اللهم لا سهل إلا ما سهلته، وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلاً، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعــد:
إخوتي الأحباب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكتب الله لنا ولكم هذه الخطوات التي نرجو أن تكون في سبيل الله جل وعلا، فما من خطوة يخطوها العبد إلى طلب علم، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، بنية صادقة، إلا وهي مكتوبة له، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].
أيها الإخوة: الأخلاق في الإسلام تتبوأ أعظم المواقع، حتى أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يقول: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وفي لفظ: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} والحديث رواه مالك في الموطأ، وابن سعد، وغيرهم وهو حديث حسن، فحصر النبي صلى الله عليه وسلم المهمة التي بعث بها في هذه الكلمات (لأتمم صالح الأخلاق) أو (مكارم الأخلاق).
فإذا فهمنا أن المقصود بالأخلاق تعامل العبد مع الله، ومع الخلق، فلا إشكال في الحديث مطلقاً؛ لأن هذا هو الدين كله، أن يحسن الإنسان المعاملة مع ربه، ومع الخلق، وإذا فهمنا الأخلاق بالمعنى الأخص الذي هو: حسن المعاملة مع الناس، فحينئذٍ يكون الحديث لبيان عظيم قدر الأخلاق، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: {الحج عرفة} أو {الدين النصيحة}.
ليس المقصود حصر الحج في مكان، أو حصر الدين في النصيحة، كلا؛ بل إشارة إلى عظيم مكانة عرفة، في الحج؛ لأنها أعظم ركن فيه، ولعظيم موقع النصيحة في الدين، والحديث -على أي المعنيين- فيه دلالة قوية جداً على عظمة الأخلاق في الإسلام، ومن هذا المنطلق فكل مسلم داعية كان أو غير داعية، ينبغي أن يلتزم بأخلاق الإسلام.
لكن يكون الواجب على الداعية بصفة أخص أن يلتزم بهذه الأخلاق، فإذا كان المسلم العادي مطالباً بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، فما بالك بمن يرفع لواء الدعوة إلى الله، ويكون مبلغاً لشريعة الله، ودينه إلى الناس، إن الأنظار إليه أكثر، والتطلع إليه أعظم، ونقده إن أخطأ أشد. ولذلك فالتزامه بالخلق الفاضل من ألزم اللوازم، وأكثر الأمور ضرورة.
أيها الإخوة إنني لو تكلمت عن الأخلاق التي يجب أن يلتزم بها الداعية، فإن هذا الحديث يبدأ ولا يكاد ينتهي؛ ولهذا رأيت أن من المناسب في هذه المحاضرة أن أختار مجموعة من الأخلاق، التي هي من جانب مهم، وربما تكون أهم من غيرها، ومن جانب آخر يخطأ فيها الكثير من الناس، وخاصة من الدعاة، حتى تتركز هذه المحاضرة في مجموعة من الأخلاق التي يجب الالتفات إليها.
واللون الثاني من الصدق، هو: الصدق في الأقوال: بمعنى أن يتجنب الإنسان الكذب، أو ما ينافي الصدق، وقد يقول قائل: إن كثيراً من المسلمين فضلاً عن الدعاة يستعيبون الكذب، ويعتبرونه خطيئة، حتى لو لم يكن ورد النهي عنه، فكيف وقد وردت النصوص في التحذير منه.
فأقول: هذا صحيح، لكننا نجد أن كثيراً من الدعاة، نظراً لمعاناتهم لأمور الدعوة، يتوسعون في أمور لا تتناسب مع الصدق، وذلك مثل كثرة التورية، وكثرة التأول والتأويل في الألفاظ والأقوال، فتجد الداعية يستخدم مع الناس أسلوباً ليس كذباً، لكن هم يفهمون منه خلاف ما يريد، وهو يقصد ذلك، فقد يكتشف الناس يوماً من الأيام، أن هذا الأمر الذي فهموه من هذا الداعية خلاف الواقع، فيتهمونه بأنه كذاب.
ولا شك أن الإنسان إذا عود نفسه على كثرة التورية، بمعنى أن يقول كلاماً يحتمل أكثر من معنى، فهو يقصد معنى، والناس يفهمون منه معنىً آخر، فإن هذا مدرج يجر الإنسان إلى الوقوع في الكذب، فالداعية ينبغي أن يحرص على أن يكون واضحاً في أقواله.
الصدق في الأعمال: بمعنى أن تكون أعمال الإنسان واضحة، بعيدة عن أن يتلبس بها شيءٌ من الزور، فلا يعمل عملاً إلا لوجه الله، ويعمل الأعمال التي ترضي الله، ويتجنب أن يعمل عملاً غير واضح ولا ظاهر.
على سبيل المثال: نحن نعلم جميعاً أن القصة المعروفة -وإن كان في سندها بعض المقال، لكن لا بأس من إيرادها- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أهدر دم مجموعة من الناس الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويقولون الشعر في ذمه وعيبه، أو كانت لهم جرائم أخرى، كـعبد الله بن خطل وغيره، وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان أخاً لـعثمان بن عفان لأمه.
فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بـعبد الله بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنه، وقد وضعه خلف ظهره، وهو يقول: يا رسول الله هذا عبد الله بن سعد، وقد جاء تائباً فأمنّه على دمه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالها عثمان: مرة أخرى، فسكت، فقالها: مرة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو آمن}.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: {ألا رجلٌ منكم حين رأيتموني سكت قام إليه فعلا عليه بالسيف فقتله} لماذا لم تقتلوه لما رأيتموني سكت فلم أؤمنه؟
قالوا يا رسول الله: هلاّ أومأت إلينا؟ -لو أومأت إلينا بطرف عينك لقام إليه أحدنا فقتله، فمجرد إشارة بعينك تكفي في أن نقوم إليه فنقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين}.
لاحظوا! مدى الصدق الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث أنه لما اشتهر هذا الأمر عنه، وعرف به لدى القاصي والداني لم يستطع المشركون أن يتهموه بالكذب صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن لم يستطيعوا أن يصرحوا بكذبه، إلا بعد ما أعيتهم الحيل، وإلا ففي البداية كانوا يعلمون أن الناس لن يصدقوهم في هذا الأمر، وهذا الذي وقع فعلاً رغم أنهم اتهموه فيما بعد بالكذب، فإن الناس رفضوا هذا الكلام.
ولذلك روى الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه اليهودي الذي أسلم، قال: [[ لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، سمعت الناس يقولون: قد جاء محمد، قد جاء محمد، وانجفل الناس إليه، -أي: ذهبوا إليه سراعاً- قال: فكنت فيمن ذهب إليه، فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب ]].
لاحظوا! قال: (لما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب) بمجرد نظرة ألقاها عبد الله بن سلام -وهو يهودي آنذاك- على وجه النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أن صاحب هذا الوجه ليس كذاباً، قال: فسمعته يقول: {يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام}.
انظر! كيف تحول الصدق؟ أولاً في القلب، ثم في القول، ثم في الجوارح، حتى ظهر على محيا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رجل صادق في أقواله وأفعاله، فعرف هذا الرجل الذي كان يهودياً، أن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوجه كذاب.
ولذلك يقال: أن بعض السلف -نقلت عن أكثر من واحد من العلماء- كان إذا تحدث، ووعظ يتجمع الناس عنده، وتنهال الدموع، ويسمع البكاء والنحيب، وآخرون أقوى منه حجة، وأقوى منه بياناً، وأوسع منه علماً، لكن إذا تحدثوا لم يتأثر بكلامهم أحد.
فقال له ولده: يا أبتِ، مالك إذا تحدثت بكى الناس وانتحبوا، وإذا تحدث غيرك لم يحرك للناس شعوراً، فقال يا بني: لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، فالمرأة التي تبكي لموت ابنها، أو زوجها، تبكي بحرقة وحزن، فتُبكي من يسمعها، لكن إذا مات إنسان، ولم يوجد من يبكي له، فاستأجر أقاربه بالأجرة أناس يبكون الساعة بكذا، من يسمع هذا البكاء؟
لا يلتفت إليهم؛ بل يضحك عليهم، لأنه يعلم أن المسألة تمثيل، وأن هؤلاء المتباكيات لسن حزينات، وإنما يقمن بالبكاء بالنيابة عن غيرهن، فلا يتأثروا بهن.
إذاً: صدقك في حمل الدعوة هو الوسيلة الأولى لتقبل الناس ما عندك، وليس المهم في الدعوة هو الألفاظ المنمقة، والعبارات المعسولة المحبوكة، والألفاظ الأدبية، وإن كانت هذه الأشياء كلها مطلوبة في الدعوة، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأبلغ بيان، وكان أفصح من نطق بالضاد عليه صلوات الله وسلامه، ولكن أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، لا بد أن يكون حديث الإنسان منطلقاً من قلب صادق.
كذلك الصدق في الأقوال: فإن الدعاة أحوج ما يكونون في هذا الزمن لأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأعمالهم، وذلك لأنكم تعرفون -أيها الإخوة- أن الداعية اليوم يواجه حرباً من أطراف شتى؛ يواجه حرباً من الأبعدين -من أعداء الإسلام- وهذه حرب ضارية وشرسة وضروس لا يهدأ لها غوار، ويواجه أحياناً حرباً ممن يخالفونه في المنهج، وفي الطريقة، وفي أسلوب الدعوة حتى من الذين يذكرون من الدعاة إلى الإسلام.
وربما يملك هؤلاء وأولئك من وسائل التشهير بهذا الداعية الشيء الكثير، فإذا وقع الداعية في مزلق كذب في القول، أو في الفعل، أو تورية يفهم الناس منها خلاف ما يريد، أو ما أشبه ذلك، فإنه حينئذ يكون فتح الباب على نفسه ليقول الناس فيه ما يشاءون؛ ولذلك فالداعية بأمس الحاجة إلى أن يكون صادقاً قدر الإمكان، ولا يضيره أن يبالغ في الصدق، حتى يفوت السبيل على من يريدون أن يسيئوا إليه، أو يفهموا أقواله للناس وأفعاله على غير ما هي عليه.
أما الذي لا يصبر، فإنه سرعان ما يستخفه الناس، أو تؤثر فيه العقبات التي تعترض طريقه فيتراجع؛ ولذلك كان من توجيهات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] فأمره بالصبر، وأن وعد الله له بالنصر، والتمكين في الدنيا، والنجاة في الآخرة حق، وقال: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].
الربا اليوم يضرب أطنابه بين الناس، ويمد رواقه، وقل من يسلم منه، حتى تحققت النبوءة التي وردت في حديثٍ رواه الإمام أحمد في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمانٌ من لم يأكل الربا، أصابه من غباره} وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه ورد في صحيح البخاري، ما يشهد له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:{يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أكل من حلال أم من حرام}.
فهذا الربا الذي استقر في نفوس كثير من الناس، وفي جيوبهم، وفي أموالهم، ومؤسساتهم، بدلاً من أن يسعى الداعية للقضاء عليه، وإقناع الناس بتحريمه يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفوه به ليعيد النظر في موضوع صورة من صور الربا، وأن هذه قد لا تكون من الربا؛ ولذلك أصبحنا نسمع من يحاول أن يحلل بعض أصناف الربا الصريح الذي لا كلام فيه، ولا لف، ولا مداورة، لكن على سبيل الاستجابة لاستخفاف الذين لا يوقنون.
كذلك -أحياناً- يأتي بعض الناس إلى الداعية، فيقولون له: إنك تبذل جهود جبارة، وتتعب، وتسهر الليل، وتكد في النهار، وتواصل الجهود، لكن النهاية والنتيجة: قليلة، فأنت ترى الناس ينفضون من حولك، وترى وسائل الهدم والتخريب قد استحوذت على الكثيرين منهم، فلماذا لا تنعزل وتترك هذا الميدان، فربما جاء الوقت التي تشرع فيه العزلة؟!
وهذا المنطق -أيضاً- قد يؤثر في نفوس كثير من الدعاة، خاصة المبتدئين الذين لم يتعودوا على تحمل عقبات الطريق، فهنا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن خباب بن الأرت، قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا يا رسول الله: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه، ثم قال: إن من كان قبلكم يؤتى بالواحد منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ويشق إلى نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب لا يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون}.
إذاً: العجلة في جني ثمار الدعوة ونتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية، أحياناً يكون الداعية في موقع من المواقع، يجاهد في مكان من الأمكنة في رد المنكرات، وفي التقليل منها، وفي نشر الدعوة، ويحدث له خيرٌ كثير، لكن لا يحس هو بهذا الخير الذي يقع؛ لأن الخير يقع تدريجياً، فلا يشعر به، كما أن الواحد منا حين يكون له ولد في بيته -طفله- يراه صباحاً ومساء، فهذا الطفل يكبر، لكن الأب لا يحس بنموه لأنه يراه باستمرار، والنمو تدريجي فلا يحس به الأب، كذلك الداعية -أيضاً- قد يكون في موقع له تأثير كبير، لكن لا يحس به، فلو تخلى عن هذا الموقع لظهر أثره، وكم من داعية تخلى عن موقعه ظاناً أنه ليس له أثر، فلما تخلى بان فقده، فكان شأنه كشأن الكسعي الذي يضرب به المثل في الندم، كما يقول الشاعر:
ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار |
فـالكسعي، كان يصنع السهام -القسي- فيضرب بها، وصار يضرب في الليل، وظن أنه لم يصب، فكسر القوس الذي صنع، فلما أصبح ذهب فنظر، فوجد أنها قد أصابت الموضع الذي يريد! فندم ندماً شديداً على كسر هذا القوس.
فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج والثمرات؛ بل عليه أن يسعى، ويعتمد على الله عز وجل، ويدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها، التي لا يشك فيها اثنان ممن لهم معرفة، وبصر بالواقع، أن أي جهد صحيح يبذل اليوم في الأمة الإسلامية، فهو جهد مثمر، وقد جرب الكثير من الناس ذلك.
فمن يستطيع أن يقول: إن هناك داعية دعا فلم يستجاب له، أو عالم جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد، أو ناصح نصح فلم ينتصح أحد بأمره ونهيه، أبداً لا يوجد هذا، بل كل داع يجد من يستجيبون له.
إذاً لم تصل الأحوال إلى حد ما أخبر عنه الرسول عليه السلام: {شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} على مستوى الأمة كلها، هذا قد يوجد بالنسبة لأفراد، لكن الأمة كلها لا يزال فيها خير كثير، ولا يزال عند الناس استجابة، وقبول للدعوة، وسماع لصوت الناصح؛ بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم الكافر، أن من يحمل لواء الدعوة إلى الله تعالى، يجد من يستجيب له من أولئك الكفار.
إذاً الدعوة تجد آذاناً صاغية لكن: (لكنكم تستعجلون) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.
والتواضع: هو معرفة الإنسان قدر نفسه، وتجنب الكبر.
{إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق، أي: جحده، وغمط الناس، أي: بخسهم حقوقهم، فيتجنب الإنسان الكبر، ويلجأ إلى التواضع، التواضع مع من فوقك، وأكبر منك في السن، أو في العلم، أو أقدم منك في الدعوة، وما أحوج الدعاة لهذا الأمر.
أذكر قصة ذكرها الإمام الخطابي في كتاب العزلة يقول: كان هناك رجل في مرو معروفاً بالزهد والورع والدين، فقدم الإمام عبد الله بن المبارك، وزار هذا الرجل، وكان لا يعرف ابن المبارك -على رغم شهرة عبد الله بن المبارك -رحمه الله- وانتشار ذكره في الآفاق، فكأن هذا الرجل لم يأبه بـابن المبارك، وازوَرَّ عنه، ولم يلتفت إليه، ربما سلم عليه بطرف يده، وأعرض عنه، ولم يأبه به، فخرج من عنده عبد الله بن المبارك، فلما خرج، قالوا له: أتدري من هذا؟! قال: لا. قالوا: هذا عبد الله بن المبارك، ففزع الرجل وقام مسرعاً، ولحق بـعبد الله بن المبارك وسلم عليه، واعتذر منه، وقال: انصحني. فقال: نعم، إذا رأيت إنساناً، فظن أنه قد يكون خيراً منك. وكأن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- والله أعلم لمح في خلق هذا الرجل وفي نفسيته، وفي أسلوب استقباله نوعاً من الكبرياء، والاستعلاء على الناس، فنصحه بهذه النصيحة التي تناسب حاله.
إذاً كم نجد من بعض الدعاة، والذين يتقفرون العلم، وخاصة من صغار الطلبة، من يسيئون الأدب مع أشياخهم، وعلمائهم، وكبار الدعاة؟!
وهذا والله أمر يحز في النفس كثيراً -أيها الإخوة- فلا مانع أن تختلف مع عالم، أو مع داعية في رأي، أو قول، أو مسألة، أو اجتهاد، هذا أمر لا حرج فيه، لكن الحرج كل الحرج أن يكون هذا مدعاة إلى تحطيم قدره، والحط من مكانته، والإزراء عليه، وسوء الأدب معه، وكم من إنسان يخاطب جهابذة العلماء وكبارهم بأساليب لا تليق بصغار الطلبة.
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت |
أي نحن أهل السنة لو تحلقنا حول علمائنا، والتففنا حولهم، دعمناهم وجعلنا لهم مكانة تخولهم أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الوجه الصحيح، لكن لما خذله من وراءه لم يستطع أن يقول شيئاً.
والمؤسف أن أهل البدع على النقيض من ذلك، انظر -مثلاً- الرافضة كيف يسير دهماؤهم وراء علمائهم بشكل لا شك مرفوض، وأحياناً يتحول إلى عبودية، وتقديس لهؤلاء، وكذلك الشأن في المعتزلة، أنا كثيراً ما أتمثل بأبيات لأحد شيوخ المعتزلة، يمدح فيها واصل بن عطاء زعيم الاعتزال، يقول له:
له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر |
رجال دعاة لا يفل عزيمهم تهكم جبارٍ ولا كيد ماكر |
له دعاة أقوياء العزائم.
إذا قال: مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حر لم يخف شهر ناجرِ |
هم أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وأهل التشاجر |
يصف سلطة هذا الرجل على من حوله من التلاميذ، وكيف أنه إذا أمرهم في شدة الشتاء بالذهاب إلى أقصى الدنيا أطاعوه، لا يفتدون منه بمال، ولا أهل، ولا ولد، ولا يعتذرون منه.
أهل السنة ينبغي أن يوقروا ويقدروا علماءهم، ولا خير في أمة لا يوقر صغيرها كبيرها، ولا يرحم كبيرها صغيرها.
إذاً: من الصعب أن تصف نفسك بالرجولة، الرجولة الحقيقية التي يتمدح بها، فإنه صحيح أن تصف نفسك بالذكورة، أما الرجولة فأمر فوق ذلك، فكم من شاب -أحياناً- يكون في مرحلة قليلة في بداية التعلم، وربما لم يحفظ من القرآن إلا اليسير، ولم يقرأ من الحديث إلا اليسير، وتجده يقف أمام جهابذة العلماء، وبأسلوب لا يليق، فهذا ينافي معرفة الإنسان قدر نفسه؟!!
والعجيب -أيها الإخوة- أن الداعية، وطالب العلم يغار من أقرانه، لكن لا يغار من الأعداء! قد يغار الداعية من داعية آخر أنه اجتمع عنده في مجلس درسه أو تعليمه ألف أو ألفان من المستمعين، لكن لا يغار إذا سمع أن مباراة رياضية حضرها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، فيصيبه حزن إذا سمع بكثرة الذين حضروا الموعظة أو الدرس، لكن لا يحزن إذا سمع بكثرة من يحضرون حفلاً غنائياً، أو مباراة رياضية، أو ما أشبه ذلك من المناسبات المنحرفة.
وهذا والله من البؤس، حتى لو كان لك ملاحظة على أخيك الداعية، حتى لو كنت لا ترضى منه بعض الأمور، لأنه:
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
أنا يكفيني أنه يدعو الناس إلى الله جل وعلا، ويكفيني أنه يعلم الناس الدين، وإن كان عنده ما عنده، وقد يكون الحق معه فيما أنتقد عليه.
وإن رأيت إنساناً فاسقاً، وأنت رجلٌ ظاهرك الصلاح، فلا تستكبر على هذا الإنسان؛ بل أولاً: احمد الله على أن نجاك مما هو فيه، ثم تذكر أنه قد يكون في عملك الصالح من العجب أو الرياء ما يحبطه، هذا وارد، وقد يكون عند هذا الإنسان من الانكسار، والذل، والندم، والخوف بسبب معصيته ما يكون سبباً في غفران ذنبه.
ولذلك في صحيح مسلم، قصة الإسرائيلي الذي كان عابداً، فكان يقول: والله لا يغفر الله لفلان -لأنه رجل مسرف على نفسه- فقال الله جل وعلا: {من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر له، فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك} -إذاً- لا تستكبر على أحد، حتى حين ترى الفاسق لا تستكبر عليه، وفائدة عدم الاستكبار -أيها الإخوة- ليس أن تذل لهذا الإنسان، لكن ألا تعامله بأسلوب المتسلط المستعلي.
أحياناً: الإنسان المستقيم يعامل الفاسق بأسلوب لا يدعو إلى الاستجابة، لكن لو أنه ثار في نفسه هذا الشعور أنه قد يكون عند هذا الفاسق طاعات ليست عندي، وحسنات ليست لي، وقد يكون عندي عيوب ليست عنده، فعامله برفق، وتدرج معه في الدعوة، وتلطف معه، قد يكون هذا من أهم أسباب تقبله؛ لأن كثيراً من الفساق يشتكون جفاء الدعاة، وسوء أساليبهم، ويقول كثير منهم: إنهم إذا رأوا إنساناً عليه أثر معصية ظاهرة أساءوا إليه، وأساءوا به الظن، وربما جفوا في معاملته، والأزمنة -أيها الإخوة- تختلف، فالزمن هذا، زمن فشت فيه ألوان من المعاصي، وأصبحت كالعرف المألوف عند كثير من الناس، فمثل هذه الأشياء ينبغي مراعاة انتشارها بأن لا يعتقد الإنسان دائماً أن هذه المعصية تدل على أن هذا الإنسان شرير، وأن باطنه -أيضاً- فاسد فساداً كاملاً.
وإن كنا نعلم -لا شك- أن كل فساد في الظاهر، فله رصيد من الفساد في الباطن بحسبه، ولا يمكن الفصل بين الظاهر والباطن، لحديث النعمان المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}.
لأنك تتذكر -كما أسلفت- أنه قد يكون هذا العمل غير مقبول، لسبب من الأسباب، فلا تستكبر به، ولا تمن به على الله جل وعلا.
وكذلك تتواضع إذا نصحت، وأكثر ما يأتي الشيطان للإنسان ويأزه ويعظم عليه الأمر إذا نصح؛ لأن النصيحة معناها: أن فيك نقصاً، فأنا حين آتي إليك، وأقول لك: يا أخي أنت -جزاك الله خيراً- فيك وفيك، وأنت رجلٌُ، ورجلٌ، ورجلٌ، فتفرح بذلك، هذه فطرة عند الإنسان يفرح بالمدح -يحب المدح- لكن إذا قلت لك: ولكن.. هنا تمسك قلبك؛ لأنك تخشى مما بعد لكن؛ معناها لأنني سوف أرجع، وأنتقدك في بعض العيوب.
وكل واحد منا ولا أعتقد أن واحداً منا إلا كذلك يكره كثرة الملاحظات، إلا أنه إن وجد أنها حق قهر نفسه، وتقبلها، ودعا لمن نبهه إليها، وشكره، لكن الضعيف ربما يستجمع قوته، ويستكبر عن قبول الحق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: { الكبر بطر الحق} أي: رده، بمعنى أن ترد الحق، فإذا سمعت أحداً ينصح لك فتواضع -يا أخي- وتذكر أنك أهلٌ لكل خطأ، وعيب ونقص، وافرح بإنسان يهدي إليك عيبك.
أما أن الواحد منا -أحياناً- إذا ذكر صديقه أثنى عليه، ولو كان يعلم أنه لا يستحق هذا الثناء، وإذا ذكر خصمه ذمه ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول، فمتى يصل الداعية إلى درجة ألا تؤثر الصداقة، والعداوة، والقرب، والبغض في تقويمه للأشخاص ومعرفة قدرهم؟
هل يستطيع الداعية -فعلاً- أن يذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليه، ممن يكونون مثله في المنهج، والطريق، وربما يكونون شركاء في عمل واحد؟
هل يستطيع ذلك؟
وهل يستطيع الداعية أن يثني بصدق على إنسان يختلف معه، وقد ينتقده في أمور معينة، ويكون مجال عمله مجالاً آخر مختلفاً عنه، هل يستطيع ذلك؟
إن كان يستطيع فقد حقق العدل في هذه الناحية، لكن الأغلب من الناس إذا ذكر من يكون شريكاً له في العمل أثنى عليه، ولو كان لا يستحق هذا الثناء، وإذا ذكر إنساناً مخالفاً له في المنهج ذمه، وتجاهل فضائله، وهذا ليس من العدل في شيء؛ بل الله جل وعلا يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
إذا محاسني اللائي أدل بها كانت عيوباً فقل لي كيف أعتذر |
فالحكم على الناس يتطلب العدل، والعدل في هذا الموقع بمعنى أن فلاناً أخطأ في مسألة، أو في مسألتين، أو عشر مسائل، أو عشرين مسألة، هذا كله ممكن أن يقع، لكن لا ينسيك هذا الكم من الأخطاء أن فلاناً له فضائل وحسنات أخرى ينبغي أن تذكر في الكفة الثانية.
بحيث تذكر الجانب المظلم، والجانب الأسود، وتنسى الجانب الثاني المشرق، هذا ليس من العدل في شيء!
هذا ذكر نصف الحقيقة، والغفلة عن النصف الآخر، هو ليس من الأمانة؛ بل كان ينبغي إلى جوار الخطأ، أن تذكر الصواب، وكثير من الناس بمجرد ما يكون الكتاب فيه خطأ، إما أحاديث ضعيفة، أو مسحة من تصوف، أو خطأ في الاعتقاد، أو خطأ في مسائل فقهية يحذرونه، ويحذرون منه.
ولو عاملنا كتب أهل العلم بهذا المنطق؛ لم يبق كتاب من كتب أهل العلم على ضوء هذا المقياس، حتى صحيح البخاري -أصح الكتب بعد كتاب الله- فيه نقص، فيه أبواب بيض لها، لم يضع تحتها أحاديث، وفيه أحاديث معلقة ضعيفة، والأحاديث المعلقة ليست هي الأحاديث الموصولة، حتى لا يلتبس الأمر على بعض من لا يفرقون بين الموصول والمعلق، وهناك مواضع كان الإمام البخاري يريد أن يرجع إليها، أو ما أشبه ذلك، وهناك اختلاف في بعض الروايات، وليس هناك كتاب غير القرآن يسلم من الخطأ.
فإذا قومت كتاباً، لا ينبغي أن تذكر عيوبه، وتحذر من هذا الكتاب، وتنسى ما لهذا الكتاب من الحسنات والإيجابيات.
أحياناً تسمع بعض الإخوة يتحدثون عن فئة من فئة الدعاة إلى الله فيحولونهم والعياذ بالله إلى مجموعة من الشياطين -نسأل الله العافية- حتى نطقهم بالشهادتين يحاولون أن يفسروها تفسيراً غير صحيح، وهذا من الجور، والظلم، ومع الأسف أن من يفعلون مثل هذا المسلك -أحياناً- ربما يقدمون في بداية حديثهم بالكلام عن العدل، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90] ثم يكون هذا مسلكهم وهذا أمر مؤسف في الواقع؛ لأن الإنسان يعتقد أن هذا هو العدل، ثم ينسى ما لهؤلاء القوم من الفضائل، وينظر إليهم بعين البغضاء، والعداوة، العين التي لا ترى إلا الخبيث فيه.
هذا والله ظلم وجور، كوني أنتقد هؤلاء، كوني لا أرتضي منهجهم، هذا شيء، لكن كوني أنسى أن هؤلاء القوم لهم محاسن، ولهم فضائل، فالأئمة السابقون كانوا يذكرون حتى محاسن أهل البدع، في الرد على من هو أشد منهم بدعة، في دعوة بعض الكفار إلى الدخول في الإسلام، في مواجهة هجمات أعداء الدين العسكرية، في أعمال خيرية قاموا بها، فنحن لا نتجاهل بدعتهم لأنهم خدموا الإسلام، ولا نتجاهل خدمتهم للإسلام بأنهم أهل بدعة، هذا هو العدل والعدل أن نجمع بين الأمرين. في النظر إلى الأعمال، والحركات، والمؤسسات، والأشياء التي يقوم بها المسلمون، وتجد في المسلمين إما إفراط، وإما تفريط.
خذ على سبيل المثال: قضية الحركات الجهادية في الفلبين، وفي أفغانستان، وفي إريتريا، وفي فلسطين، وفي كثير من الدول الإسلامية، يندر أن تجد العدل، أنت تنظر الناس فتجد أن منهم من يزيد، ومنهم من ينقص، وتجد من يتحدث عن الجهاد الأفغاني -مثلاً- فيصور هذا الجهاد وكأنه جهاد بريء من الأخطاء والعيوب، وكأنه جهاد الصحابة رضي الله عنهم، ولا يقبل أي نقد، أو توجيه، أو ملاحظة، وهذا لا شك إفراط، لكن في مقابل ذلك، تجد من الشباب من يتحدث عن المجاهدين، وعن الأفغان على أنهم مشركون، وأنهم يعلقون التمائم، ويتوسلون، وعندهم بدع في المساجد، حتى سمعت والعياذ بالله من يقول: هؤلاء مشركون يحاربون ملحدين، وسمعت بل رأيت من يقول: إن من لم يكفر هؤلاء فهو كافر.
أين ميزان القسطاس الذي وضعه الله تبارك وتعالى لهذه الأمة؟! هل هذا هو الاتباع الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم -أبداً- كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف للناس أقدارهم، وكان يمدح الإنسان بما فيه، وإن كان فيه ضعف ذلك من العيوب، خذ على سبيل المثال، في حديث أم سلمة، وهو في المسند، وسنده صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن النجاشي: {إنه ملك لا يظلم عنده أحد} فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحسنة، مع أنه كان حينئذ كافراً، وأسلم بعد ذلك، لكن لم يمنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أن يذكر هذه الخصلة الحسنة فيه.
وهذا ما يفتقده كثير من الدعاة اليوم، فهم غالباً ينظرون بعين واحدة، إما ينظرون بعين الرضا فينسون العيوب، أو ينظرون بعين السخط، فينسون المحاسن، وكما قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا |
آخرون يعكسون القضية، فينظرون إلى هذه النصوص، وبناءً على ذلك يأذنون للناس في الوقوع فيما شاءوا من المعاصي، ويقولون لهم: ستدخلون الجنة، وسيغفر لكم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا [الأعراف:169] هذا جور، فهذا أخذ بنوع من النصوص، وهي نصوص الوعيد، وذاك أخذ بنوع من النصوص وهي نصوص الوعد.
والعدل أن يأخذ بهذا وهذا، ويجعل النصوص كلها في كفة واحدة جنباً إلى جنب، ويفهم بعضها على ضوء البعض الآخر، فلا يشتط الميزان في يده.
ولذلك لو أن إنساناً -مثلاً- أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو أمراً متواتر الثبوت، ولو كان سنة من السنن كفر بذلك، إذا كان أمراً قطعي الثبوت، مثل أن ينكر -مثلاً- الأذان، أو أن ينكر سنة الفجر، ينكر أنها مشروعة؛ لأن هذه الأمور ثابتة مشروعيتها، ومتواترة، لا إشكال فيها، ولا خلاف فيها بين المسلمين أنها قطعية.
-إذاً- ليس في الدين أمر نقول: إنه لا قيمة له، لكن لا شك أن هناك أولويات، فمثلاً: البداءة بأمور العقيدة، هذا منهج ظاهر لا بد منه، كذلك تقديم الكليات عموماً على الجزئيات، فأنت حين ترى -مثلاً- إنساناً عنده مجموعة من الأخطاء أو النقائص، فمن الطبيعي أنك ستبدأ بالأكبر فالأكبر، فتبدأ بتعليمه الصلاة -مثلاً- قبل أن تبدأ بتعليمه الأذكار الأخرى، وتبدأ بنهيه عن الشرك الأكبر -إن كان موجوداً عنده- قبل أن تنهاه عن التدخين، أو عن أكل الربا.
هذا تدرج طبيعي وهو ثابت في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم}.
إذاً: مسألة تقديم الأولويات: شريعة وسنة نبوية ثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
كثيراً ما يطيش الميزان في أيدي الشباب؛ بسبب ظروف محلية يواجهونها فتجد أن عنايتهم وتركيزهم يكون على جزئيات غفلوا بسببها عن الكليات، فأصبح الشاب -مثلاً- مشغولاً بمجموعة من السنن مثل موضوع تقصير الثوب، موضوع الصلاة في الثوب، موضوع جلسة الاستراحة، وموضوع تحريك الإصبع في التشهد، وعندك عشرات القضايا، وهذه القضايا أرجو ألا يفهم أننا نقلل من شأنها، فهي أمور وارد فيها نصوص، وينبغي أن يكون لنا فيها رأي، وينبغي أن تدرس، وتعلم، وتتعلم -أيضاً- ويعمل بها.
لكن ينبغي -أيضاً- ألا يشتغل بهذه الأشياء، ويغفل عما هو أهم منها، أذكر أنني اطلعت على أكثر من أربعة عشر بحثاً في موضوع كيفية تحريك الإصبع في التشهد، فهناك بحوث كثيرة، بعضها كتب مستقلة، وبعضها بحوث ضمن كتب، وبعضها بحوث من مجلات وغيرها، لكن هناك مسائل عويصة، نازلة بالمسلمين، وهم في أمس الحاجة إلى بحثها ومعرفة حكمها -أحياناً- قد لا تجد فيها ولا بحثاً واحداً.
إذاً لا بد من العدل في التوفيق بين الكليات والجزئيات، هناك من يشتغل بالجزئيات، ويغفل عن الكليات وهناك العكس، وهناك من يشتغل ببعض الكليات، ويقلل من شأن الجزئيات، فإذا حُدِّث في بعض السنن يقول والعياذ بالله: يا أخي هذه توافه، هذه قشور! وهذا خطر كبير على دين الإنسان؛ لأنه من الخطأ أن نستهين بأي أمر من الدين، ويجب أن نحترم كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الدين شيء صغير، فالدين كله عظيم؛ لأنه من عند عظيم جل وعلا، وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأحياناً أضرب لبعض الإخوان مثلاً للجمع بين هذه الأمور: قرأت لأحد الدعاة منذ زمن ليس بالبعيد كلاماً يقول فيه: إنني أهتم بالكليات، والقضايا الكبرى، على حين يهتم غيري بالجزئيات والقشور، يقول -مثلاً-: أنا سلفي، ولذلك لما أنظر إلى شخصية عمر، أنظر فيها إلى شخصية عمر العادل، الذي نشر العدل بين الناس، أنظر فيها إلى شخصية عمر الخليفة الذي يتحمل المسئولية حتى يقول: [[ لو عثرت بغلة بـالعراق لشعرت أن الله سائلني عنها: لما لم تسو لها الطريق يا عمر؟]] ولذلك أنا أعتبر نفسي سلفياً -يعتبر نفسه سلفياً.
يقول هذا الداعية: في حين أنظر إلى غيري، فينظر إلى عمر الذي قصر ثوبه، وأطال لحيته، كل إنسان ينظر من زاوية معينة، وأقول تعليقاً على هذا: لماذا شطرنا شخصية عمر إلى نصفين؟
لماذا جعلنا من عمر: عمرين؟
عمر العادل، وعمر الملتزم بالسنة، وسلوك الإسلام في مظهره! هذا من الخطأ.
عمر نفسه رضي الله عنه لم يكن يؤمن بهذه القسمة الثنائية، وفي هذا قصة طريفة ومناسبة أذكرها، وقد رواها الحاكم وغيره وسندها صحيح، صححه جماعة من أهل العلم، كـابن تيمية وغيره، [[ أن
إذاً: عمر رضي الله عنه لم يكن يشغله الاهتمام بالأمور الكبرى، مثل: إقرار شأن الإسلام، وتوسيع الفتوح، وإخضاع العالم لحكم الإسلام، لم يكن هذا الأمر يشغله عن قضية في نظر الناس: جزئية أو فرعية، وهي مسألة: المسح على الخفين، أو حكم يتعلق بها، وهو توقيت المسح، أو عدم توقيته، بطبيعة الحال إما أن يكون هذا رأي لـعمر، أنه لا يرى التوقيت كما هو رأي جماعة من أهل العلم، أو يكون عمر يرى أنه يجوز ترك التوقيت في المسح على الخفين عند الحاجة إلى ذلك؛ حيث لا يتمكن الإنسان من النـزول لخلع الخفين، وغسل قدميه.
هذه قضية فقهية، ليس المقصود أن نتحدث عنها -الآن- المهم: الفائدة.
والعبرة من هذه القصة: ألا نشطر شخصية عمر، بل ألا نشطر الإسلام إلى شطرين، فنجعل هناك فروع يهتم بها أناس، وأصول يهتم بها آخرون، أو كليات يهتم بها قوم، وجزئيات يهتم بها آخرون، فنكون جعلنا القرآن عضين، كلا، بل نحاول أن نأخذ ونحيط بالدين كله من جميع جوانبه؛ بحيث لا نترك مجالاً لأحد أن يتهمنا بأننا فرطنا في شيء، واهتممنا أو ضخمنا شيئاً على حساب شيء. وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] وتحزبوا على جزءٍ من الدين، فتجد طائفة منهم يهتمون بالإسلام السياسي -فقط- ولا يعنيهم غيره، لا يعنيهم إصلاح العقائد، ولا يعنيهم تصحيح أخلاق الناس، ولا يعنيهم بناء شخصيات إسلامية، ولا يعنيهم نشر العلم الشرعي.
وآخرون تجد أنهم يهتمون بجانب من الإسلام، وهو: الجانب العلمي البحت، فيتعلمون، ويعلمون الناس السنة، وكيف يصلي، لكن لا يهتمون بما وراء ذلك، ولا يعنيهم أمر الدعوة إلى الله جل وعلا، وربما يهمل كثير منهم التعبد الحقيقي، والسلوك، والتنسك، فتجد الواحد منهم جاف القلب، خامد العاطفة، رديء الإحساس.
وتجد فئة ثالثة: يهتمون بالعبادة، وقيام الليل، وكثرة الأذكار، ولكنهم يهملون العلم الشرعي الصحيح، ويهملون النـزول بالإسلام إلى واقع الحياة، وتحزبت كل طائفة على جزءٍ من الدين، فما هم عليه جزء من الحق، لكن ليس الحق كله، فمن العدل أن يأخذ الإنسان هذه الأشياء -كلها-.
بعض المسلمين يعيش اليوم وكأنه يعيش في القرن الخامس أو السادس لا يدري ما يقع حوله، وهذا خطأ؛ لأن المسلم قيم وشاهد على عصره، يدعو الناس في واقعه إلى الإسلام، ويوجد الحلول الصحيحة لهم من واقع الكتاب والسنة.
الإسلام ليس ديناً للعزلة، فلا يجوز أن ينعزل المسلم -وخاصة الداعية- عن عصره وواقعه، كما أن هذا النـزول إلى الواقع لا ينبغي أن يتحول إلى نوع من الانهزامية، والبحث عن مصوغات ومبررات، لأن نقول: إن ما عليه الناس موافق للإسلام، ونحاول أن نتخلى عن بعض الأمور الإسلامية، مجاملة لواقع استقر في نفوس الناس، فمن العدل: أن تعرف الواقع وتحاكم هذا الواقع إلى الإسلام الصحيح.
الطموح: إذا نقص تحول إلى نوع من الخمول والعجز، وإيثار العافية، وإذا زاد تحول إلى نوع من الغرور والإعجاب بالنفس، فحتى الأخلاق المطلوبة للإنسان ينبغي أن يحرص الإنسان فيها على الالتزام بالعدل، فلا تتعدى حدها، ولا تنقص عن قدرها.
وفي مقابل ذلك قد تجد من الناس من يبالغ في قضية منع الخلاف، حتى يريد من الناس أن يجتمعوا ويوافقوه حتى في اجتهادات شخصية فردية له، ربما لم يوافقه عليها أحد، لكن يريد أن يوافقه الناس على ما يرى، وإلا لا يأبه بهم ولا يقيم لهم وزناً، والعدل في ذلك أن تقبل الخلاف فيما يجوز الخلاف فيه: في موضوع الوسائل، في موضوع الاجتهادات التي تحدث للدعوة، في الفرعيات وما يتعلق بالأحكام، في أمور اختلف فيها العلماء السابقون، يسع فيها الاختلاف ما دام فيها الاختلاف مبنياً على الدليل، وعلى الاجتهاد حسب ما فهم الإنسان من الكتاب والسنة، وليس لمجرد الهوى، والتشهي، والرغبة الشخصية.
وإن خالفت هذا الإنسان، فإنني أقبل أن أتعاون معه على البر والتقوى، ولو كنت مختلفاً معه في بعض الأمور، فالعدل في التفاهم، والتعامل مع الخلاف هو من أهم وألزم الأشياء للدعاة.
عبد الله بن خباب
حين سألوه: من أنت؟ قال: أناعبد الله بن خباب
، فاختبروه في أمور معينة، فوجدوه لا يوافقهم على مذهبهم الكاسد الفاسد، فقتلوه؛ بل وردت رواية بشعة جداً في بقرهم لبطن زوجته، واعتدائهم عليه وعلى أولاده، فلما مر بهم رجل، قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل الكتاب! فقالوا: خلوا سبيله، فتركوه لأنه كتابي. فكان المسلم -أحياناً- يحتال للخلاص منهم إذا سألوه، قال: أنا من أهل الكتاب، فيتركونه! وهذا من الخطأ، والصواب: أن المؤمن ينبغي أن يكون شديداً على الكفار رحيماً بإخوانه المؤمنين، ويحقق -أيضاً- قول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح} ..{وأذكر قصة يروونها عن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله يقولون: كانت أحزان الرجل وأفراحه بسبب ما يصيب المسلمين، فإذا سمع بنكبة نـزلت بالمسلمين حزن، وظهر هذا على قسمات وجه، وإذا سمع بغير ذلك فرح وسر، فكانت أمه تعرف ذلك، فإذا رأته يوماً من الأيام وقد أصيب بمرض، أو وعكة صحية، قالت: ما لك يا بني؟!
هل قتل اليوم مسلم بـالصين؟!
بمعنى أنها لاحظت أن أحزان ولدها وأفراحه مربوطة بأحوال المسلمين، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنه، وهذا هو والله الولاء الحقيقي لإخوانك المؤمنين.
غيرة على إخواننا تدعونا إلى مناصحتهم، وغيرة على أزواجنا، وزوجاتنا، وأولادنا بحيث نأمرهم بالمعروف، ننهاهم عن المنكر، نمنعهم إذا كنا نستطيع منعهم من ارتكاب ما يسخط الله، نأمرهم ونحملهم على طاعة الله جل وعلا، هذه العاطفة نحن بأمس الحاجة إليها.
كثيرون يتحدثون عن الإسلام، لكن في الواقع قليل جداً من يملك عاطفة حقيقية، والعاطفة محلها القلب، فإذا تحرك قلب الإنسان بعاطفة حية تجاه الإسلام وأوضاع المسلمين، أثمرت دعوة، ونصيحة، ومساعدة، ومشاركة لآلام المسلمين في كل مكان.
أما إذا فقد الإنسان هذه العاطفة صار يعيش لنفسه، ولأولاده، ولزوجته، يعيش ليستمتع ويتلذذ بما حوله، وينسى هموم المسلمين، ولا أريد أن أستشهد بحديث: { من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم } لأنه حديث ضعيف.
وهذه القسمة الثلاثية -أيضاً- تناظر القسمة الثلاثية الواردة في السنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفرقة الناجية، فذكر أولاً الإسلام -كما هو معروف- وهو الضمانة الوحيدة للدخول في الجنة، فلا يدخل الجنة إلا مسلم، وداخل هذه الدائرة الكبرى -وهي دائرة الإسلام- هناك دائرة أضيق، وهي دائرة الفرقة الناجية، وهذه الدائرة تشمل من التزموا بالسلوك المستقيم، والعقيدة الصحيحة وإن لم يقيموا بما وراء ذلك، وهناك دائرة ثالثة أضيق وأضيق وأضيق، وهي أفضل، وأشرف، وأعظم، وهي دائرة الطائفة المنصورة الذين يذبون عن الدين، وينافحون عنه، ويتحملون الأذى، واللأواء في سبيله فينصرهم الله جل وعلا.
فيسعى الإنسان إلى أن يرتقي في هذه الدرجات، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {أن ينظر الإنسان في الدنيا إلى من دونه فإنه أجدر ألا يزدري نعمة الله عليه} لكن مفهوم ذلك أن ينظر في الدين إلى من فوقه، فحاول أن تتشبه بالفضلاء، والعظماء، والمصلحين، والمجددين؛ حتى يتحقق لك بعض الخير في هذه الدنيا، فكن صاحب نفس طموحه لا ترضى بالوقوف عند حد معلوم.
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها |
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاَّب همهن اجتذابها |
فإن تجتنبها كنت سالماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها |
فمن المهم للداعية أن يجعل الدنيا تحت قدميه يستخدمها ولا يخدمها، حتى يعلم الناس أنه ليس طالب دنيا، ولا طالب مكانة.
فأحرص أيها الداعية أن تكون قدوة في قولك قبل أن تدعو الناس إلى هذا الأمر.
الشرط الوحيد: هو أن يكون نهيي عن المنكر، وأمري بالمعروف بصدق، وليس على سبيل الخداع والنفاق والتضليل وأن أظهر للناس أنني داعية، وأنا لست كذلك -هذا هو المهم- فإذا كنت آمر بصدق هنا لا بأس، ولو فرض أنني أخطأت، فخطئي عليَّ، وأحاسب عليه، لكن هذا لا يسوغ لي ألا آمر ولا أنهى، فعليك أن تأمر ولدك وتنهاه ولو كنت واقعاً فيه.
افترض إنساناً ابتلي بالتدخين، ووجد ولده يدخن، لا يقول: لا أنهاه فأنا واقع، لا،بل تنهاه، وتقول له: يا ولدي أنا جربت والآن ربما يصعب علي التراجع لكن أنت في بداية الطريق.. أقلع، وقل مثل ذلك في أي معصية، فهو مسئول عمن تحت يده، وهو المسئول عن جوره، وظلمه على نفسه، قد يكون يتعاطى الخمر، والمخدرات، والفواحش، ولكن هذا لا يبيح له بحال أن يأذن لمن تحته بحجة أنني واقع، ولا يمكن أن أنهى غيري وأنا قد وقعت، إلى غير ذلك، فوقوع الإنسان في معصية لا يبرر له أبداً، وينبغي ألا يكون هذا موضع شكٍ عند أحد منكم، لا يبرر له ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد |
بعض الناس يفهمون قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2] وقوله عن بني إسرائيل: أَتَأْمرونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] يفهمونها على غير وجهها، والكلام عن هذه النقطة فيه تفصيل ليس هذا مجاله، بل سبق الحديث عنه في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها ملاحظة أحببت أن أشير إليها.
حتى أننا نذكر قصة الإسرائيلي زيد بن سعنة أو غيره، -وهي قصة صحيحة- الذي جاء وآذى النبي صلى الله عليه وسلم بالقول، وأغلظ عليه، وكان يطالبه بدين، فهمّ به الصحابة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً} وأمر أن يعطى ويوفى له في العطاء، فقال الرجل: هذه أخلاق أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: أولاً: بينت أنه ليس من شروط الدعوة أن يكون الإنسان عاملاً بكل ما يقول، المهم هو أن يكون صادقاً في دعوته فلا يخادع الناس، وإنما يدعو عن حقيقة وصدق.
وثانياً: أنه لا ينبغي للإنسان أن يتخلى عن موقعه بحجة أنه غير كفؤ، إلا إذا وجد أنه شغل بمن هو أكفأ منه، فهذا الدرس الذي اعتذرت عنه، إن كان قام به من هو أكفأ منك، وأجدر، فحسن وحبذا، لكن إن جلس من دون أحد، وتعطل، فلئن يقوم به إنسان يؤدي ولو بعض الواجب خير من ألا يقوم به أحد ألبتة.
وهذه في كثير من الأحيان من مداخل الشيطان على الإنسان، أن يقعد به عن القيام بالواجب بحجة أنه ليس كفأً، مع أنه يعلم ويجزم بأن من قام بهذا العمل هو أقل كفاءة منه، أو لم يقم به أبداً، أو لم يقم به أحداً بعد أن تخلى عنه.
الجواب: هذا الحديث معروف، ولست أقصد على سبيل الإجمال في جميع الأمم، وإنما أقصد في هذا الوقت بالذات، أي: إن الذي يقعد، ويعتزل الناس، ويترك الدعوة بحجة أنه لا يستجاب له، نقول له: هذا غير صحيح؛ لأننا نعلم بدلالة الواقع اليقينية التي لا إشكال فيها مطلقاً، أن الدعاة إلى الإسلام يستجاب لهم في هذا العصر الحاضر، وليس مطلقاً، مع أننا نعلم أنه في نفس الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم {رفع له سواد عظيم فظنه أمته، فقال من هذا: قيل هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظر فإذا سواد قد سد الأفق، فقيل له: هذه أمتك، وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب } فدل على كثرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكثرة الخيرية فيها، والمستجيبين للدعوة منهم.
الجواب: أصول الأخلاق منها ما هو جبلي، ومنها ما هو مكتسب؛ ولذلك الرسول عليه السلام قال لـ-أشج عبد القيس-: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، فقال يا رسول الله: أخلقين جبلت عليهما أم اكتسبتهما؟ فقال: بل جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله}.
فالأخلاق منها ما هو جبلي، ومنها ما هو مكتسب، لكن الأخلاق الجبلية تحتاج إلى عناية، ورعاية حتى تثمر وتورق وتكبر في نفس الإنسان، ولئلا تموت أو تضيع، وكذلك الأخلاق يمكن أن يكتسبها الإنسان؛ ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم}.
وهناك وسائل وطرائق -ليس هذا مجال الحديث عنها- يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب الأخلاق الفاضلة ويتحلى بها، ويتعود، ويتدرب عليها، ولذلك نجد أن الشرع أمر بالتزام الخلق الفاضل، ولو كان المجبول على خلق ذميم لا يستطيع أن يتخلى عنه لما كان هناك فائدة للنهي عنه، وكان هذا نهياً عما لا يمكن أو أمراً بما لا يمكن.
الجواب: هذه هي النقطة التي اعتذرت منها في السؤال السابق، لأنها أمر يطول، لكن منها: التدريب، ومنها: مراقبة النفس، ومن أعظم الوسائل أن يكون الإنسان رقيباً على نفسه، فإذا رزق الإنسان الرقابة على نفسه، فقد رزق خيراً كثيراً، وإذا خلوت بنفسك فراقبها واسألها، وراجع التصرفات التي قمت بها، ما هو الخطأ؟
وأين الخطأ؟
وكيف تصحح؟
وأي موقف يحدث لك فراجعه فيما بعد، وإذا عرفت أن في هذا الموقف خطأً فوطن نفسك على أنك سوف تتلافى هذا الخطأ لو تكرر الموقف.
وهكذا حتى تستطيع أن تحمل نفسك على كثير من الأخلاق الفاضلة، وأقول لكم -أيها الإخوة- بالتجربة والممارسة مع عدد من الطلاب ظهر جلياً أنه يمكن تهذيب الكثير من الأخلاق الذميمة في نفوس الناس، خاصة الشباب، ويمكن تقوية كثير من الأخلاق الفاضلة في نفوسهم -أيضاً-، ومن الوسائل: أن تتخذ لك أخاً، أو صديقاً توده ويودك، وتنصحه وينصحك، وتطلب منه أن يبين لك عثراتك وأخطاءك، وتبين له عثراته وأخطاءه، وتتناصحون فيما بينكم.
الجواب: في الحقيقة أن الكتب كثيرة وكثيرة جداً، حيث كتب في موضع الأخلاق جماعة من أهل العلم، كالإمام ابن حزم، والغزالي، والإمام ابن القيم، وابن رجب الحنبلي، وجماعة من العلماء المعاصرين مثل عبد الله دراز، ومحمد الغزالي وغيرهم، والكتب في ذلك كثيرة، ومن الكتب النفيسة المفيدة -خاصة لطالب العلم المتقدم- كتاب الأخلاق والسير في مداواة النفوس للإمام ابن حزم، وهو كتاب نفيس، وفيه حكم ولطائف وطرائف يفرح بها طالب العلم، وكتابات ابن القيم في هذا الباب في عدد من كتبه، منها: مدارج السالكين كتابات فدة ونفيسة، وكذلك الإمام ابن رجب في عديد من رسائله، وغيرهم كثير.
في كتابات للإمام الغزالي في كتاب: إحياء علوم الدين، نافعة وإن كان الكتاب فيه أخطاء، مثل وجود أحاديث ضعيفة؛ بل وموضوعة أحياناً، وفيه نفس فلسفي، وفيه مسحة من تصوف، بل فيه عبارات صوفية موحشة وموهمة، فطالب العلم الذي يستطيع أن يميز الخطأ من الصواب، يستطيع أن ينتفع من بعض اللفتات التربوية الموجودة في هذا الكتاب.
أو إذا لم يكن كذلك فيستطيع أن يستفيد من بعض الكتب التي اختصرته: ككتاب منهاج القاصدين، وكتاب موعظة المؤمنين وغيرها.
الجواب: المسجد لا يمكن أن يستغنى عنه في أي مرحلة من مراحل الدعوة، بداية ونهاية، والمسجد هو الموقع الطبيعي لمخاطبة جمهور المصلين، لكن هناك أعداد من الناس الذين لا يرتادون المساجد فيحتاجون إلى أن نبلغهم الدعوة حيث كانوا؛ ولذلك لا تعارض، بل الدعوة تبدأ في المسجد وتنتهي في المسجد، ومع ذلك لا يمنع هذا -أبداً- الاستفادة من كل وسيلة بشرطين:
الأول: أن تكون هذه الوسيلة مباحة؛ ليست محرمة.
الشرط الثاني: أن تكون هذه الوسيلة مؤدية للمقصود، نافعة في إيصال الدعوة إلى الناس.
الجواب: -كما ذكرت- في خلق العدل الذي يفرط في الخلطة، يقولون: الإكثار من الأصدقاء مثل الإكثار من الطعام، فيورث الإنسان، ويسبب له التخمة، وكثيرة شكوى الشعراء وغيرهم من كثرة الأصدقاء، وضرهم:
احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة |
فلربما انقلب الصديق فصار أدرى بالمضرة |
فالعدل مطلوب، وكذلك العزلة، فإذا بالغ الإنسان في العزلة يقع في الحرام، فيترك الجمعة والجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء حقوق الأخوة، وزيارة الأقارب والجيران، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وأداء الحقوق وما أشبه ذلك؛ فالعدل مطلوب في هذه الأشياء.
وهناك أحوال خاصة تشرع فيها العزلة، وما عداها فالأصل هو الخلطة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي بسند صحيح: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} فإذا كان الإنسان يتضرر بالخلطة بفساد، يفسد هو إذا خالط الناس، أو يغير المنكرات بطريقة تضاعف من المنكر، أو يؤذي الناس بقوله أو عمله، ولا يملك الصبر على ذلك فقد يعتزل، وفيما عدا ذلك فالأصل له أن يخالط.
وفي هذا الموضع سبق أن أعددت دراسة ضمن رسائل الغرباء الذي ذكرها الأخ في البداية وعنوانها العزلة والخلطة ولعلها ترى النور قريباً -إن شاء الله-.
الجواب: الأقربون أولى بالمعروف، والرسول صلى الله عليه وسلم خوطب بقول الله جل وعلا: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فالداعية يعتبر بيته هو القلعة التي ينطلق منها، وكم من داعية يعير بأن زوجته سافرة، أو أولاده منحرفين، أو إخوانه، أو أقاربه فيهم.. وفيهم؛ وذلك لأن الناس يعرفون بالفطرة والبداهة أن أولى الناس بدعوتك: هم أقاربك؛ ولذلك كان رفض قريش لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، من أهم أسباب امتناع العرب عنها زماناً، لأنهم يقولون: هؤلاء أدرى الناس به، فلو كان ما يدعو إليه حقاً لقبلوه، ويقولون: هؤلاء أقرب الناس إليه.
فكانوا هم الأولى بدعوته؛ ولذلك قال الله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] فأحق الناس بالداعية هم أهل بيته، ومن الخطأ أن ينشغل الداعية بالأبعدين عن أهل بيته، ولا تعارض، يمكن أن يقوم بالواجبين معاً، لكن ينبغي أن يفرغ جزءاً من وقته لأهل بيته ويراقبهم، خاصة -ونحن نعرف- أن أجهزة الإعلام قد اقتحمت البيوت على أهلها، وأصبحت تخاطب الطفل، والمرأة، والكبير، والصغير وكافة الطبقات بوسائل مثيرة، وجذابة، ومغرية، بل من الدعاة -مع الأسف- من يضع هذه الأجهزة في البيت ويخلي بينها وبين أهل البيت، فيشاهدون ما يشاءون، ويسمعون ما يشاءون، ويستمتعون بما يشاءون، دون أن يكون رقيباً عليهم، ودون أن يقدم لهم أي دعوة، وهذا خطأ جسيم.
الجواب: ليس قول أهل السنة هذا من الوعيد معناه أنه ليس له معنى، كما يفهم السائل أو غيره، أو أنه ليس له حقيقة؛ بل يقصدون أن الذين أطلقوا هذه الكلمة من علماء أهل السنة يعنون أن هذه الأحاديث ينبغي أن نبقيها على ما هي عليه؛ ليكون أهيب لها في نفوس الناس؛ لأننا إذا دخلنا في تأويلها، وقلنا: إن هذا مثلاً مخصوص لفئة من الناس، أو أنه في حال دون حال، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي حملها عليها بعض أهل العلم، إن هذا يقلل من تأثيرها، ووقعها على النفوس.
فإبقاء الحديث يقرأ على الناس، ويؤثر فيهم بالالتزام الأوامر، واجتناب النواهي أقوى، وأدعى إلى الامتثال، وليس المقصود أن هذا وعيداً لا حقيقة له، لكن الوعيد قد لا ينفذ، وكما يقول الشاعر العربي:
ويعلم ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني من سطوة المتهدد |
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي |
أي: أن الوعيد قد يتخلف لسبب من الأسباب، فقد يتوعد الله العبد أو العباد بذنب من الذنوب، ويلقاه عبد بهذا الذنب، ويتخلف الوعيد عنه بسبب من الأسباب، إما لتوبة، أو لكثرة استغفار، أو لأعمال صالحة كثيرة غطت على هذا الأمر، أو لشفاعة قريب من أقربائه، أو لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأي سببٍ آخر أو برحمة أرحم الراحمين.
ليس بالضرورة أن ينفذ الوعيد، لكن مجمل العصاة لا بد أن يعذبوا، ولا نحكم على عاص معين بأنه لا بد أن يعذب ما دام داخل في دائرة الإسلام.
الجواب: أولاً: الصلة بالجار، لا ينبغي أن تكون معرفتك بالجار -فقط- حين تجد عليه خطأً أن تنبهه إليه، اتصل به، أقم معه علاقة حسنة، اكسب وده إن استطعت، أحسن إليه؛ لأن الإحسان إلى الناس من أعظم وسائل كسبهم، ثم حاول أن تدعوه، حتى قبل أن ترى عليه منكراً، اعطه الكتاب المناسب، والشريط الجيد، وادعه إلى المجالات الخيرية، والمناسبات العامة، وإذا رأيت عليه منكراً فحاول أن تنبهه على هذا المنكر إما بمخاطبته مشافهة، وإما بالهاتف، وإما بالرسالة، وإما بالأسلوب الذي تعتقد أنه مناسب.
وقد تعطه شريطاً، أو كتاباً في موضوع المعصية التي رأيتها عليه، حتى يتنبه إلى ذلك، وكلما كان الإنسان ألطف، وأحسن خلقاً كان أدعى للقبول.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر