فهذه الرسالة الثانية من سلسلة رسائل أهل العلم التي نتعرف فيها على بعض ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والعلوم والمواعظ والآداب، والرسالة بعنوان اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.
واقتضاء العلم للعمل أي: أن العلم يقتضي العمل به، ومؤلفها هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى بـأبي بكر وقد اشتهر بـالخطيب البغدادي ، وقد ذكر الخطيب رحمه الله تعالى في تاريخ بغداد في ترجمة والده أن أصله من العرب، وأن له عشيرة كانوا يركبون الخيول، وأن مسكنهم بـالحصّاصة من نواحي الفرات من بلاد العراق ، ولم يكن والده من العلماء المشهورين في فنٍ من الفنون، وإنما كان له إلمام بسيط بالعلم، وقد كان يخطب الجمعة والعيدين بقرية قريبة من بغداد اسمها درزيجان .
ولذلك لم يصف الخطيب والده بأنه من العلماء، وإنما وصفه بأنه أحد حفاظ القرآن، فقال في ترجمة والده في تاريخ بغداد: كان أحد حفاظ القرآن، ويبدو أن لقب الخطيب قد استمر من الأب إلى ابنه؛ لأن الخطيب نفسه قد تولى الخطابة، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أنه تولى الخطابة وكان خطيباً للجمعة والعيدين في بغداد، ولم ينفرد الخطيب البغدادي بهذا اللفظ (الخطيب) أو بهذا اللقب، وقد لقب به عددٌ من العلماء، منهم: تلميذ الخطيب البغدادي وهو الخطيب التبريزي رحمه الله وآخرون.
ولد أبو بكر الحافظ أحمد بن علي بن ثابت يوم الخميس لستة من جمادي الآخر سنة (392هـ) ونشأ في كنف أبيه، وكان في نشأته قد وكل به أحد القراء ليعلمه القرآن، فتعلم القرآن وحفظه منه، ولما بلغ الحادي عشر من عمره بدأ بسماع الحديث، ثم درس الفقه، ولما بلغ العشرين من عمره عزم على الرحلة في طلب العلم والحديث.
وكان الذي قد حفظّه القرآن وعلمه الكتابة هو هلال بن عبد الله رحمه الله، وتأدب منه، وهذا ما يفيد أهمية تأديب الأولاد في المرحلة المبكرة.
فتولى ابنه دفنه بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه، واقتضب الخطيب رحمه الله هذه الحادثة في ترجمة والده، فقال: توفي يوم الأحد النصف من شوال سنة (412هـ) ودفنته من يومه في مقبرة باب حرب، ولم يزد على هذا كلمةً واحدة.
خرج الخطيب البغدادي رحمه الله مع رفيقٍ له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب متوجهاً إلى نيسابور، وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير، وقد رآه رفقاؤه الذين معه، وحصلت له في الرحلة من الروايات والأحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب، بل ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له، ويضرب له المثل في سرعة القراءة، وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه الله بذلك، أنه قرأ صحيح البخاري كاملاً على إسماعيل بن أحمد الضرير في ثلاثة أيام قراءة ضبط على شيخ، ولا يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا.
ورجع بعد ذلك إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك، ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد ، ولما اكتملت فصول الكتاب، واجتمعت مادته، عزم على أداء فريضة الحج شكراً لله عز وجل، ولتتم النعمة، ولتتم رحلاته في أقطار العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
الأولى: أن يحدث بـتاريخ بغداد في بغداد.
الثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، وكان جامعاً مشهوراً لا يحدث به إلا النوادر ممن يؤذن له من الخليفة.
الثالثة: أن يدفن بجانب بشر الحافي ، وهو أحد الورعين الزهاد العباد، فتمنى أن يدفن بجانبه، وبلغه أن كريمة المروزية مجاورة بـمكة المكرمة، وعندها سماعٌ عالٍ لـصحيح البخاري ؛ لأن كريمة عُمِّرت إلى سن المائة رحمها الله تعالى، فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام.
وبعد الانتهاء من فريضة الحج والاجتماع بمحدثي مكة ، والمشاهدات النافعة التي حصلت له، كما قال الله عز وجل: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز، فمر بـالـبيت المقدس أولى القبلتين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع بعلمائها، مثل: أبي محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث، ولعل هذا الدخول لـبيت المقدس كان في سنة (446هـ).
ثم انتقل بعدها إلى صُوْرٍ وسمع فيها من بعض مشايخها، مثل: عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال ، وانتهى مكثه بمدينة صُوْر فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حاملاً معه رواياته الجديدة، ومسموعاته التي تزود بها، وبدخوله بغداد ، انتهت المرحلة الثانية من حياته.
حتى عدّد بعض أهل العلم كتبه بأربع وخمسين مصنفاً إلى عام (453هـ) غير ما صنف بعدها.
وأما الحاجة الأولى التي كان سأل الله إياها: وهي التحديث بـتاريخ بغداد بـبغداد، فقد حدثت في هذا الاستقرار، فإنه حدث بـبغداد بكتاب تاريخ بغداد وأملاه على بعض تلاميذه في حجرةٍ كانت له قرب المدرسة النظّامية.
قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة (7هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر، فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـخيبر ، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـخيبر!
هذه فائدة معرفة التواريخ، وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه الله، فاستحسن السلطان ذلك جداً، واعتمده وأمضاه، ولم يُجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير، ولعله عاقبهم.
وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً، ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره، وشاع ذكر الخطيب رحمه الله بعد تلك القصة جداً، وحُمل إلى الخليفة ومعه جزءٌ من سماع الخليفة الآخر القائم بأمر الله، وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة الآخر، فقال الخليفة: هذا رجلٌ كبيرٌ في الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه، وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه، فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة، وطلب منه أن يسرد عليه الأحاديث التي سمعها، قال الخليفة متعجباً: هذا رجلٌ كبير القدر في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، وعنده من الطرق الأخرى ما يستغني عني وعن سماعي- فما حاجته اسألوه؟ قال: حاجتي أن يأذن لي بالإملاء في جامع المنصور.
فأذن للخطيب بالإملاء، واجتمع الناس في جامع المنصور، وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا الله بها عند زمزم، وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطلاب لا شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه الله؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خلال ذلك المنبر.
لقد استتر الخطيب رحمه الله وخرج من بغداد في شهر صفر سنة (451هـ) مصطحباً كتبه وتصانيفه قاصداً دمشق فوصلها سالماً، واتخذ المئذنة الشرقية من الجامع الأموي مسكناً له، وبدأ التدريس في المسجد، وصار له حلقة كبيرة يجتمع الناس فيها ويحدثهم، وكان يخرج أيضاً إلى بساتين ويقرأ كتب الأدب هناك، ولعل كتاب التطفيل وحكاية الطفيليين قد حدث في ذلك الجو والظل الوارف، وبينما كان يقرأ من الكتب في دمشق كتاب فضائل الصحابة الأربعة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سمع بذلك بعض الروافض، وكان لهم شوكةٌ؛ حصلت لهم بسبب حكم الفاطميين في مصر ، فثاروا على الخطيب وأرادوا قتله، فأجاره أحد الأشراف في ذلك المكان، وكان مسكنه قريباً من الجامع، فأجاره على أن يخرج من دمشق، فخرج إلى صور، ونفعته الرحلة الأولى التي دخل فيها صور وأقام فيها علاقات مع بعض أهلها، فكان المكان المناسب أن يخرج إلى تلك البلدة، ومن الأسباب التي جعلت هؤلاء يقومون عليه هو صوته -رحمه الله- فقد قال ابن كثير في البداية ، عن الخطيب البغدادي : أنه كان جهوري الصوت، يُسمع صوته من أرجاء الجامع كله، فاتفق أن قرأ على الناس في يومٍ من الأيام فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين وأرادوا قتله، فحصل ما حصل من خروجه إلى صور، وقد خرج في سنة (459هـ) وكان فيها بعض أهل العلم وهاجر إليها لا ليسمع كما كان من قبل وإنما ليُسمِع هو ويملي ويحدث في تلك البلدة، وقد قيض الله له من يُنفق عليه في تلك البلدة ويُعطيه مالاً كثيراً، فحصل له به اكتفاء.
ولما وصل إلى بغداد وسُر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة، أراد أن يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد، فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد، وقال: لو كان عندي أعز منه لأهديته له.
وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه، واستأنف الخطيب رحمه الله دروسه في بغداد في جامع المنصور بعد أن آل الأمر فيها لـأهل السنة، والخليفة العباسي القائم بأمر الله، واجتمع إليه الناس، ورجع إليه طلاب الحديث بشوقٍ ولهفة وحنين، فحدَّث بـسنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه.
بوفاته رحمه الله تعالى طويت صفحة عظيمة من صفحات علم الحديث التي ذهب فيها هذا العالم الكبير إلى ربه سبحانه وتعالى، وكان على أخلاقٍ عظيمة وعبادةٍ كبيرة، وعفةٍ متناهية، فإنه لم يتزلف إلى سلطانٍ، ولم يتولَّى منصباً قط، لا قاضياً ولا مفتياً، مع أنه كان أهلاً لذلك، ولم تكن المناصب لتمتنع عليه، لو أنه سعى إليها وأرادها، لكنه اختار أن يبقى بعيداً عن فتنة الوجاهة، ورضي بالكفاف من العيش، ولم يكن له خدمٌ ولا جوارٍ، ولعلّ الرحلة في طلب العلم لم تسعفه في الزواج، فتوفي رحمه الله وخلف أولاداً مخلدين من المصنفات التي ألفها.
أحد أهل مرو حدَّث بالقصة التالية عن الخطيب :
عن شخصٍ اسمه عمر النسوي من نسى وهي بلدة معروفة، قال: كنتُ في جامع صور عند الخطيب، فدخل عليه بعض العلوية، وفي كمه دنانير، وقال للخطيب فلانٌ -من بعض الأغنياء- يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطّب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك؟ قال: قل له يصرفه هو إلى من يريد. قال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال هذه ثلاثمائة دينار -والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب- ووضعها على السجادة، فقام الخطيب محمر الوجه، وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد. قال: الفضل بن أبي ليلى الذي حضر القصة: لا أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعدٌ على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها، قام وترك له هذه الدنيا، وقام ذلك يجمع الدنانير.
وكان من مميزات الخطيب أنه كان جيد الخط، وتجد أن بعض المخطوطات التي كتبها بعض العلماء قد أتعبت من بعدهم في فك رموزها من سوء خطهم، ولعل بعضهم لم يكن عنده وقت للتدرب على تحسين الخط من ولعهم بالعلم والرحلات، لكن الخطيب رحمه الله من ميزاته أنه كان حسن الخط، كثير الضبط، كثير الشكل، وهو الذي عنون عنواناً في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ، باب تحسين الخط وتجويده، نصح فيه طلبة العلم بتحسين الخط.
ومن ضمن تلك النصائح: أن الواحد لا يقرنط فيتعب ويتعب من بعده، يقرنط: أي يصغر الخط؛ لأنه إذا كبر وصار بصره ضعيفاً لم يعد يقرأ ما كتب في أيام الشباب، ولو مات وأراد واحد أن ينتفع بما كتبَ فسيتعب جداً في فك هذه الرموز، وكذلك فإنه كان فصيحاً للغاية، كان يقرأ قراءةً معربةً صحيحةً.
قال ابن الجوزي : كان حسن القراءة، فصيح اللهجة، وكان جهوري الصوت، وكان عجيباً في سرعة القراءة، ضرب به المثل في ذلك، وكان حريصاً على الاستفادة من وقته، كان يمشي في الطريق وفي يده جزءٌ يطالعه، يضرب به المثل في سرعة القراءة، وكان عليه هيبة ووقارٌ من عمله بالعلم الذي اكتسبه رحمه الله تعالى، وقد أثنى عليه العلماء ومدحوه للغاية، مثل تلميذه الحافظ ابن ماكولا ، والحافظ أبو بكر ابن نقطة الحنبلي وأبو سعد السمعاني وابن عساكر وابن خلكان وابن النجار والسبكي والسِلَفِي وأبو إسحاق الشيرازي ، والتاجي ، وابن الأثير ، والذهبي وغيرهم.
يقول الذهبي رحمه الله: "ختم به إتقان هذا الشأن".
وقال صاحب وفيات الأعيان: "سنة كذا.. مات حافظ الدنيا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب صاحب التصانيف".
1- تاريخ بغداد وهو أشهرها.
2- الكفاية في علم الرواية، وهو موضح أوهام الجمع والتفريق في باب مصطلح الحديث.
3- شرف أصحاب الحديث.
4- الفقيه والمتفقه.
5- التطفيل .
6- اقتضاء العلم العمل .
7- تقييد العلم .
8- نصيحة أهل الحديث .
9- الرحلة في طلب الحديث .
10- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
11- المتفق والمفترق.
12- السابق واللاحق.
13- المزيد في متصل الأسانيد . لا يكاد يوجد باب من أبواب المصطلح إلا وتجد فيه للخطيب تأليفاً وتصنيفاً.
14- التفصيل لمبهم الأسانيد .
15- الأسماء المبهمة .
16- روايات الآباء عن الأبناء .
17- من حدث ونسي .
18- غنيمة الملتمس في إيضاح الملتبس .
19- الأسماء المتواطئة .
20- المؤتلف والمختلف .
هذه كلها أبواب في مصطلح الحديث قد غطاها الخطيب رحمه الله تأليفاً وتصنيفاً، وكل من صنَّف في علم الحديث بعد الخطيب عيالٌ على كتبه، وكتبه ليست في الحديث فقط وإنما يوجد منها أشياء أخرى في أبوابٍ من العلم، ومن هذه المنصفات: رسالة لطيفة للخطيب البغدادي رحمه الله، بعنوان: اقتضاء العلم العمل ، وهي التي سنتعرض لها في هذا المقام بمشيئة الله عز وجل.
والعصر الذي عاش فيه الخطيب رحمه الله، كان عصر جمع الأحاديث، وكان انكباب الطلاب على الجمع، والانشغال عن العمل، مما يبين أن هناك سبب وراء تأليف الرسالة يتعلق بالعصر الذي عاش فيه، وهناك السبب العام وهو نصيحة لكل المسلمين بأهمية العمل بالعلم، لأن هذا باب يحتاجه كل مسلم، وهو التركيز على قضية العمل بالعلم.
ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبك، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية) الرواية هي: الأسانيد والمتون، والدراية هي: أن يدري بما يعلم ويفقهه. (ورأس الفقه العمل بالعلم، فلا تأنس بالعمل ما دمتَ مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل).
هذه نظرية مهمة جداً، وهي قضية التوازن بين العلم والعمل، وتجد بعض الناس عندهم طاقة في العمل لكنه سيقع في البدعة والخطأ، وبعض الناس عنده طاقة في جمع العلم، وليس عنده طاقة في العمل، فيكون علماً نظرياً لا ينفع صاحبه، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما دمت مقصراً في العمل (ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما، وما شيءٌ أضعف من عالمٍ ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهلٍ أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته) وهذا فعلاً من الأخطاء التي يقع فيها العامة.
ينظرون إلى واحد يجدون عنده اجتهاد وعبادة كبيرة فيستفتونه ويسألونه وينصبونه عالماً، وهو ليس بعالم إنما هو عابد، وربما يوجد عالم عنده علم لكن ليس عنده عبادة ولا زكاة للعلم، فالناس سيتركونه؛ لأن أخلاقه ليست أخلاق العلماء، وعبادته ليست عبادة العلماء، وعمله ليس عمل العلماء؛ فيتركونه، فتكون النتيجة ضلال الخلق.
والناس يريدون واقعاً عملياً يقتنعون به، فالسيرة والتصرفات، هي التي تقنع الناس.
قال: (والقليل مع هذا) أي: من العلم (مع القليل من هذا) من العمل (أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة، وتمم على عبده النعمة، فأما المدافعة والإهمال) لا علم ولا عمل (وحب الهوينة والاسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل إلى الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال ذميمة، وعُقباها كريهةٌ وخيمة).
وكثير من شباب الصحوة ابتلوا في هذه الأيام بقضية الميل إلى الدعة والراحة، والكسل واللهو واللعب، فلم يعد في حياتهم نصيبٌ إلى الجد في طلب العلم، وليس عليهم إلا سيما الالتزام في الظاهر، من لحيةٍ، وتقصيرٍ ثوبٍ، ولكن في باطن الأمر لا تجد علماً جيداً، ولا عملاً مجتهداً فيه.
وتجد بعض الناس عندهم إنخداع وانجذاب لمنهج الغربيين الضلال الكفرة، الذين يقولون: العلم للعلم، والقراءة للقراءة، والثقافة للثقافة، أي: أن العلم لذاته يقصد لذاته، ولذلك تراهم يسلكون سبلاً ليست نافعة في العلم إطلاقاً، ترى الواحد منهم يتخصص وربما يأخذ شهادة الدكتوراه في شيءٍ تافه سخيف جداً، يفني عمره فيه، مثلاً: بعضهم يتخصص في الآثار والتحف الموجودة من الحضارات القديمة، دكتوراه في التحف والآثار، ما هي الفائدة؟ وربما واحد تخصص في اللغة الهيروغلوفية ومعه دكتوراه في اللغة الهيروغلوفية، ما هي الفائدة في لغة انقرضت؟ ويفني عمره فيها، لماذا؟ لأن عند الغربيين مبدأ العلم للعلم.
أما المسلمون فعندهم مبدأ العلم للعمل، وهذا الفرق بيننا وبينهم، فرق كبير، ولذلك تجد كثيراً منهم تضيع أعمارهم في أشياء تافهة، وبعض أبناء المسلمين قلدهم، ذهب إلى بلدانهم وتعلم مثلهم وعلى طريقتهم، ورجعوا بتخصصات تافهة سخيفة، أمضى سنواتٍ طويلة وأبحاث، في ماذا؟
يقول: علم هذا لأجل العلم، فليس عند المسلمين شيء اسمه العلم للعلم، وإنما العلم وسيلة لغايةٍ وهي العمل.
قال الشيخ: (وهل أدرك من السلف الماضيين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟!
وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا التشييد بالسعي، والرضا بالميسور، وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟!
وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟!
وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليها؟
وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها! كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها وقام بواجباتها!!)
افترض لو أن واحداً يجهد عمره في جمع المال وكسبه ولا يستفيد منه ولا ينفق، ولا يستمتع به شيئاً فهل هذا عاقل؟
وهل استفاد شيئاً مما جمع؟ لا.
فكذلك الذي يحرص على جمع العلم دون عمل، (فلينظر المرء لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثوى قليل -أي: البقاء في الدنيا قليل- والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8]).
وكذلك فإن بعض الطرق التي ساقها الخطيب ضعيفة، لكن الحديث له طرق أخرى صحيحة أو يتحسن بها الحديث بمجموع طرقه، ولعل الخطيب رحمه الله اشتغل بالجمع فترةً طويلة من عمره، ولم يكن عنده نصيبٌ كافٍ من الوقت لتحقيق ما جمع ونخله والتعليق عليه، والخطيب رحمه الله ليس جمّاعاً فقط بل جمّاع ناقد، وأصول النقد عنده واضحة، وتآليفه في المصطلح واضحة، وهي تدل على علو كعبه في علم الحديث، فلا تخفى عليه العلل، لكنه ربما لم يكن عنده الوقت لكي ينخل كل ما جمع ويكتب بجانب كل حديث صحته، أو أن طريقة العلماء أنهم كان يكتبون وطلبة العلم بقراءة الأسانيد يعرفون مدى صحة الحديث لا يحتاج إلى أن يقال له: هذا حسن وهذا ضعيف، أو هذا ضعيف وهذا صحيح، بينما نحن الآن بسبب جهلنا بعلم الحديث ليس عندنا قدرة على التمييز بين الأسانيد إلا من ندر.
ولذلك نحتاج بجانب كل حديث أن يعلق لنا عليه صحيح أو ضعيف، لأن هذا أوان وزمانٌ قد اضمحل فيه العلم، وذهب كثيرٌ منه، وتجد أكثر الناس ليس عندهم قدرة على التمييز بين الصحيح والضعيف.
ولذلك فإن عدداً من العلماء في الفترات المتأخرة بعد أن انتهت فترة جمع الحديث كانت هناك فترة التحقيق والتمحيص، والتصحيح والتضعيف، والتعليق على الأحاديث، وقد ورد عن علي رضي الله عنه: [يا حملة العلم! اعملوا به، فإنما العالم من عمل، وسيكون قومٌ يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره، أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء] وهذا يتضح كثيراً في مشايخ الصوفية ، فالشيخ يريد أن يكون كل الطلاب مريدين عنده، ومنتسبين إليه، ولا يرضى أبداً أن يذهب أحد تلاميذه إلى شيخٍ آخر، ويجلس عند الشيخ الآخر، والحسد والتقاتل على الدنيا، وتكثير الاتباع والطلاب واضحٌ جداً فيهم، وتجد بين طلابهم أحقاد ومنافسات، وبعض المصابين بالأمراض النفسية، حتى من المنتسبين إلى السنة تجد فيهم هذا الداء، فلا يُعصم منه إلا من عصم الله، وينبغي على الإنسان أن يدل الطلاب على الفائدة والخير، وينصحهم بالذهاب إلى المشايخ والعلماء أينما كانت مجالسهم، عنده أو عند غيره؛ لأن المهم هو فائدة الطالب، وليس المهم أن يستفيد منك أو من غيرك، ثم إن من طبيعة العلم أنه لا يُتلقى عن شخصٍ واحد، فالشخص الواحد يخطئ والطالب قد لا يعرف خطأ الشيخ إلا إذا جلس إلى غيره، وإلى هذا وهذا وهذا، ولذلك كان من وسائل السلامة في طلب العلم: الأخذ عن عددٍ من الأشياخ وليس عن شيخٍ واحد؛ خصوصاً في هذا الزمان الذي قلَّ فيه فقه العلم الموسوعي، أي: منذُ زمن كان العالم يعرف الفقه والحديث، والتفسير واللغة، وأصول الفقه والمصطلح وسائر العلوم، أما الآن مع وجود الجامعات والكليات بدأ التخصص، فصار عندنا طالب يفهم في الأصول فقط، ولا يفهم في الحديث، والآخر يفهم في الحديث ولا يفهم في الفقه، وهذا يفهم في الفقه ولا يفهم في اللغة.. وهكذا، وذلك بسبب انحصار منهج التعليم الموسوعي والدخول في عالم التخصصات، بل إن البعض أحياناً يأخذ مسألة واحدة يبذل فيها جهده وعمره في رسالة ماجستير أو دكتوراه، وبقية مسائل العلم نفسه التي تحمله كليته بالاسم لا يفقهها كثيراً، ثم يتخرج ويتوظف وينتهي علمه عند هذه المسألة التي بحثها في رسالته، أو في بحثه الذي قدَّمه لنيل شهادةٍ علمية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [تعلموا فإذا علمتم فاعملوا]، وقال: [أيها الناس! تعلموا فمن علمَ فليعمل].
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [مثل علمٍ لا يعمل به، كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل].
وقال الزهري رحمه الله: [لا يرضّين الناس قول عالمٍ لا يعمل، ولا عاملٍ لا يعلم، فالذي يرضيهم العلم والعمل].
فالعمل والإيمان قرينان، ولا يصلح كل واحدٍ منهما إلا مع صاحبه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولن تكون متعلماً حتى تكون بما علمت عاملاً].
وقال بعضهم: "الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم"، لماذا؟ لأنه قد لا يختم له بالإخلاص، فقد ينحرف في آخر عمره، فالدنيا جهلٌ ومواتٌ إلا العلم، والعلم كله حجة على الإنسان إلا العمل به، والعمل كله هباءً إلا الإخلاص، والإخلاص على خطرٍ عظيم حتى يُختم به.
وقال الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم".
وقال عباس بن أحمد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
قال: من هم هؤلاء الذين قال الله فيهم: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما لا يعلمون، فيعلمونه".
وقال يوسف بن حسين : [في الدنيا طغيانان: طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال -ما هو؟- الزهد فيه].
وقال يوسف : [بالأدب تفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا -الترك الشرعي- وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضا الله عز وجل].
العلم والعمل سلسلة تنتهي برضى الله عز وجل متى أردت أن تشرُف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله، قبل أن تُعطي العلم ماله عليك، احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظُهوره، مجرد عنوان، ذلك العلم عليك لا لك، وذلك أن العلم يشير إلى استعماله، فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه، رحلت بركاته.
قال عوذبادي: من خرج إلى العلم يريد العلمَ لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم.
وقال: "العلم موقوفٌ على العمل، والعمل موقوفٌ على الإخلاص، والإخلاص لله يُورث الفهم عن الله عز وجل".
وقال مالك بن دينار: "إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه -أي: عرف قيمة نفسه وعرف حقيقة أمره وتواضع لله- وإذا طلبه لغير ذلك، ازداد به فجوراً وفخراً" ازداد بالعلم فجوراً وفخراً وطغياناً على عباد الله وتكبراً.
الآن بعض الناس من المشايخ الذين أخذوا علمهم في بعض الجامعات وأخذوا الدكتوارة، يغضب إذا لم يُقال له: الدكتور فلان أو الشيخ فلان! فلابد أن يصدّر بلقب، وهذا يدل على عيبٍ فيه، وأن علمه لم يزكِ نفسه فيكون متواضعاً.
وورد: "خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه ثم تركه" والآن عدد من الشباب الذين انتكسوا وانحرفوا باعوا كتبهم وقد كانوا في أول الأمر مقبلين على العلم والتعلم، والقراءة والبحث، وحضور الدروس، ثم انشغلوا بالدنيا والفتن والأشياء من الشبهات والشهوات ومغريات الدنيا، وفي النهاية باعوا كتبهم؛ للتخلص منها.
ولذلك قيل: "تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجبلوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم، كما يتجمل الرجل بثوبه" أي: تصبح القضية مجرد حلية وزينه فقط، وليست حقيقة ولا باطن.
قال أبو سعيد الخراز: "العلم ما استعملك واليقين ما حملك".
وقال أبو قلابة : [إذا أحدث الله لكَ علماً، فأحدث له عبادًة، ولا يكن همك أن تحدث به الناس].
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [همة العلماء الرعاية -رعاية حدود الله، رعاية حق الله، رعاية العلم الذي يحملونه وإعطاء العلم حقه بالعمل- وهمة السفهاء الرواية].
وقال علي بن أبي طالب بإسنادٍ عجيبٍ ذكره الخطيب رحمه الله قال:
أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن وكينة بن عبد الله التميمي من حفظه قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول؛ سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ علي بن أبي طالب يقول: [ هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ] قال الخطيب: عدد الآباء تسعة، أي: هذا إسناد من النوادر، وكل واحد من أصحاب هذا السند أخذه عن أبيه عن أبيه، وكان أبوهم الكبير قد سمعه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] فعلم بدون عمل يُذهب العلم.
تجد بعض الطلاب يقولون: نحن نقرأ ونقرأ ولكننا ننسى، كيف نحافظ على العلم؟ وكيف يستمر معنا في صدورنا؟
أهم وسيلة للحفاظ عليه هو العمل به، لأنك إذا عملت به ترسخ في نفسك، وإذا صار سجيةً عندك كيف تنساه؟ خذ أي حديثٍ في أي ذكرٍ من الأذكار، أو أي صلاة من الصلوات النافلة، أو أي مسألة من المسائل، فعندما تعمل بها وتصبح مقررة عندك في نفسك وسجية لك في طبعك، وعادة من عاداتك لا تنساه، لكن إذا كان مجرد علم نظري لا تعمل به، فنسيانه سهل.
قال الفضيل رحمه الله: "لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً".
وقال عبد الله بن المعتز: "علمٌ بلا عمل، كشجرةٍ بلا ثمرة!"
وقال أيضاً: "علم المنافق في قوله، وعلم المؤمن في عمله".
وأنشد محمد بن أبي علي الأصبهاني لبعضهم أبياتاً لطيفة يقول فيها:
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجـل لا ينفع العلم إن لم يحسنُ العملُ |
والعلم زينٌ وتقوى الله زينته والمتقون لهم في علمهم شغلُ |
وحجة الله يا ذا العلم بالغة لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيلُ |
تعلم العلم واعمل ما استطعت به لا يلهينك عنه اللهو والجدلُ |
وعلِّم الناس واقصد نفعهم أبداً إياك إياك أن يعتادكَ المللُ |
وعظ أخاك برفقٍ عند زلته فالعلم يعطف من يعتاده الزللُ |
وإن تكن بين قومٍ لا خلاق لهم فأمر عليهم بمعروفٍ إذا جهلوا |
فإن عصوك فراجعهم بلا ضجرٍ واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا |
فكل شاةٍ برجليها معلقة عليك نفسك إن جاروا وإن عدلوا |
وقال يونس بن ميسرة: "تقول الحكمة: تبتغيني يا بن آدم؟ وأنت واجدني في حرفين:
تعمل بخير ما تعلم، وتذر شرُ ما تعلم".
وقال: [إن أخوف ما أخاف على نفسي يا عويمر -هذا اسم أبي الدرداء، هل علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال لي: فماذا عملتَ فيما علمتَ؟].
وقال الحسن البصري رحمه الله : [ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال] وبعض الناس يروي هذا الأثر حديثاً مرفوعاً، لكنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الحسن البصري رحمه الله.
من قال حسناً وعمل غير صالحٍ؛ رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل، وذلك لأن الله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] فالعلم الصالح يرفع صاحبه، والعمل الصالح يُرفع إلى الله عز وجل.
وقالوا في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] ما هو طائره؟ عمله. وقال حفص بن حميد: [دخلتُ على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً؟ فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب أليس يجمّع آلته؟ -يستعد للمعركة والقتال ويجمّع السلاح- أليس يجمّع آلته، فإذا أفنى عمره في جمع الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!] هكذا يكون حال الذي يجمع ولا يعمل.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ -أي: الذين فاتوني، مات الشيخ فلم يلحق به- فقال: يا أبا عبيد ! مهما يفوتك من العلماء فلا يفوتنك العمل] إذا مات الشيخ فنقول: رحمه الله، لكن علمه باقٍ فلا تتحسر على فواته، واعمل بما تركه من علم تفلح، وهذا هو الخير العظيم والتعويض الكبير.
وقال أبو الدرداء رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: [ويلٌ للذي لا يعلم، وويلٌ للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات] لماذا هذا الكلام؟ لأن بعض الناس يقول: إذا كان العلم حجة فلماذا نتعلم؟ نبقى في جهلنا أحسن!
فنقول: وهل إذا بقيت في جهلك ستكون معذوراً عند الله؟
لأن بعضهم سمع عن مسئولية العلم، وماذا على المتعلم من الوزر إذا لم يعمل، قال: أمكث بلا تعليم أحسن، فنقول له: وماذا ستكون في جهلك؟
غير معذورٍ به، تؤاخذ عند الله، وتقع في الحرام، وتقع في البدع، فأي شيءٍ هذا؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، وفي رواية: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) فالذي يعلم الناس خير إضاءة، لكن إذا كان لا يعمل فسيكون محرقاً لنفسه، أما الذي هو منطفئٌ خامد لا يضيء للآخرين ولا يضيء لنفسه، فهذا من أشر الناس.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليست كنت تأمر بالمعروف وتنهى المنكر، قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
قال منصور بن زاذان: "نبأت أن بعض من يُلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك! ما كنتَ تعمل؟ لا يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول: إني كنتُ عالماً فلم أنتفع بعلمي".
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "مسكينٌ من كان علمه حجيجه، ولسانه خصيمه".
وقيل: "كل من لم ينظر بالعلم فيما لله عليه، فالعلم حجةٌ عليه ووبال".
العلم يستفاد منه أن تعلم حق الله عليك فتقوم به:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة عليك ولم تُعذر بما أنت حامله. |
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يُصدق قول المرء ما هو فاعله |
وبعض السلف تمنَّى أنه لم يحمل من العلم شيئاً؛ وذلك لعظم مسئولية العلم، وما هو مطالب به من العمل، لكنه لا يمكن أن يكون متمنياً للجهل، وأن يبقى جاهلاً، فينبغي التوازن في معاني عبارات بعض العلماء.
كقول الشعبي رحمه الله: [ليتني لم أكن تعلمتُ من هذا العلم شيئاً] قال الكلام معاتبة لنفسه، وشعوره بالذنب والتقصير، وهذا من تواضعه رحمه الله.
قال سفيان الثوري وهو من كبار العلماء: [ليتني لم أكتب العلم، وليتني أنجو من علمي كفافاً لا علي ولا لي].
وقال ابن عيينة: "العلم إن لم ينفعك ضرك" ليس في علم ما لا ينفع ولا يضر؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فإما أن تنتفع به وإما أن تتضرر به.
وعن مالك بن دينار قال: إني وجدتُ في بعض الحكمة: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجلٍ احتطب حطباً -الآن يريد أن يضرب مثلاً لمن عنده علم فلم يعمل به ويريد أن يتعلم زيادة، فقال: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت فتضيف علوماً إضافية، ولم تعمل بعد بالعلم الأول، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطبَ حطباً -فحزم حزمةً وذهب يحملها فعجز عنها، فضمّ إليها أخرى".
وقال محمد بن علي الصوري -نسبة إلى صور وهي إحدى البلدان التي دخلها الخطيب رحمه الله-:
كم إلى كم أغدو إلى طلب العلم مجداً في جمع ذاك حفياً |
طالباً منه كل نوعٍ وفنٍ وغريبٍ ولست أعمل شيئاً |
وإذا كان طالب العلم لا يعمل بالعلم كان عبداً شقياً |
إنما تنفع العلوم لمن كان بها عاملاً وكان تقياً |
وقال بعضهم: خرج رجلٌ يطلب العلم، فاستقبله حجرٌ في الطريق، فإذا فيه خط منقوش "إقلبني ترى العجب وتعتذر" قال: فأقلب الحجر، فإذا فيه مكتوب: أنتَ بما تعلمُ لا تعمل، كيف تطلب ما لا تعلم؟ فرجع الرجل، لعل رجلاً كتبه في طريق طلاب الحديث، وكلما مرَّ عليها واحد قرأها وردها.
وقال عطاء : [كان فتىً يختلف إلى أم المؤمنين
وقال شعبة: "ما أنا على شيءٍ مقيمٌ أخاف أن يدخلني النار غيره" غير هذا العلم الذي تعلمته، أخشى أن يدخلني النار بعدم عملي به.
وقال ابن مسعود : [إني لأحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها].
فالخطايا تنسي العلوم، وإن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، أي: إن عدم العمل بالعلم يسبب نفور الناس من العالم، وزوال هيبته من القلوب وبعدهم عنه.
مثل الذين يطلبون العلم للشهادات، يريد وظيفة، يقول: لم نقبل في القسم العلمي ولا الجامعة، لم نقبل في الطب والهندسة، ندخل شريعة لنأخذ شهادة، أكون قاضياً أو مدرساً وهكذا.. يريد شهادة فقط!! وأصبحت عملية الدراسة كلها من أولها إلى آخرها في كلية الشريعة لأجل الشهادة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) هذا الحديث أخرجه الخطيب البغدادي رحمه الله بإسناد ضعيفٍ جداً في هذا الكتاب، لكن الحديث رواه ابن ماجة وله طرق أخرى، والحديث حسَّنه الألباني في صحيح الجامع.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) حديث صحيح، أخرجه أحمد وغيره، ومعناه: لو أن واحداً جاء إلى العلم الشرعي الذي يبتغى به وجه الله -علم الشريعة- وتعلمه لأجل أن يصيب به عرضاً من الدنيا فقط، فلا يجد عرف الجنة يوم القيامة، وعرفها هو ريحها.
وقال الحسن : [من طلب العلم ابتغاء الآخرة أدركها، ومن طلب العلم ابتغاء الدنيا، فهو حظه منها].
وضرب مثل العالم السوء، فقيل: مثل عالم السوء كمثل حجرٍ وقع في ساقية، فلا هو يشرب من الماء ولا هو يخلي عن الماء فيحيا به الشجر.
ولو أن علماء السوء نصحوا لله في عباده، فقالوا: يا عباد الله! اسمعوا ما نخبركم به عن نبيكم، وصالح سلفكم فاعملوا به، ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه فإنَّا قومٌ مفتونون، كانوا قد نصحوا لله في عباده، ولكنهم يريدون أن يدعوا عباد الله إلى أعمالهم القبيحة فيدخلوا معهم فيها.
وجاء في بعض المواعظ القديمة: "يا علماء السوء! جعلتم الدنيا على رءوسكم، والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء، وعلمكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفل، تعجب من رأها، وتقتل من آكلها"، شجرة الدفل هذه شجر مر أخضر، حسن المنظر، (من الخارج خلاخل والبلاء من الداخل) فهذا مثل الذي عنده كلام وعلم لكنه لا يعمل.
ويلكم يا عبيد الدنيا، ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها؟ كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به، ما أكثر أثمار الشجر، وليس كلها ينفع ولا يؤكل، وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم، فاحتفظوا -هذه نصيحة للناس أن يحتفظوا وينتبهوا ويحذروا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف، منكسين رءوسهم إلى الأرض، قولهم مخالف فعلهم، يشتري من الشوك العنب، ومن الحنظل التين، كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً، وإن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية، نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وتخلَّى عنه وعطّله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل.
وقال الحسن رحمه الله: [إنه تعلم هذا القرآن عبيدٌ وصبيان لم يأتوه من قبل وجه، ولا يدرون ما تأويله، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] -ما تدبر آياته؟ اتباعه بالعمل- وإن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه، وإن لم يكن يقرأه].
يقول بعض القراء والحفظة: تعال نتنافس أنا وإياك في القراءة ومن أحفظ ومن أجود ومن أتقن، ولا ينظرون إلى مسألة العمل.. قال عمر رضي الله عنه: [لا يغرنكم من قرأ القرآن إنما هو كلامٌ يتكلم به، ولكن انظروا من يعمل بالقرآن].
ولذلك فإن هناك أناساً قد أقاموا حروف القرآن وعطلوا معانيه وحدوده: (وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على قومٍ تقرض شفاههم بمقارض من نار، كلما قرضت وفت ورجعت، فقلتُ: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: خطباء من أمتك يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون).
ولذلك كانوا يحذرون من القراء الذين لا يعملون بالقرآن، فقال أيوب السختياني: [لا خبيث أخبث من قارئٍ فاجر].
وقال مالك بن دينار: "لأنا للقارئ الفاجر أخوف مني من الفاجر المبرز أو المبرز بفجوره" لماذا؟ لأنه الفاجر المبرز بفجوره تعلم أنه فاجر فتحذر منه، لكن الذي يلبس عليك، يظهر بشكل قارئ وصاحب دين، ولباس أهل العلم، وهو في الحقيقة بخلاف ذلك، فهذا يغتر وينخدع الناس به، فيضلهم.
قال في باب ذم التفقه لغير العبادة:
قال الشعبي: "إنا لسنا بالفقهاء، ولكن سمعنا الحديث فرويناه، ولكن الفقهاء من إذا علم عمل".
وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقومٍ شراً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل".
فترى الآن بعض المناظرات في مسائل بسيطة، هذا يتكلم وهذا يرد، وهذا يرد على الرد، وهذا ينتصر لرد فلان، وهذا ينتصر لرد فلان، وترى المجادلات في الجرائد والكتيبات والكتب، كل واحد يرد، ويرد على الرد، وينسون قضية العلم، ويتمارون ويتجادلون في أشياء الحق فيها واضح، لكن الرد على أهل البدع والضلال لابد منه، وكذا المنافحة عن الدين، لكن الكلام في قضية تحويل مسائل العلم إلى مجادلات، فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبدٍِ شراً فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل.
وقال عائض الله : الذي يتبع الأحاديث ليحدثَ بها -أي: دون أن يعمل- لا يجد ريح الجنة.
ولما بكَّر أصحاب الحديث مرةً على الأوزاعي التفت إليهم، فقال: "كم من حريصٍ جامعٍ جاشعٍ ليس بمنتفعٍ ولا نافعٍ".
وقال الفضيل لشخص جاءه: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر إليّ من أن تطلب مني الأحاديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث -فوائد- ليست عندي كان أحب إليَّ من عددها من الدنانير. قال: إنك مفتون، أما والله لو عملت بما قد سمعتَ لكان لك في ذلك شغلاً عما لم تسمع، ثم قال: سمعتُ سليمان بن مهران -الأعمش- قال: إذا كان بين يديك طعامٌ تأكله، فتأخذ اللقمة وترمي بها خلف ظهرك -شخص أمامه طعام يأخذ لقمة ويرمي بها خلف ظهره.. وهكذا- فمتى يشبع؟!! وهكذا الذي يجمع العلم دون أن يعمل، ويجمع ويجمع ويجمع ولا ينتفع بشيء؟
وقال سفيان بن عيينة من ورعه رحمه الله: "لو قيل لي يوم القيامة: لم طلبت الحديث؟ ما دريت ما أقول".
ولذلك كانوا إذا جاءهم الشخص العامي، أو الشخص الذي لا علاقة له بعلم الأسانيد يسأل عن شيءٍ في دقائق الأمور ليست من شأنه ردوه، وقد سأل رجلٌ ابن عيينة عن إسناد حديث، فقال له ابن عيينة: ما تصنع بإسناده؟ أما أنت فقد بلغتك حكمته، ولزمتك موعظته، اعمل به الآن، جئت تسألني عن الأسانيد والعلة، اعمل به أولاً.
وقال خلاد بن يزيد ، وكان من أجل الناس وأعبدهم: أتيت سفيان بن عيينة، جاء يطلب أحاديث، فقال له سفيان: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم، ثم كوّم كومةً من حصى، ثم شقها بأصبعية، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، ثم جئت تبتغي النصف الباقي، فلو قيل: أرأيت ما أخذته هل استعملته؟ فإذا صدقت قلت : لا، فيقال لك: ما حاجاتك إلى ما تزيد به نفسك وِقْراً على وقر، استعمل ما أخذت أولاً.
وسُئل سفيان بن عيينة من العالم؟ قال: "الذي يعطي كل حديثٍ حقه".
وما حق الحديث؟ العمل به، ولذلك كانوا يربون طلابهم على العمل بالعلم، ولذلك قال بعضهم لطلابه لما جاءوا يطلب منه سماع حديثٍ قال: حتى تعملوا بما تعلمون تأتوني فأحدثكم.
وقال شبابة : دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي، فقلت له: ما هذا الجزع يا أبا بسطام ؟ أبشر فإن لك في الإسلام موضعاً، فقال دعني، فلوددت أني وقادُ حمام، وأني لم أعرف الحديث، أي: من ثقل مسئولية العلم عليه، يقول: أنا لا أدري أن العلم الذي أخذته وجمعته قد يكون حجة عليّ، قد لا أكون عملت به، فألقى الله وعليّ حجة هذا العلم الذي تعلمته، ولذلك كانوا يحاربون تكثير الأسانيد، وطلب التكثيف، وعدم العمل بالنافع، وتعلم الشيء الجديد الذي ينفع، ولذلك وأي رجل في المنام علي بن المديني فقال له: جمعت حديثاً من مائة طريق، فانتظر قليلاً: أخشى أن يكون هذا داخل تحت قوله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1].
فأما الذي يعمل بالحديث فالاستكثار منه جيد، ولذلك وضع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث، لكنه عمل بها كلها، قال: ما تركت حديثاً إلا عملت به، ولما قرأ (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى
ولذلك قال العلماء: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكانوا يحاربون فيما يحاربون مسألة التوغل في بعض العلوم التي تشغل عن علم الكتاب والسنة، مثل: الاستكثار من النحو، حتى قال بعضهم: تلقى الرجل وهؤلاء يلحن حرفاً وعمله لحنٌ كله.
وقال بعضهم: رأيت الخليل بن أحمد في النوم، فقلت في منامي: لا يُرى أحد أعقل من الخليل ، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: أرأيت ما كنا فيه، فإنه لم يكن شيءٌ أفضل من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال بعضهم: رأيت الخليل في المنام فقلت له: نجوت؟ قال: بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت: كيف وجدت علمك؟ -علم العروض والأدب والشعر؟- قال: وجدته هباءً منثوراً:
سيبلى لسانٌ كان يعرب لفظة فيا ليته في وقفة العرض يسلم |
وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقىً وما ضر ذا تقوى لسانٌ معجم |
على أن هذا الكلام لا يهون من أهمية تعلم اللغة العربية، لأن الإنسان لابد أن يتعلم اللغة العربية؛ ليصحح قراءة القرآن والحديث، لكن التوغل في دقائقها وفروعها التي تجعل الإنسان يتباهى بما عنده من النحو، ويؤدي به الأمر إلى التقعر والتكلف، والاختيال على الآخرين وانتقادهم، هذا هو المذموم.
ولذلك لما قيل لبعضهم: يا أبا نصر! أنت رجل قرأت كذا وكذا فلمَ لا تتعلم العربية حتى تصحح لسانك؟ قال: ومن يعلمني يا أبا الفضل ؟ قال: أنا يا أبا نصر ، قال: فافعل، قال: قل: ضرب زيدٌ عمراً، فقال له: يا أخي! ولمَ ضربه؟ قال يا أبا نصر : ما ضربه، إنما هذا أصلٌ ووضع للتمثيل فقط، قال: هذا أوله كذب لا حاجة لي فيه.
فهذا الكلام ينبغي أن يفهم الفهم الصحيح، وهو: أن تعلم اللغة العربية لابد منه، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الجهل باللغة العربية حتى صار الواحد يفتح القرآن ولا يعرف معناه من ضعف اللغة العربية، فلابد من تعلم اللغة العربية بقدر ما نفهم به القرآن والسنة، لكن الخوض في دقائقها وتفاصيلها الذي يصرف عن علم القرآن والسنة وعن الفقه وعن العمل هذا هو المذموم، ولابد أن يكون الإنسان عاملاً يتخذ من علمه زاداً لمعاده ينفعه يوم القيامة.
قال الحسن رحمه الله: [يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره -أي: رأسك في قبرك موضوع على وسادة؟ ما هي الوسادة؟ العلم- إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة] هذه المهلة الدنيا.
وقال بعضهم:
فما لك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي تزودته قبل الممات إلى الحشر |
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمنِ البذرِ |
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد بما كان أرصدا |
ونظم الشاعر المعنى فقال:
بادر شبابك أن يهرمَ وصحة جسمك أن يسقما |
وأيام عيشك قبل الممات فما دهر من عاش أن يسلما |
ووقت فراغك بادر به ليالي شغلك في بعض ما |
وقدم فكل امرئ قادمٌ على بعض ما كان قد قدما |
وقال معاوية بن قرة : أكثر الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ، ورأى شريح جيراناً له يجولون مثلما تجد الآن الشباب في الشوارع يتسكعون، فقال: ما لكم؟ قالوا: فرغنا اليوم -أكملنا أشغالنا، والذي عنده حلقة علم أكملها- قال: وبهذا أمر الفارغ؟! أي: هل أمر بأن يتسكع.
ولذلك لمّا قال البخاري رحمه الله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة |
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلتة |
وفعلاً مات البخاري رحمه الله فجأةً.
ولما دخلوا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت يومئ برأسه يصلي، لأنه لا يستطيع أن يقوم، فقالوا له: سبحان الله! على هذه الحال، فقال: أبادر طي الصحيفة، الآن صحيفتي ستطوى، فأنا أنتهز آخر لحظة من عمري في هذه العبادة:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت ريحاً مستريحاً |
وإذا ما هممت بالنطق في البـ ـاطلِ فاجعل مكانه تسبيحاً. |
ولذلك أهل العلم إذا جاء إليه من يجادل بين يديه، قال: سبح سبح، إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحاً، فينبغي اغتنام الصحة والفراغ والحذر من التأجيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر