الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد قدم وفد من نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده في المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم خير داع وخير هاد بأمر الله، يحمل في طيات قلبه السكينة والرحمة والعقل صلوات الله وسلامه عليه، فجاء النصارى وأناخوا مطاياهم في المدينة، وصلوا في مسجده صلاتهم ولم ينكر عليهم، وتوجهوا شرقاً، وكل ذلك تركهم عليه ليصل وإياهم إلى طريق بين، ثم أتوه يجادلونه في أن عيسى ابن الله، فكانوا يزعمون أن عيسى ابن الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما عيسى عبد الله ورسوله)، فنزل القرآن يعلمنا كيف ندعوا إلى ربنا، ونزل القرآن بالأمور المتفق عليها بيننا وبين النصارى، فقال الله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:33-35]، فالآيات تتابع تثني على مريم وعلى آل عمران، والنصارى يعظمون مريم ويعظمون آل عمران.
فبدأ القرآن بنقاط الاتفاق، ثم وصل إلى قضية الخلاف، وهي في عيسى ابن مريم عليه السلام.
كلمة (مثل) هنا ليس المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب، فيقال: ضرب مثل، بل المقصود بكلمة (مثل) هنا الحال والصفة، والمعنى أن حالة عيسى وصفته عند الله كصفة آدم، فالنصارى تقول: إن عيسى ابن الله، بدلالة أنه ولد من غير أب، فجاء القرآن وقال: لو كانت المسألة بهذا المفهوم؛ لكان آدم أولى بالبنوة من عيسى؛ لأنه إن كان علة النبوة أن عيسى لا أب له؛ فإن آدم لا أب له ولا أم، فليست القضية بهذا المنطق، فالله جل وعلا ينزه عن الصاحبة والولد، وهو مقدس لم يلد ولم يولد، قال الله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران:59]، والمخلوق من تراب هو آدم، وقد مر بثلاث مراحل، فخلق أولاً من التراب، ثم مزج التراب بالماء فأصبح طيناً، ثم ترك الطين فأصبح فخاراً، وبكل ورد القرآن، قال الله: (من تراب) وقال الله: (من طين) وقال الله: (من صلصال كالفخار).
يقول الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:59-60].
قوله تعالى: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي: يا محمد.
قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي: في عيسى.
(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي: هذا القرآن.
(فَقُلْ) أي: قل لهم. (تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام على يقين من ربه، وعلى يقين من الحق الذي يدعو إليه، وفاطمة أحب بناته إليه، وعلي زوجها، فدعا صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين ، هؤلاء أربعة وهو الخامس عليه الصلاة والسلام، فواعد النصارى وأتى بأهل بيته، وقال لـعلي وفاطمة والحسن والحسين : (إذا أنا دعوت فأمنوا)، فقدموا وقدم وفد النصارى، وقد كانوا قرابة خمسة أو ستة، وكان عندهم شيء من العلم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والوجوه الطاهرة التي معه قال بعضهم لبعض: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال لأزالها، فامتنعوا عن المباهلة.
قال الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، فخرجوا من عنده من المدينة، واتفقوا معه على صلح وعلى أن يبعثوا له كذا وكذا.
ولذلك يروى عن أحمد بن حنبل الإمام المعروف رابع الأئمة الأربعة ظهوراً أنه جلده المعتصم وآذاه، وكان المعتصم من ذرية العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقول: عفا الله عني وعن المعتصم ، وجعلت المعتصم في حل. فيقال له: لم تفعل ذلك يا أبا عبد الله ؟! قال: إنني لأستحي من الله أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبيني وبين أحد أبناء عمومته خصومة.
ولا ريب في أن أبناء العمومة من آل بيت رسول الله، ولكنهم ليسوا في منزلة علي وفاطمة والحسن والحسين ، فهؤلاء آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم (قام في الليل فسقى
قال بعض أهل العلم: إذا قتله وعلق دم الدجال بحربة عيسى اطمأن الناس إلى أن الدجال الذي يدعي الإلهية قد قتل حقاً، وأن هذا دمه عالق بحربة عيسى عليه السلام.
وينزل عيسى ابن مريم والمسلمون يومئذ يريدون أن يصلوا العصر، فيأبى أن يتقدم، ويتقدم إمامهم، قال صلى الله عليه وسلم: (إن منكم لمن يصلي عيسى بن مريم خلفه تكرمة من الله لهذه الأمة)، ومن الحكم التي ذكرها العلماء في قضية تقدم المهدي أو هذا الرجل الصالح على عيسى ابن مريم أن المهدي أو هذا الرجل الصالح في قلبه القرآن، وعيسى في قلبه الإنجيل، والقرآن مقدم على الإنجيل، وهذا عندي تعليل حسن، ولكنني لا أجزم به، فالعلم الفصل عند الله.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عيسى يمكث في الأرض يحكم فيها قرابة سبع سنين، حتى إذا قربت تلك السبع يخبره الله جل وعلا عن خروج أقوام ليس لك بهم يدان، وهم قبائل يأجوج ومأجوج ، فيحرز عيسى المؤمنين الذين معه إلى جبل الطور في أرض سيناء، حتى يهلك يأجوج ومأجوج، ثم بعد ذلك ينزل عيسى ابن مريم، وظاهر الأمر أنه يستوطن المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عيسى ابن مريم سيمر على فج الروحاء، وفج الروحاء الآن موجود في طريق المدينة إلى جدة القديم، ويبعد قرابة سبعين كيلو متر عن المدينة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام سيمر به حاجاً أو معتمراً، وهذا يؤكد أن عيسى يستوطن آخر الزمان في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر