اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:114-132].
ذكر الله سبحانه وتعالى قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكيف دعا قومه إلى عباده الله سبحانه وكسر أصنامهم، ثم هاجر من بين أظهرهم وقال: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99] فبشره الله سبحانه بغلام حليم وكان من أمره ما كان، وأمر الله بذبحه، فنفذ أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ففداه الله بذبح عظيم، وهذا الغلام الذي فداه الله هو ولد هاجر، واسمه إسماعيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وبينه وبين إسحاق ثلاث عشرة سنة، وإسحاق هو ابن سارة، فبشره الله سبحانه أنه سيولد له ولد من زوجته العجوز الكبيرة، ويكون نبياً من بعده، وسيكون له عقب من ذريته، قال تعالى: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] أي: إسحاق سيكون نبياً وسيكون له الولد وهو يعقوب.
قال الله تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:112] وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا [الصافات:113] أي: من ذرية إبراهيم وإسحاق المحسن ومنهم الظالم لنفسه ظلماً بيناً، قال تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [الصافات:113]، فالمحسن من ذريتهما هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرسل، كذلك المؤمنون الأتقياء والأولياء وغير ذلك من عباد الله سبحانه، ومنهم الذين يظلمون أنفسهم ظلماً بيناً، فيعبدون غير الله سبحانه، فمن ذرية هؤلاء جاء من عبد غير الله سبحانه وادعى الشرك لله سبحانه، قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] فهؤلاء يقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فيزعمون أنهم لله عز وجل بمنزلة الولد وأنه يحبهم ويرحمهم، فقال لهم سبحانه موبخاً لهم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] أي: عبيد من عبيد الله سبحانه كغيركم من العبيد يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] ثم يزعمون أن الله لا يعذبهم، فهؤلاء الذين عبدوا غير الله سبحانه وزعموا الصاحبة والولد لله هم الذين ظلموا أنفسهم ظلم بيناً عظيماً بدعائهم الولد لله والشريك له حاشى له سبحانه وتعالى.
ثم قال الله عز وجل: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114] هذان من ذرية إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إبراهيم ابنه إسحاق، وإسحاق ابنه يعقوب وهو إسرائيل، ويعقوب ذريته الأسباط، ومن أبناء يعقوب لاوي، ومن أحفاد هذا الابن كان موسى بن عمران وأخوه هارون بن عمران عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فموسى وهارون من أحفاد يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومن نفس هذه الذرية إلياس، فهو من أبناء هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويرجعون في النهاية إلى يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114] من الله عز وجل عليهما، وذكر قصة موسى في القرآن في مواضع كثيرة، يذكر موسى ويذكر رسالته، ويذكر دعوته لبني إسرائيل، فهو من أكثر الأنبياء عليه الصلاة والسلام ذكراً في القرآن، فهو من أولي العزم من الرسل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر في قصته وأن يعتبر بذلك، وقد كان إذا أوذي صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي أكثر من هذا فصبر) فهو صاحب الشريعة التي كانت قبل شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسيح عمل بشرع موسى عليه الصلاة والسلام بتوراته، فموسى صاحب كتاب وصاحب شريعة، إذ حكم بين الناس بالتوراة، فقد نزلت التوراة فيها هدى ونور، وجاء القرآن شريعة بعد التوراة، أما الإنجيل فكان كتاباً فيه موعظة يعظ الله عز وجل بها بني إسرائيل، وأما الحكم فكان بالتوراة؛ فلذلك الشريعة التي سبقت شرع محمد صلوات الله وسلامه عليه هي التوراة التي نزلت على موسى، ويوضح ذلك قول الله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى [هود:17] أي: من قبل هذا القرآن وقبل محمد صلى الله عليه وسلم كتاب موسى، إذ كان عيسى يحكم بهذه التوراة، فلم يكن له شريعة مستقلة، وهو أحد أولي العزم من الرسل، وهو ممن ابتلاهم الله سبحانه، فحكم بالتوراة، ثم رفعه الله عز وجل إليه، فإذا نزل في آخر الزمان حكم بالقرآن العظيم، فصاحب الشريعة قبل النبي صلى الله عليه وسلم هو موسى عليه الصلاة والسلام، وقد من الله سبحانه وتعالى وتفضل وأعطى النعم لموسى وهارون وأعظم نعمة الله سبحانه عليهما أن جعل موسى رسولاً وجعل هارون نبياً ووزيراً لموسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114].
قال الله تعالى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الصافات:116] أي: نصرنا موسى وهارون ومن اتبعهما من المؤمنين فكانوا المغالبين، فأهلك الله عز وجل فرعون وجنوده، وأظهر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكانوا هم الغالبين ومن اتبعهما من المؤمنين.
إذاً: ( نَصَرْنَاهُمْ ) أي: نصرنا المؤمنين موسى وهارون ومن معهم من المؤمنين.
وقوله تعالى: وَآتَيْنَاهُمَا [الصافات:117] هذا كان لموسى وهارون على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، آتاهما الكتاب المستبين، والذي نزل عليه الكتاب هو موسى عليه الصلاة والسلام، وهارون تابع لموسى وهو نبي، فموسى رسول ونبي، والمطلوب منه أن يبلغ رسالة وأن يبلغ شريعة، فهو صاحب كتاب، أما هارون فهو نبي يوحى إليه، ولكن ليس صاحب رسالة، فهو يبلغ ما يأمره به موسى عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ [الصافات:117] المستبين: الذي استبانه الناس وتبينوا صدقه وتبينوا نوره وظهر الحق الذي فيه، يقال: هذا كتاب بين، أي: جلي واضح لا لبس فيه ولا غموض فيه، بل هو نور من الله سبحانه.
قال الله: وَهَدَيْنَاهُمَا [الصافات:118] أي: موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقوله تعالى: الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الصافات:118] أي: الطريق القويم، وهو دين الله الإسلام العظيم الذي دعا إليه كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، قال نوح عليه الصلاة والسلام: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:72]، وقال موسى لقومه: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]، فهي دعوة الله سبحانه لكل خلقه أن يكونوا على هذا الإسلام العظيم، أن يسلموا أنفسهم وقلوبهم ويوجهوا وجوههم إلى الله الواحد لا شريك له، ويعبدونه لا يشركون به شيئاً.
وقوله تعالى: الصِّرَاطَ تقرأ بثلاث قراءات: الصراط بالصاد، والسراط بالسين، والزراط بالزاي إشماماً، تشم السين حرف الزاي، يقرؤها بالسين: قنبل عن ابن كثير ورويس ، وباقي القراء يقرءون هذه الكلمة بالصاد، ويقرؤها خلف عن حمزة : (الزراط المستقيم)، ويقرؤها خلاد بخلفه، والمعنى واحد في الجميع، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الصافات:118] أي: الطريق القويم إلى الله عز وجل، هذه الشريعة العظيمة شريعة الإسلام.
فالله يجعل ملائكة تنطق على لسان أحدكم، فالنطق يكون شيئاً عفوياً، فقد يكون إنسان لا يقصد شيئاً فيتذكر فلاناً فيقول: الله يرحمه، لقد كان رجلاً طيباً، وكان رجلاً صالحاً، فالملائكة تجعله ينطق بذلك، فيكون الثناء الحسن من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان.
قوله تعالى: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي: كان نبياً ورسولاً من رسل الله سبحانه إلى قومه، قال تعالى: إِذْ قَالَ [الصافات:124] أي: اذكر كيف دعا قومه وقال لهم: ألا تتقون؟ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ [الصافات:125] إذاً: هو نبي لبني إسرائيل عليه الصلاة والسلام وكان بعد سليمان، وكان سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ملكاً على بني إسرائيل، وأعطاه الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة، وجمع له ما شاء من نعم لم تكن لأحد من بعده، فقد سخر له الإنس والجن والرياح في مملكته، يذهب كيفما شاء، والله عز وجل يسر له ذلك، ولما مات سليمان عليه الصلاة والسلام تنازعت بنو إسرائيل فتفكك ملك سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يقدر أحد أن يجمع هذا الملك من بعده، وكان في بني إسرائيل ملوك، فكان إلياس يدعو أحد ملوك بني إسرائيل، إذ كانت امرأته تعبد صنماً من الأصنام، ورأى الملك أن غيره من الناس من بني إسرائيل في البلدان الأخرى يعبدون غير الله سبحانه، فأخذ يقلدهم ويترك امرأته تعبد العجل وتدعو إلى عبادة الصنم الذي صنعته، واسم الصنم بعل، وسميت البلده باسمه (بعلبك)، وهي مدينة من المدن الموجودة في لبنان، وأنكر إلياس عليهم عبادة هذا الصنم من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى الله فرفضوا أن يأتوا إلى ربهم خاشعين، فأنكر وقال: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:125-127] أي: للعذاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر