وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فهذه الجولة في السلسلة المباركة (من أعلام السلف) مع إمام من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، وكلهم فاضل كريم، وإنما تأخرت في إنجاز ترجمته لأمور:
أولها: أن الأمور تجري بالمقادير، والذي يملك مفاتيح خزائن السماوات والأرض هو الذي يملك قلوب العباد.
ثانيها: همة البحث والتوفيق بيد الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته وأن يعرضنا لأسباب رحمته وجنته.
ثالثها: أن هذا الإمام تباينت أقوال الناس فيه تبايناً بالغاً، فمن معظم له أشد التعظيم، فمقدم له على جميع العلماء، وهم متعصبة الأحناف، وفي مقابلهم من انتقصه وطعن في حفظه وفضله.
وقد ساق الخطيب رحمه الله في ترجمته أقوال الفريقين، إلا أن أسانيد من طعن فيه الغالب عليها الضعف الشديد، وبعد تتبع سيرته، وانتقاء أبعد الروايات عن الغلو اتضحت لنا بفضل الله عز وجل الأمور، وظهر ما أخبر به الخريبي: لا يقع في أبي حنيفة إلا جاهل أو حاسد.
وإذا كان الأصل في المسلم حسن الظن، فكيف بمن شهد له علماء عصره الأثبات بالعدالة والفقه والشرف والفضل؟!
وكيف بمن امتلأت قلوب المسلمين بمحبته، وشغلت الألسن بالثناء عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن)؟!
فالإمام أبو حنيفة تباينت فيه أقوال الناس، فبعض الناس يرفعه فوق كل الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، وبعضهم يطعن فيه، ومع تتبع الأخبار وجد أن الذين مدحوا هذا الإمام هم الذين معهم الحق، وكما سنرى في خاتمته وفي ترجمته كيف أنه إمام عظيم من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة لهم فضل وشرف، ونظن أن لهم نية حسنة؛ لأن المذاهب كانت كثيرة جداً، والعلماء كانوا كثيرين، فقد يوجد في القرية الواحدة ما يزيد على مائة عالم، ولكن الذين بقي علمهم وبقيت مذاهبهم ونقلت أخبارهم هم هؤلاء الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة المتبعة.
قال التاج السبكي : ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وحسن الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحاً عما جرى بينهم؛ فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك، ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين ويقضي لبعضهم على بعض، فإياك ثم إياك أن تصغى إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري ، أو بين مالك وابن أبي ذئب ، أو بين أحمد بن صالح والنسائي أو بين أحمد والحارث بن أسد المحاسبي.
ففي كل زمن هناك شيء من تغاير العلم، ومن طبيعة البشر بين بعض العلماء، ولكنهم نسور في الفضاء ونحن أفراخ على الأرض.
وهلم جراً إلى زمن العز بن عبد السلام، والتقي ابن الصلاح ؛ فإنك إذا اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك، فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل، وربما لم تفهم بعضها، فليس لك إلا الترضي عنهم، والسكوت عما جرى بينهم، كما نقول فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. أي: نقول بقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
وعن يحيى بن معين قال: سمعت يحيى القطان يقول: جالسنا والله أبا حنيفة وسمعنا منه، وكنت والله إذا نظرت إليه عرفت في وجهه أنه يتقي الله عز وجل.
ويحيى بن معين ، هو إمام الجرح والتعديل.
وقال سفيان بن عيينة : ما قدم مكة رجل في وقتنا أكثر صلاة من أبي حنيفة .
وروى الخطيب بسنده أبياتاً مدح فيها ابن المبارك مدح فيها أبا حنيفة رحمه الله فقال:
رأيت أبا حنيفة كل يوم يزيد نبالة ويزيد خيراً
وينطق بالصواب ويصطفيه إذا ما قال أهل الجور جوراً
يقايس ما يقايسه بلب فمن ذا يجعلون له نظيراً
كفانا فقد حماد وكانت مصيبتنا به أمراً كبيراً
وهو حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة .
فرد شماتة الأعداء عنا وأبدى بعده علماً كثيراً
رأيت أبا حنيفة حين يؤتى ويطلب علمه بحراً غزيراً
إذا ما المشكلات تدافعتها رجال العلم كان بها بصيراً
فهذا من مدح عبد الله بن المبارك إمام المسلمين لـأبي حنيفة رحمه الله.
وبعد! فلسنا مع متعصبة الأحناف الذي يرفعون الإمام أبي حنيفة فوق جميع علماء الأمة، أو الذين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به، وأنه لقي جمعاً من الصحابة وروى عنهم، كما أننا كذلك لسنا مع الذين يطعنون فيه ويجرحونه وينسبونه إلى الأخطاء الشنيعة ظلماً وبهتاناً، بل نعتقد أنه إمام من أئمة المسلمين، طيب السيرة والسريرة، سارت بعلومه الركبان، وانتشر علمه في سائر البلدان، ونشهد الله عز وجل على حبنا له، وهو من أئمة الاجتهاد مأجور على كل حال، إما أجراً كاملاً إن كان مصيباً، وإما أجراً ناقصاً إن أخطأ، وهو معذور إن أخطأ، والأئمة الأربعة الكرام لهم من المنزلة الخاصة في قلوب المسلمين لانتفاع الناس بعلومهم، ولعل لهم من سريرة الخير ما رفع الله به منارهم، وأبقى على مر الزمان ذكرهم، فنسأل الله عز وجل أن يميتنا على حبهم، وأن يحشرنا في جمعهم يوم يحشر المرء مع من أحب.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.
اسمه: النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي مولى بني تيم بن ثعلبة، وقيل: سبب تكنيته بـأبي حنيفة ملازمته للدواة المسماة حنيفة بلغة العراق ولاجتهاده في طلب العلم، فـأبو حنيفة كنية وليست اسماً.
مولده: ولد سنة (80) بالكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان ، في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد من الصحابة.
فـأبو حنيفة يعتبر من صغار التابعين، وهو في طبقة الأعمش ، ولذلك يقول أبو حنيفة : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإن جاء عن الصحابة فعلى العين والرأس، وإن جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال.
صفته: قال أبو يوسف رحمه الله: كان ربعة -يعني: ليس طويلاً ولا قصيراً- من أحسن الناس صورة، وأبلغهم نطقاً، وأكملهم إيراداً، وأحلاهم نغمة، وأبينهم حجة على من يريد.
وقال حماد ولده : كان طويلاً -يعني: يميل إلى الطول أكثر منه إلى القصر- يعلوه سمرة، جميلاً حسن الوجه، هيوباً لا يتكلم إلا جواباً، ولا يخوض فيما لا يعنيه.
وقال أحمد بن حجر الهيتمي : ولا تنافي بين كونه ربعة وبين كونه طويلاً؛ لأنه قد يكون مع كونه ربعة أقرب إلى الطول.
وقال ابن المبارك : كان حسن الوجه، حسن الثياب.
وكان تاجراً فهو كثير المال.
وقال عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة : رأيت أبا حنيفة شيخاً يفتي الناس بمسجد الكوفة على رأسه قلنسوة سوداء طويلة.
وزاد ابن الصباح : وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه، وإن كان عن الصحابة والتابعين وإلا قاس وأحسن القياس.
وعن أبي بكر بن عياش قال: مات عمر بن سعيد أخو سفيان بن سعيد الثوري فأتينا نعزيه فإذا المجلس غاص بأهله، وفيهم عبد الله بن إدريس إذ أقبل أبو حنيفة في جماعة معه فلما رآه سفيان تحرك من مجلسه ثم قام فاعتنقه وأجلسه في موضعه وقعد بين يديه.
قال أبو بكر : فاغتظت عليه، يعني: كأنه كره أن يفعل سفيان ذلك بـأبي حنيفة .
وقال ابن إدريس : ويحك ألا ترى؟ فجلسنا حتى تفرق الناس، فقلت لـعبد الله بن إدريس : لا تقم حتى نعلم ما عنده في هذا. يعني: أرادوا أن يسألوا سفيان الثوري عما فعله مع أبي حنيفة .
فقلت: يا أبا عبد الله ! رأيتك اليوم فعلت شيئاً أنكرته وأنكره أصحابنا عليك، قال: وما هو؟ قلت: جاءك أبو حنيفة فقمت إليه وأجلسته في مجلسك وصنعت له صنيعاً بليغاً، وهذا عند أصحابنا منكر، فقال: وما أنكرت من ذاك؟ هذا رجل من العلم بمكان، فإن لم أقم لعلمه قمت لسنه، وإن لم أقم لسنه قمت لفقهه، وإن لم أقم لفقهه قمت لورعه، فأحجمني فلم يكن عندي جواب.
فالصراع كان بين مدرسة الرأي مع مدرسة الحديث.
وعن أبي وهب محمد بن مزاحم قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس فـعبد العزيز بن أبي رواد ، وأما أورع الناس فـالفضيل بن عياض ، وأما أعلم الناس فـسفيان الثوري ، وأما أفقه الناس فـأبو حنيفة ، فيقصد بالفقه هنا القدرة على القياس واستنباطه للأحكام، ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله.
وعن يحيى بن معين قال: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ. وبعض الناس ضعفوه في الحديث.
وعن أبي وهب محمد بن مزاحم قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بـأبي حنيفة وسفيان لكنت كسائر الناس.
وعن الشافعي قال: قيل لـمالك : هل رأيت أبا حنيفة ؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته.
وعن قيس بن ربيع قال: كان أبو حنيفة ورعاً تقياً مفضلاً على إخوانه.
وعن شريك قال: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل.
وقال يزيد بن هارون : ما رأيت أحداً أحلم من أبي حنيفة .
وعن أبي معاوية الضرير قال: حب أبي حنيفة من السنة.
وقال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة .
وقال الذهبي : وكان من أذكياء بني آدم، جمع الفقه والعبادة والورع والسخاء، وكان لا يقبل جوائز الدولة.
فهذا كلام العلماء الذين مدحوا أبا حنيفة وأثنوا على علمه وفقهه وورعه وعبادته.
وقال ضرار بن صرد : سئل يزيد بن هارون أيهما أفقه الثوري أو أبو حنيفة ؟ فقال: أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث، فـسفيان الثوري كان واسع العلم جداً بالحديث، فهو أمير المؤمنين في الحديث، أما الذي يستنبط ويقيس فـأبو حنيفة فهو أفقه.
قال في هامش السير: وأما ما يؤثر عن النسائي وابن عدي من تضعيفهم لـأبي حنيفة من جهة حفظه فهو مردود لا يعتد به في جنب توثيق أئمة الجرح والتعديل، من أمثال علي بن المديني ويحيى بن معين وشعبة وإسرائيل بن يونس ويحيى بن آدم وعبد الله بن داود الخريبي والحسن بن صالح وغيرهم، فهؤلاء كلهم معاصرون لـأبي حنيفة أو قريبو العهد به، وهم أعلم الناس به، وأعلم من النسائي وابن عدي. فـالنسائي متأخر عنه فقد مات سنة (303)هـ، وابن عدي متأخر كذلك، فمعاصر الرجل أعلم به كما أن بلدي الرجل -الذي معه في بلده- أعلم به، فيقدم معاصروه وأصحاب بلده على غيرهم.
يقول: وهم أعلم الناس به وأعلم من النسائي وابن عدي وأمثالهما من المتأخرين عن أبي حنيفة بكثير كـالدارقطني الذي ولد بعد (200) سنة من وفاة أبي حنيفة وأبو حنيفة مات سنة ( 150) هـ، وهي نفس السنة التي ولد فيها الإمام الشافعي .
فقول هؤلاء الأئمة الأقرب والأعلم أحرى بالقبول، وقول المتأخرين زماناً أجدر بالرمي في حضيض الخمول، وقد نقل الشيخ ابن حجر المكي في الخيرات الحسان قول شعبة بن الحجاج في أبي حنيفة : كان والله حسن الفهم، جيد الحفظ. وهذا نص صريح في قوة حفظه، صادر عمن هو مشهود له بالإمامة وبالتدين والتشدد في نقد الرجال. قيل للإمام شعبة: لا تحدثنا إلا عن ثقة؟ فقال: قوموا، فكأنه ما وجد ثقة يحدث عنه.
وقال مرة: إن لم أحدثكم إلا عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثة. فالإمام شعبة أثنى على حفظ أبي حنيفة وقال: حسن الفهم، جيد الحفظ.
يقول: وبهذا القول الرشيد يسقط كل ما ادعاه المتعصبون والحاقدون من متقدم ومتأخر من ضعف هذا الإمام العظيم.
وقال السبكي : ضرورة نافعة لا تراها في شيء من كتب الأصول، فإنك إذا سمعت أن الجرح مقدم على التعديل، ورأيت الجرح والتعديل وكنت غراً بالأمور أو فدماً مقتصراً على منقول الأصول -يعني: جاهلاً أو قليل العلم أو ضعيف العقل- حسبت أن العمل على جرحه. يعني: الإمام أبو حنيفة فإن بعض العلماء يزكونه والبعض الآخر وقع فيه، فنقول: الجرح مقدم على التعديل فيكون هذا الإمام مجروحاً بحسب هذا الفهم.
يقول: فإياك، والحذر كل الحذر من هذا الحسبان، بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب، وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون.
حتى الإمام البخاري فإن بعض الناس تكلم فيه ونسبه إلى أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فكل إمام تكلم فيه مبغضوه وحاسدوه، فلو فرضنا هذه القاعدة لضعفنا كل أئمة المسلمين.
وعن بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما لم أفعله، فكان يحيي الليل صلاة وتضرعاً ودعاءً.
وعن المثنى بن رجاء قال: جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها.
وقال أبو عاصم النبيل : كان أبو حنيفة يسمى الوتد، لكثرة صلاته.
وعن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبيه أنه صحب أبا حنيفة ستة أشهر قال: فما رأيته صلى الغداة -أي: الصبح- إلا بوضوء عشاء الآخرة، وكان يختم كل ليلة عند السحر.
وعن القاسم بن معن : أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46] ويبكي ويتضرع إلى الفجر.
وقال الفضل بن دكين وكنيته أبو نعيم: رأيت جماعة من التابعين وغيرهم فما رأيت أحسن صلاة من أبي حنيفة ، ولقد كان قبل الدخول في الصلاة يبكي ويدعو.
وقالت أم ولد لـأبي حنيفة ، وأم الولد: أمة وطأها فأنجبت له، فالولد يكون تبعاً لأبيه فيكون سيداً لا عبداً، فلو مات سيدها عتقت، وقد نهي عن بيع أمهات الأولاد.
وقالت أم ولد لـأبي حنيفة : ما توسد فراشاً بليل منذ عرفته، وإنما كان نومه بين الظهر والعصر بالصيف، وأول الليل بمسجده في الشتاء.
وقال ابن أبي رواد : ما رأيت أصبر على الطواف والفتيا بمكة منه، إنما كان كل الليل والنهار في طلب الآخرة والنجاة، ولقد شاهدته عشر ليال فما رأيته نام بالليل ولا هدأ ساعة من نهار من طواف وصلاة أو تعليم.
وعن سفيان بن عيينة قال: ما قدم مكة رجل في وقتنا أكثر صلاة من أبي حنيفة .
وقال مكي بن إبراهيم : جالست الكوفيين فما رأيت أورع من أبي حنيفة .
وعن علي بن حفص البزار قال: كان حفص بن عبد الرحمن شريك أبي حنيفة ، وكان أبو حنيفة يجهز عليه -يعني: يرسل له بثياب وشريكه يبيعها- فبعث إليه رفقة بمتاع -والرفقة هم الأصحاب- وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته فبين، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين، ولم يعلم لمن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.
وعن حفص بن حمزة القرشي قال: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده، حتى يجره إلى مواصلته، وكان أكرم الناس مجالسة.
قال أحمد بن حجر الهيتمي المكي : اعلم أنه يتعين عليك ألا تفهم من أقوال العلماء عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم أصحاب الرأي أن مرادهم بذلك تنقيصهم، ولا نسبتهم إلى أنهم يقدمون رأيهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على قول أصحابه؛ لأنهم براء من ذلك، فقد جاء عن أبي حنيفة من طرق كثيرة ما ملخصه: أنه أولاً يأخذ بما في القرآن، فإن لم يجد فبالسنة، فإن لم يجد فبقول الصحابة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن والسنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم. -يعني: أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين فلا بد أن يكون الحق منحصراً في القولين، لا يكون هناك قول ثالث؛ لأن الحق لا يضيع في الأمة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن أو السنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم.
ثم قال: فإن لم يجد لأحد منهم قولاً لم يأخذ بقول أحد من التابعين، بل يجتهد كما اجتهدوا.
فكان رحمه الله لا يقدم رأيه على القرآن والسنة ولا على كلام الصحابة إذا اتفقوا، وإذا اختلفوا فيتخير من أقوالهم الأقرب إلى الكتاب والسنة، وهو أحد التابعين وإن كان من صغارهم فكان يجتهد ويقول: هم رجال ونحن رجال، لأنه ولد سنة ( 80 ) هـ فهو قريب من عصر النبوة.
وقال الفضيل بن عياض : إن كان في المسألة حديث صحيح تبعه، وإن كان عن الصحابة أو التابعين فكذلك، وإلا قاس فأحسن القياس.
وقال ابن المبارك رواية عنه: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة اخترنا ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.
وعنه أيضاً: عجباً للناس! يقولون: أفتى بالرأي وما أفتى إلا بالأثر.
وعنه أيضاً: ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى، ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع ما أجمع عليه الصحابة، وأما ما اختلفوا فيه فنتخير من أقوالهم أقربه إلى كتاب الله تعالى أو إلى السنة ونجتهد، وما جاوز ذلك فالاجتهاد بالرأي لمن عرف الاختلاف وقاس، وعلى هذا كانوا.
يعني: فلا يجوز القياس مع وجود النص؛ لأن القياس كأكل الميتة للمضطر، فإذا لم يوجد في المسألة نص من الكتاب أو السنة فينظر في إجماع الصحابة، فإن كانت المسألة غير منصوصة فالقياس يلجأ إليه عند الاضطرار، وكل قياس مهما كان حسناً من حيث النظر إذا صح الحديث بخلافه فهو مردود بالقادح من مسمى فساد الاعتبار.
وعن يحيى بن عبد الحميد عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يخرج كل يوم -أو قال: بين الأيام- فيضرب ليدخل في القضاء فأبى، ولقد بكى في بعض الأيام، فلما أطلق قال لي: كان غم والدتي أشد علي من الضرب، فهو يبكي؛ لأنه يعلم أن والدته في غم من أجل أنه يضرب.
وعن بشر بن الوليد قال: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء وحلف ليلين فأبى، وحلف: إني لا أفعل، فقال الربيع الحاجب: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف، فقال: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، فهو أغنى مني يمكن أن يكفر عن يمينه، فأمر به إلى السجن فمات فيه ببغداد.
وقيل: دفعه أبو جعفر إلى صاحب شرطته حميد الطوسي فقال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يدفع إلي الرجل فيقول لي: اقتله أو اقطعه -يعني: اقطع يده- أو اضربه ولا أعلم بقصته فماذا أفعل؟ فقال: هل يأمرك أمير المؤمنين بأمر قد وجب أو بأمر لم يجب؟ قال: بل بما قد وجب، قال: فبادر إلى الواجب.
وعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: لا أصلح، قال: كذبت، قال: قد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح إن كنت كاذباً، فإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح، فحبسه.
وروى نحوها إسماعيل بن أويس عن الربيع الحاجب وفيها قال أبو حنيفة : والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب فلا أصلح لذلك؟ قال المنصور : كذبت بل تصلح، فقال: كيف يحل أن تولي من يكذب؟
وقيل: إن أبا حنيفة ولي القضاء، فقضى قضية واحدة، وبقي يومين ثم اشتكى ستة أيام وتوفي.
وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري : لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات بالسجن.
وقيل: سقي السم كما سيأتي.
تلامذته: قال الحافظ : وعنه ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان وحمزة بن حبيب الزيات وزفر بن الهذيل وأبو يوسف القاضي وأبو يحيى الحماني وعيسى بن يونس ووكيع ويزيد بن زريع وأسد بن عمرو البجلي .. وغيرهم.
وقال علي بن عاصم : لو وزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم.
وقال حفص بن غياث : كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل.
وروي عن الأعمش أنه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت وأظنه بورك له في عمله.
لعله في علمه، وهذه أيضاً شهادة من الأعمش وهو من الأئمة كما مر في الترجمة السابقة.
وقال جرير : قال لي المغيرة : جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حياً لجالسه.
وقال ابن المبارك : أبو حنيفة أفقه الناس.
وقال الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة .
وقال الذهبي : الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.
وقال الهيثمي : روى جماعة أنه رفع إليه قدح فيه سم ليشرب فامتنع، وقال: إني لأعلم ما فيه، ولا أعين على قتل نفسي، فطرح ثم صب في فيه قهراً فمات.
وقيل: إن ذلك كان بحضرة المنصور ، وصح أنه لما أحس بالموت سجد وخرجت نفسه وهو ساجد.
وقيل: الامتناع عن القضاء لا يوجب للمنصور أن يقتله هذه القتلة الشنيعة، وإنما السبب في ذلك أن بعض أعداء أبي حنيفة دس إلى المنصور أن أبا حنيفة هو الذي أثار عليه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم الخارج عليه بالبصرة، فخاف خوفاً شديداً ولم يقر له قرار، وأنه قواه بمال كثير، فخشي المنصور من ميله إلى إبراهيم ؛ لأنه -أعني: أبا حنيفة - كان وجيهاً ذا مال واسع التجارة، فطلبه لبغداد ولم يجسر على قتله بغير سبب، فطلب منه القضاء مع علمه بأنه لا يقبله ليتوصل بذلك إلى قتله.
واتفقوا على أنه رحمه الله مات سنة ( 150 ) عن (70) سنة.
قال كثيرون: وكان موته في رجب، وقيل: شعبان، وقيل: نصف شوال، ولم يخلف غير ولده حماد فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر