إسلام ويب

تتميز الشريعة الربانية عن القوانين الوضعية بالإنصاف والعدل بين جميع المخلوقات، وهذا الاعتبار لا يوجد إلا في شريعة رب الأرض والسماوات التي حددت أنواع المعاملات في الحياة: معاملة الإنسان مع ربه، ومع نفسه، ومعاملته مع غيره من حيوان وجماد.

طرق المجرمين في الصد عن كتاب الله المبين

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

إخوتي الكرام! كنا نتدارس مقدمة لبدء تفسيرنا لآيات القرآن في دروس هذا العام، وهذه المقدمة قلت: إنها ستدور حول مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين للحيلولة بين عباد الله وبين كتاب رب العالمين، وقلت إخوتي الكرام: إن ذلك الكيد وتلك المؤامرات أخذت ثلاثة أشكالٍ في هذه الأوقات:

الشكل الأول: دعا إلى إهمال كتاب الله جل وعلا وهجره ونبذه وراء الظهور.

والشكل الثاني: فيه هذا المحتوى، لكنه صاغ ذلك الضلال بأسلوبٍ يخدع به كثيراً من الرجال من السذج والدهماء والعامة، فدعا إلى فصل الدين عن السياسة بحجة أن الدين شيءٌ عظيمٌ جليلٌ كريم، ينبغي أن يكون محله القلوب، ولا ينبغي أن يتدنس هذا الدين في ظاهر الحياة، فهو معالم وجدانية بين البشرية مع رب البرية.

والشكل الثالث الذي أراد أن يجعل الكفر البواح المنتشر في هذه الحياة: أراد أن يجعل ذلك إيماناً وهدى ورشاداً، فالدعوة الأولى دعوةٌ إلى الكفر صريحةٌ مكشوفة، والثانية دعوة المنافقين، والثالثة أدهى من الدعوة الثانية وألعن، حيث أرادت أن تجعل شرع الشيطان شرعاً للرحمن.

والدعوات الثلاث كلها مآلها إلى شيءٍ واحد وهو الحيلولة بين الناس وبين هذا القرآن المجيد الذي أنزله ربنا جل وعلا على نبينا محمدٍ عليه صلوات الله وسلامه، لكن عتاة البشر نوعوا تلك الدعوات والمؤامرات، حتى إذا فشلوا في واحدةٍ من دعواتهم اصطادوا العامة والمغفلين بدعوة أخرى.

إخوتي الكرام! قلت: إن الدعوة الأولى إلى نبذ القرآن وإهمال القرآن وهجره وطرحه وراء الظهور لن ننشغل في مناقشتها فكفرها معلومٌ بالضرورة لكل موحد، على أن في الرد على الفرقة الثانية ردٌ عليهم، وأما الفرقة الثانية فهذه حقيقةً خدعت كثيراً من الناس عندما قالت لهم: إن هذا الدين شيءٌ عظيمٌ، لكن ينبغي أن يبقى بينكم وبين رب العالمين، ولا دخل لهذا الدين في شئون الحياة، فينبغي أن نفصل الدين عن السياسة، وأن نعزل الدين عن الحكم، فالدين شيءٌ عظيم محله القلب، بين الناس وبين ربهم، فخدع كثيرٌ من الناس بهذا.

وقد بينت إخوتي الكرام أن الدعوة إلى ذلك كفرٌ بواح، وبينت خطورة فصل الدين عن السياسة، وقررت أن هذه الدعوة الملعونة لم يقل بها أحدٌ من الحكومات الإسلامية الماضية عندما كانت الحكومة حكومةً شرعيةً إسلاميةً منذ أن أسسها نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلى أن قضي على آخر خلافةٍ إسلاميةٍ، وهي الخلافة العثمانية سنة ألفٍ وثلاثمائة وثلاثٍ وأربعين!

ما ادعت حكومةٌ من تلك الحكومات مدة أربعة عشر قرناً فصل الدين عن الحياة.. فصل الدين عن السياسة؛ لأن هذا كفرٌ بواح.

وقلت إخوتي الكرام: إن فصل الدين عن السياسة وعن الحكم أخطر من فصل الدين عن الأمة، ثم بينت أن الحكومة التي تدعي الإسلام إذا فصلت نفسها عن الإسلام وفصلت الإسلام عن السياسة فهي مرتدة، وبالتالي فهي أخبث من الحكومة الأجنبية، وقررت هذا إخوتي الكرام بالأدلة المعتبرة المرضية، ثم ختمت المبحث؛ بأنه إذا كانت مسألة فصل الدين عن السياسة في تلك الشناعة وفي تلك الصورة من القبح والرذالة فينبغي أن نعلم المميزات التي في شريعة رب الأرض والسماوات وتدعونا تلك المميزات للأخذ بمحكم الآيات ونبذ القوانين الوضعية، لنعلم أن الذين يدعون إلى فصل الدين عن الحياة يريدون من ذلك الفصل أن نقع وأن نصل وأن نهوي إلى قاع البحر، لا يريدون بنا خيراً لا في هذه الحياة ولا بعد الممات.

مميزات الشريعة السماوية عن القوانين الوضعية

ولذلك قلت إخوتي الكرام: إنه يوجد في شريعة الرحمن في هذا القرآن خمسة أمور لا توجد في تشريعٍ آخر من التشريعات والقوانين البشرية الوضعية الوضيعة:

الأول: أنها مقدسة

أولها: قلت: إن هذا القرآن مقدس، وينبغي أن يكون القانون مقدساً ليكون هذا حافزاً ودافعاً لمن يحتكمون إليه لقبوله والرضا به والاحتكام إليه في سرهم وجهرهم، وإذا علم الناس أن هذا القرآن من عند ربهم جل وعلا فحقيقةً يأخذونه بطواعيةٍ وانشرح صدرٍ وطمأنينة نفس، فهذا كلام ربنا ولا غضاضة أن يأخذ المخلوق بنظام خالقه وبهدي خالقه، فهو عبد وربه سيده، لكن الغضاضة كل الغضاضة -كما قلت- أن يأخذ المخلوق بشرع مخلوقٍ آخر، وأن يؤله البشر بشراً غيرهم.

الثانية: أنها ثابتة مستقرة مصونة من العبث والتغيير

والأمر الثاني والميزة الثانية والاعتبار الثاني قلت: إن القانون ينبغي أن يكون ثابتاً مستقراً مصوناً من العبث والتغيير، فهو مقدس، ثم هو مصونٌ من العبث، لم يضعه بشر، ولا يمكن أن يغير فيه أحدٌ من البشر، وهذه الميزة لا توجد إلا في قانون الله، وفي هدى الله، وفي نور الله، وفي تشريع الله، في القرآن الكريم، وأما القوانين الوضعية فوضعها بشر ويتلاعبون فيها آناء الليل وأطراف النهار.

الثالثة: أنها متسعة لكل ما يجد في هذه الحياة

والأمر الثالث -إخوتي الكرام- قلت: ينبغي أن تكون نصوص القانون مع ثبوتها وجمودها، وعدم التغيير فيها، ينبغي أن تكون متسعةً لكل ما يجد ويقع في هذه الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه الميزة لا توجد إلا في كتاب الله جل وعلا، لا توجد إلا في هذا التشريع الرباني: قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:6]، فنصوص القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام كفيلتان بإيجاد حكمٍ لكل ما يقع في هذا الزمان إلى أن تقوم القيامة، فمع ثبوتها وثباتها وعدم التلاعب فيها تتسع لكل ما يقع، وقلت: عند هذا تظهر معجزةٌ لنبينا صلى الله عليه وسلم في العصور المتأخرة، لا تقل عن معجزاته التي وقعت عندما كان حياً عليه صلوات الله وسلامه في العصور المتقدمة، لا، هذه المعجزة أن نعلم أن هذا الأمي على نبينا صلوات الله وسلامه أتى بهذا التشريع الرباني الذي يسع لكل ما يقع في هذه الحياة، فهذا تنزيلٌ من حكيمٍ حميد.

قلت: وهنا ظهرت حكمة الفقهاء عندما استنبطوا الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والإجماع الذي لا يكون إلا على نص والقياس الصحيح السديد، وقلت: هذه الكرامة للفقهاء هي معجزةٌ لخاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، وهي ملقاةٍ على كواهلنا وعلى عواتقنا، فينبغي أن نظهرها وأن نبين شمول ديننا لكل ما يقع في دنيانا، فلا يوجد أمرٌ إلا وله في شريعتنا حكم، وهذه الاعتبارات الثلاث كنت فصلت الكلام عليها إخوتي الكرام.

الرابعة: أن فيها الإنصاف والعدل بين جميع المخلوقات

وأما الميزة الرابعة والاعتبار الرابع فهي: ينبغي أن يكون في القانون إنصافٌ وعدل بين جميع المخلوقات، وهذا لا يوجد إلا في تشريع رب الأرض والسماوات، إنصافٌ لجميع المخلوقات، عدلٌ بين جميع الطبقات والمستويات. هذا الاعتبار لا يوجد إلا في شريعة رب الأرض والسماوات، فشريعة الله جل وعلا حددت أنواع المعاملات التي تكون في هذه الحياة، وهي لا تخرج عن ثلاث معاملات: معاملة الإنسان مع ربه، معاملة الإنسان مع نفسه، معاملة الإنسان مع غيره، إنساً مؤمناً كان أو كافراً، أو حيواناً أو جماداً، وهذا التفصيل الدقيق لا يوجد في غير شرع الله المجيد، إنصاف في التشريع لجميع المخلوقات، وعدلٌ بين جميع المستويات والطبقات.

تقرير السنة النبوية لعدل هذه الشريعة وإنصافها لجميع الناس

وقد ثبت ما يقرر هذا في صحيح البخاري وسنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة وسنن الدارقطني من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه، واسمه وهب السوائي ، يقال له: وهب الخير ، وكان على شرطة علي رضي الله عنهم أجمعين.

أبو جحيفة وهب السوائي يقول رضي الله عنه: ( آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين، فجاء سلمان يزور أخاه عويمراً أبا الدرداء رضي الله عنهم أجمعين، فرأى زوجه -امرأته- متبذلة ) أي: لابسةً ثوب البِذلة -بكسر الباء بوزن المهلة لفظاً ومعنىً- أي: متقشفة، متبذلة ليس عليها علامة النشاط والبهجة والفرح والسرور، وكان هذا قبل نزول آية الحجاب، فلما دخل سلمان على بيت أخيه أبي الدرداء ورأى زوجة أخيه أبي الدرداء متبذلة متقشفة في لباسها ليس عليها علامة البهجة والسرور سألها: ( فقال: ما لك؟ لم تلبسين هذه الثياب؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له في الدنيا حاجة، فعلام أتزين وألبس وأتصنع؟ أما نهاره فصائم، وأما ليله فقائم ) في النهار يصوم، وفي الليل يقوم، ولا يقرب فراشي، وليس لي منه ما للنساء من أزواجهن ( فلما جاء أبو الدرداء رضي الله عنه قدم طعاماً لـسلمان فقال: كل فإني صائم، قال: والله ما أنا بآكلٍ حتى تأكل، قال: سبحان الله! إني صائم، قال: كل، فأكل أبو الدرداء رضي الله عنه من أجل ضيفه وأخيه سلمان ، فلما صار الليل قام أبو الدرداء رضي الله عنهم أجمعين ليصلي، قال: نم فنام، ثم أراد أن يقوم بعد فترةٍ وجيزة، قال: نم فنام، حتى قارب الفجر، قال: قمت الآن ، فصليا ما كتب لهما، ثم ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ).

وورد في رواية الدارقطني : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بما جرى بين سلمان وأخيه أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين، فلما رآهما بعد صلاة الفجر تبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لـأبي الدرداء : يا أبا الدرداء ! إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً ).

وفي رواية ابن خزيمة زيادة جملة رابعة: ( ولضيفك عليك حقاً )، لربك.. لنفسك.. لأهلك.. ولضيفك عليك حقاً، ( فأعطِ كل ذي حقٍ حقه ).

ورواية الصحيح أن سلمان الفارسي ذكر هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي الدرداء : ( صدق سلمان ، إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حقٍ حقه ) أي: أن سلمان قال هذه الجملة لـأبي الدرداء ، ثم ذكر سلمان هذا للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي لـأبي الدرداء : ( صدق سلمان ، إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه )، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي الدرداء عويمر : ( سلمان أفقه منك عويمر ). أي: يا عويمر يا أبا الدرداء سلمان أفقه منك.

والجمع بين الأمرين: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم سلمان وأبا الدرداء بما جرى بينهما من باب إطلاع الله له، وليعلمهما بأن الله أعلمه بما جرى معهما، ثم بعد ذلك ذكر سلمان هذا للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قال له: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صدق سلمان )، أي: ما قلته حق، وقد وافق ما قلته أنا، وأنا لا أنطق عن الهوى. عليه صلوات الله وسلامه.

إذاً: عدلٌ بين جميع المخلوقات، وإنصافٌ لجميع المخلوقات.. كيف تتعامل مع ربك.. كيف تتعامل مع نفسك.. كيف تتعامل مع غيرك.

حقيقة العدل والإنصاف في هذه الحياة

ومثل هذه الحوادث إخوتي الكرام كانت تقع بكثرة، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يضع لها حداً فاصلاً، ويبين أن دين الله شاملٌ لجميع أمور الحياة، فينبغي أن نعطي كل أمرٍ حقه، وما ينبغي أن يطغى جانبٌ على جانب، والحكمة أن نضع الأمور في مواضعها التي تناسبها، ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه وقال له: ألم أخبر -أي: ألم أعلم- أنك تقوم الليل، وتصوم النهار؟ قلت: بلى يا رسول الله، إني أفعل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك -أي: زوارك- عليك حقاً )، وفي رواية مسلم زيادة جملة خامسة: ( وإن لولدك -أي: لأولادك- عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه )، لله حق، وللنفس حق، ثم للعباد حقوق، ويدخل في هذا الزوجة والأولاد، ويدخل في هذا أيضاً الضيوف وغيرهم، كل هؤلاء ينبغي أن تعطيهم حقوقهم، ( فأعط كل ذي حقٍ حقه ).

وثبت إخوتي الكرام في بعض الروايات في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( زوجني والدي عمرو بن العاص كريمةً من كرائم قريش -من الأسر الشريفة النسيبة- ثم كان والدي يتعهد كريمته -وهي زوجة عبد الله بن عمرو بن العاص - فكان يدخل عليها ما بين الحين والحين، ويسألها عني، فقالت له في يومٍ من الأيام: نعم الزوج عبد الله -أي: زوجها- أما نهاره فصائم، وأما ليله فقائم، لم يفتش لنا كنفاً منذ أن دخلت عليه ).

وفي روايةٍ في سنن النسائي وغيره: ( لم يغش لنا كنفاً ) والكنف هو الستر والجانب الذي يكون للمرأة، وهذا من أدبها وحيائها رضي الله عنها، كناية على أنه ما اقترب مني منذ أن زففت إليه.

نعم الرد، هذه منقبة، صالحٌ طاهرٌ مبارك، يصوم النهار، ويقوم الليل، ما غشي لنا فراشاً، وما مد يده إلى شيء، لم يفتش لنا كنفاً، ولم يغش لنا كنفاً، ( فجلس عمرو بن العاص عندما علم هذا حتى جاء ولده عبد الله فسبه سباً منكراً، وقال: زوجتك كريمةً من كرائم قريش فعضلتها، ثم رفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستدعاه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: إن لجسدك عليك حقاً، ولعينيك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولولدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه )، وحقيقةً هذا هو العدل والإنصاف في هذه الحياة أن نضع الأمور في مواضعها.

نهي الشريعة الإسلامية عن التنطع

إخوتي الكرام! لا يمكن لمخلوقٍ أن يقوم بحق الرحمن، حتى وإن صام النهار، وإن قام الليل، ولو خر على وجهه منذ أن ولدته أمه إلى أن يلقى الله، لا يمكن أن يقوم المخلوق بحق الخالق، والحمد لله الذي لم يكلفنا إلا ما في وسعنا، وإذا كان الأمر كذلك فإياك والتنطع والشطط، وإياك والابتداع في دين الله فتصوم وتقوم ثم تهمل بقية الحقوق، فهذا هو الظلم، وهذا هو الجور، وإذاً ضيعت حقاً على حساب حق، والله لا يقبل حقه إذا لم تؤد لأهل الحقوق حقوقهم.

تزوجت امرأةً علام؟ على أن تهجرها؟ على أن تعبس في وجهها؟ على ألا تبيت في الفراش معها؟ والله لست بأفضل ولا خيراً من خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وكان في الليل ينام مع أزواجه في الفراش، فإذا أراد أن يتهجد قام، أما أنك لا تدخل في فراشٍ، ولا تفتش كنفاً ولا تبحث فهذا ظلمٌ وجور، وهذا خروجٌ عن العدل والإنصاف.

وكثيرٌ من الناس في هذه الأيام كما وقعت هذه القصص في قديم وماضي الزمان تقع عندهم في هذه الأيام، يتزوج فيقول لزوجته: أنا طالب علم، ابتعدي عني. اتق الله أيها الإنسان، إنك عندما تعاشرها تحببها في الإسلام، تحببها في العلم، بإمكانك في خلال معاشرتك أن تتباحث معها الأمور الشرعية!

هل هي دابة؟ هل هي جماد؟ أليست هي مكلفة بما تكلف به؟ عندما تخلو بها وتريد العشرة وأنتما لا تلتفتون لا لتلفزيون، ولا لغناء، ولا لقلة حياء، تبحث معها أحكاماً شرعية خلال المعاشرة وخلال المداعبة. ما الذي يمنع؟ فتكون قد حصلت طلب العلم وحصلت مؤانسة الزوجة، وأعطيتها حقها، وأرضيت ربك جل وعلا.

أما أن تحجب في تلك الحجرة، وتقول لها: لا تدخلي علي ولا تشغليني عن العلم وعن مدارستي، فهذا لا يصلح.

نعم. لا أقول لك أيضاً: أن تنهمك في العشرة، وأن تلغي علمك ومذاكرتك ودروسك وحفظك، لا هذا ولا ذاك، لا بد من إعطاء كل ذي حقٍ حقه، زوجةٌ لها حق، ضيفٌ له حق، نفسك لها حق، فربك له حق، فأعط كل ذي حقٍ حقه.

أنت عندما تعاشر الزوجة بالمعروف فقد أطعت الله ( وخيركم خيركم لأهله )، كما قال خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، والحديث في السنن بسندٍ صحيح: ( وأنا خيركم لأهلي )، عليه صلوات الله وسلامه، ( خيركم خيركم للنساء )، فإذاً عندما أنت تحسن عشرتك مع زوجك تتقي في هذا ربك، وتحصل أجراً عظيماً.

الشاهد إخوتي الكرام! أن لكل ذي حقٍ حقه، عدلٌ في جميع المعاملات، وإنصافٌ لجميع المخلوقات.

ومثل هذه الحوادث تكررت أيضاً في الصدر الأول، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج نحوها، ففي مسند الإمام أحمد يقول نبينا صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة : ( ما أبذأ هيئة خويلة بنت حكيم )، أي: هيئتها فيها بذاذة، فيها تقشف، ( كحال زوجة أبي الدرداء ما أبذأ هيئتها، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! وماذا تعمل؟ إن زوجها عثمان بن مظعون نهاره صائم، وليله قائم )، تركت نفسها وأضاعتها فكأنها لا زوج لها، فماذا تعمل؟ تركت النفس وأضاعتها، وما تتزين، وما تتجمل، وتخرج في هذه البذاذة؛ لأن عثمان هذه حالته يصوم النهار، ويقوم الليل ( فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان، وقال: يا عثمان ! أرغبةً عن سنتي؟ قال: بل سنتك أطلب يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما الذي ترى؟ قال: إني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان ! صم وأفطر، وصل ونم ). نم بجوار هذه الزوجة وأعطها حقها.

إذاً: هذا الأمر ينبغي أن يكون في التشريع، عدلٌ بين المخلوقات، وإنصافٌ لجميع الطبقات، فالله جل وعلا حقه علينا أن نعبده وألا نشرك به شيئاً، نقوم بهذا الحق، هذه النفس لها علينا حق.

كيفية معاملة الإنسان لنفسه

وكنت تكلمت إخوتي الكرام عن كيفية معاملة الإنسان لنفسه في محاضرتين، فلذلك لا أريد أن أوسع الكلام في هذا.

هذه النفس لها حقٌ عليك ينبغي أن تعطي لنفسك حقها، وكيف تتعامل معها، ( إن لنفسك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه )، هذه النفس شرع لها الشارع أحكاماً فيما يتعلق بغذائها، بشرابها، بهيأتها، بلباسها.. هذه الأمور كلها ينبغي أن تقوم بها لتكون على أكمل حالةٍ وأحسن هيئةٍ في هذه الحياة، ولتحصل رضوان رب الأرض والسماوات، فالشارب ينبغي أن يقص، واللحية تعفى، والأظافر تقلم، وشعر الإبطين ينتف، والعانة تزال؛ لتتميز عن البهائم والحيوانات الأخرى، فأنت مؤمنٌ لك شكل يميزك عن الكفار والفساق، ويميزك عن الحيوانات.. تتميز عن الحيوان الأعجم البهيم.

لا بد من أن يكون لهذا المؤمن أن يتعامل مع نفسه بالكيفية التي حددها نبينا صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه ربنا جل وعلا، ولذلك لما قيل لـسلمان والحديث في صحيح مسلم ، ومسند الإمام أحمد والسنن الأربع، قيل لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: ( يعلمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء -والقائل له بعض أهل الكتاب من اليهود- حتى الخراءة؟ ) يعني: حتى أحكام الغائط تتعلمونها من النبي عليه الصلاة والسلام، هذا لا يوجد في القوانين الوضعية، لا في القوانين الأمريكية، ولا البريطانية، ولا غيرها، كونك تترك شاربك يصل إلى جبينك، أو ينزل على لحيتك، أو تقصه، ما لهم علاقة في هذا، عندهم أنظمة فقط يضبطون بها الحياة العامة على حسب زعمهم، أما بعد ذلك سوأتك تخرج للناس، فإن شئت أن تخرج عارياً كما ولدت، ما لأحد علاقة معك، إنما لا تمد يدك على الناس ولا تضرب، أما تكشف عن سوأتك وتمشي لا حرج في ذلك أو استر سوأتك لا حرج في ذلك، تقص لحيتك لا حرج في ذلك، تنتف حاجبك لا حرج في ذلك، افعل ما شئت.. هذا يشرب الخمر لا حرج في ذلك، وجاءوا للمخدرات بعد ذلك منعوها وقلت: عما قريبٍ سيبيحونها وسترونها، وهذا يتفرع عن مبدأ الحريات الشخصية الغوية التي ينادون بها.

ولكن في الإسلام هناك معاملةٌ خاصةٌ لهذه النفس: ( أعط كل ذي حقٍ حقه ).

قيل لـسلمان : ( يعلمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيءٍ حتى الخراءة؟ قال: أجل، حتى الخراءة، أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام إذا أتينا الغائط ألا نستقبل القبلة وألا نستدبرها بغائطٍ أو بول، وأمرنا ألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأمرنا ألا نستنجي بعظمٍ أو رجيع )، فالعظم هذا زاد الجن وطعامهم، والرجيع هو رجس نجس، لا يجوز أن تتطهر به، وأن تستجمر بالرجيع. أي بروث الدواب، لا تستنجي برجيع ولا بعظم، ولا بأقل من ثلاثة أحجار، ولا تستقبل القبلة، ولا تستدبرها بغائطٍ أو بول، وهذا إذا أردت أن تستجمر، والأحسن أن تغسل ذلك المحل بالماء، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي عن أمنا عائشة رضي الله عنها، والحديث في درجة الحسن، قالت للنساء: ( مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء) يستطيبوا: يستنجوا، ووالله هذا أطيب الطيب عندما ينظف الإنسان نفسه بالماء، سواء محل قضاء الحاجة أو بدنه؛ لئلا تخرج منه الروائح الكريهة، لا أن يصب العطور الفرنسية والشرقية والغربية على نفسه وترى رائحة النتن تفوح منه لا يستبرئ من بوله ولا يستنجي بالماء من غائطه، وهكذا بعد ذلك النتن تحت إبطيه.

( مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم ) أي: أستحي أن أوجه هذا الأمر للرجال، فأنا امرأة وهم رجال، ولا يصلح أن نتكلم على حكم العورات بين النساء والرجال ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله )، أي: كان يستنجي بالماء، ويحب أن يستنجي بالماء.

وحقيقةً إذا استجمر الإنسان بالحجارة، فالحجارة تزيل العين، لكنها لا تزيل الرائحة، وإذا باشر الإنسان زوجته تفوح روائح كريهةً تنكسر منها النفس، مما يؤدي لنفور الزوجة عن زوجها وتطلعها إلى غيره، ولذلك ( مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله )، أي: كان يستنجي بالماء.

ولذلك يقول أئمتنا كما ذكر هذا أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي وغيره: الاستنجاء بالماء مروءةٌ آدمية، ووظيفةٌ شرعية.

إذاً: كيف يتعامل الإنسان مع نفسه؟ بين لنا هذا، كيف يتعامل مع ربه؟ بين لنا هذا، كيف يتعامل مع غيره؟ بين لنا هذا.

هدي الإسلام في تعامل المسلم مع الغير

معاملتك لغيرك، إما أن يكون هذا الغير مسلماً، وإما أن يكون كافراً، وإما أن يكون هذا الغير من غير عباد المكلفين، من حيوانٍ أو جماد، حتى الجماد شرع لنا معه معاملةٌ خاصة، وهذا تشريع الحكيم الخبير، عدل لجميع المخلوقات، وإنصافٌ لجميع المستويات، أما المسلم فحقه عليك أن تحب له ما تحب لنفسك.

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، وأما الكافر فيجب عليك ألا تظلمه، وأقصد بالكافر هنا: الكافر الذمي الذي له علينا حق الحماية والمحافظة، وليس الكافر الحربي الذي ليس بيننا وبينه عقدٌ ولا عهد، فالكافر الذمي الذي هو تحت رعاية الدولة الإسلامية لا يجوز لك أن تظلمه، وينبغي أن تعطيه حقوقه، وإذا كان بينه وبين مسلم خصومة وهو صاحب الحق تقضي له على المسلم، والله جل وعلا يقرر هذا في كتابه في سورة المائدة في موضعين في أوائل السورة، ففي الآية الثانية يقول الله جل وعلا: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، (لا يجرمنكم): لا يحملنكم بغض قومٍ إذا اعتدوا عليكم، وجرى منهم ما جرى، أن تعتدوا أنتم، إنما يجب عليكم أن تعاملوا الناس بالعدل.

ويقول أيضاً في الآية الثامنة في سورة المائدة أيضاً: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، كل هذه المسألة التي قررها أئمتنا الكرام لنعلم مدى سماحة وعدل وإنصاف الإسلام.

إذا ادعى رجلان لقيطاً -ولداً صغيراً- أحدهما مسلم، فادعى أن هذا اللقيط وهذا الصغير عبدٌ له، والآخر ذمي، فادعى أن هذا اللقيط وهذا الصغير ابنٌ له، الذمي يدعي أنه ابنه، والمسلم يدعي أنه عبده، وأقام كلٌ منهما بينةً على ذلك، ولا يوجد مرجحٌ من المرجحات الخارجية، وإذا حكمنا بأنه عبد للمسلم سينتفع من سيده ويؤمن، وإذا حكمنا بأنه ابن للذمي سيكون يهودياً أو نصرانياً، فعندما لا يوجد مرجحٌ يجب على القاضي أن يرجح الحكم الذي هو في صالح الولد، عندما لم يوجد مرجحٌ خارجي لإحدى البينتين، ما الأصلح للولد؟ أن يكون حراً كافراً لا أن يكون عبداً مسلماً! وقد يقول قائل: كيف هذا؟ قف عند حدك، فأقول: هو في حال صغره مرفوعٌ عنه القلم، ولا يؤاخذه الله في هذه الحالة، فإذا بلغ، إن في هذا الدين ما يدعو كل أحدٍ لاعتناقه واتباعه والإيمان به، فهو إذا بلغ بإمكانه أن يؤمن بنفسه، ولا سلطة لأحدٍ من خلق الله عليه، لكن إذا بلغ وهو رقيق فهل بإمكانه أن يتحرر؟ ليس بإمكانه أن يتحرر، فنحن نفضل الحرية على الرق، مع أنه في حال الحرية سيكون له حكم الكفر، وفي حال الرق سيكون تابعاً لمسلم، لكن الأحظ له في هذه الحياة الحرية، وأما الإسلام فبإمكانه أن يؤمن إذا بلغ، وقارن بين الأمور، وشريعة الله لا تخفى على أحدٍ، فهي كالشمس في رابعة النهار، لكن إذا حكمنا بإسلامه وبلغ سيبقى رقيقاً.

سبحان الله! هذا الذي يقرره فقهاؤنا.

إلى هذا الحد وصلت سماحة الإسلام، وعدل الإسلام، وإنصاف الإسلام، يفضل كفر الولد في حال حريته على رقه في حال إسلامه؟ نعم؛ لأنه بإمكانه أن يسلم، وليس بإمكانه أن يتحرر.

وإذا كان رقيقاً مسلماً ليس بإمكانه أن يتحرر، ثم بعد ذلك قد يكفر، فالإيمان والكفر هذا تابعٌ لاختيار الإنسان، ولكن الحرية والرق هذه ليست الآن في اختياره فإذا حكمنا برقه لا يستطيع أن يتحرر إلا إذا حرره سيده، وأما إذا حكم بكفره فما أيسر صدور الإيمان منه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، وانتهى الأمر، فحصل الحرية وحصل الإسلام.

هذا هو سعة أفق أئمتنا الفقهاء، إنه عندما تعارضت البينتان ولا مرجح ينبغي أن ننظر إلى ما هو الأنفع للمدعى عليه، لهذا المولود، لهذا اللقيط، لهذا الضائع، والحرية أنفع له في الحياة، فنحكم له بها، مع أنه سيأخذ وصف الكفر، لكن بإمكانه أن يزيل هذا الوصف عنه إذا عقل وبلغ. هذا هو العدل، وهذا هو الإنصاف، وهذا هو حكم الإسلام.

انتبه لهذا الحكم، وقارنه بعد ذلك بحكمٍ إسلاميٍ آخر، وهو أن الإسلام لا يرى الكافر مهما علا شأنه في الحياة كفئاً لأقل مسلمةٍ من المسلمات في النكاح.

أوليس كذلك؟ بلى، فلو جاء أكبر كافرٍ على وجه الأرض ليتزوج أقل المؤمنات شأناً في الجمال وفي النسب وفي المكانة لا يجوز هذا النكاح، ولا يكافئها، بل والله لا يكافئ حذاءها، وحذاء المسلمة أطهر من رأس الكافر، مع هذا الاعتبار في الإسلام نحكم بحرية اللقيط ونقدم هذا على كونه عبداً رقيقاً عند مسلم، لماذا؟ لأن هذا أحظ لهذا اللقيط، وهذا أنفع له، والله أمرنا بالعدل، والعدل أن نقول له: أنت الأحظ لك هي الحرية، وأما الإسلام فهذا في وسعك وبين يديك، ولا يمنعك منه مانع، لا أبوك ولا أحدٌ من خلق الله، قل: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام.

انظر لهذا العدل، وهذا الإنصاف، وهذه الرحمة، وهذه السماحة، وهذه السعة في دين الله جل وعلا، المسلم نحب له ما نحب لأنفسنا، الكافر له معاملةٌ خاصة لا يجوز أن نظلمه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

هدي الإسلام في التعامل مع الحيوانات والجمادات

وهكذا شرع لنا الإسلام نظاماً للمعاملة مع الجمادات والحيوانات، كيف نتعامل مع الحيوان؟ كيف نتعامل مع الجماد؟ هذا الجماد لا يجوز أن تظلمه، ولا يجوز أن تسبه، ولا يجوز أن تلعنه، وهكذا الحيوان، هذا ما يجوز أن تلعنه، ولا أن تسبه، ولا أن تظلمه، ولا أن تكلفه ما لا يطيق، وإذا فعلت هذا فأنت ظالم، ويتدخل الشرع في الدنيا بمعاقبتك وفي الآخرة الله سيحاسبك على هذا.

ثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث عمران بن حصين ، والحديث رواه الإمام مسلم أيضاً عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: أن الصحابة الكرام كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفرٍ، وكانت امرأةٌ على ناقة، فنفرت منها الناقة وندت عنها وأتعبتها فلعنتها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة ). وفي رواية: ( لا تصحبنا ناقةٌ ملعونة )، قال عمران بن حصين : فقد رأيتها ما يعرض لها أحد. مخلاة تمشي لا يتعرض لها أحدٌ ولا يقبل أحدٌ أن يأخذها؛ لأنها ملعونة.

( لا تصحبنا ناقةٌ ملعونة، خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة ).

إذاً: لا يجوز أن تلعن هذا الحيوان، فلا يستحق اللعن والطرد من رحمة الرحمن.

وثبت في سنن الترمذي وأبي داود وابن حبان بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نازعته الريح رداءه -أي: بدأت تغالبه على ردائه وتطرح رداءه من كتفيه- فلعنها -لعن الريح- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنها، فإنها مأمورةٌ مسخرة، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهلٍ رجعت عليه )، إذا لعنت الناقة ترجع اللعنة عليك، وإذا لعنت الريح ترجع اللعنة عليك، إذا لعنت السيارة ترجع اللعنة عليك ( من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه ).

وإن كانت جمادات فهي تعرف ربها وما من شيءٍ إلا يسبح بحمده، وهي تخشى من سخطه وغضبه: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، فكيف تلعنها؟ من لعن شيئاً ليس له بأهلٍ رجعت اللعنة عليه، فلا يجوز أن تلعن حيواناً، ولا جماداً، ولا أن تظلم حيواناً بأن تحمله ما لا يطيق.

ولذلك ثبت في سنن أبي داود وغيره بسندٍ حسن عن زيد بن خالد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة )، وإنما خص الديك -جزاه الله عنا خيراً- لأنه يقوم في الثلث الأخير من الليل، والديكة تصيح في ذلك الوقت عند نزول الملائكة من كثرة رؤيتها للملائكة، وسطوع الأنوار، ونزول ربنا الجليل إلى السماء الدنيا فيقول: ( من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟). الديكة مستحيل أن تنام في الثلث الأخير من الليل، متى ما دخل الثلث الأخير من الليل الديكة تصيح، وأهلونا وآباؤنا وأجدادنا عندما كانت الديكة في بيوتهم كانوا لا يحتاجون إلى هذه المنبهات المنكرات التي فيها مزامير الشيطان، وهذه الأجراس، لا يحتاجوا إلى منبه، يقوم الديك ويصيح، فبعض الناس قد يتثاقل من صياحه؛ لأنه يزعجه عن نومه، وينغص عليه نومه، وقد لا يريد التهجد، هو فيه خير يقول: استيقظ للفجر، لكن لا أريد أن أقوم يعني من أول ثلث الليل الأخير، أستيقظ قبل الفجر بربع ساعة، قد يؤذيه صياح الديكة فيسبها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة ). إذاً: الديك لا يجوز سبه.

في هذه الأيام ليس الديك من يسب، بل يسب المؤذنون، المؤذنون الذين يؤذنون للصلاة يسبون فضلاً عن الديكة.

وأعرف بعض الحكام المدنيين عليهم غضب رب العالمين اتصل ببعض المؤذنين وقال له: لا تؤذن للفجر، قال: وعلام أنا موظف من قبل الأوقاف، إذا ما أذنت أحاسب من قبل الأوقاف؟ قال: إذا اتصلت بك الأوقاف قل لهم: القاضي منعني من أذان الفجر. ويعلم الله المؤذن هو الذي يقول لي هذه القصة عن قاضٍ خبيث أعرفه بنفسي.

قال لي: قل لهم هذا، فجاء المؤذن إلي ترتعد فرائصه يقول: يا شيخ أخشى أن يعاقبني هذا الخبيث القاضي، قلت: يا عبد الله ! لا سلطة له عليك، وهو جبان وأحقر من أن يتصرف معك تصرفاً يؤذيك، لكن فقط يهددك، وهو أجبن من أن يتصرف، وأنت إذا تكلم معك أغلظ عليه وأوقفه عند حده.

قاض يقول له: عندما تؤذن للفجر تنغص علي نومي! لا أقول: لم لا يشهد الصلاة؟ فهو كافرٌ بمن فرض الصلاة إذا كان حاكماً مدنياً لا يحكم بشريعة رب البرية.

لا نريد أن نطالبه الآن بصلاة، نحن الآن في موضوعٍ أكبر وهو اترك كفرك ثم صل. لا نقول له: صل على هذه الحالة، لكن نقول له: اترك الكفر الذي أنت عليه، ثم بعد ذلك التزم بشرع الله.

يريد أن يمنع المؤذن من الأذان؛ لأنه ينغص عليه نومه.. إلى مثل هؤلاء آلت أمور المسلمين في هذه الأيام، ونسأل الله أن يلطف بأمة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إذاً: لا بد أن يكون النظام فيه عدلٌ، فيه إنصاف، وهذا لا يوجد إلا في شريعة الله، عدل بين جميع المخلوقات، إنصاف لجميع الطبقات والمستويات.

وباختصارٍ أقول: إن هذا القرآن حوى معاقد التشريع، وأسس التشريع، وأصول التشريع التي لا يمكن أن يكون التشريع صالحاً بدونها.

أسس التشريع التي يتحقق بها العدل والإنصاف بين المخلوقات

وأسس التشريع التي يتحقق بها العدل والإنصاف بين المخلوقات والسلامة في هذه الحياة ثلاثة إذا خلا نظامٌ منها فهو نظامٌ عاطل فاسد يشقي الناس في الدنيا، ويهلكهم في الآخرة، أولها: المحافظة على الضروريات، وهي المسماة بدرء المفاسد، وكل نظامٍ لا يحافظ على هذا فالحياة معه حياة غابة.

والضروريات الست كما يقول علماؤنا لا بد من المحافظة عليها، وقد حافظ عليها كتاب ربنا بأقوم طريقٍ وأعدله: - المحافظة على الدين، فلا يصلح أن نترك الناس بلا دينٍ يعيشون فوضى، يعبدون حجراً أو بقراً أو شجراً أو ذكراً.

- المحافظة على النفس، فمن قتل يقتل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

- المحافظة على العقل، فلا مسكر، ولا مخدر، ولا هوى، ولا تقييد أعمى.

- المحافظة على العرض.

- المحافظة على النسل.

- المحافظة على المال.

هذه الضروريات الست، لا تصلح الحياة بدونها، وقد حافظ عليها كتاب ربنا بأقوم طريقٍ وأعدله، فالأموال لا تؤخذ إلا من طريقٍ حلال، ومن سرق تقطع يمينه، لا يسجن فالسجن لا يردعه، وهكذا المحافظة على الأعراض إذا زنى وهو محصن يرجم حتى يموت، وإن كان بكراً يجلد مائةً ويغرب سنة، المحافظة على الأنساب، المحافظة على العقول، المحافظة على الأنفس، المحافظة على الدين، وهذه ضروريات تسمى بدرء المفاسد عن الحياة، والتفريط فيها يجعل الناس في حكم الغابات.

الأمر الثاني: جلب المصالح، فالأولى كما قلنا: ضروريات تسمى بدرء المفاسد، والثانية: حاجيات يحتاجها المخلوقات، وهي تحصيل المصالح لهم، أن نفتح أمامهم كل طريقٍ يحصل لهم خيراً وسعادةً ومغنماً ورزقاً في هذه الحياة، وهذا الذي فعله ربنا جل وعلا في شرعه، سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض، والأصل في الأشياء الإباحة حتى يقوم دليل الحظر، فالبيع حلال بجميع صوره إلا أن يقوم دليلٍ على تحريم نوعٍ من أنواع المعاملات من الربا، من بيع عينة، من شركاتٍ فاسدة، من من من ما عدا هذا حلال، جميع الأنواع بعد ذلك المعاملات من زراعةٍ وتجارةٍ وصيدٍ وزراعةٍ وغير ذلك كلها حلال، تجارة، مضاربة، عمل، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، حاجيات مصالح، ضروريات درء المفاسد.

أيضاً: هناك تحسينيات -وهو الأمر الثالث- الجري على مكارم الأخلاق، أن نحض على الأخلاق النبيلة الفاضلة، فكما أننا نأمر بالعدل نحث بعد ذلك على الفضل، فلا أقل من العدل، والأحسن الارتفاع إلى درجة الفضل، ثم هذه التحسينيات الجري على مكارم الأخلاق، أن تعفو عمن ظلمك، وأن تسلم على من لقيته، وأن تبش في وجهه. هذه كلها تربط بين الأمة كما يربط العصب بين أجزاء البدن.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [4] للشيخ : عبد الرحيم الطحان

https://audio.islamweb.net