بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعا، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد:
أيها الفضلاء! فالقرآن منهج حياة، يعلم ذلك كل من عرف كتاب الله عز وجل حق المعرفة، وتلاه حق التلاوة، وأحاط بشيء من حكمه وأحكامه.
وفي سنن الترمذي من حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ستكون فتن، قالوا: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يخلق على كثرة الرد، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) .
قراءة القرآن مغنم، وتدبر القرآن مغنم، والاستشفاء بالقرآن مغنم، وتعلم القرآن مغنم، كما أن هجر القرآن مأثم ومغرم، من هجر تلاوة القرآن، أو هجر تدبر القرآن، أو هجر التحاكم إلى القرآن، أو هجر الاستشفاء بالقرآن فهو مغبون خاسر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
هذا العنوان أيها الإخوة الكرام! الذي طلب مني أن أتكلم فيه: (القرآن منهج حياة) لا يخفى عليكم أنه موضوع كبير، لا يستطيع المرء أن يحيط به لا علماً ولا وقتاً، ولذلك أقتصر في هذه الكلمة اليسيرة إن شاء الله على تناول موضوع يكثر السؤال عنه وهو الاستشفاء بالقرآن، أو ما يسميه الناس بالرقية، أو يقولون: الرقية الشرعية.
وجعلوا لذلك أمكنة سموها العيادات القرآنية، فأريد في هذه الكلمة أن أنبه على مشروعية التداوي بالقرآن، وبيان الكيفية الصحيحة، مع التنبيه على بعض الأخطاء التي وقع فيها الناس في هذا الباب.
النقطة الأولى: مشروعية العلاج من كل داء: فقد أوجدنا ربنا في هذه الدنيا ونحن معرضون للآفات والأسقام، والأوجاع والأمراض، فلربما يشكو الإنسان رأسه، ولربما يشكو ضرسه، ولربما يشكو وجعاً في الركبة أو القدم، ولربما يعاني من ألم في البطن أو الأذن، وهكذا كما قال ربنا: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4] .
ومن رحمة الله بنا أنه جعل هذه الأمراض كفارة للذنوب والخطايا؛ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من ذنوبه وخطاياه )، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه واحد من الصحابة، فوجد الرسول عليه الصلاة والسلام يرتعد من شدة الحمى، فالصحابي قال: ( يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً -تتألم ألماً شديداً- فقال عليه الصلاة والسلام: إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، فقال له الصحابي: ذاك أن لك الأجر مرتين؟ قال: نعم).
والله جل جلاله الذي أنزل الداء أنزل معه الدواء، لكن هذا الدواء قد يعرف وقد يجهل، ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أنزل الله داء إلا أنزل معه دواء )، ما من داء على وجه الأرض، حتى الأدواء التي دوخت الدنيا، كالسرطانات بأنواعها عافانا الله وإياكم، ومرض نقص المناعة المكتسبة وهو ما يعرف بالإيدز، وكذلك داء البرص ونحوها، هذه كلها لها أدوية, ( ما أنزل الله داء إلا أنزل معه الدواء ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد سرده لروايات الحديث: المراد بالإنزال في هذا الباب إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً، أي أن الله عز وجل أنزل الداء وأنزل الدواء على لسان الملك يخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، أو عبر بالإنزال عن التقدير؛ كما قال سبحانه: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]، فعبر بالإنزال عن التقدير، وفيها التقييد بالحلال، فلا يجوز التداوي بالحرام، إذا قال: ( ما أنزل الله داء إلا أنزل معه دواء )، فالله عز وجل لا ينزل إلا الحلال، فلا يجوز التداوي بالحرام.
لا يكون شفاء من الداء إلا إذا أصاب الدواء الداء، فالشفاء متوقف على الإصابة، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكمية أو الكيفية فلا ينجع، فلو أن إنساناً منا أصيب بمرض, فقيل له: خذ في كل يوم حبة من هذه الأقراص، فقال: أنا مستعجل للشفاء؛ لأن ورائي أعمالاً، وأريد أن أسعى على رزقي فابتلع الشريط كله، هل يحصل له الشفاء؟ لا، بل يحمل إلى المستشفى؛ لأنه قد تجاوز الحد إما في الكمية وإما في الكيفية، بل ربما أحدث داء آخر، وأن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، هكذا يقول الحافظ رحمه الله، وفيها كلها إثبات الأسباب، والإنسان إذا أراد أن يصل إلى النتيجة فإنه يأخذ بالأسباب، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك، وأن التداوي لا ينافي التوكل، كما أنه لا ينافي دفع الجوع والعطش الأكل والشرب، فالإنسان لو جاع فإنه يأكل، ولو عطش فإنه يشرب، ولا يقول: آكل؛ لأني متوكل على الله هو الذي يطعمني ويسقيني. وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار ونحو هذا، انتهى كلامه رحمه الله.
لقد ثبتت في السنة القولية والفعلية طلب الدواء، فثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تداووا )، أمر, ( تداووا عباد الله! فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا الهرم )، والهرم: هو تقدم السن، فهذا لا علاج له، فمن تقدمت سنه ما بقي إلا له أن يستعد للقاء الله عز وجل، ويتهيأ بالعمل الصالح.
أما السنة الفعلية فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الخلق توكلاً على الله عز وجل، أنه كان يتداوى مما يصيبه من الأسقام والأوجاع، فمثلاً: في يوم غزوة أحد لما شجت جبهته، ودخلت حلقتان في وجنتيه, وكسرت رباعيته, وجحشت ركبتاه عليه الصلاة والسلام تداوى، فقد جاءت فاطمة تصب الماء، وتغسل الدم عن وجه أبيها, ولما لم يستمسك الدم أخذت حصيرة فأحرقتها بالنار، ثم وضعتها على وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمسك الدم، وكذلك عصب صلى الله عليه وسلم موضع الجرح.
وكذلك لما كان في مرض موته عليه الصلاة والسلام أمر بماء من سبعة آبار فاغتسل به؛ لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء )، فالإنسان إذا جاءته حمى فالعلاج النبوي أنه يتبرد بشيء من الماء.
وكذلك كان يصف لأصحابه رضوان الله عليهم الأدوية التي تنفعهم بإذن الله، وكتب السنة بذلك طافحة، حتى لا تكاد تفتح كتاباً من كتب السنة إلا وجدت باباً يسمى باب الطب؛ لذلك الإمام البخاري رحمه الله عنده كتاب الطب، وكذلك غيره من أئمة الحديث، بل إن بعض علمائنا ألف كتباً مخصوصة في الطب النبوي, ذكر فيها الأدوية التي كان يصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلاج بعض الأدواء.
النقطة الثانية: وهي: أن القرآن شفاء ولا شك في ذلك؛ فالقرآن شفاء بمنطوقه, قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، أنه (شفاء ورحمة للمؤمنين) أي: يذهب ما في القلب من أمراض، من شك، ونفاق، وشرك، وزيغ، وميل. فالقرآن يشفي من ذلك كله، وهو أيضاً رحمة يحصل فيه الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة.
وقال سبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44].
وقد أفرد الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه المفيد: زاد المعاد في هدي خير العباد عليه الصلاة والسلام فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية، فمثلاً من اشتكى صداعاً في رأسه أو وجعاً في بطنه فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف له الرقية، والحديث رواه أبو داود بسنده عن أبي الدرداء عويمر بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الذي في السماء فاجعل رحمتك في الأرض, اغفر لنا حوبنا وخطايانا )، (حوبنا) أي: ذنبنا وإثمنا، قال الله عز وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، ( اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين, أنزل رحمة من رحمتك, وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ) .
وما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه: ( أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اشتكيت؟ قال: نعم، فقال جبريل عليه السلام: باسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد, الله يشفيك, باسم الله أرقيك )، هكذا رقى جبريل النبي الأمين: ( باسم الله أرقيك, من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد, باسم الله أرقيك, والله يشفيك )، هكذا كانت الرقية.
وذكره الإمام ابن القيم رحمه الله أيضاً في هذا الكتاب في زاد المعاد تحت عنوان فصل في عيادته للمرضى، أنه عليه الصلاة والسلام ( كان إذا عاد مريضاً دخل عليه فسلم، ثم جلس عند رأسه وقال: كيف تجدك؟ -يعني :كيف حالك؟- ثم يسأله هل يشتهي شيئاً، فإن اشتهى شيئاً وعلم أنه لا يضره أمر له به )، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء للمرضى بقوله: ( أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ) سبع مرات، وكان من هديه أن يقول: ( اللهم رب الناس! أذهب البأس, اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً )، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يتفل على أصبعه, ثم يضعها في الأرض, ثم يضعها في مكان الألم ويقول: ( باسم الله! تربة أرضنا, بريقة بعضنا, يشفى سقيمنا, بإذن ربنا ).
النقطة الثالثة: أنواع الرقى: ما هي الرقية؟ وما أنواعها؟
الرقية: واحدة الرقى، واسم الفاعل منها رقى، أو راق. قال ابن الأثير رحمه الله: الرقية العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات؛ ومنه قول الله عز وجل: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27]، يطلبون لهذا المحتضر راق، يطلبون الطبيب: وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:28-29]، وكما قيل:
إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع مكروهٍ أتى
وأذكر الكلام؛ لأنه قبل أيام مات أحد الطيبين، يقول أخوه: إن فلاناً هذا ساعة أذان العشاء مال برأسه، قال: فاستدعينا فلاناً الطبيب، فجاء وبدأ يدلك قلبه أو ما يسمونه بالمساج، يقول: ولربما لو كان جاء قبلها بفترة معقولة لأمكن أن يدرك شيئاً. قلت له: لا والله لا يستطيع، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وإلا فالطبيب لو كان يدفع لدفع عن نفسه، وهو نفسه أحياناً يكون في غرفة العمليات فيخر ميتاً:
إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع مكروهٍ أتى
مات المداوي والمداوى والذي جلب الدواء أو باعه ومن اشترى
كلهم ماتوا أليس كذلك؟ نعم.
فنبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث في كفيه ويمسح على موضع الألم، فلما اشتد وجعه عليه الصلاة والسلام في مرض موته كانت أمنا عائشة رضي الله عنها وجزاها خيراً، تقرأ على الرسول عليه الصلاة والسلام وتنفث، ثم تمسح بيدي نفسه رجاء بركتهما فما كانت تمسح بيدها هي، وإنما تنفث في يدي النبي صلى الله عليه وسلم وتمسح بهما؛ من أجل أن تجتمع بركة القرآن وبركة الرسول عليه الصلاة والسلام.
هذه هي الرقى الشرعية التي فيها القرآن، وفيها الأدعية التي ذكرت لكم بعضها.
أما الرقى الشركية: فهي الرقى التي يستغاث فيها بغير الله، ويستعان فيها بأحد سواه، كالرقى بأسماء الجن والملائكة والأنبياء والصالحين ونحو ذلك.
قال الإمام البغوي رحمه الله: المنهي عنه من الرقى ما كان فيه شرك، أو كان يذكر فيه مردة الشياطين، أو كان فيها بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو، ولعله يدخله سحر أو كفر.
هذا الأشياء التي فيها الطلاسم والألغاز والأرقام وما لا يعرف معناه، لا يجوز لك أن تمكن أحداً من أن يفعل ذلك بك لا لفظاً ولا كتابة، فلا يأتك شخص ويقول لك: تعال أقرأ عليك, ثم يبدأ ينادي: حتشبسوت وتوت عنخ أمون وهمرشوش وكذا، فتقول له: ما هذا؟ فيقول لك: أناس صالحون أنا أعرفهم.
من أين هم صالحون؟ وسواء كانوا صالحين أم طالحين، لم تناديهم؟
( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله )، فالذي أنزل المرض هو الله، والذي ينزل الشفاء هو الله، وهؤلاء جميعاً مرضوا وماتوا، صالحين أو غير صالحين، الموت والمرض ما سلم منه أحد.
النقطة الرابعة: يشرع طلب الرقية ممن يرجى خيره: فلو أني مصاب بمرض لا قدر الله، وآنس صلاحاً واستقامة وفضلاً في فلان من الناس، أقول له: يا فلان! ارقني، فلا مانع من هذا.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله, حين شرح حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ( قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يسترقون -أي: لا يطلبون الرقية- ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون )، فقال مدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون؛ أي: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، والرقية من جنس الدعاء، فلا يطلبون من أحد ذلك، فلا يطلبون من أحد رقيه، وقد روي فيه، وقوله: (روي) يشير إلى شذوذ هذه الرواية فهي من جنس الضعيف، وقد روي فيه: ( ولا يرقون )، وهو غلط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يرقي عليه الصلاة والسلام.
وقال ابن تيمية في موضع آخر: وإن كان الاسترقاء جائزاً، أي: طلب الرقية جائز، والأولى أن يرقي الإنسان نفسه، فلو أن شخصاً ما يعاني من مرض عضوي أو روحي فخير له أن يرقي نفسه؛ لم؟ لأنه لا أحد سيخلص له إخلاصه لنفسه.
فحين يقرأ فإنه يريد الشفاء الآن الآن، الساعة الساعة، ولو كان مرضاً يسيراً كصداع مثلاً أو حمى، الإنسان يريد الشفاء العاجل، ولذلك يخلص لنفسه في الرقية، يخلص لنفسه في الدعاء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه بنفسه، كما ثبت في ذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة.
النقطة الخامسة: بعض المسائل المتعلقة بالرقية:
المسألة الأولى: لا شك أن التصدي لعلاج المس والسحر والعين من القرب العظيمة التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )، فالمسلم الذي يستطيع أن يقدم نفعاً لأخيه المسلم لا ينبغي له أن يتأخر، كما أن في علاجك لأخيك تنفيساً لكربته، ( ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )، كما أن فيه إعانة له، ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )، وهذا بشروط وهي:
الشرط الأول: ألا تفوت من المصالح ما هو أعظم؛ لأن بعض الرقاة طالب علم وله قدرة على تعليم الناس، لكنه يبدأ في الرقية ثم عما قليل نجده قد انقطع عن التدريس والتعليم وطلب العلم لنفسه، وعلق على بابه بأن هذه عيادة قرآنية للعلاج من كذا وكذا وكذا, وعندنا أعشاب وعسل نحل أصلي، والحبة السوداء وهي شفاء من كل داء، والجلسة الخاصة بمائتين, والجلسة العامة بكذا وكذا هذا.
فيترك النفع والمصلحة العظيمة التي كانت متحققة من ورائه، وإذا هي قد ذهبت، نقول: لا بأس أن يمارس هذا العمل بشرط ألا يفوت مصلحة أعظم.
الشرط الثاني: ألا يتخذ الرقية مهنة يعتمد عليها في الاستكثار من المال، فلا يتحول إلى جزار يجلب أموال المسلمين والمسلمات، ويضع مبالغ باهظة لا يضعها كبار الأطباء الذين أفنوا أعمارهم بين الدماء والجلود، ودرسوا سنين عدداً، ثم تخصصوا سنين عدداً، وهذا الإنسان يأتي فيضع أسعاراً أكثر من أسعار الأطباء, مع ما في ذلك من الدعاية السيئة لأهل القرآن وأهل الدين بأنهم ناس لا رحمة في قلوبهم ولا شفقة.
روى مسلم في صحيحه من حيث جابر قال: ( لدغت رجلاً عقرب، ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله! أرقي )، قوله: (أرقي) يعني: يستأذن من النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ).
الشرط الثالث: أن يكون صحيح المعتقد مستقيماً على شرع الله، يكون صحيح المعتقد هو في نفسه ما يكون له مع الجن علاقات، وأن يكون مستقيماً على أمر الله، فلا يخلو بالنساء، وأول خطوة من الخطوات في العلاج يمسك بيد المرأة، ويخلع ما في يديها من الختم والفتخات، وما في أذنيها من الحلوق والأقراط؛ بحجة أنها تتأذي منها فيما بعد، وهذا خلل في استقامة الراقي، وإلا لماذا لا يتركها تقلعها هي خارج العيادة قبل أن تأتيه، يا أخي أنت تقلع لها لماذا؟ هل عندك أشعة أو أنت محضر عمليات؟
يعني: لو أنه قال لها: اخلعي هذا الحديد أو هذه المجوهرات التي في يدك أكان يعجزها ذلك؟ فهناك تجاوز يحصل.
الشرط الرابع: أن يكون خبيراً بالتعامل مع ما قد يظهر أمامه من أثر السحر أو الجن، ولا بد أن يكون متقيداً بشروط الرقية الشرعية.
الشرط الأول: العلم والبصيرة، لئلا يلتبس عليه الحق بالباطل، وبإمكانه أن ينظر فيما دونه أهل العلم من مسائل هذا الباب؛ لئلا يخبط خبط عشواء، ويكون ضرره أكبر من نفعه.
وهذا ما هو حاصل عند كثير من الرقاة الآن، ليس عنده علم ولا عنده بصيرة، حتى القرآن يقرؤه خطأ، وكثير من الناس ممن لم يجد عملاً وفشل في الدراسة، وبعد ذلك ما وجد مهنة تدر عليه مالاً، يتخذ هذا الطريق القصير، ويقول: أنا معالج بالقرآن ويخبط خبط عشواء.
حتى بلغ من جهل الكثيرين بأن يضع مسجلاً, ثم يبدأ يعالج المرأة مثلاً، وبعد ذلك تتكلم المرأة، فيقول لها، وكأنه يخاطب الجنية التي فيها بزعمه: من أنت؟ تقول له: أنا همرشوش، من أين جئت؟ جئت من الهند، وكيف دخلت؟ دخلت بسحر، ومن الذي فعل هذا السحر؟ فعلته رقية، من رقية؟ فتقول له: خالتها.
ويبدأ يقرأ ويقرأ وبعد أن تنتهي الجلسة يقول لها: هاك هذا الشريط، فتذهب المسكينة إلى البيت، وتبدأ تسمع نفسها وهي تصرخ وكذا، وأنه يقول لها: جئت كيف؟ جئت بسحر، ومن الذي أتى بك؟ أتت بي رقية، من رقية؟ خالتها، أوه، فهذه ليست رقية، أعوذ بالله.
فتبدأ تدعو عليها، وأول ما تراها تقول لها فتشاجرها.
سبحان الله! هل بلغت بنا خفة العقول أن نصدق الجن، ألم نقرأ قول الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، ألم نقرأ قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [المائدة:91]، هذه حيلة من حيل إبليس يستعين فيها بمثل هذا الجاهل.
الشرط الثاني: الإخلاص وابتغاء وجه الله عز وجل بهذا العمل، لئلا يصاب بالغرور، فبعضهم أصيب بالغرور، يقول لك: والله أنا أخبرتني الجن بأن الجن في أنحاء الأرض كلها يخافون مني.
فأقول لمثل هذا حتى لو كان هذا حاصل لم تقوله؟ وما أدراك بأن الجني الذي أخبرك صادق في هذا الكلام، إنما هو يريد أن ينفخك, وأن يصيبك بالكبر والغرور، وأن تظن بنفسك الظنون، ولو عقلت لصدقت قول ربنا: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
أنت ضعيف ولا شك في ضعفك، ولن تبلغ حال عمر , وإلا لو كان الجن كلهم يخافون منك، فمعناه أنت عمر قاعد بيننا، عمر بن الخطاب الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره)، وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام لـعثمان ولا لـعلي وإنما خص به عمر رضي الله عنه فهي مزية.
فهذا الذي يصدق الجن في أن الجن في الأرض كلها يخافون منه، صار مثل عمر ، ونحن لا ندري.
الشرط الثالث: مراعاة الحدود والضوابط الشرعية خاصة في علاج النساء، فلا يجوز الخلوة بالأجنبية، ولا يجوز مس جسدها.
قال ابن القيم رحمه الله: لا بد للمعالج أن يكون قوي النفس، صادق التوجه إلى فاطر الأرواح وباريها، وأن يكون تعوذه مما تواطأ عليه القلب واللسان.
المسألة الثانية: كيف نعالج بالقرآن؟
العلاج بهذه الكيفية: أن تقرأ الآيات القرآنية على موضع المرض، أو في اليدين ثم تمسح بهما على موضع المرض، فمثلاً: لو أن الطفل عنده التهاب في أذنه، فإنني أقترب من أذنه وأقرأ القرآن، أو كان يضيق صدره بهذا، وهو لا يطيق، فيمكن أن أقرأ وأنفث في يدي ثم أمسح على أذنه برفق.
وإذا كان المرض عاماً في الجسم، كحمى مثلاً فإنني اقرأ وأمسح على الجسم كله، لما رواه البخاري في صحيحه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه تفل في كفيه، وقرأ: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))، والمعوذتين، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يده من جسده )، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) والفلق والناس وينفث في يده، ثم يمسح وجهه وما بلغت يده من جسده عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح مسلم : ( أن عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثاً, وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ) .
فإذا كان عندك وجع في يدك مثلاً رطوبة، فضع يدك في موضع الألم ثم قل: باسم الله، باسم الله، باسم الله، ثلاثاً ثم قل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
المسألة الثالثة: لا حرج على الراقي أن يخاطب الجني ويسأله عن اسمه أو غيره مما له فيه غرض صحيح، فنحن نعتقد بأن للجني قدرة على الدخول في بدن الإنسان؛ لأن الجني جوهر لطيف، والإنسان جوهر كثيف، ولا مانع أن يتخلل اللطيف الكثيف، فالجني يمكن أن يدخل في بدن الإنسان.
فلو أن الراقي خاطب الجني، وسأله عن اسمه مثلاً وغير ذلك من أمور تتعلق بالعلاج، والدليل على ذلك: حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، وهو في سنن ابن ماجه قال: ( لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )، صحابي خرج من الطائف وذهب إلى المدينة, ( فقال: ابن أبي العاص ؟ قلت: نعم, يا رسول الله! قال: ما جاء بك؟ قلت: يا رسول الله! عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري كم صليت، فقال: ذاك شيطان، ادنه قال: فدنوت منه، فجلس على صدور قدمي عليه الصلاة والسلام قال: فضرب صدري بيده، وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك )، ارجع إلى عملك. قال عثمان : ( فلعمري ما أحسبه خالطني بعد )، أي: لم يأتني مرة أخرى.
وكذلك حديث يعلي بن مرة الثقفي في شأن العجائب الثلاث، ومن بينها أمر الولد الممسوس، وقد أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده و الطبراني و الدارمي وغيرهم بأسانيد وطرق لا تخلو من مقال.
وخلاصة الرواية: بأن المرأة أتت بطفلها إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالت: ( يا رسول الله! إن ابني هذا قد أصابه مس, فيفسد علينا طعامنا )، أي: لا نضع الطعام حتى يأتي بالتراب، ويأتي بكذا ويخلطه مع الطعام، فالنبي صلى الله عليه وسلم أجلس الغلام وكان على دابته عليه الصلاة والسلام، قال: ( ارفعيه، فرفعت إليه الغلام, فضرب صلى الله عليه وسلم على ظهره، قال: اخرج عدو الله أنا رسول الله، اخرج عدو الله أنا رسول الله، اخرج عدو الله أنا رسول الله، قال: فثع الغلام ثعة -يعني: طرش- فخرج منه شيء يسعى كالجرو الأسود، فما كان أحد يفضله عقلاً )، فشفي الولد وصار شخصاً صحيحاً لا سقم فيه.
وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني عليه رحمة الله في السلسلة.
المسألة الرابعة: جرت عادة بعض الرقاة بأنهم يقومون بتشغيل شريط مسجل فيه تلاوة الرقية، وما يليها من أدعية مأثورة، وقد أفتت اللجنة الدائمة في السعودية بأن هذا لا يغني عن الرقية، نعم فيه بركة لكنه لا يغني عن الرقية؛ لأن الرقية عمل يحتاج إلى اعتقاد ونية حال أدائها مع مباشرة النفث على المريض، لأن البركة في القرآن وفي ريق هذا الإنسان الذي يباشر الرقية، والجهاز لا تتأتى منه نية، ولا يتأتى منه اعتقاد، ولا يتأتى منه نفث، فتشغيل القرآن في الشريط لا يغني عن الرقية.
المسألة الخامسة: حبذا لو أن بعض النساء الصالحات تعلمن الرقية الشرعية رجاء نفع أخواتهن، ومنعاً لمفاسد أخلاقية عظيمة تحصل من جراء خلوة بعض من لا خلاق له بالنساء، ومباشرة ما لا يحل له أن يباشره معهن من لمس أجسادهن ومباشرة صدرها وعنقها ونحو ذلك.
المسألة السادسة: قد يعمد بعض الرقاة إلى طرق غير واردة في السنة، فبعضم قد يباشرون الرقية ولا يتقيدون بالطريقة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً: بعض الرقاة صار يأتي بالتناكر الخاص بالماء، أو بالصهريج الكبير فيقرأ ويوزع، ولربما باع بالجملة، بدل أن يبيع بالقطاعي فإنه يبيع بالجملة، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والغالب أن الرقية بهذه الطريقة لا تنفع، والوارد عن سلفنا رضوان الله عليهم بأنهم كانوا يقرءون على الناس فرادى، كما فعل الإمام أحمد رحمه الله مع ولده، وذكر ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية بأن الإمام أحمد كان يؤتى له بالكوز في المسجد فيقرأ عليه ويعوذ.
أيضاً من الطرق العجيبة الآن الرقية عن طريق الهاتف، واستخدام التكنولوجيا لا مانع فيها، أو عن طريق مكبرات الصوت، وهذا كله الغرض منه أن يقرأ على أكبر قدر من الناس في وقت يسير، ويحتال على أخذ أموالهم.
ومما شاع في بلادنا قضية إحراق الأوراق التي كتب فيها القرآن مما يسمى بالبخرات, والبخرات ورق كتب فيه قرآن، ثم بعد ذلك يحرق ويستنشق دخانه في أوقات معينة، وما فعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضوان الله عليهم.
وإنما الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق، أنه يضع يده على موضع الألم ويقرأ وينفث، أو ينفث في يديه ويمسح، فـ أبو سعيد رضي الله عنه لما رقى الرجل اللديغ كان يقرأ وينفث الفاتحة فقط، فقام الرجل وما به قلبة، كأنما نشط من عقال، مع أنه كان قد لدغته عقرب.
وكذلك نص أهل العلم على جواز القراءة في الماء، كأن تقرأ في ماء ثم يسقاه المريض، فإذا الواحد منا مريضاً فيمكن أن يقرأ لنفسه في ماء ويشرب, فيبرأ بإذن الله.
كذلك مما كان يفعله ابن عباس أنه إذا جيء له بامرأة قد تعسرت ولادتها فإنه يأخذ صحناً نظيفاً ويكتب فيه من القرآن: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35]، ويأمر بشرب هذه الغسالة فتتيسر الولادة بإذن الله.
أما إحراق القرآن أو ما فيه ذكر الله عز وجل فلا يشرع إلا لحفظه من الامتهان، كأن يكون عندي مصحف قد اهترأت أوراقه وتمزقت، وما عاد يصلح أن يجمع ففي هذه الحالة أنا مضطر لإحراقه لئلا يمتهن، أما أن يحرق استشفاء وتبخراً، فهذا مما ينبغي البعد عنه لكونه لم يرد عن السلف رضوان الله عليهم أجمعين.
المسألة السابعة: ممارسات خاطئة عند الرقاة، من هذه الممارسات:
أولاً: عدم محاورة الراقي للمريض، وعدم استماعه لشكواه فترة كافية، بل يشرع مباشرة في الرقية والتشخيص والعلاج، فبمجرد ما دخل عليه يقعد له ويقول له: أنت فيك سحر، فيقول له: كيف؟ يقول له: شفت الكرمشة التي هنا، وكلنا مكرمشون، والحمد لله رب العالمين.
وعلى هذا لو كانت الكرمشة دليل سحر فنحن جميعاً مسحورون خاصة كبار السن؛ لأنه لم يسلم إلا الأطفال الذين ما زالت خلاياهم نامية، أما من وقف نموه فإنه يتكرمش؛ لأنه بعد هذا هو ذاهب في النقصان والأفول، فبعض الرقاة لا يستمع بل يشرع مباشرة في التشخيص والعلاج، ولربما يكون علاجه بالضرب، وهذا يفعله بعضهم، حتى إن الضرب أحياناً ربما يمرض وربما يقتل، وبعض الناس مات تحت تأثير هذا الضرب.
لأنه قد يكون الأمر أحياناً مشكلة اجتماعية، وليس لها علاقة بجن ولا بسحر ولا بعين، بل عنده مشكلة اجتماعية تشاجر مع أبيه مع أخيه مع كذا، وليس احتمال الناس سواء، وعلى إثره صار منقبضاً منطوياً على نفسه، فأهله يظنون أنه مسحور، أو أنه معيون، أنه ممسوس، وهو ليس في شيء من ذلك.
أذكر مرة من المرات ذهبت مع شيخ كبير، -أي: رجل طاعن في السن- إلى أحد هؤلاء الرقاة، وبدأ يقرأ عليه ثم بدأ يضربه، والرجل عمره لعله في السبعين، فيضربه ويضربه، والرجل يقول له: لا فائدة، لا فائدة، فيقول له: أيضاً تقول: لا فائدة، والراقي يظن بأن الجني هو الذي يتكلم، ويضرب ويصفع الرجل، وكان الرجل أبيض اللون فخرج -والله العظيم- يكاد الدم يطفح من جسده، والرجل -ما شاء الله- يده كانت طيبة مباركة، كأنها تزن اثنين كيلو.
ولما خرجنا قال لي الشيخ الكبير: والله هذا الرجل كاد يقتلني. وهذا الكلام كله قال لي: أنا ما غبت ولا لحظة، قال لي: أنا أقول له: لا فائدة، وهو يقول لي: أيضاً تقول: لا فائدة، ويزيد قال: حتى كدت أقول له: في فائدة، فمثل هذا, نسأل الله السلامة والعافية.
ثانياً: القراءة على مجموعة من الناس في وقت واحد رغبة في توفير الزمن، ومن تأثر بالقراءة شرع في علاجه ضرباً وخنقاً، ومن لم يتأثر بالقراءة أمر بصرفه.
يقول الأخ الكريم الدكتور طارق الحبيب حفظه الله: ومن المعلوم أن ذوي الشخصيات القابلة للإيحاء من النساء يتأثرون بهذه المواقف، ولا يتمالكون أعصابهم، رغم أنهم لا يعانون من أية علة.
فبعض النساء بمجرد ما تقرأ قرآناً تبدأ ترتجف، وليس عندها لا مس ولا سحر ولا عين ولا كذا، لكن شخصيتها ضعيفة، وهي مستعدة لقبول التهمة بأنها ممسوسة أو مسحورة أو معيونة.
ثالثاً: ترديد بعضهم لمقولات ابن القيم عن جهلة الأطباء، حتى جعلوا الأطباء كلهم جهالاً وزنادقة، وأنهم ضد الدين والقرآن، فـابن القيم رحمه الله يذكر عن بعض الأطباء الذين أنكروا العين، قال فيهم: وهؤلاء من أكثف الناس طباعاً، وأخفهم عقولاً، وأقلهم علماً، وكذا وكذا.
فبعض الرقاة يأخذ هذا الكلام من أجل أن يسحب البساط من تحت الأطباء، فيقول لك: الأطباء هؤلاء أجهل الناس، والأطباء كذا، من أجل أن ينفر الناس من طرق عياداتهم، ومن أجل أن يتحولوا إليه.
ونحن نعلم أن أصحاب كل مهنة فيهم الطيب والخبيث، وفيهم الجيد والرديء، وفيهم المخلص وفيهم الدجال الأفاك، ولذلك لا ينبغي أن يتخذ كلام الأئمة تكئة للتنفير.
رابعاً: جرأة بعضهم على تفسير الأمراض العضوية ومسبباتها دون أن يكون عنده رصيد من العلم، فلكل علم رجاله، فما يمكن أنت الذي لم تدرس شيئاً، ولربما بعضهم ما جاوز مرحلة الأساس، ويبدأ يصف ويعالج، حتى إن بعض الدكاترة قال: حضرت أحد هؤلاء الرقاة فيقول له: إن الجني كامن في غدد البطن، ليس في البطن، وإنما في غدد البطن، ولست أدري البطن فيها غدد أم لا؟! فهذه مشكلة.
خامساً: تعليل بعضهم لأسباب أغلب الأمراض بأنها من الجن أو السحر أو العين، مع تهوين شأن الأمراض الأخرى نفسية كانت أو عضوية، حتى إن بعضهم يشترط على من يرقيه ألا يتناول عقاقير طبية، يقول له: أول شيء توقف الدواء، وربما إنسان يكون عنده ضغط دم، أو عنده سكري، أو عنده كذا، لو أوقف الدواء سيموت.
فيقول له: أول شيء أوقف الدواء، يقول له: يا أخي! عندي ضغط. فيقول له: يا أخي: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [الإسراء:82]، فقط أمسك في الشفاء، أنت ليس عندك عقيدة مخلصة. فيقول له: بلى والله عندي. فيقول له: أوقف الدواء إذاً، هذه الساعة تذهب لترميه, فلا شك أن هذه جرأة غير محمودة وما تنبغي.
وبعضهم يزعم بأن الدواء ينشف الدماغ ويجمد الجن في العروق، وبعد ذلك يقعد في العروق، وبعد ذلك لا يذوب، وهذه جرأة بغير علم.
سادساً: بعضهم وقع والعياذ بالله في الدجل والشعوذة، بدأ يعالج بالقرآن ثم بعد ذلك جره هذا إلى الدخول في الدجل والشعوذة، إما بنية خدمة الناس أو لشيء في نفسه.
سابعاً: إغراق بعضهم في تقرير خبرته الشخصية، ويعمل دعاية لنفسه، لدرجة أن بعضهم يقول: الجن كلهم يخافون مني.
تاسعاً: استخفاف بعضهم بعقول بعض الناس، كقول بعض الدجاجلة: إن الجني رفض أن يخرج إلا بأن تدفعوا كذا وكذا من المال، وآخر يطلب من مراجعيه عمل تخطيط للدماغ وإتيانه به، وكأنه صار أخصائياً! فيقول له: اذهب واعمل تخطيطاً للدماغ وأتني به لكي يشخص الحالة، وهو لا يعرف ألف باء الطب.
ثم استغلال بعضهم لإيمان الناس بالغيبيات لتقرير الغرائب والأساطير.
فخلاصة الكلام بأن القرآن شفاء، وأنه ينبغي لنا أن نقوي صلتنا بالقرآن، وأن نعود أنفسنا الرقية بأن نرقي أنفسنا بأنفسنا، وكذلك نرقي الأطفال الصغار الذين هم عرضة للإصابة بالعين والإصابة بالأمراض، ثم نستعين بالدعاء.
ونسأل الله عز وجل أن يشفي كل مريض, وأن يعافي كل مبتلى، وأن يصرف عنا شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر