[ باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشيء، قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال: (دخلنا على قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت، قال: فكان أبي يقول: قال ابن نفيل وعثمان : ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال سليمان : ولا أعلمه إلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الركعتين بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وبـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]. ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] نبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقِيَ عليه حتى رأى البيت فكبر الله ووحده، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبَّت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة، فصنع على المروة مثلما صنع على الصفا، حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال: إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليَحلل وليجعلها عمرة، فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فقام سراقة بن جعشم رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى ثم قال: دخلت العمرة في الحج، هكذا مرتين: لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد. قال: وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببُدن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر علي رضي الله عنه ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟ قالت: أبي، قال: وكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرشاً على فاطمة رضي الله عنها في الأمر الذي صنعته مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن معي الهدي فلا تحلل. قال: وكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة مائة، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، قال: فلما كان يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه دماؤنا دم قال عثمان : دم ابن ربيعة وقال سليمان : دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وقال بعض هؤلاء: كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل-، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ثم قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم أذن بلال رضي الله عنه، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده اليمنى: السكينة أيها الناس! السكينة أيها الناس! كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، قال عثمان : ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اتفقوا: ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح، قال سليمان : بنداء وإقامة، ثم اتفقوا: ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه، قال عثمان وسليمان : فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلله، زاد عثمان : ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما، وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بالظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على وجه الفضل، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر، وحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى الشق الآخر، وصرف الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، حتى أتى محسراً فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى الذي يخرجك إلى الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، بمثل حصى الخذف، فرمى من بطن الوادي، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنحر فنحر بيده ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله عنه فنحر ما غبر، يقول: ما بقي، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، قال سليمان : ثم ركب، ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت فصلى بمكة الظهر، ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه
قوله: [ باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ]
هذه الترجمة عقدها المصنف رحمه الله وأورد تحتها حديث جابر رضي الله عنه الطويل المشتمل على وصف حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث عظيم مشتمل على صفة الحج من بدايته إلى نهايته، ولهذا أتى أبو داود رحمه الله بهذه الترجمة وأتى بهذا الحديث تحتها، وإلا فإن الأحاديث الكثيرة التي مرت والتي ستأتي هي متعلقة بوصف حجه صلى الله عليه وسلم، وكذلك بيان أقواله في الحج وما يبلغه للناس عليه الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم).
وفي أول هذا الحديث أن محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه جاء هو وجماعة معه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما لزيارته ولسؤاله عن صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على أهمية زيارة أهل العلم، ومن عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله عنه، فإن هؤلاء الجماعة -وفيهم محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه- جاءوا إلى جابر يستفتونه ويسألونه عن حجة النبي عليه الصلاة والسلام.
و جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما جاءوا إليه وهم جماعة سألهم عن أسمائهم، حتى وصل إلى محمد بن علي بن الحسين فقال: أنا محمد بن علي بن الحسين ، فقال: مرحباً، فمد يده إليه ومسح على رأسه، ثم فتح زره الأعلى، ثم الزر الأسفل، ثم أدخل يده وجعلها بين ثدييه، فقال: سل عما شئت، فكان مما سأله عنه صفة حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يدلنا على أن الإنسان عندما يصل إليه أناس، فإنه يسألهم ويتعرف عليهم حتى ينزل الناس منازلهم؛ لأنه بدون المعرفة لا يحصل ذلك؛ ولهذا لما عرف جابر رضي الله عنه محمد بن علي بن الحسين جعل الحديث معه، وخصه بهذا التخصيص الذي حصل منه رضي الله عنه وأرضاه.
والأثر الثاني ذكره البخاري في صحيحه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)، أي: راعوا وصيته في أهل بيته.
أما عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه فقد ذكر البخاري عنه أثراً في صحيحه: (أنه حصل جدب فخرج رضي الله عنه بالناس يستسقي، وطلب من العباس أن يدعو، وتوسل بدعاء العباس ، وقال في دعائه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، قم يا عباس فادع الله).
يعني: أنهم كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم، ولماذا اختار عمر العباس ؟ لقرابته من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه عم النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال: (وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)، ولم يقل: وإنا نتوسل إليك بـالعباس ، مع أن عمر بن الخطاب أفضل من العباس ، فهو في الفضل بعد أبي بكر ، ولكن من أجل قرابة العباس من رسول الله عليه الصلاة والسلام خصه بهذا التقديم وميزه على غيره.
أما الأثر الثاني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قول الله عز وجل: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] في سورة الشورى وهي مكية، قال: إن عمر رضي الله عنه قال للعباس : (إن إسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلامك)، فهو يحب أن يسلم العباس لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلامه.
وقد ذكر ابن كثير عند تفسير هذه الآية هذه الآثار الأربعة كلها عن أبي بكر وعمر ؛ مبيناً أن هذه الآية ليس المقصود بها أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم الذين هم قرابته، وفي مقدمتهم علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عن الجميع، وقد نقل ابن كثير أثراً عن ابن عباس ذكره البخاري في صحيحه، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لكفار قريش وهو بمكة: (إن بيني وبينكم قرابة، وإذا لم تقوموا بنصرتي وتأييدي فلا أقل من أن تتركوني أبلغ رسالة ربي لما بيني وبينكم من القرابة).
فقوله: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] يعني: أجر ما بيني وبينكم من القرابة أن تتركوني أبلغ رسالة ربي إذا لم تتقبلوا أنتم دعوتي، وهذا من جنس ما جاء في الآية: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] فالإنسان القريب عندما يأتي إلى قريبه يقول له: للصلة التي بيني وبينك حقق لي كذا، أو لما بيني وبينك من قرابة ساعدني على كذا.
هذا الأثر الصحيح الذي أورده البخاري في صحيحه عن ابن عباس يبين المراد بالآية، وأن المقصود بها كفار قريش، وليس المقصود بها علياً وفاطمة ونسلهما رضي الله تعالى عنهم، فإن زواج علي بـفاطمة ووجود النسل إنما كان ذلك بالمدينة، والآية مكية؛ ولهذا جاء تفسيرها عن ابن عباس وهو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه بهذا المعنى الذي يتفق مع كونها مكية.
وعلى هذا فإن هذا الذي حصل من جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما من توقير محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه دال على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من توقير أهل البيت وإنزالهم منازلهم، وقد عرفنا من الآثار التي ذكرتها أن مقدمة الصحابة وخير الصحابة وأفضلهمأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يعظمان أهل البيت.
هذا فيه دليل على استعمال مثل هذه الألفاظ في الترحيب بالقادم ومن يرحب به، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عندما جاءه وفد عبد القيس قال لهم: (مرحباً)، وجاء ذلك أيضاً في مواضع عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: مرحباً، وهذا إنما يكون بعد السلام، ليس كما يفعله بعض الناس الذين يتركون السلام ويقولون: مرحباً، أو مساء الخير وما إلى ذلك ويتركون السنة، بل السلام هو أول شيء، وإذا حصل السلام ورد السلام يأتي بعده الترحيب، ويأتي بعد ذلك الألفاظ التي يكرم بها الإنسان.
قوله: (سل عما شئت).
يعني: يسأله عما شاء.
لما جاء وقت الصلاة قام جابر وصلى بهم، وهذا دليل على أن صاحب البيت وصاحب المنزل أولى من غيره بالإمامة، ويدل أيضاً على جواز إمامة الأعمى، ويدل أيضاً على أن الإنسان له أن يصلي بالثوب الواحد إذا كان كافياً وساتراً ولو كان عنده غيره؛ لأنه استعمل هذه النساجة التي هي ملفقة، وعندما جعلها على منكبيه وسحبها من جهة تحركت إلى الجهة الأخرى لصغرها، مع أن معه ثوباً معلقاً على المشجب، وكان بإمكانه أن يضيف ذلك الثوب الذي على المشجب إليه، فدلنا هذا على كفاية الثوب الواحد حيث يكون ساتراً ولو كان معه غيره من الثياب ويمكن أن تضاف إليه.
والمشجب: هو أعواد كانوا يحزمونها وتكون أطرافها بارزة من فوق يعلقون عليها الثياب؛ ولهذا يقولون: فلان كالمشجب، من أين أتيته وجدته.
أيضاً هذا ما أن جابراً فتح الأزرار يدل على أن الثياب يكون لها زر، وأن الثياب تتخذ فيها الأزرة بحيث تكون مفتوحة الصدور، وقد جاء في بعض الأحاديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه وفد وكان إزراره محلولاً)، وبعض الشباب يتعلقون بهذا الحديث فيفتحون أزرتهم باستمرار، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذه الهيئة الخاصة والحالة الخاصة التي وجدت منه صلى الله عليه وسلم في حالة من الحالات ربما كانت في غرض من الأغراض، كتبرد أو نسيان زر من الأزرار أو ما إلى ذلك، أما أن تكون الأزرار موجودة ثم يترك الصدر مكشوفاً دون أن يزر فما فائدة الأزرار إذن؟!
ولهذا كان مع محمد بن علي رحمة الله عليه هذان الزراران، وقد فكهما جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وأدخل يده وجعلها بين ثدييه، وذلك تأنيساً له لكونه شاباً صبياً رحمة الله عليه.
قوله: [ (فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ].
هذا السؤال من محمد بن علي بن الحسين رحمة الله عليه وجابر رضي الله عنه هو الذي طلب منه أن يسأل، وقدمه على غيره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان العقد باليد عند العرب مشهور، وله هيئات تدل على الأعداد، فقد يقبض أصبعاً أو أصبعين، ويرفع أصبعاً أو أصبعين، وكل هيئة تدل على رقم معين، فعقد تسعاً.
قوله: [ (ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج) ] يعني: مضى عليه تسعة أعوام في المدينة ولم يحج إلا في السنة العاشرة، وسبق أن عرفنا أن العلماء اختلفوا في فرض الحج متى كان؟ فمنهم من قال: في السنة السادسة، ومنهم من قال قبل ذلك، ومنهم من قال: إنما كان في السنة التاسعة؛ ولهذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس في السنة التاسعة، وينادي: (ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان) حتى إذا جاءت السنة التي حج فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا هذه الهيئات والصفات السيئة التي اعتادها بعض الناس قد قضي عليها وقد انتهي منها، فالكفار منعوا من الحج فلم يحجوا بعد ذلك العام، وكذلك العراة منعوا من العري، وأنه لا يطوف بالبيت عريان كما كان بعض الجاهليين يطوفون عراة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يبلغ الناس ذلك.
يعني: في السنة العاشرة.
قوله: [ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج) ] إما أذن هو وأخبر بنفسه، أو أذن غيره بأمره، وإنما حصل الإخبار بحجه صلى الله عليه وسلم حتى يأتي الناس ليصحبوه في حجه ويتلقوا عنه الحج، ويعرفوا كيف يحجون وما هي صفة الحج، وحتى يتلقوا منه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) فأعلن في الناس أنه حاج، فتوافد الناس على المدينة يريدون أن يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الحج.
قوله: [ (فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله) ].
يعني: بعدما أُعلن بأن النبي صلى الله عليه وسلم حاج، توافد إلى المدينة أعداد كبيرة من الناس؛ كل يريد أن يأتم برسول الله عليه الصلاة والسلام ويقتدي به في الحج، ويسير على نهجه، وينظر إلى حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، فيقتدي به، وهو نفسه عليه الصلاة والسلام حث بقوله: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
أخبر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة، وكان خروجه بعد صلاة الظهر في هذا المسجد المبارك، صلى بالناس الظهر أربعاً، ثم خرج إلى ذي الحليفة وصلى فيها العصر ركعتين، ثم صلى فيها المغرب والعشاء والفجر والظهر، فيكون صلى فيها خمس صلوات، وجلس يوماً وليلة، ولعل جلوسه صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان حتى يتوافد الناس إليه، وحتى يكونوا على علم بصفة حجه من بدايته؛ لأن الحج يبدأ من الميقات حيث يكون الإحرام منه.
إذاً: مكثه صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة في ذي الحليفة ليتوافد الناس إليه، وليكونوا معه من أول عمل من أعمال الحج، ومن حين إهلاله بالحج، فيقتدوا به ويأتسوا به صلى الله عليه وسلم، فصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، وهذا يدلنا على أن المسافر إذا خرج من البلد وتجاوزها فإنه يبدأ بأحكام السفر ورخصه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وقصر العصر في ذي الحليفة، ولا يلزم أن يسير المسافر مسافة طويلة جداً حتى يترخص برخص السفر، ولكنه إذا خرج وبدأ بالسفر بدأ بالترخص؛ ولهذا بدأ عليه الصلاة والسلام القصر بذي الحليفة في صلاة العصر، حيث صلى بالمدينة الظهر أربعاً، وصلى بذي الحليفة العصر ركعتين، ولكن إذا امتدت المدينة ودخل ذو الحليفة في البنيان واتصل العمران فإنه لا يجوز أن يقصر في ذي الحليفة؛ لأنها عند ذلك تكون من المدينة، وقد انتشر البنيان الآن وكاد أن يتصل بذي الحليفة، فإذا اتصل فإن ذا الحليفة تكون من جملة المدينة وليس من أطرافها، ولا يجوز القصر فيه، وإنما يقصر إذا تجاوز العمران نهائياً، عند ذلك يبدأ بالترخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في ذي الحليفة؛ لأنه كان خارج المدينة، وبينه وبين المدينة مسافة قريبة من عشرة كيلو متر.
ولدت أسماء رضي الله عنها بذي الحليفة، وأسماء بنت عميس هذه كانت زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد استشهد في غزوة مؤتة، ثم تزوجها بعده أبو بكر رضي الله عنه، وبعد موت أبي بكر تزوجها علي، وولدت من الثلاثة، وهذا الذي ولدته في ذي الحليفة هو محمد بن أبي بكر ، ولا أدري هل ولدت له غيره أو لا؟ ولكنها ولدت من الثلاثة: من جعفر ومن أبي بكر ومن علي رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، فلما ولدت أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل: كيف تصنع؟ وقد حصلت لها الولادة وحصل لها النفاس، فأمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تغتسل وأن تستذفر بثوب، وذلك بأن تجعل ثوباً على فرجها يمنع من نزول الدم، وأمرها أن تغتسل للإحرام، وهذا يدل على استحباب الاغتسال للإحرام، وأنه سنة حتى الحائض والنفساء يسن لهما أن يغتسلا للإحرام، وأن يحصل منهما النظافة والنزاهة لأجسامهما بهذه المناسبة.
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمسجد بذي الحليفة صلاة الظهر، ثم أحرم بعدها وانطلق في رحلته إلى الحج عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فهو صلى في ذي الحليفة خمسة أوقات: العصر والمغرب والعشاء والفجر والظهر، وبعد صلاة الظهر انطلق ومعه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم للحج، ولما استوت ناقته على البيداء نظر جابر رضي الله عنه وإذا الناس منهم الراكب والماشي مد البصر، أمامه ويمينه وشماله وخلفه، والنبي صلى الله عليه وسلم وسطهم، وما فعله فعلوه، فهم يتابعونه ويسيرون على نهجه وعلى طريقته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو صلى الله عليه وسلم الذي ينزل عليه القرآن وهو الذي يعلم تأويله، ومن المعلوم أن خير ما يفسر به القرآن هو القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فالسنة تبين القرآن وتشرحه وتوضحه وتدل عليه؛ ولهذا قال جابر رضي الله تعالى عنه: (وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله) يعني: وهو صلى الله عليه وسلم يعلم تفسيره وبيان معناه.
وما عمله من شيء عمله أصحابه، ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في ذي الحليفة خير الناس بين أنساك ثلاثة: خيرهم بين الإفراد، وهو أن يحرم بالحج وحده، وإذا وصل مكة طاف وسعى وبقي على إحرامه حتى يذهب إلى عرفة، ويرجع إلى مزدلفة، ثم يأتي إلى منى ويرمي الجمرة، ويحلق رأسه، ويطوف ويتحلل، وليس عليه هدي، وبين القران، وهو أن يحرم من الميقات بحج وعمرة يلبي بهما معاً، وإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر وبقي على إحرامه حتى يأتي يوم النحر مثله مثل المفرد، وبين التمتع، وهو أن يحرم الإنسان بالعمرة من الميقات، فإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر وتحلل، وإذا جاء اليوم الثامن أحرم بالحج، ثم أتى بالحج وأكمله، فخير عليه الصلاة والسلام الناس بين الأنساك الثلاثة، وقد كان عليه الصلاة والسلام ساق الهدي، وأحرم بالقران صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فجمع بين الحج والعمرة.
أهل عليه الصلاة والسلام بالتوحيد، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، وهذه التلبية مشتملة على لا إله إلا الله، ومقتضى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله؛ لأن لا إله إلا الله تشتمل على ركنين: نفي، وإثبات، نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها.
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي المفتاح للدخول في الإسلام، وهي مفتاح الجنة؛ ولهذا أول ما بعث الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي في مكة ويقول: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) وأول شيء يدعى إليه هو التوحيد؛ ولهذا جاء في حديث معاذ بن جبل لما أرسله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فأول شيء يدعى إليه هو التوحيد، الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فالتلبية مشتملة على التوحيد؛ لأن (لبيك) معناها: أنك يا رب! لما دعوتني لحج بيتك استجبت لدعوتك ولبيت نداءك، فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
فالتلبية هي بمعنى لا إله إلا الله؛ لأن (لبيك اللهم لبيك) هي بمعنى (إلا الله)، و(لا شريك لك) بمعنى (لا إله)؛ ولهذا قال جابر رضي الله عنه: [ (فأهل بالتوحيد) ] يعني: أهل بإعلان إخلاص العبادة لله عز وجل؛ ولهذا كل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه عند الله إلا إذا توافر فيه أمران:
الإخلاص لله وحده، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقد الشرطان أو أحدهما، فإن العمل لاغ ومردود على صاحبه، فمن فقد الإخلاص في العمل، وإن كان العمل على طبق السنة، مادام أن فيه رياء وصُرِفَ العمل لغير الله؛ فإنه يكون مردوداً على صاحبه؛ ولهذا يقول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] يعني: كل عمل يعمله الكفار من الأعمال الطيبة التي فيها خير وفيها بر ومصلحة وفائدة وإحسان مردودة عليهم ولا تنفعهم عند الله عز وجل؛ لأنها لم تبن على التوحيد، ومن شرط العمل المقبول عند الله أن يكون خالصاً لوجه الله، هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الشرطان هما مقتضى الشهادتين، مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذاً: إنما يعبد الله طبقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فقد الإخلاص رد العمل وكان حابطاً، وإن وجد الإخلاص وكان مبنياً على بدعة ومبنياً على محدثات الأمور، فإنه أيضاً يكون مردوداً على صاحبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) فرغب في اتباع السنة، ورهب من اتباع المحدثات التي هي البدع المنكرة؛ ولهذا فإن العمل ولو كان خالصاً لله لابد أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد يقول بعض الناس: إن الإنسان قد يأتي بعمل صالح يتقرب به إلى الله مع أنه لم يأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قصد الإنسان حسن، فهل يشفع له حسن قصده؟ وهل يكون عمله مقبولاً عند الله، مع أنه ليس مبنياً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
ومما يدل على أن حسن القصد لا يكفي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذبح أحد أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أضحيته قبل صلاة العيد، يريد من وراء ذلك أن يطبخ اللحم، حتى إذا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المصلى وهم بحاجة إلى اللحم يقدم لهم لحم أضحيته، فهذا قصد حسن وقصد طيب، لكن ماذا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد أن علم أنه ذبحها قبل صلاة العيد؟ قال: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ لأنها ما وقعت طبقاً للسنة في الوقت المحدد، فهي مثل الشاة التي تذبح في محرم وصفر وربيع، حينما يذبح الناس الشياه ويأكلون لحمها، هذه من جنسها، والأضحية هي التي تكون بعد صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق، أربعة أيام: يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، هذا هو وقت ذبح الأضاحي، فلا تذبح قبل الصلاة، وإذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق انتهى وقت الذبح، فهذا الصحابي رضي الله عنه كان قصده حسناً، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم: وفي هذا الحديث دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا وقع طبقاً للسنة، وأنه لا يكفي حسن قصد الفاعل.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً يتحلقون في المسجد، ومع كل واحد منهم حصى، وفيهم واحد يقول: هللوا مائة، فيهللون مائة ويعدون بالحصى، ثم يقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟! قالوا: حصى نسبح به، فقال رضي الله عنه وأرضاه: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن ! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه. ولهذا يقول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
قال بعض السلف: العمل الصالح هو الذي يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله وحده، والصواب ما كان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بالتوحيد، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة، والعبادة أنواع كثيرة: فالدعاء عبادة، والذبح عبادة، والنذر عبادة، والاستعانة عبادة، والاستغاثة عبادة، والاستعاذة عبادة، والرغبة عبادة، والرهبة عبادة، والخوف عبادة، والتوكل عبادة.
وتوحيد الله تعالى في ألوهيته: هو توحيد الله تعالى في أفعال العباد بحيث تكون خالصةً لله، فلا يجعلون مع الله شريكاً في عباداتهم التي يتقربون بها إلى الله، وإنما يجعلونها خالصةً لوجه الله عز وجل، فعلى هذا الذي فعله هؤلاء الذين أنكر عليهم عبد الله بن مسعود مردود عليهم مع حسن قصدهم، فكم من مريد للخير لم يصبه.
وبعدما أهل بالتوحيد صلى الله عليه وسلم وأعلن إخلاص العبادة لله عز وجل والناس يسمعون، وقد رفع صوته بذلك عليه الصلاة والسلام، أثنى على الله عز وجل بما هو أهله، وأنه المستحق للعبادة؛ لأنه المنعم بكل نعمة، والمحمود على كل حال، وهو مالك الملك ذو الجلال والإكرام، فقال: [ (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ] يعني: أنت المتفرد بإسداء النعم إلى كل منعَم عليه، وأنت المحمود على كل حال، وأنت مالك الملك ذو الجلال والإكرام، فلا شريك لك في الملك، ولا شريك لك في العبادة، وأنت المتفرد بالخلق والإيجاد لا شريك لك في ذلك، فكما أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله، فلا يعبد إلا الله، ولا تصرف العبادة إلا لله عز وجل، فلا تصرف لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله، فلا يصرف من أنواع العبادة شيء لغير الله عز وجل، فلا يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا ينذر إلا لله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] ، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
فهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يلبي بها: [ (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ].
من الناس من كان يزيد على هذه التلبية، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه فيما مضى أنه كان يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)، وجاء عن بعض الصحابة أنه قال: (لبيك حقاً حقاً)، وهناك ألفاظ أخرى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمعهم ولا ينكر عليهم، فدل ذلك على جواز الزيادة في التلبية، ولكن الأولى الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما كان يزيد عليها شيئاً، ولكنه أقر الذين كانوا يلبون ويضيفون إلى التلبية بعض الإضافات مثل: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل).
فإن أتى الإنسان بشيء مما جاء عن السلف وعن الصحابة، فلا بأس بذلك، لكن الأولى الاقتصار على ما اقتصر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: أنهم ذهبوا من أجل الحج، وأنهم كانوا لا يعرفون العمرة، ولعل المقصود من ذلك العمرة التي تفسخ القران والإفراد مع عدم سوق الهدي، وإلا فإن العمرة موجودة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتمر في أشهر الحج، اعتمر عمرة الحديبية في ذي القعدة، التي صده المشركون عنها، واعتمر عمرة القضية في ذي القعدة من السنة السابعة، واعتمر في السنة الثامنة عمرة الجعرانة، وكانت في ذي القعدة، واعتمر مع حجته؛ لأنه كان قارناً، وكان الدخول في الإحرام في ذي القعدة، وأداء الحج والعمرة في وقت الحج.
إذاً: المقصود من قوله: (ما كنا نعرف العمرة) أنهم ما كانوا يعرفون أن من يلبي بالحج أنه سيتحول من كونه حاجاً إلى كونه معتمراً، وقد كان في الصحابة من هو محرم بالعمرة، وأمهات المؤمنين كلهن كن محرمات بالعمرة متمتعات، والنبي صلى الله عليه وسلم خير أصحابه في الميقات بين الثلاثة الأنساك: بين التمتع والقران والإفراد، وأمهات المؤمنين كلهن أحرمن بالعمرة، وكلهن أكملن العمرة إلا عائشة فقد حصل لها الحيض، وجاء الحج وهي لم تطهر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل الحج على العمرة وتكون قارنة.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، ولما وصلوا إلى البيت أول شيء بدأ به صلى الله عليه وسلم أن استلم الركن، أي: الحجر الأسود، والاستلام يكون بالتقبيل لمن يتمكن من ذلك، ومن لم يتمكن ومد يده ولمس الحجر، فإنه يقبل يده، وإذا كان راكباً يلمس الحجر بعصا ويقبلها، كما فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإنه كان قد ركب صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكان يستلم الركن بمحجن.
ثم رمل ثلاثة أشواط، والرمل: هو الإسراع مع مقاربة الخطا، فرمل في الأشواط الثلاثة كلها من الحجر إلى الحجر، وأصل الرمل كان في عمرة القضية كما سبق، لما اتفق النبي صلى الله عليه وسلم وكفار مكة على أن يرجعوا عام الحديبية ويعتمروا من العام القادم، كان جماعة من كفار مكة من جهة الحجر، وكانوا يتحدثون فيما بينهم ويقولون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يرملوا الأشواط الثلاثة الأول، وإذا كانوا بين الركنين يمشون؛ وذلك لأن الكعبة تحجب بينهم وبين الكفار، ولكنه في حجة الوداع رمل من الحجر إلى الحجر، فدل ذلك على أنه سنة، وأن الرمل يكون في الأشواط الثلاثة كلها من أولها إلى آخرها.
قوله: (ومشى أربعاً) هذا يدل على أن الطواف بالبيت سبعة أشواط، وأن الثلاثة الأشواط الأول يرمل فيها، وذلك في حق من يدخل مكة أول طواف يطوفه إن كان متمتعاً أو معتمراً فطواف العمرة، وإن كان قارناً أو مفرداً فطواف القدوم.
وبالنسبة للرمل فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، لكن هذه الرواية عن جابر فيها أنه استلم الركن فرمل، لكنه جاء في بعض الأحاديث عن جابر : (أن الناس غشوه فركب البعير صلى الله عليه وسلم) ولعله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ثم بعد ذلك غشاه الناس فركب البعير؛ حتى يشرف وحتى يراه الناس صلى الله عليه وسلم، وقد أمر بالرمل، فيكون معنى قوله: (فرمل) أي: أمر أصحابه بالرمل، ويكون أضاف إليه الرمل لأنه الآمر به صلى الله عليه وسلم.
ذكر هنا الاختلاف بين الرواة الذين روى عنهم أبو داود رحمه الله فيما يتعلق بالركعتين، وفيما يتعلق بالقراءة في الركعتين، وأنه كان يقرأ فيهما: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ .
و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كما هو معلوم دالة على على توحيد الأسماء والصفات، وأن الله تعالى واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، فهو سبحانه وتعالى الأحد الصمد الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجها، وهو مستغن عن الأصول والفروع والنظراء، فهو: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، وسورة الكافرون فيها توحيد العبادة: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:2-3] فهذه فيها توحيد العبادة، وتلك فيها توحيد الأسماء والصفات.
يعني: ثم رجع إلى البيت بعدما صلى خلف المقام ركعتين، فاستلم الحجر الأسود، وهذا يدل على أنه يشرع للقادم إذا انتهى من الطواف بالبيت وصلى ركعتين أن يأتي إلى الحجر الأسود ويستلمه، وهذا استلام ليس متعلقاً بطواف وإنما هو استلام مستقل، فذلك جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الاستلام الآن والذهاب إلى الحجر في غاية المشقة، ولا ينبغي للإنسان أن يستلم الحجر إذا كان هناك مشقة؛ بل إن تيسر له أن يستلمه بدون أن يؤذي أحداً فعل، وإن كان لا يصل إليه إلا بالإيذاء فإنه لا يفعل؛ لأن استلامه سنة وإيذاء الناس حرام، ولا يرتكب الأمر المحرم من أجل الوصول إلى أمر مستحب، بل يترك الأمر المستحب إذا لم يوصل إليه إلا بإيذاء الناس.
والحاصل: أن الإنسان يستلم الحجر في كل طوفة، وأيضاً في هذا الموضع بعد ركعتي الطواف يأتي ويستلمه، أما ما يفعله بعض الناس عندما يأتي ويصلي قريباً من الحجر وما أن يسلم الإمام حتى يثب على الحجر ويقبله، فهذا ما جاءت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن السنة جاءت بأنه يقبل ويستلم في حال الطواف، وفي هذا الموضع الذي هو بعد ركعتي الطواف.
واستلام الحجر على ثلاث مراتب: أن يقبله، فإن لم يستطع فإنه يستلمه بشيء ويقبل ما استلمه به، فإن لم يستطع فإنه يشير إليه ويكبر، وفي هذا الموضع استلمه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تيسر للإنسان أن يستلم فهذا هو المطابق لفعله صلى الله عليه وسلم، وأما أن يشير إليه فمحتمل ولا أجزم بذلك، والله تعالى أعلم؛ لأن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن بالذات هو الاستلام.
يعني: خرج من باب المسجد إلى الصفا؛ لأن الصفا والمروة كانتا خارج المسجد، وكان المسعى إلى وقت قريب في وسط السوق، والدكاكين عن يمينه وشماله، وكان الناس يسعون بين الدكاكين والناس يبيعون ويشترون، وكان ذلك موجوداً إلى سنة (1370هـ)، وكانت السيارات تمشي من بطن الوادي وتقطع المسعى، والناس يقفون وينتظرون حتى تمضي السيارات، فذكر أنه خرج من الباب لأن المسعى كان خارج المسجد.
يعني: أن الله تعالى بدأ بالصفا في الذكر، فنحن نبدأ بها فعلاً وعملاً، لا نبدأ من المروة، وإنما نبدأ بما بدأ الله به؛ لأن الله قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، فقدم الصفا في الذكر على المروة، فنحن نبدأ بالصفا ونختم بالمروة، ولو أن إنساناً أخطأ وبدأ بالمروة فإنه يلغي الشوط الأول الذي بدأ فيه بالمروة، ويبدأ من الصفا؛ اقتداءً برسول الله عليه الصلاة والسلام، ولقوله: (نبدأ بما بدأ الله به).
لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى الصفا صعد عليه، واستقبل القبلة حتى رأى البيت، وجعل يهلل الله ويوحده ويكبره، ويقول: [ (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ويدعو بين ذلك) ] وهذا يدل على أن هذا الموطن فيه ذكر، وفيه الإشارة إلى الدعاء، فهذا ذكر لله عز وجل وثناء عليه وتعظيم له، وإعلان إفراد العبادة له وحده لا شريك له.
فكلمة (لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد، وهي -كما ذكرنا- مفتاح الإسلام، وهي كذلك ختام الدنيا ونهايتها، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما أسلفت- كان يقول لأهل مكة: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) وقال عليه الصلاة والسلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، والتلقين يكون قبل الموت لا بعده كما يفعله بعض المبتدعة حينما يلقنون الميت بعد الدفن، ويقولون: يا فلان ابن فلانة اذكر كذا.. وقد وردت فيه أحاديث ضعيفة غير ثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن الثابت هو التلقين ما دام الإنسان في الحياة الدنيا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، والإنسان إنما ينتهي من الدنيا بالموت، فإذا قالها قبل أن يموت فقد ختم له بكلمة التوحيد.
وقوله: (موتاكم) أي: الذين قاربوا الموت، وليس المقصود به الذي مات بالفعل، حتى تكون كلمة التوحيد آخر ما ينطقون به، وهي أيضاً مفتاح الجنة، قيل لـوهب بن منبه : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح.
يعني: أن مجرد كلمة التوحيد بدون ما تقتضيه وبدون ما تتطلبه فهي مثل المفتاح الذي ليس له أسنان، والمفتاح إنما يفتح إذا كان له أسنان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر