ورزقك، ومن كل خير أمدك، فما بك من نعمة فمن الله، فكيف بعد هذا كله نقول: لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، بل أعظم المناسبات هي بين الخالق والمخلوق، يعني: أعظم الأسباب التي يقوم من أجلها الحب هو ما كان بين الخالق والمخلوق؛ ولذلك كان من أسمائه: الإله، وهو الذي اشتق منه أعظم أسمائه وهو الله، الله أصله الإله؛ حذفت منه الهمزة للتسهيل، كأناس يقال: الناس، ولا يقال الأناس للتسهيل، ومن هو الإله؟

    الإله هو المألوه الذي تتعلق به القلوب محبة وتعظيماً، فكيف يقال بعد هذا: لا مناسبة بين الخالق والمخلوق؟!

    إذاً: أبطلنا شبهتهم بالمنع والتسليم، يعني: سواء سلمنا لكم فيما تقولون من دعوى، أو أننا أبطلنا دعواكم؛ فعلى كلا الأمرين قولكم ليس بصحيح، بل أعظم المناسبة هي بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوقين.

    والطائفة الثانية التي ضلت في هذه الصفة هم الذين قالوا: إنه لا يحِب ولكنه يحَب، فعطلوا محبة الله لعباده، وأثبتوا محبة المخلوق للخالق.

    وهؤلاء الجواب عليهم أن يقال: كيف تنكرون ما جاءت النصوص بإثباته، فهم مثل الفرقة الأولى إلا أنهم أهون بدعة منهم.

    والصحيح أن يثبت الأمران لله سبحانه وتعالى، فهو الذي يحِب ويحَب جل وعلا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756602311