إسلام ويب

شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [6]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشرع إذا نام عدد من الناس عن الصلاة، واستيقظوا وقد خرج وقتها وأرادوا قضاءها أن يؤذنوا لها، ومن استيقظ قبل طلوع الشمس بقليل فأحرم فصلى ركعة فطلعت الشمس، فصلاته صحيحة، وقد فرضت الصلاة في الإسراء عندما أسري برسول الله وعرج به مع جبريل إلى السماء ففرض الله عليه الصلوات الخمس.

    1.   

    شرح حديث عمران بن حصين في التيمم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فقد وصلنا في شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما إلى قوله: (فارتحل فسار غير بعيد)؛ أي: فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أمر أصحابه بالارتحال، ارتحل هو، (فسار غير بعيد)؛ أي: لما قطع الوادي نزل بأصحابه، وسر ذلك أنه بين أن في ذلك الوادي شيطانًا، فهو الذي جعلهم ينامون عن الصلاة، فارتحل عنه، وقد استشكل ذلك بعض أهل العلم فقالوا: الشيطان ينفر من القرآن، ومن الأذان، ومن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك المكان، لكن يحمل هذا على أن ذلك المكان قد حبس فيه الشيطان، فهو من أوديته، ففي الأرض أودية حبس فيها شياطين، كما ثبت في حديث بيعة العقبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا ابن أزيب، هذا شيطان العقبة، لأفرغن لك)، (ثم نزل فدعا بالوضوء)؛ أي: الماء الذي يتوضأ به، (فتوضأ ونودي بالصلاة)، اختلف هل معنى (نودي بالصلاة) أذن لها أو أقيمت فقط، فمن أهل العلم من يرى أن النداء إذا أطلق فهو الأذان، فيرون أن الفائتة إذا كان يصليها جماعة فإن من سنتهم أن يؤذنوا، كمن نام عن الصلاة، إذا نام عدد من الناس عن الصلاة، واستيقظوا وقد خرج وقتها فأرادوا قضاءها فإنهم يؤذنون لها، وهذا في المقضية، أما المعادة؛ أي: التي تعاد لخلل فيها أو لفضل الجماعة، فليس لها أذان مخصوص، وهنا يلزم التفريق بين ثلاثة أمور هي: الأداء، والقضاء، والإعادة.

    فالأداء: فعل العبادة في وقتها لأول مرة، والإعادة: فعلها ثانيًا؛ أي: بعد أن فعلت بسبب خلل أو لطلب الفضل، والقضاء: فعلها خارج وقتها، فإن كان بعضها في الوقت وبعضها خارج الوقت، فهل تكون أداء جميعًا أو تكون قضاء جميعًا أو ما كان في الوقت فهو أداء وما كان خارج الوقت فهو قضاء؟ ويترتب على هذا الخلاف على الأقوال الثلاثة:

    من استيقظ قبل طلوع الشمس بقليل فأحرم فصلى ركعة فطلعت الشمس، فعند الجمهور صلاته صحيحة، ولا تبطل بطلوع الشمس فيها خلافًا للحنفية وقد بينا ذلك، فإذا جاء إنسان فاقتدى به بعد طلوع الشمس، فهل ينوي الأداء لأن إمامه قد نوى الأداء أو ينوي القضاء فتختلف نيته عن نية الإمام؟ فعلى القول بأن ما في الأداء أداء وما في القضاء قضاء فصلاة المأموم صحيحة؛ لأنه قاض، والإمام أيضًا قاض، وكذلك على القول بأن الجميع قضاء؛ لأن العبرة في الأمور كلها بخواتيمها، أما على القول بأن الجميع أداء فتكون صلاته باطلة لمخالفة نيته نية أمامه، وهذا يتمشى مع قواعد المالكية، ومع قواعد الحنفية أيضًا الذين يرون الارتباط بين صلاة الإمام والمأموم، أما قواعد الشافعية والحنابلة فلا يرون ارتباطًا كاملًا بين صلاة الإمام والمأموم، بل يرون: أن الإمام قد تبطل عليه الصلاة وتصح عن المأموم، والعكس، وأن المفترض قد يصلي وراء المتنفل كصلاة معاذ بأهل قباء، وقد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون أنه يمكن أن تختلف نيتهما، فيكون هذا مصليًا للظهر وهذا مصليًا للعصر، حتى في نية الصلاة المعينة.

    وعمومًا هذه الصلاة قطعًا كانت خارج وقتها جميعًا؛ لأنهم لم يستيقظوا إلا على حر الشمس، فكانت قضاء قطعًا فهل أذن لها أم لا؟ قد جاء في بعض طرق هذا الحديث التصريح بأن ذلك أذان، وجاء في بعضها أنه أمر بلالاً فأقام.

    والحديث الذي لدينا محتمل للأمرين لأنه قال: (ونودي بالصلاة فصلى بالناس)؛ أي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، والصلاة الفائتة التي تقضى تصلى كما هي، فيجهر فيها إذا كانت جهرية، ويسر فيها إذا كان سرية؛ فلذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فجهر في صلاته كصلاة الصبح في وقتها؛ لأنها قضاء لها، (فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم)، (فلما انفتل)؛ أي: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته بعد أن أكملها، (إذا هو برجل معتزل)؛ أي: معتزل الصفوف، (لم يصل مع القوم): لم يشهد معهم الصلاة، (قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك)، وهذه الجملة هي محل الاستشهاد من الحديث، فقد عقد البخاري عليها هذا الباب، باب: الصعيد الطيب وَضوء المسلم يكفيه عن الماء؛ لأنه قال: فإنه يكفيك، و(الصعيد) كما سبق هو: ما صعد على الأرض من أجزائها، (فإنه يكفيك)، هذه العبارة لا تقتضي جزمًا بأن التيمم يرفع الحدث، ولا تقتضي جزمًا بخلاف ذلك أيضًا، لكنها تجزم بأن التيمم يستباح به ما يستباح بالماء، (ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: واصل سيره، (فاشتكى إليه الناس من العطش)؛ أي: شكوا إليه أن ماءهم قد نفد، (واشتكوا إليه العطش فنزل فدعا علياً ورجلًا آخر)، ولم يسم هذا الرجل في هذه الرواية، لكن سمي في بعض الطرق، وأنه عمران بن الحصين الذي روى هذا الحديث، (فقال: اذهبا فابتغيا الماء)، أرسل علياً وعمران أن يبتغيا الماء؛ أي: أن يلتمسا ماء ليشرب منه المسلمون ويسقوا منه بهائمهم، (فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة)؛ أي: أن علياً وعمران لما انطلقا في طلب الماء لم يقطعا كثيرًا من المسافة حتى لقيا امرأة تركب بعيرًا، وهي بين مزادتين، والمزادتان هما: القربتان اللتان زيد في جلودهما، فالقربة أصلًا تكون جلد شاة، فإذا زيد فيه من جلد شاة أخرى- فتح من البطن فزيد فيه من جلد شاة أخرى- سميت (مزادة)، وتسمى (سطيحة) أيضًا؛ أي: أنها يشق تعليقها فتكون منتشرة، و(السطيح): هو الإنسان الكسيح الذي لا يستطيع أن يقوم، وملازم للاضطجاع على الأرض، (فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين)، وهي امرأة من المشركين، (بين مزادتين)؛ أي: تركب بعيرًا، (بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟)، أين البئر الذي استقت منه؟ (فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة)، فذكرت أن الماء بعيد جدًّا، فعهدها بالماء الذي استقت منه مثل هذا الوقت؛ أي: قبل أربع وعشرين ساعة، (ونفرنا خلوف)؛ أي: رجالنا مسافرون، فالنفر العدد من الرجال، وقولها: (خلوفٌ)؛ أي: مسافرون، وفي رواية: (خلوفًا) بالنصب، وهي حال، ومعناها: نفرنا قد خرجوا خلوفًا، حال كونهم خلوفًا، فجملة (قد خرجوا) هي الخبر، وقد حذفت وقام الحال مقام الخبر، وقد قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:

    وقبل حال لا تكون خبرا عن الذي خبره قد أضمرا

    كضرب العبد مسيئًا وأتم تبييني الحق منوطًا بالحكم

    فالحال تسد مسد الخبر حينئذ.

    (فقالا)؛ أي: قالا لهذه المرأة، (انطلقي إذًا)؛ أي: إذا ما كان الماء بعيدًا جدًا فانطلقي معنا، (قالت: إلى أين؟)؛ أي: إلى أين تذهبان بي؟ (قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له الصابي؟)؛ أي: هل هو الذي يقال له الصابي؟ أي: يقول له المشركون: الصابي، والصابي: من بدل دينه وانتقل منه إلى دين آخر، وفي رواية: (الصابئ)، وهي من صبأ كذلك، ومنه (الصابئة)، وهم فرقة من أهل الكتاب، (قالا: هو الذي تعنين)، فلم يقولا: (هو هو)؛ لأن هذا ليس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو وصف له، ولكنها عنته، (فقالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث)؛ أي: عن بعد الماء، وأنهما لم يجدا إلا هذه الظعينة، وأن عندها هاتين المزادتين، (قال: فاستنزلوها)؛ أي: طلب منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنزل عن بعيرها، (ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين)؛ أي: صب فيه شيئًا يسيرًا من أفواه المزادتين أو السطيحتين، (وأوكأ أفواههما)؛ أي: ربط أفواههما، و(الوكاء) هو الذي يلف على أفواه القرب، وكذلك على المزادات، (وأطلق العزالي)؛ أي: فتح العزالي، و(العزالي) جمع عزلاء، وهي فتحة صغيرة كالثدي توضع في أعلى القربة، فيجعل فيها ثلاث عزالي؛ وذلك لأن العرب كانوا يجدون شحًّا في الماء في بلادهم، فكانوا لا يفتحون أفواه القرب للاستسقاء، بل يفعلون لها أفواهًا صغيرة، فيصبون منها في الآنية لئلا يفقدوا الماء، وهذه الأفواه الصغيرة هي التي تسمى بالعزالي، وأطلق العزالي؛ أي: في الإناء، (ونودي في الناس)؛ أي: نادى منادي رسول الله في الناس (اسقوا) وفي رواية: (أسقوا)، (اسقوا)؛ أي: اسقوا بهائمكم، وفي رواية: (أسقوا)، فيقال: (سقى) و(أسقى)، وهما بمعنى، وقد وردتا في القرآن، فقد قال الله تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا[الإنسان:21]، وهذه (سقى) الثلاثية، وقال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا[الجن:16]، فهذه (أسقى) الرباعية، وقد اجتمعا في قول عنترة بن شداد العبسي:

    قد أوعدوني بأرماح معلبة سود لقطن من الحومان أخلاقي

    لم يسلبوها ولم يعطوا بها ثمنًا أيد النعام فلا أسقاهم الساقي

    (فلا أسقاهم) هذه أسقى الرباعية، و(الساقي) فاعل من (سقى) الثلاثية.

    و(استقوا)؛ أي: اشربوا واملئوا آنيتكم، فهذا الإناء الذي صب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفواه القربتين ثم فتح فيه عزالي القربتين أمرهم أن يسقوا منه بهائمهم وأن يستقوا منه؛ أي: أن يشربوا ويملئوا آنيتهم، وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته، حيث كثر الله له اليسير القليل، (فسقى من سقى واستقى من شاء)؛ أي: سقى الناس بهائمهم ودوابهم وخيلهم، (واستقى من شاء)؛ أي: شرب من شاء وملأ آنيته وأسقيته، (وكان آخر ذلك)؛ أي: آخر من نال حظًّا من السقيا، (أن أعطى)؛ أي: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصابته الجنابة إناء من ماء؛ أي: أعطاه إناء من الماء، (قال: اذهب فأفرغه عليك)، فأمره أن يغتسل به، وهذا يدل على أن التيمم لم يرفع عنه الحدث، إذ لو كان رفعه لما احتاج إلى الغسل بعد ذلك، لكنه يدل أنه تستباح به الصلاة؛ لأنه لم يأمره بقضاء الصلاة مرة أخرى، فقد كان أداها بالتيمم؛ فلذلك أمره أن يغتسل للمستقبل، لما يستقبل من الصلوات.

    (وهي قائمة تنظر)؛ أي: هذه المرأة المشركة قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، تتعجب من هذا الأمر الذي لم تر مثله قط، (قال: وايم الله)، وفي رواية: (وأيم الله)، وفي رواية: (وأيمُ الله)، فـ(أيمُ) بمعنى: أيمنُ و(أيمُنُ) جمع يمين، والمقصود بذلك: كل ما يحلف به من صفات الله وأسمائه، فيقال فيها: (أيم وأيمُنُ)، وهمزتها هي من الهمز العشر التي هي في الأسماء من همز الوصل؛ ولذلك ترد في الدرج فتسقط؛ كقول نصيب:

    فقال فريق القوم لا وفريقهم نعم وفريق لايمن الله ما ندري

    معناه: (فريق لا ايمن الله ما ندري)، فلما كانت هذه الهمزة همزة وصل سقطت في درج الكلام:

    فقال فريق القوم لا وفريقهم نعم وفريق لايمن الله ما ندري

    وهي اسم قسم مثل (لعمرك)؛ فلذلك قال: (وايمن الله)، لكنها مجرورة بالواو التي معها؛ فلذلك يقال: (وايمِ الله) بالجر؛ لأن الواو واو قسم، مثلما تقول: (والله)، وإذا قطعت الهمزة فقلت: (وأيم الله)، جاز الكسر والرفع، جاز أن تكسر بالجر؛ لأن الواو حينئذ حرف قسم، وجاز الرفع أن تقول: (وأيمُ الله) بالرفع، فتكون مثل (لعمرُك).

    (لقد أقلع عنها)؛ أي: أقلع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أقلع الجيش، والمقصود بذلك: الكف عن الشرب من ذلك الماء، (عنها)؛ أي: القربة أو المزادة، ويقصد القربتان معًا، لكن الذي يبدو أنه ترك القربتين على البعير وأناخه، وجعل لكل قربة إناء، فقوم يستقون من هذا الإناء، وقوم يستقون من هذا، وهو يحدث عن القربة التي تليه، فهي التي يراها فقال: (لقد أقلع عنها)؛ أي: أقلع عنها الناس، أو أقلع عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وإنه ليُخيَّل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها)، فهذا من تكثير القليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من دلائل نبوته ومعجزاته.

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجمعوا لها)، أمر أصحابه أن يجمعوا لهذه المرأة هدية، وهذا من حسن خلقه ومن كرم وجاهته وضيافته، (فجمعوا لها من بين عجوة) أي: تمر، (ودقيقة)، وهي الدقيق من القمح أو من الشعير الذي لم يمس النار، (وسويقة)، وهي الدقيق الذي قد مس النار قمحه أو شعيره قبل أن يسحق، (حتى جمعوا لها طعامًا)؛ أي: شيئًا كثيرًا، (فجعلوها)؛ أي: جعلوا ما جمعوا من الدقيقة والسويقة والعجوة، (في ثوب وحملوها على بعيرها)؛ أي: أناخوا لها البعير حتى ركبت، ويمكن أن يكون المعنى: جعلوا المرأة في ثوب فحملها الرجال حتى جعلوها على بعيرها، وذلك أنها ليست محرمًا لهم، وإذا ركبت هي فربما انكشف منها شيء، فأرادوا أن يكون ذلك أستر لها، فأجلسوها في ثوب وحملوها حتى جعلوها على بعيرها، ولكن المعنى الأول أوضح، وهو أنهم جمعوا الطعام في ثوب، وبعد أن ركبت هي على بعيرها، جعلوا الثوب بين يديها؛ فلذلك قال: (ووضعوا الثوب بين يديها)، فهذا يدل على أنها أُهدي إليها ثوب، وقد ملئ لها ذلك الثوب من طعام.

    (قال لها)؛ أي: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلمين ما رزأنا من مائك شيئًا)، (تعلمين) معناه: اعلمي، وفي رواية: (تعلَّمي)، بحذف النون، وقد أخطأ بعض شراح الصحيح، ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: (تعلَّمين)، وهذا خطأ؛ لأن الأمر- جعل الأمر- لا تلحقه النون أبدًا، ولا يمكن أن يقال: (تعلَّمين) بمعنى (تعلَّمي)، فالنون إنما تلحق المضارع، (تعلمين ما رزأنا من مائك شيئًا) (ما رزأنا)؛ أي: ما نقصنا من مائك شيئًا، و(رزأه) بمعنى: نقصه، ويقال: (رزاه) أيضًا بمعنى نقصه، ويقال: (أرزأه) بمعنى نقصه، ومنه الرزية: وهي المصيبة التي تصيب الإنسان فتنقص بعض ماله أو أهله، قال الشاعر:

    إن سليمى والله يكلؤها ظنت بشيء ما كان يرزؤها

    (إن سليمى والله يكلؤها)، معناه: يحفظها، (ظنت بشيء ما كان يرزؤها)؛ أي: ما كان ينقصها.

    (ما رزأنا من مائك شيئًا، ولكن سقانا الله)، ولكن الله هو الذي أسقانا، فهذا توحيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقرار لله بنعمته، وبيان أن ذلك من فضل الله ولم ينسبه إلى نفسه، فقال: (ولكن الله هو الذي أسقانا)، و(أسقى) هنا رباعية معداة بالهمزة.

    (فأتت أهلها)؛ أي: رجعت هذه المرأة إلى أهلها وقد احتبست عنهم، وهذا يعرف فيما بعد؛ لأنه لم يصحبها أحد من الجيش حتى يحدث عن إتيانها أهلها، ولكن بعد إسلامها وإسلام قومها عرفوا ما حدثت به قومها؛ فلذلك قال: (فأتت أهلها وقد احتبست عنهم)؛ أي: مكثت مدة وهم ينتظرونها، (قالوا: ما حبسك يا فلانة؟)، سألوها ما الذي يحبسها، (ما حبسك يا فلانة؟)، (قالت: العجب!)؛ أي: حبسني العجب؛ أي: أمر عجيب غير مألوف، (لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له: الصابي أو الصابئ ففعل كذا وكذا)؛ أي: حدثتهم بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء، (فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه)؛ أي: السماء والأرض، (ورفعت وقالت بإصبعيها)؛ أي: رفعتهما، بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء معناه: رفعتهما ليُرِيا، لكن رفعت السبابة إلى السماء والوسطى إلى الأرض مثلًا أو العكس؛ للدلالة على أنه أسحر من بين السماء الأرض؛ أي: أسحر الخلائق أو أنه حقًّا رسول الله، قالت: (إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه)؛ أي: ما بين السماء والأرض من الناس، (وقالت بإصبعيها)؛ أي: أشارت بهما، فرفعتهما إلى السماء، تعني السماء والأرض، تعني بهذه وهذه: السماء والأرض، (أو إنه لرسول الله حقًّا)، وذلك شك منها، وقد دخل الإيمان في قلبها ولكنه لم يستقر، وهو يدل على تجزئ الإيمان، وأنه يزيد وينقص، وقد حصل لها بعض اليقين ثم ازداد فيما بعد بحسن المعاملة، فرسخ ذلك الإيمان في قلبها بحسن معاملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، كما سيتبين من آخر الحديث.

    (فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصرم الذي هي منه)، كان المسلمون يعاملونها معاملة حسنة، فقد قال أبو الطيب المتنبي:

    إن المعارف في أهل النهى ذمم

    فكل من بينك وبينه معرفة فهي ذمة بينك وبينه ينبغي أن ترعى؛ فلذلك لما كانوا يعرفون هذه المرأة، وقد جرت لها هذه القصة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يغيروا عليها ولا على الصرم؛ أي: الحي الذي هي منه، وكانوا يغيرون على الأحياء من حولها من أحياء المشركين، (فقالت يومًا لقومها: ما أرى إن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا فهل لكم في الإسلام؟) (ما أرى) معناه: هل ما أراه صحيح؟ أو الذي أراه... الذي أراه أن هؤلاء القوم، فيمكن أن يكون اللفظ (أن) أو (إن)، فإذا قلت: ما أرى أن هؤلاء القوم؛ أي: ما أراه، و(ما) موصولة، والضمير العائد محذوف تقديره (ما أراه أن هؤلاء القوم) تقصد بهم المسلمين، (يدعونكم عمدًا)؛ أي: يتركون الإغارة عليكم عمدًا، وفي الرواية الأخرى: (ما أرى إن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا)؛ أي: الذي أراه: إن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا؛ أي: يتركون الإغارة عليكم عمدًا بسبب المعرفة، وهذا من حسن التعامل، فدعاهم ذلك إلى الإسلام؛ فلذلك قالت: (فهل لكم في الإسلام؟) فدعتهم إلى الإسلام، وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي أن يزدري نفسه، ولا أن يحتقر ما لديه من دعوة، فقد يستجاب لدعوته حتى لو كان امرأة، ولو كان ضعيفًا أو صغيرًا، فقد يستجاب لدعوته، وقد يسلم على يديه خلق فيزداد أجره بذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي يوم خيبر: (فلأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)، فأطاعوها فدخلوا في الإسلام؛ أي: أسلموا.

    وهذا الحديث فيه كثير من الفوائد منها:

    أن النوم عن الصلاة لا إثم فيه إذا كان الإنسان قد عمد إلى الأسباب وهيأها، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلوا قال: (من يكلؤ علينا الصبح؟)؛ أي: من يرعاه علينا؟ (فقال بلال: أنا، فأسند ظهره إلى راحلته مقابل...)، وفي رواية: (أنه كان يصلي فأتاه الشيطان فدغدغه كما يدغدغ الصبي حتى نام، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا بلالاً، فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفسكم)؛ فلذلك أعمل الأسباب، ولكن إعمال الأسباب ولو لم يترتب عليه الفائدة المتوخاة منه فإنه يرفع الإثم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضير)، أو: (لا يضير)، فرفع عنهم الحرج ونفاه بذلك.

    كذلك في الحديث دلالة على أن النائم عن الصلاة أو عن أي فرض من الفرائض لا يجب إيقاظه؛ لأنهم لم يكونوا يوقظون النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوقظ بعضهم بعضًا، إنما استيقظ أولئك الرجال الأربعة أولًا حتى كبَّر عمر فيما بعد.

    وكذلك يدل الحديث على جواز التعدي للأمر العام، إذا كان الأمر عامًّا فيمكن أن يتعدى على مال الغير، ويؤخذ للأمر العام، فهذه المرأة- وإن كانت مشركة- لكن تُعدي على مالها فجيء بها، وإن كان لم ينقص فيما بعد بسبب المعجزة.

    ويدل كذلك على أن النساء لسن مهيآت للعمل الذي فيه مشقة، ولا ينبغي أن يمارسن الأعمال التي فيها مشقة إلا إذا لم يجدن رجالًا؛ لأنها قالت: (ونفرنا خلوف)، تعتذر عن نفسها؛ إذ لو كان نفرها بالحضرة لما خرجت هي للاستسقاء.

    ويدل كذلك على مخاطبة الأجنبية ومكالمتها في غير ريبة أنه من الأمور الجائزة، فـعلي وعمران كلما هذه المرأة وأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    ويدل أيضًا على إحسان المعاملة حتى للمشركين، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبها فألان لها الكلام وجمع لها طعامًا ورد عليها ماءها، وكان أصحابه يتجنبون الإغارة على الحواء الذي هي منه؛ أي: الحي الذي هي منه.

    ويدل الحديث على ما جلب من أجله، وهو أن الصعيد يكفي المسلم في الطهارة؛ كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    شرح كتاب الصلاة

    ثم قال: كتاب الصلاة:

    عقد هذا الكتاب لما ورد في الصلاة من النصوص، والصلاة في اللغة: إما أن تكون مشتقة من المصلي الذي هو ثاني حلبة السباق؛ لأنها ثانية دعائم الإسلام، وحلبة السباق؛ أي: الخيل التي تتسابق، أولها يسمى المجلي، والذي بعده يسمى المصلي، وهكذا إلى آخرها، أو أن تكون مشتقة من (الصلى)، وهو عرق في باطن الفخذ ينتصب في القيام والركوع وينثني في الجلوس والسجود، ويطلق كذلك على الجلدة التي تغطي الورك لقربها منه، ومن ذلك قول الشاعر:

    حذاني بعدما قدمت نعالي دبية إنه نعم الخليل

    مقابلتين من صلويم شب من الثيران وصلهما جميل

    (من صلويم شب من الثيران وصلهما جميل)، مقابلتين؛ أي: نعلين متساويتين، (من صلويم شب)؛ أي: من جلد وركه (شب من الثيران)؛ أي: نشيط، (وصلهما جميل). وقيل مشتقة من التصلية، وهي: التسخين، فالعود إذا أريد تقويمه سخن على النار حتى يستقيم، فكذلك الإنسان في الصلاة، تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر وتقوم سلوكه كتقويم العود ليستقيم.

    والصلاة في اللغة: تطلق على الدين، ومن ذلك قول الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا[هود:87]؛ أي: أدينك يأمرك بذلك؟ وتطلق على الدعاء، ومنه قول الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهمْ[التوبة:103]؛ أي: ادع لهم، وتطلق على البركة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم، صلِّ على آل أبي أوفى)؛ أي: بارك عليهم، ومنه قول جرير:

    صلى على عزة الرحمن وابنتها لبنى وصلى على جاراتها الأخر

    هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور

    وتطلق الصلاة كذلك على العبادة المخصوصة: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام:162]؛ أي: عبادتي، والصلاة في الاصطلاح: عرفها العلماء بأنها: قربة فعلية ذات إحرام وسلام أو سجود فقط، (قربة)؛ أي: طاعة لله تعالى، (فعلية)؛ أي: لا تركية، بخلاف الصوم فإنه قربة تركية، وهذا يشمل الأقوال والأفعال، فالصلاة فيها أقوال وأفعال، وكل ذلك يسمى أفعالًا؛ لأن القول من الفعل؛ ولذلك جاء في الأثر: (من احتسب كلامه من عمله قل كلامه في ما لا يعنيه)، فالأقوال هي من أعمال الإنسان، (ذات إحرام وسلام)؛ أي: فيها تكبير لبدايتها وفيها سلام لنهايتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير، وتحليلها السلام)، وهذا مدخل للصلاة على الجنازة، ففيها تكبير لتحريمها وفيها سلام للخروج منها، وقد اختلف هل هي صلاة أم لا؛ لأنها ليس فيها ركوع ولا سجود، فذهب الحنفية إلى أنها ليست صلاة، وإنما هي دعاء، فيحل أن يصليها الإنسان على غير طهارة، ويحل أن تصلى إلى غير القبلة، وذهب الجمهور إلى أنها صلاة، فاشترطوا لها القبلة والطهارتين: طهارة الحدث، والخبث، والسترة؛ أي: ستر العورة.

    ويدخل كذلك سجود التلاوة وسجود الشكر وسجود الزلزلة بقولنا: (أو سجود فقط)، فهذه ليس لها تكبير ولا سلام، لها تكبير، لكن تكبيرها ليس إحرامًا؛ لأنها تدخل في أثناء الصلاة، فسجود السهو مثلًا يكون في أثناء الصلاة، وما كان في أثناء الصلاة ليست تكبيرته قطعًا تكبيرة إحرام؛ لأن تكبيرة الإحرام: ما كان في أول الصلاة فقط؛ فلذلك التكبير لسجود السهو، والتكبير لسجود الزلزلة، والتكبير لسجود الشكر ليس تكبير إحرام، إنما هو تكبير للانحناء، وكذلك الرفع يشرع له التكبير، (فليس فيها سلام)، إذًا ليست ذات إحرام وسلام، ولكنها ذات سجود؛ فلذلك تدخل في هذا التعريف، وقال عدد من أهل العلم: ليس السجود وحده صلاة، فلا يشترط له ما يشترط للصلاة، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة، وبها أخذ سفيان الثوري، فرأى أن سجود الزلزلة والشكر والتلاوة يمكن أن يكون إلى غير القبلة ومن غير طهارة.

    وهذا الخلاف في الصلاة على الجنازة وفي السجود- سجود التلاوة ونحوه- هل هو صلاة أم لا، هو الذي جعلها تستباح بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر، فيصلى على الجنازة بعد صلاة الفجر قبل الإسفار، وبعد صلاة العصر قبل الاصفرار، ويسجد للتلاوة في هذا الوقت للاختلاف هل هي صلاة أم لا، وسيأتينا الكلام في ما يستباح من النوافل في ذلك الوقت.

    1.   

    شرح باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء

    قال: باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء:

    عقد هذا الباب لكيفية فرض الصلاة، ولا يقصد به الكيف بمعنى الهيئة والتفصيل، وإنما يقصد بها عدد الصلوات وهيئة أدائها، فلا تقصد الكيفيات؛ أي: كيفية الفرض، أن الله تكلم بذلك، فالكيفيات في صفات الله وفي أمور الآخرة كلها ممنوعة، فلا يمكن أن نطلع نحن عليها؛ فلذلك ليس من تكليفنا أن نبحث عن الكيفيات كلها، حتى في الصراط، الصراط أرق من الشعر وأحد من السيف، ولا يمكن أن تعرف كيف يمشي الناس عليه كلهم، ونفس الشيء: جهنم حرها أشد من حرارة الشمس، وحرارة الشمس المتوقعة الآن على سطحها أربع عشرة مليون درجة حرارية، ومع ذلك يبقى فيها الناس يعيشون في جهنم ويتكلمون- نسأل الله السلامة والعافية- ويتخاصمون لآلاف أو مليارات السنين، هذه الأمور لا يدركها العقل، لا يدرك كيفياتها، وهكذا في كل أمور الآخرة فلا يدرك العقل كيفياتها، والإنسان لا يخاطب بالكيف فيها، ولا بالكيف في صفات الله جل جلاله، فيؤمن بها كما هي، ويعلم قصور عقله عن إدراك ذلك؛ لأن العقل حاسة من حواسه وجارحة من جوارحه، وجوارحه قاصرة لا تدرك إلا ما كان في داخل إطارها، فالعين أقرب شيء إليها العروق التي في الجفن ولا تراها، وإذا وقف الإنسان في مكان مستوٍ فلنظره حدود يتوقف عندها، فهذا دليل على أن العين لها مساحة، ولها حدود إلى أدنى وحدود إلى أعلى، والسمع كذلك أقرب شيء إلى الإنسان، جريان الدم في الدورة الدموية ونبض الأذينين اللذين يتحركان في القلب فينبضان؛ فلذلك صوت، لكن لا تسمعه أذن الإنسان؛ لأنه أقرب من مدى السمع، وتصل قوة الصاعقة بحيث لا يسمعها الإنسان؛ لأنها أقوى أيضًا من مدى السمع، فدل هذا على أن للسمع بداية ونهاية، وأن ما كان في داخل الإطار هو مجرى السمع ومتناوله، وأن ما ليس كذلك لا يتناوله السمع، وهكذا في العقل، فالعقل له بدايات ونهايات، فبدايات العقل هي: المسلمات، والأوليات، والمشاهدات، والمحسوسات، والمكاييل، والموازين، والوحدات التي يتفق الناس عليها، فأنت الآن لا تسأل لماذا كانت الساعة ستين دقيقة، ولا لماذا كانت الدقيقة ستين ثانية؛ لأن هذه الأمور اتفق الناس عليها كالمكاييل والموازين، فهي من بدايات العقول، ولا يفكر العقل في منشئها، وإنما يفكر في ما وراءها، فإذًا هذه بدايات العقول، وللعقول نهايات، وهي مواقف العقل التسعة التي يجمعها: (عجل وقتب)، فالعين: العرو من النقيضين، والجيم: جمع النقيضين، واللام: لزوم الدور والتسلسل، والواو: وقوع عدد لا نهاية له، والقاف: قلب الحقيقة، والتاء: تعدد الفاعل، وتحصيل الحاصل، وترجيح بلا مرجح، فهي إشارة لثلاثة أمور، والباء: بطلان الحصر، فهذه التسع هي مواقف العقول، ينتهي عندها مساحة العقل، وما كان بين بدايات العقول ونهايته هو مجال العقل يمكن أن يفكر فيه، لكن ما كان قبل البدايات وما كان وراء النهايات ليس للعقل عليه سلطان، وإذا عرفت هذا عرفت نفسك، فعرفت ربك بذلك؛ لأنك تعرف نفسك بالقصور، فتعرف ربك بالكمال.

    (فرضت الصلاة)؛ أي: فرضها الله جل جلاله، ومعنى (فرضت)، إما أن يكون معناه: قدرت؛ أي: قدر عددها، فقدرت في البداية خمسين صلاة ثم نقصت، أو أن يكون معنى ذلك: أوجبت، والكلام هنا في الصلاة الواجبة فقط، فلا يشمل ما سواها من النوافل، (فرضت الصلاة في الإسراء)؛ أي: في الليلة التي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، و(الإسراء) مصدر (أسرى)، وقد أسرى الله برسوله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أثبت ذلك في كتابه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى[الإسراء:1]، والبخاري عقد هذا الباب لذكر الإسراء؛ لبيان أن هذا الحديث الذي جلبه ليس فيه ذكر للإسراء، بل فيه ذكر للمعراج فقط، ومذهب البخاري وعدد كبير من أهل السنة: أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة؛ فلذلك قال هنا: (كيف فرضت الصلاة في الإسراء)، ولم يقل: (باب كيف فرضت الصلاة في المعراج)، والمذكور في هذا الحديث المعراج فقط لا الإسراء، فهذا من تمام نباهته وذكائه حيث أتى بالإسراء هنا- والذي لم يذكر في الحديث- ليفهم منه أن الإسراء والمعراج حصلا في ليلة واحدة وفي قصة واحدة، وقد جاءت أحاديث الإسراء والمعراج متعددة، وأكثرها في الصحيحين، وهو من رواية أنس بن مالك، فمنها ما حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ومنها ما حدث به عن أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري، ومنها ما حدث به عن غيره، فحدث بها عن عدد من الصحابة الكبار، وهذا الحديث الذي بين أيدينا يقول فيه:

    عن أنس بن مالك رضي الله عنه- وقد سبقت ترجمته- قال: كان أبو ذر يحدث، وأبو ذر هو: جندب بن جنادة الغفاري من بني غفار من قبائل قيس عيلان، وقد كانت قصة إسلامه عجبًا، وأوردها البخاري، وعقد لها بابًا في الصحيح، فذكر أنه لم يزل يسمع بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فلما كثر علي ذلك دعوت أخي فقلت: (اذهب إلى مكة فأتني بجلية أمر هذا الرجل)؛ أي: بظاهر أمره، فجاء فقال: (الناس فيه مختلفون بين مصدق له ومكذب، وقومه عليه جرآء، فقلت: لم تشف لي غليلًا، فصعدت على راحلتي حتى آتي مكة، فاستقبلني الملأ من قريش، فقالوا: إنك غريب بهذا الوادي، وإن بهذا الوادي رجلًا هو أسحر من عليها فاحذر أن تسمع شيئًا من كلامه لئلا يسحرك، فجعلت القطن في أذني خشية أن أسمع منه)، وجلس أبو ذر في المسجد؛ أي: في المسجد الحرام عند الكعبة، فلما كان وقت الظهيرة أتاه علي بن أبي طالب- وكان طفلًا صغيرًا إذ ذاك- فقال: لعلك غريب بهذا الوادي، فقلت: أجل، فقال: هل لك في قوم يضيفونك، أو في أهل بيت يضيفونك؟ فقلت: أجل، فقال: اتبعني، وفي رواية: أنه قال له: (فإذا رأيت شيئًا أكرهه استندت إلى الجدار وتشاغلت بخصف نعلي)؛ أي: بإصلاح نعلي، وذلك أن قريشًا كانوا يؤذون كل من رأوه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاف علي على أبي ذر من أذى قريش فأمره أن يتبعه، فسار علي أمامه، فإذا رأى من يخافه على أبي ذر من قريش تشاغل بإصلاح نعله واستند إلى الجدار ليقف أبو ذر... حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم، فأكرموا ضيافته، ثم عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم فأمره أن يكتم إسلامه عن قريش وقال له: (فإني أخافهم عليك)، وقال: (ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ينشئ جماعة، وهذه الجماعة لها شروط ومعايير لاختيار أفرادها، ولا يمكن أن يصلح لها جميع الناس، فكان الذين يسلمون إذ ذاك على ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: يصلحون للعمل ولتحمل المسئوليات ولكتمان السر، والانتظام الكامل في هذه المجموعة التي يربيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء ليس لديهم عوائق في أنفسهم ولا عوائق في الناس من حولهم، وقد جعل لهم دار الأرقم محضنًا، فرباهم فيها.

    القسم الثاني: قوم ليست لديهم عوائق في أنفسهم، فهم مستعدون للعمل تمامًا، ويمكن أن ينتظموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ما هم فيه، لكن مشكلتهم في تعلق الناس بهم، فهؤلاء جعل لهم دارًا أخرى، وهي دار سعيد بن زيد، وفيها فاطمة بنت الخطاب امرأته، والغريب في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار دارين ليستا لأحد من بني هاشم، ولا لأحد من أحلافهم- حلف المطيبين- بل دار الأرقم لشاب من بني مخزوم، وهم أعداء الدعوة، وأعداء بني هاشم في الجاهلية، والدار الثانية لبني عمهم أيضًا بني عدي بن كعب، وهم من بني عمرو بن مخزوم، ومن حلف لعقة الدم وليسوا من حلف المطيبين؛ وذلك تستيرًا على هؤلاء المؤمنين وأخذًا بالحذر والاحتياط، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالأخذ بالحذر في أربع آيات من كتابه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ[النساء:71]، وقال: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ[النساء:102]، وقال: وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا[المائدة:92]، وقال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[المنافقون:4].

    النوع الثالث من الناس: الذين لديهم عوائق في أنفسهم، لا يصلحون للانتظام مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا العمل، ولا يمكن أن يتحملوا كتمان السر، ولا أن يتحملوا أذى المشركين، فهؤلاء قبل منهم الإسلام، ولكن لم يقبل منهم الانتظام معه، كل واحد منهم يقول له: (ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي)، ومنهم أبو ذر، وقد حدث هو بأحاديث تدل على شخصيته منها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهاه أن يعلن إسلامه بمكة، وقال له: (فإني أخاف عليك قريشًا)، قال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم)، ومنها أيضًا: (طعنه في الرجل بأمه، حينما عيره بأمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي، وحديثه في الصحيح كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي).

    قال: (فأتيت قومي من الليل، فاستقبلني أبي، فقلت: إليك عني، فلست منك، ولست مني)، لا يستطيع كتمان السر ولا كتمان قناعته، قال لأبيه: (إليك عني، فلست منك، ولست مني، قال: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمدًا، ودخلت في دينه، قال: ديني دينك)، وهكذا فـأبو ذر كان من هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ولم يقبل منهم الانتظام؛ وذلك راجع إلى شخصياتهم، ولمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس.

    قال: كان أبو ذر يحدث- فسمع منه أنس ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فرج عن سقف بيتي)؛ أي: فرج سقف بيتي عن بقيته، وهذا النوع يسمى: القلب، وهو مثل قولك: كسر الزجاج الحجر، وخرق الثوب المسمار، وهو من مقاصد البلغاء ومنه قول الشاعر:

    ومهمه مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه

    أي: كأن لون سمائه أرضه، هذا النوع هو القلب؛ فلذلك قال: (فرج عن سقف بيتي)، معناه: فرج سقف بيتي عن سائره، ومعنى (فرج) رفع، ومن ذلك قول الله تعالى: وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ[المرسلات:9]، وكذلك (كشطت) في الآية الأخرى، فـ(كشطت)؛ أي: سلخت كسلخ الجلد وكشطه، ففصلت عن الأرض، وكذلك هنا (فرجت)؛ أي: فصلت عن الأرض.

    (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة)، وحكمة ذلك أن جبريل بعث ليشق صدره، وسيلتئم صدره بعد الشق، فأراد أن يؤنسه، فشق البيت قبل أن يجري له العملية، قبل أن تجرى العملية للرسول أجريت للبيت، فالتأم البيت، وعاد السقف إلى مكانه لئلا يرتاع هو، فإذا كان البيت أجريت له العملية فالتأم وعاد كما كان، فلا غرابة أن يلتئم صدره هو بعد العملية، فكان هذا تأليفًا، وهذا يشرع للأطباء إذا أرادوا أن يعالجوا أي إنسان أن يروه أن الأمر سهل، وأن يعالجوه بالعلاج النفسي قبل العلاج المباشر؛ فلذلك قال: (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل عليه السلام...)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك يعرفه، فقد أنزل إليه الوحي قبل ذلك مدة عشر سنين، كان هذا بعد عشر سنين من البعثة وقبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بعد البعثة بسبع سنين وقبل الهجرة بست سنين (ففرج صدري)، كما فرج السقف فرج صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: شقه حتى ترك فيه فرجة، (ثم غسله بماء زمزم)؛ أي: غسل قلبه وما حوله- وهو كل ما بداخل الصدر- بماء زمزم، وماء زمزم هو أفضل ماء على وجه الأرض، ويستثنى من ذلك الماء الذي نبع بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كأنما خرج من جسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول الفقهاء:

    وأفضل المياه ماء قد نبع بين أصابع النبي المتبع

    يليه زمزم فماء الكوثر فنيل مصر ثم باقي الأنهر

    وهذا يدل على أن ماء زمزم يصلح للتطهير، وقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها طعام طعم)، كما في صحيح مسلم، والطعام لا يصلح للتطهير، فهل زمزم يصلح للتطهير؟ اختلف العلماء في هذا، فذهب الشافعي إلى أنه لا يزال بماء زمزم النجس، لا يستنجى به من النجاسة، ولا يغسل به الأموات، ولكنه يتوضأ به ويغتسل منه، وذهب الجمهور إلى أن ماء زمزم مطهر كسائر المياه، فيغسل به الأموات، ويُستنجى به من النجاسة كسائر المياه، وأن قوله: (طعام طعم)، هذه خاصية فيه في نفعه للأجسام، وليست حكمًا مُنصبًا عليه، وإلا فإنه ليس فيه ربًا مع غيره من المياه، ولا تلزم فيه الزكاة لمن ملك بعضه، فليس هو كغيره من الطعام.

    (ثم جاء بطست من ذهب)؛ أي: جاء جبريل بطست من ذهب، إما أن يكون قد ارتفع في تلك اللحظة فجاء به، أو أن يكون قد جاء به من قبل فيكون العطف هنا للظهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الطست من قبل، وإنما رآه في تلك اللحظة، (جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا)، فالطست من الذهب في شكله وصورته، وهو ممتلئ حكمة وإيمانًا، والحكمة هي: العقل والرأي ووضع الشيء في محله؛ ولذلك يسمى وضع اللين في محله حكمة، ووضع الشدة في موضعها حكمة، وقد قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ[النحل:125]، وقد قال أبو الطيب المتنبي:

    ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

    فكل شيء يوضع في محله فهذه هي الحكمة.

    (وإيمانًا)، وهذا الإيمان عرفه الله، قال: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[الشورى:52]، فالإيمان هو نور يهدي الله به من شاء من عباده؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر فلاسفة اليونان وفلاسفة المسلمين الضالين قال: (أوتوا ذكاءً ولم يعطوا زكاءً)، فقد أعطاهم الله ذكاء؛ أي: وفرة في العقل عجيبة، ولكن لم يعطهم زكاءً؛ أي: نورًا إيمانيًّا؛ فلذلك ضلوا.

    (فأفرغه في صدري)؛ أي: أفرغ ذلك الطست بما فيه من الحكمة والإيمان في صدري، في صدر النبي صلى الله عليه وسلم، (ثم أطبقه)؛ أي: أطبق صدره فعاد، وهذه هي المرة الثانية، فقد شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل عند مرضعته حليمة السعدية بالبادية، وهذه العملية هي تهيئة لمشاهدة كثير من الغيوب، كاختراق السماوات السبع والوصول إلى سدرة المنتهى ودخول الجنة، وكذا سماع صريف الأقلام وسماع كلام الله جل جلاله، فهذه أمور لا يستطيع البشر تحملها؛ فلذلك يهيئون لها كما هيئ في أول نزول الوحي بالخلق، فقد غطه جبريل ثلاثًا حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله تهيئة لذلك؛ ولهذا فضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل هي التهيئة لسؤال الملكين منكر ونكير، فالإنسان العادي لا يتحمل سماع كلام الملائكة؛ فلذلك يُهيَّأ بهذه الضمة الشديدة التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل لسماع كلام الملائكة، فكذلك شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم هنا كان تهيئة لهذه الرحلة المباركة التي انتقل فيها إلى المسجد الأقصى، وصلى بالملائكة هناك، ثم عرج به حتى اخترق السموات السبع، ولقي وفدًا من الأنبياء أعدهم الله لاستقباله، فأعد لاستقباله في السماء الدنيا آدم، وفي كل سماء أعد نبيًّا آخر لاستقباله حتى بلغ سدرة المنتهى، ودخل الجنة، وسمع صريف الأقلام، وخاطبه الله جل جلاله، وشرفه بأنواع التشريف، ورده مكرمًا معززًا بعد أن فرض عليه الصلاة، فكل هذه الرحلة تقتضي إعدادًا؛ فلذلك هيئ لها بهذا الشق.

    (ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا)، هكذا سياق حديث أبي ذر هنا، وقد جاء أنه أولًا سار به إلى بيت المقدس، وأنه ذهب به إلى باب بني جمح، وهو الباب الذي يقابل الركن اليماني من المسجد الحرام، وهو في أبواب المسجد الحرام الآن يقابل بابًا يسمى باب الملك عبد العزيز، فهذا الباب في مقابله باب بني جمح مقابلًا للركن اليماني، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم البراق مربوطًا هناك، وهو قد عرفه بأنه بين الفرس والحمار، فهو أقصر من الفرس وأطول من الحمار، ولما أمره أن يركبه شمس؛ أي: نفر منه، فوضع جبريل يده على ظهره فقال: اهدأ، فما ركبك أفضل منه، فاستكان له البراق: تواضع له، فركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار به إلى بيت المقدس، ومن هناك نصب له المعراج، فعرج به إلى السماء، لكن هذه الرواية فيها أن المعراج كان من مكة، والنتيجة واحدة؛ لأن المعراج قطع لمسافات شاسعة عن الأرض فلا عبرة بمنطلقه سواء من مكة أو من الشام، فهذه نقطة يسيرة في مقابل الفضاء الضخم الذي يخترقه، فالمسافة بين السماء والأرض خمسمائة عام، وذلك حسب ما يرى كثير من علمائنا اليوم بالسنوات الضوئية، وسمك كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، فهي مسافات شاسعة لا تتصور؛ ولذلك إذا كان الإنسان في الفضاء فيرى الأرض كلها كأنها نقطة، فيستوي فيها الشام ومكة؛ لأنها بمثابة النقطة من الفضاء الخارجي؛ فلذلك قال: (ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء...)؛ أي: عند باب من أبوابها، (افتح، قال: من هذا؟)؛ أي: قال خازن السماء لجبريل: من هذا؟ أي: من أنت؟ (قال: هذا جبريل)، وجبريل في اسمه ست وعشرون لغة، فيقال فيه: جِبريل وجَبريل وكذلك جبرئيل وجبرائيل وجبرئين وجبرائين... إلى آخره، فالجميع ست وعشرون لغة بالتثليث وباللام وبالنون وبإثبات الألف والمد وبحذف ذلك.

    (قال: هل معك أحد؟)، سأله خازن السماء هل معه أحد من أهل الأرض (قال: نعم، معي محمد)، صلى الله عليه وسلم، وهو معروف لدى أهل السماء، فهم جميعًا يؤمنون به ويعرفونه، والسماء فيها أعداد هائلة من الملائكة؛ كما في الحديث الصحيح: (أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع)، والملائكة يسمون: التلاميذ، وهذا شرف لتلامذة الدورة أن يسموا باسم الملائكة، فالملائكة تلاميذ؛ أي: خدم السماء كما قال أمية بن أبي الصلت:

    فيها تلاميذ على صهواتها حبسوا قيامًا والفرائص ترعد

    (قال: نعم معي محمد)، صلى الله عليه وسلم، (فقال: أُرسل إليه؟)؛ أي: هل أُرسل إليه؟ وكانوا ينتظرون الإرسال إليه، وهم يعلمون أنه خاتم الأنبياء، فإذا أرسل إليه فلن يرسل إلى أحد بعده من أهل الأرض، وفي رواية: أنه قال: (فمرحبًا به، ونعم المجيء جاء)، فرحب به خازن السماء وكل خازن سماء يرحب به بهذا الترحيب، (قال: نعم، فلما فتح علونا السماء الدنيا)؛ أي: صعد النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل السماء الدنيا: (فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح)، لما صعدوا فوق السماء كان الله قد أعد له في السماء الدنيا وفدًا لاستقباله، وهذا الوفد هو عبارة عن آدم أبي البشر عليه السلام، فقد أعد في السماء الدنيا، إما أن يكون هذا مستقر روحه، وإما أن يكون جيء به في تلك الليلة فقط لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم، كما جيء بغيره من الأنبياء للترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فرحب به آدم قال: (مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح)، فشهد له بالصلاح مرتين: بالصلاح في نبوته، وبالصلاح في بنوته، فهو صالح في نبوته، فذلك يقتضي قيامه بحق النبوة، وهو صالح في بنوته؛ أي: في إنسانيته، فهو إنسان كامل مؤد لحقوق الإنسانية، (عن يمينه أسودة)؛ أي: أشخاص كثيرون، (وعن يساره أسودة)؛ أي: أشخاص كثيرون كذلك، و(الأسودة) جمع (سواد)، و(السواد) هو الشخص، يطلق السواد على الشخص.

    (إذا نظر قبل يمينه)؛ أي: جهة يمينه، (ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى) (قلت لجبريل: من هذا؟...)؛ أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم صلى الله عليه وسلم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه)؛ أي: نسمات بنيه؛ أي: أرواحهم، وذلك قبل أن تنفخ في الأجساد، فالأرواح وجدت منذ مسح الله ظهر آدم ببطن نعمان، (فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي ربي، من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي ربي، من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، شهدوا له جميعًا بالربوبية، فأخذ عليهم العهد بعبادته وألا يعبدوا الشيطان، قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61])، فمنذ ذلك الوقت دخلنا جميعًا حيز الوجود، وأصبحنا نُسأل ونجيب، ويؤخذ علينا العهد، وهذا العهد نجدده كل يوم؛ كما صح في حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم، أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قال ذلك في يومه فمات فيه دخل الجنة، ومن قاله في ليلته فمات فيها دخل الجنة)، فهذا الحديث فيه تجديد لهذا العهد، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، على عهدك: بألا أشرك بك شيئًا، ووعدك: وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئًا أن يدخله الجنة، فهذا العمر الأول من أعمارنا، ومنذ ذلك الوقت حبست الأرواح في السماء الدنيا، وهي تنزل إلى الأجنة في بطون أمهاتها، كل جنين تنزل له الروح التي تختص به، فتنفخ فيه وهو في بطن أمه عندما يكمل أربعة أشهر؛ كما في حديث ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، وهذا الحديث تحفظونه جميعًا مثلًا في الأربعين النووية، ولكن النووي رحمه الله أدرج فيه كلمة ليست في الصحيحين، وهي كلمة (أربعين يومًا نطفة)، فكلمة (نطفة) ليست في شيء من الصحيحين، ولا أظنها تصح، فلفظ الصحيحين: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك).

    وتبقى الأرواح هنالك، فإذا جعلت في الأجسام فإنها تبقى محبوسة في الجسم مدة العمر الدنيوي، وهذا العمر الدنيوي هو ما بين النفخة والنزعة، فالنفخة؛ أي: نفخ الروح في الجنين وهو في بطن أمه، والنزعة: هي انتزاع الروح منه عند الموت: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ[الأنعام:61]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا[النازعات:1-2]، فهذه النزعة هي نهاية العمر الدنيوي الذي هو حبس للروح في الجسد، ثم بعد ذلك إذا أُخرجت الأرواح من الأجساد، فإما أن يكون صاحبها مؤمنًا تقيًّا، فتكون من أهل السعادة، وتكون في حواصل طير خضر تتفيأ من ظلال الجنة وتأكل من ثمارها، وإما أن يكون من أهل الشقاوة- نسأل السلامة والعافية- فأرواح الأشقياء محبوسة في سجين وهي: الأرض السابعة في أسفل السافلين- نسأل السلامة والعافية- فلذلك قال: (نسم بنيه)؛ أي: نسمات بني آدم؛ أي: أرواحهم قبل نفخها في الأجساد (فأهل اليمين منهم أهل الجنة)؛ أي: الذين عن يمين آدم أهل الجنة، (والأسودة التي عن شماله أهل النار)، (فإذا نظر عن يمينه ضحك لكثرة من يرى من ذريته من أهل الجنة، وإذا نظر قِبل شماله بكى لكثرة من يرى من ذريته من أهل النار حتى عرج بي إلى السماء الثانية)؛ أي: عرج بي جبريل إلى السماء الثانية، (فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول)؛ أي: خازن السماء الدنيا، (ففتح)، قال أنس: (فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، صلوات الله عليهم ولم يثبت كيف منازلهم)؛ أي: لم يثبت أنس كيف منازلهم من السموات في هذا الحديث، ولكنه ثبت ذلك في غير هذا الحديث، فبين أن آدم في السماء الدنيا، وأن عيسى ويحيى في السماء الثانية، وأن يوسف عليه السلام في السماء الثالثة، وأن إدريس في السماء الرابعة، وأن هارون في السماء الخامسة، وأن موسى في السماء السادسة، وأن إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة، وقد نظم هذا الترتيب جدي محمد علي رحمة الله عليه بقوله:

    آدم فابنا الخالتين يوسف إدريس هارون فموسى الأعرف

    ثم الخليل هكذا ترتيب أولاء ليلة سرى الحبيب

    وكل هؤلاء وفد للاستقبال للترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم يرحب به.

    وفي هذا الحديث أن إبراهيم في السماء السادسة، وهو شاذ؛ لمعارضته للأحاديث الأخرى الصحيحة التي هي أكثر رواة أنه في السماء السابعة لا في السادسة، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة، لكن مع ذلك ورد عن علي رضي الله عنه أن في كل سماء بيتًا بحذاء البيت الحرام؛ أي: بإزائه ومقابله، وأكبرها البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة، ثم لا يرجعون بعد.

    (ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة)، قال أنس: (فلما مر جبريل عليه السلام بالنبي إدريس صلى الله عليه وسلم قال: مرحبًا بالنبي الصالح، الأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت من هذا؟ قال: هذا موسى، ثم مررت بعيسى، فقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى، ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم)، فجميعهم رحبوا به، مما يدل على أن هذه هي المهمة التي جيء بهم من أجلها، للترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم واستقباله في السماوات السبع.

    هنا انقطع سياق الحديث؛ أي: حديث أنس، وبقي حديث آخر من حديث ابن عباس، جاء به ابن شهاب، فأدرجه في حديث أنس للاشتراك في السياق وفي الإسناد، فقال البخاري: قال ابن شهاب؛ أي: بالإسناد السابق إليه، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهو من صغار التابعين ومن الأئمة الأعلام، فأخبرني ابن حزم؛ أي: أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، وهو صحابي، وأبوه صحابي، وابنه صحابي، وقيل: بل ابنه تابعي فقط، أن ابن عباس وأبا حبة، وأبو حبة أيضًا من كبار الصحابة من الأنصار ممن شهد بدرًا، وكلاهما كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم عرج بي)؛ أي: فوق السماوات السبع، (حتى ظهرت)؛ أي: ارتفعت، (لمستوى)؛ أي: لمكان مرتفع، (أسمع فيه صريف الأقلام)؛ أي: أسمع فيه كتابة الأقلام في اللوح المحفوظ، قال أنس بن مالك؛ أي: رجع الحديث لسياق حديث أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة)، والمقصود: فرض خمسين صلاة في اليوم والليلة، ولا يعرف عدد ركعاتها، فنحن نعلم الآن أن الصلوات الخمس متفاوتة في عدد الركعات، لكن الصلوات الخمسين ما ندري شيئًا عن عدد ركعاتها؛ لأنها لم تفصل، وقد قيل: إنه لم يبين له عدد الركعات ولا أوقات الصلاة إلا في وقت صلاة الظهر من الغد، فالظهر أول صلاة صليت في الإسلام، فلم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح؛ لأنه لم تبين له هيئة الصلاة ولا عدد ركعاتها، أو أنه صلاها؛ لأنه كان فرض عليه قبل المعراج ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، فصلى الركعتين بالغداة، فنابتا عن صلاة الفجر؛ لأن صلاة الفجر كانت ركعتين في الحضر والسفر، ثم لما كان وقت الظهر أتاه جبريل وهو بمكة فعلمه الطهارة والوضوء، وعلمه الصلاة؛ كما قال في سنن الترمذي وغيره: (أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في الأولى منهما حين صار الفيء مثل الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الصبح حين برق الفجر، وصلى بي الظهر في الثانية منهما حين صار ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين وجبت الشمس لوقتها الأول، وصلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلى بي الصبح حين أسفر، ثم قال: يا محمد، هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين)، فحدد له أوقات الصلاة وهيئاتها وعدد ركعاتها، وهذا من تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وتأخير البيان لوقت الحاجة جائز إجماعًا، عقلًا وشرعًا، أما تأخير البيان عن وقت الحاجة فهو محذور، لا يقبله العقل والشرع؛ فلذلك قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ففرض الله عز وجل على أمتي)؛ أي: وعليَّ معهم، فالفرض عليه فرض على أمته، (خمسين صلاة فرجعت بذلك)؛ أي: بهذا العدد، (حتى مررت على موسى- وقد سبق أنه في السماء السادسة- فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك)؛ أي: لا تستطيعه، وقد أخبر أنه عالج بني إسرائيل- وهم أقوى أبدانًا وأطول أعمارًا- فلم يستطعوا الوفاء بما فرض عليهم، (فراجعت، فوضع شطرها)؛ أي: وضع الله شطرها؛ أي: نصفها، إما أن يكون ذلك دفعة واحدة كما يدل عليه هذا السياق؛ أي: وضع عنه خمسًا وعشرين صلاة أو أن يكون ذلك بالتقسيط والتدريج، كما سيأتينا بيانه في الأحاديث الأخرى.

    (فرجعت إلى موسى، قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها)؛ أي: شطر خمس وعشرين، وذلك بتكميل الكسر؛ أي: وضع عنه في المرة الثانية ثلاث عشرة صلاة؛ لأن خمسًا وعشرين نصفها اثنتا عشرة ونصف، فكمل الكسر، وذلك أنه في كل مرة يضع عنه وترًا، والوتر أحب إلى الله، فالمرة الأولى خمسًا وعشرين، والمرة الثانية ثلاث عشرة، والمرة الثالثة وضع عنه سبع صلوات، فبقيت خمس؛ فلذلك قال: (قلت: وضع شطرها، قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق، فراجعت، فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال: هن خمس وهن خمسون)؛ أي: وضع سبعًا من اثنتي عشرة فبقي خمس فقال: (هن خمس، وهن خمسون، لا يبدل القول لدي)، وقد ثبت في الأحاديث الأخرى أنه في كل مرة يضع خمسًا، وأنه لم يزل يتردد بين موسى وربه فيضع عنه ربه خمسًا خمسًا، ولا منافاة بين وضع الشطر والحديث عن وضع خمس خمس؛ لأن الشطر عبارة عن خمس... خمس مرات وهي خمس وعشرون، وهكذا؛ فلذلك قال: فرجعت إلى موسى، فقال: (راجع ربك، فقلت: استحييت من ربي)؛ أي: استحيا من مسألته، وليس هذا حياء من الدعاء، فالدعاء لا يستحيا منه، بل على الإنسان أن يسأل الله كل حاجة، وقد كان عروة بن الزبير يسأل الله كل شيء حتى الملح في الطعام، وأنتم تعرفون الأحاديث التي فيها حض على الدعاء، وأنه هو العبادة، وقد أمر الله به ووعد بالإجابة فقال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60]، لكن ما وجه الاستحياء؟ ذكر ابن المنير رحمه الله في شرحه على صحيح البخاري نكتة عجيبة في وجه الاستحياء، فقال: (عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مرة أنه يضع عنه خمسًا، فلما لم يبق إلا خمس استحيا أن يكون يريد إسقاطها جميعًا) إسقاط الخمس؛ لأنه في كل مرة من المرات الماضية يسقط خمسًا، فكأنه يعتذر عن الصلاة كلها، وهذا غير وارد؛ فلذلك استحيا، فلم يسأله بعد أن بلغ خمسًا فقط، لم يبق إلا دفعة واحدة، فإذا سأل إسقاطها فمعنى ذلك الاعتذار عن التكليف.

    قال: (استحييت من ربي ثم انطلق بي)؛ أي: انطلق بي جبريل، (حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى)، وهي منتهى ما يصل إليه جبريل، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السدرة في الحديث الآخر فقال: (فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا نبقها كقلال هَجر)، وهذه السدرة نوه الله بشأنها في القرآن، فذكر أن عندها جنة المأوى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى[النجم:13-15]، (وغشيها ألوان)؛ أي: غشي سدرة المنتهى ألوان من الأضواء والأنوار لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما هي، وقد قال الله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى[النجم:16]، وهو ألوان من أمر الله جل جلاله؛ لذلك قال: (وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة...)، هنا أدخل الجنة بأمر الله، وقد بقي جبريل عند سدرة المنتهى، ولم يتعدها، قال: (هذا مقامي لا أتعداه)، (أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ)، هكذا الرواية هنا، هي رواية كثير من الذين رووا صحيح البخاري، (حبائل اللؤلؤ)، و(الحبائل) جمع (حبالة) وهي: الشبكة والشراك التي توضع ليصطاد بها تسمى (الحبائل)، ومنه الحديث: (النساء حبائل الشيطان)؛ أي: شراكه التي يصطاد بها الناس، ولكن الرواية المشهورة في الحديث: (جنابذ اللؤلؤ)، فأكثر الروايات في الصحيح (جنابذ اللؤلؤ)، و(الجنابذ) جمع (جنبذة) أو (جُنبذة)، وهي: القبة الكبيرة من اللؤلؤ، فالقبة تكون منعوتة من لؤلؤة واحدة، (وإذا ترابها المسك)، إذا ترابها؛ أي: تربة الجنة، ما فيها من التراب من المسك؛ أي: ذريرة المسك لحسن رائحته، وهنا ذكر اللؤلؤ والمسك لا يقتضي أن ما في الجنة هو عين ما عرفناه في الدنيا، بل قد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)؛ أي: الذي فيها يشترك مع اللؤلؤ في الاسم ولا شك، ثم شبه، ولو كان شيئًا يسيرًا، وكذلك ترابها له شبه بالمسك، ويسمى مسكًا، فيشترك مع المسك في الاسم، وإن كان الشبه لا يعطي حقيقة ذلك، وهذا أحد المثلين اللذين ضربهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في صفات الباري جل جلاله، فقال: (لله وجه يليق به، وله يد تليق بجلاله، وله عين تليق بجلاله)، فإذا كانت هذه المخلوقات التي هي ما في الجنة وما في الأرض لا تشترك إلا في الاسم، ومع ذلك ليس بينها أي شبه، فكذلك ما كان مخلوقًا وما ليس مخلوقًا، فالمخلوق كوجهك أنت ويدك وساقك وقدمك وأصابعك، وما ليس مخلوقًا كوجه الله وعينه وقدمه وأصابعه وساقه وشخصه، فهذه تليق بجلال الله وتشترك مع ما للمخلوق في الأسماء فقط، لا تشترك معه إلا في الاسم، فلا يقتضي ذلك تشبيهًا أبدًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

    هذا الحديث يؤخذ منه كثير من الأحكام وكثير من المعاني الكبار، ولكن الوقت لا يتسع لذلك، وفيه بيان للتنويه بشأن الصلاة أنها فرضت فوق سبع سماوات، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، بخلاف غيرها من العبادات والقربات فكانت تنزل إليه وهو في مقره في الأرض، وهذا يدل على أنها أفضل الطاعات وأفضل القربات، وكذلك يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأكرمهم على الله؛ ولذلك هيئوا لاستقباله، ورفع هذا المقام الرفيع العلي.

    وكذلك يدل الحديث أيضًا على أن الجنة موجودة الآن، والنار كذلك موجودة الآن قد خلقت، والجنة في العلو، والنار في السفل؛ ولذلك دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما فيها، ويدل الحديث كذلك على أن قصة الإسراء كانت بشخص النبي صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده معًا، وليست مجرد رؤيا منام كما فهمه بعض أهل السنة من قول الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ[الإسراء:60]، فقد كانت إسراءً حقيقيًّا لروحه وجسده؛ ولذلك كذبه قريش فيها، فلو كانت مجرد رؤيا منام لما كذبوه؛ لأن الإنسان حتى لو لم يكن نبيًا يرى كثيرًا من المرائي العجيبة ولا يكذب في أنه رآها؛ ولهذا قال الله تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى[النجم:17-18]، والذي يراه البصر لا بد أن يكون ما شهده بالجسم؛ لأن الذي تراه بالمنام لم يره البصر، وإنما رأته الروح.

    وفي الأحاديث معان كثيرة أخرى لا نستطيع تتبعها الآن، وأنا أعتذر عن استكمال باقي أحاديث هذه الدورة لعارض يقتضي مني سفرًا، فأعتذر إليكم أشد الاعتذار، وفي المشايخ الباقين بركة إن شاء الله، وهم يتممون الواجب، ولعل الله ييسر لنا فرصة أخرى نشرح فيها أيضًا في دورات قادمة لهذه الوزارة.

    1.   

    دعاء وابتهال

    فنختم الآن بالدعاء:

    اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيرًا كما تنعم كثيرًا، لك الحمد كالذي نقول وخيرًا مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أن قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حُلْتَ دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا.

    اللهم، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم، استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم، أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا ولا تجعلنا أتباعه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

    اللهم، احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بركنك الذي لا يرام، واجعلنا في جوارك الذي لا يضام، وارحمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت رجاؤنا، فكم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك بها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل لك بها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا، ويا من رآنا على الخطايا فلم يفضحنا، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدًا، ويا ذا النعمة التي لا تحصى عددًا، نسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وبك ندرأ في نحور الأعداء والجبارين.

    اللهم، أعنا على ديننا بالدنيا، وعلى آخرتنا بالتقوى، واحفظنا فيما غبنا عنه، ولا تكلنا إلى أنفسنا فيما حضرناه، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لنا ما لا ينقصك، واغفر لنا ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، نسألك فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلًا، ورزقًا واسعًا، والعافية من البلايا، ونسألك تمام العافية، ونسألك دوام العافية، ونسألك الشكر على العافية، ونسألك الغنى عن الناس.

    اللهم، أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا، ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم، اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك رهابين أواهين منيبين، اللهم، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا، اللهم، إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، إلى من تكلنا، إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى قوي ملكته أمرنا، إن لم يكن بك علينا سخط فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بنا سخطك، أو يحل علينا غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

    اللهم، بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، واجعل وجوهنا جميعًا من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجهك الكريم، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وجوزنا على الصراط كالبرق الخاطف، وثقل موازين حسناتنا، وأظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقنا من حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا.

    اللهم، إنا نسألك بوجهك الكريم الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم، إنا نسألك مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، اللهم، إنا نسألك أن تجعلنا أجمعين من الشافعين المشفعين يوم القيامة، وأن تجعلنا من المقسطين الذين هم على منابر من نور عن يمينك- يا ربي- وكلتا يديك يمين مباركة.

    اللهم، بارك على جميع السامعين والحاضرين، واقض ما في علمك من حوائجهم أجمعين.

    اللهم بارك على القائمين على هذه الدورة، ووفق مساعيهم، وتقبل منهم، واجعل عملهم خالصًا لوجهك الكريم، اللهم اقض حوائجهم أجمعين، اللهم، بارك على أهل هذا البلد، وأسبغ عليهم نعمك ظاهرةً وباطنة، اللهم، آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك، واجعل المال في أيدي أسخيائنا، اللهم، اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا رخاءً سخاءً سعة وسائر بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين.

    اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767388471