إسلام ويب

التجارة مع اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يسعى الناس للتجارة والربح فيها، ويجتنبون الخسارة، وإن أعظم تجارة هي التجارة مع الله، ولا يستطيع المتاجرة مع الله إلا المؤمنين الصادقين، في إيمانهم وجهادهم، وبذلك ينالون المغفرة ودخول الجنة والنصر من الله.

    1.   

    نداء الله سبحانه وتعالى المؤمنين للتجارة والمرابحة معه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى دعانا في محكم التنزيل إلى المبايعة معه، وإلى صفقة مربحة، وقد بين طرفيها فقال جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13].

    وهذه الصفقة قد دعا الله إليها المؤمنين جميعاً ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، فناداهم نداء كريماً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خير يقدمك إليه، أو إلى شر يصرفك عنه. فكلما جاء هذا النداء في القرآن، فعلينا أن ننتبه، وأن نعلم أن وراءه إرشاداً ربانياً من الله جل جلاله، لامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه، وأن ذلك خير لنا في شأننا كله.

    علة النداء بوصف الإيمان

    وعندما نادانا باسم يحرك الضمائر للاستجابة، لم يقل: يا أيها الناس.. في هذا المقام، ولم يقل: يا بني الإنسان، ولم يقل: يا بني آدم، في هذا المقام، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، فسمانا بهذا الموصول الذي صلته هي أشرف أفعالنا، وأشرف ما يمكن أن يصدر عنا، فإن إنسانيتا، أو كوننا بني آدم، أو بشريتنا، أو غير ذلك من الأوصاف، ليس راجعاً إلى فعلنا، وإنما هو من فعله جل جلاله، ليس لنا فيه شيء، فكل ما يرجع إلى الخلقة لا يمدح به الإنسان؛ لأنه ليس من فعله، ولا من تدبيره، وإنما ينسب إليه ما فعله، وما كان من كسبه واجتهاده، ولذلك نادانا بأشرف أوصافنا وأشرف أفعالنا، وهو الإيمان به جل جلاله، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10]، وأتى بهذا؛ للشمول أيضاً، فإنه لو قال: يا أيها الذين أحسنوا، أو يا أيها الذين جاهدوا، أو يا أيها الذين عملوا الصالحات، لاقتصر هذا النداء على بعضنا دون بعض، وهم المحسنون أو العاملون أو المجاهدون، فلما كان الإيمان مطلوباً من جميعنا، ولم يكن لأحدٍ عذر في تركه، وكان أشرف أعمال أي إنسان منا، نادانا به فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

    مفهوم الإيمان

    وهذا الإيمان هو منهج حياة، فيشمل اعتقاداً بالجنان، ونطقاً باللسان، وعملاً بالأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالعصيان، وهو الذي تدخل به الجنة، وهو الذي يباعد به الإنسان من النار، وهو الذي يتقبل به العمل، فمن ليس من أهل الإيمان لا يمكن أن يكون من أهل التقوى، ولا من أهل الإحسان، ولا يمكن أن يتقبل الله منه أي عمل، فقبول العمل وإحسانه كل ذلك من توابع الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

    وقد ثبت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ( إن عبد الله بن جدعان كان يطعم الفقير، وللمسكين وابن السبيل، أفيغني ذلك عنه من الله شيئاً؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، ومن ليس من أهل الإيمان لا يمكن أن يوثق به في أي عملٍ يقوم به، فأعمال الإنسان أصلها التزاماته، كبيعاته، وأنكحته وأكريته وتجاراته، وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها، وهذه مشتركة بينه وبين غيره، لكن لا يمكن أن يثق الطرف الآخر بالإنسان، إذا كان مفرطاً في علاقته بالله، فيكون العمل كله مختلاً، حتى لو عرف من الإنسان أنه حريص على الثقة في مؤسسته، أو تجارته، ومع ذلك تعلم أنه أخل بالعهد الذي بينه وبين الله جل جلاله، فإنك لا تثق أن يبدل عهدك في أي وقت من الأوقات.

    ومن المؤسف أن كثيراً من أهل الإيمان الآن، يرون أن كثيراً من الكفار أجدر بالثقة وإحسان المعاملة من المسلمين؛ لأنهم يرون منهم التزاماً وأخلاقاً، ومع ذلك فهذا الالتزام والأخلاق إنما هو أمر ظاهري فقط؛ لأنهم لا يخافون عقوبة أخروية، ولا يرجون لله وقاراً، وليس لهم وازع من إيمانهم، ولا من ضميرهم يحول بينهم وبين الإخلاف والنقض، إذا خلوا بأنفسهم، وإنما يفعلون كل هذه الأخلاقيات، ويحسنون المعاملة؛ من أجل مصالحهم وتجاراتهم، ولذلك إذا كانت مصالحهم على العكس، فإنهم لن يقوموا بهذه الأخلاق، وقد شاهدنا تصرفاتهم في البلاد التي احتلوها، ونحن نشاهد في كل لحظة ما يفعلونه في العراق، وفي أفغانستان، وفي أماكن كثيرة، وما نبش في البوسنة من مقابر المسلمين، مقبرة واحدة فيها ثمانية آلاف قتيل، قتلوا جميعاً بدم بارد، ذبحوا بالسكاكين، ودفنوا في مقبرة واحدة جماعية.

    فهؤلاء لا يمكن أن يوثق بإنسانيتهم، ولا بأخلاقهم، ولا بمعاملتهم، وإنما يظهرون ذلك عند ضعفهم وعند حاجتهم، وعندما يريدون الربح، ويريدون استغلال الآخرين، والحصول على ما بأيديهم من المال، أو الحصول على إحسان معاملتهم، ومن كان من أهل الإيمان والتقوى فإنه يعلم أن الله رقيب على تصرفاته، وأنه يعلم السر وأخفى، فإذا خلا بنفسه، لم يقل: خلوت؛ لأنه يعلم أن الله رقيب لا يغيب، وإذا كان في أي مكان، فإنه يعلم أن الله يراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومن هنا فإحسانه للمعاملة ليس خوفاً من سلطة القانون، ولا خوفاً من العقوبة، ولا طمعاً في مصلحة دنيوية، وإنما هو خوف من الله جل جلاله؛ لأنه يراه.

    وهنا نذكر قصة الفتاة الصغيرة التي جاءت مع أمها من البادية إلى المدينة، وكانت أمها تبيع اللبن، فلما خلت بابنتها في الليل، مزجت اللبن بالماء، فقالت لها بنيتها الصغيرة: يا أماه! إن هذا حرام، وهو غش للمسلمين، قالت: إن عمر لا يرانا الآن، قالت: إن لم يكن عمر يرانا، فالله يرانا. وكان عمر يمر حول النافذة فسمع هذا الكلام، فأعجب بضمير هذه البنت الصغيرة وإيمانها، فخطبها لابنه، وزوجها أحد أولاده، ويقال: إنها كانت جدة عمر بن عبد العزيز ، أم أمه مباشرةً، فعمر بن عبد العزيز أمه فاطمة بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وهذه البنت يقال: هي زوجة عاصم ، وتكون بهذا جدة عمر بن عبد العزيز .

    مقتضيات الوازع الإيماني

    وهذا الوازع الإيماني يقتضي من الإنسان الخوف من الله في كل أحيانه، حتى في حال إحسانه، فهو في صلاته والناس نيام، يخاف أن لا يتقبل الله منه فيبكي خوفاً من الله.

    ترى الحبر بالأسحار تهمي دموعه وترفث في أسحارها الدأثاء

    في الوقت الذي يقبل فيه على الله سبحانه وتعالى يعلم أنه عرضة لعدم القبول، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وإذا كان يبكي من خوف الله سبحانه وتعالى في صلاته وخشوعه وسجوده، فكيف لا يبكي منه ويخافه في حال معصيته ومخالفته، فهو بذلك حي الضمير والقلب، مقبل على الله سبحانه وتعالى في شأنه كله، مطلع على خبايا خدائع النفس والشيطان، ومطلع أيضاً على ما فرط فيه في جنب الله، وعلى إساءاته، فهو يخاف أن يؤخذ بها في كل وقت، ولا يأمن مكر لله، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ومع ذلك لا يحمله ما يرى من خطاياه وسوابقه على أن ييأس من روح الله، فقد قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فهو يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ومن هنا فإن وفاءه راجع إلى إيمانه بالله ورقابته، وصدقه راجع إلى إيمانه بالله ورقابته، فإذا خلا الخوف من المخلوقين، أو الطمع فيهم لم يحمله ذلك على كذب ولا إخلاف، ولا مخالفة؛ لأنه يعلم أن عليه رقيباً، وأن الله سبحانه وتعالى لعباده بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].

    أثر الإيمان في أصحابه

    ثم بعد هذا من كان من أهل الإيمان فإنه دائماً راغب في الازدياد لعلمه تفاوت درجات المؤمنين، وتباعد منازلهم، فهو يرغب في زيادة إيمانه، وفي رفع مستواه، وعلو شأنه، في كل أوقاته، فيعلم أن أهل الإيمان درجات عند الله سبحانه وتعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ [آل عمران:163]، وأن الإنسان كلما ازداد إيماناً وتقوى وإخلاصاً وعبادة، كلما ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وكلما كانت تجارته مع الله أربح، وكانت صفقاته في ازدياد، ويكون كذلك مختصراً المسافات، ويقطعها في الأوقات القليلة، فالمؤمن الصادق تختصر له المسافات، ويطويها فيقربه الله سبحانه وتعالى، وكلما تقرب هو إلى الله تقرب الله منه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الشريف، أن الله تعالى يقول: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )، وبهذا يكون في قرب من الله سبحانه وتعالى وازدياد من الطاعات والخيرات، كلما تقدم به العمر، حتى تكون خاتمته أحسن أوقاته، فيكون اليوم الذي يلقى الله فيه خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه، واليوم الذي قبله هو خير مما قبله، وهكذا، فيومه خير من أمسه، وغده خير من يومه، وهو في تقدم ورقي مستمر إلى الله جل جلاله.

    وبهذا استحق أهل الإيمان التشريف والتكريم، فناداهم الله هذا النداء الكريم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10].

    1.   

    ترغيب الله لعباده المؤمنين بالتجارة معه

    ثم بعد ذلك جاء بالأسلوب على وجه استفهام يسألكم: هل أنتم راغبون في الاتجار معه، فيقول: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، ويأتي بهذا الأسلوب الذي فيه ذكر التجارات التي هي محل رغبة، وتنافس بين الناس في الحياة الدنيا، فالناس يؤثرون التجارة ويهتمون بها، وترون التجار يخدمونها، ويبذلون أوقاتهم كلها في خدمتها، وإذا قارنا بين أي موظف وبين التاجر، سنجد نصيحة التاجر لعمله أكبر بكثير من نصيحة الموظف، فالموظف حتى لو كان رئيس دولة، أو وزيراً لا بد أن يتخلف عن شيءٍ من الوقت، ولا بد أن تكون متابعته للأمور ناقصة، أما التاجر فلا بد أن يأتي قبل الوقت؛ لأنه منافس للتجار، ولا بد أن يجتهد في تنظيف البضاعة وإبرازها، ولا بد أن يجتهد في تنفيقها وترويجها، ولا بد أن يخدمها بكل الوسائل، فهو ناصح لها نصيحة كاملة، وهو آخر من يخرج من عمله، كل الموظفين يخرجون من أعمالهم مثلاً عند نهاية الدوام، والتاجر إذا انته من الدوام رجع إليه في المساء مرة أخرى، ويستمر فيه.

    معرفة الدلالة في نداء الله للتجارة معه والعلة في تنكيرها

    التجارة وظيفة محببة إلى البشر، فلذلك نادانا الله هذا النداء الكريم فقال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]. والدلالة معناها في اللغة: الإرشاد، والمقصود: هل أرشدكم إلى عمل هو خير لكم، وفيه الربح الطائل لكم، والدليل هو المرشد سواء كان حسياً أو معنوياً فيطلق عليهما معاً، فمن إطلاقه على الحسي قول الشاعر:

    إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل

    سيصبح فوقي أقتم الريش واقعاً بقالي قلا أو من وراء دبيل

    ومن إطلاقه على المعنويات قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا [الفرقان:45-46]، فالشمس دليل، ولكنها لا تتكلم بالدلالة، ولا ترشد بالقول، وإنما ترشده إرشاداً معنوياً، فيفهم الإنسان من حالها ما تدل عليه، ومن هنا فهذه الدلالة كانت من القسم الأول، أي: من الدلالة الحسية؛ لأنها إرشاد باللفظ الصريح: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، على تجارة، ونكرها لتشمل الكثير والقليل، فلم يقل: على التجارة التي تنجيكم من عذاب أليم؛ لأنه لو قال كذلك لانحصر الأسلوب في عمل واحد، وبما أن أوجه الخير كثيرة متشعبة متفاوتة، وبما أن العاملين متفاوتو الدرجات، فمنهم المكثرون، ومنهم المقلون، وهنا نكر التجارة فقال: عَلَى تِجَارَةٍ [الصف:10]، وهي تشمل الكثير والقليل.

    النجاة من العذاب

    ثم قال: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، هذا الوصف الجامع لهذه التجارة، فهو شامل لكبيرها وصغيرها، أنها تنجي الإنسان من عذاب أليم يوم القيامة، والعذاب كل ما هو منافٍ للعذب، فالعذب هو ما يستعذبه الإنسان ويستحليه، وكل ما ينافي ذلك يسمى عذاباً، فالملل عذاب، والسفر عذاب، والعطش عذاب، وكل ما لا يوافق الطباع فهو عذاب، ولذلك قال ابن عباس في تفسير قول الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام للهدهد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، قال: عذابه هو الحبس مع غير الجنس؛ لأنه طير صغير ضعيف، لا يمكن أن يضرب بالعصا، وإذا كان العذاب القتل، فقد قال: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل:21]، فما عذابه إذاً؟ قال: الحبس مع غير الجنس، فحبسه مع غير جنسه عذاب له، والعذاب أنواع منوعة، فمنه عذاب الدنيا، وعذاب البرزخ، وعذاب يوم القيامة، وعذاب الدنيا منه المنزل من علو، ومنه الهابط إلى الخارج ومن سهل، ومنه ما هو في الوسط، وقد جمع الله هذه الأصناف الثلاثة في قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، فالعذاب الأول منزل من السماء: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65].

    والثاني: خارج من الأرض: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65].

    والثالث في الوسط: وهو اختلاف القلوب، وحصول البغضاء والشحناء بين الناس، بتسليط بعضهم على بعض، وهذا العذاب منه ما هو أليم، أي: مؤلم، شديد الألم، وهذا منفر منه، فالعذاب الأليم شر أنواع العذاب، فلذلك قال: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، وهذا العذاب الأليم هو عذاب يوم القيامة، ويشمل كذلك عذاب البرزخ، أي: عذاب القبر، ويشمل العذاب المعنوي في الحياة الدنيا، فالدنيا عذابها الجسمي ألمه منقطع، فالإنسان إذا ضرب تألم في وقت الضرب، ثم زال ذلك عنه، وإذا عطش، ثم شرب يتألم وقت العطش، ثم يعود ذلك وينسى، وإذا سجن أو أوذي بأي أذىً، ثم خرج منه فإنه ينساه، فعذابها المادي منقطع، وكل المنقطعات فإنها ليست أليمة، لكن العذاب المعنوي مؤلم في الحياة الدنيا، فالمذلة والهوان عذاب دنيوي، وهو مؤلم جداً للإنسان.

    فالإنسان الذي لا يجد سعادةً في هذه الحياة، ولا يطمئن لشيء، وهو معذب الخاطر والضمير دائماً، كمن كتب الله عليه الشقاء، فجعله عبداً للعباد، وخلا قلبه من عبادة الله، ولم يعرف الله جل جلاله فكان من المحجوبين عن الله في الحياة الدنيا، فهو أشد العباد هواناً ومذلة، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاءً المحجوبون عن الله، وأشدهم بلاءً الذين لا يعلمون أنهم قد حجبوا عنه، الذين لا يشعرون بألم الحجب، ولا يحسون بأنه فاتهم شيء كثير من عبادة الله والأنس به، والتقرب إليه، هؤلاء هم شر العباد مصيبةً؛ لأنهم حجبوا عن الله، ثم لم يشعروا بالحجب، فكان من استقذاره لهم، واحتقاره لهم أنه عندما حجبهم مع ذلك لم يشعرهم بهذا الحجب، إذلالاً لهم وهواناً، فلم يشعرهم أنه حجبهم أصلاً.

    حال من بذل روحه لله عز وجل وسعادته

    والنجاة من العذاب الأخروي، ومن عذاب القبر، ومن العذاب المعنوي في الحياة الدنيا، لا شك أنها مطلب كبير لدى الإنسان، فالإنسان الذي ينال شرفاً عميقاً في الحياة، ولو كان ذلك مع أذىً مادي، فإنه ينال بذلك سعادة، ولذلك فالذين بذلوا أرواحهم لله يوم أحد، فقتلوا وبقرت بطونهم، وأخرجت أكبادهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم، نالوا سعادة رهيبة لا يمكن أن يعدلها شيء؛ لأنهم أرضوا ضمائرهم، ووفوا لله بما عاهدوه عليه، وصدقوا الله فيما بايعوه عليه، ولذلك وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانية أيام، فقال: ( إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه )؛ ولذلك أنزل الله فيه قرآناً يتلى، نتعبد الله بتلاوته في كل الأوقات، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ [آل عمران:169-174]، لم يمسسهم سوء، فما أصاب أبدانهم لانقطاعه ليس بسوء، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ( الشهيد لا يذوق من طعم الموت إلا مثلما ينال الإنسان من وخز الإبرة )، أي: لا يحس به من أذى الموت إلا قدر وخز الإبرة، ولو كان تحت القصف، ولو كان بالصواريخ، والدبابات، والطائرات، لا ينال من حرارة الموت، وشدة الموت إلا مثل وخز الإبرة فقط.

    منزلة من صدق الله سبحانه وتعالى وباع نفسه له

    وهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم لله سبحانه وتعالى وصدقوه، أرضوا ضمائرهم، ونزلوا بأعلى المنازل وحصلوا الشرف الشامخ الذي لا يلحق به من يأتي بعدهم أبداً، ومثلهم إخوانهم الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه فعاشوا وهم ينتظرون الموت، فلم يبدلوا، ولذلك قال الله فيهم: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: ( من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )، فهو شهيد، ولكنه مع ذلك يمشي على وجه الأرض، ويمارس تجارته ونشاطه ويتزوج ويلد له وهو شهيد، كتبه الله في الشهداء يوم أحد، وتقبله، ولا تقع سيئاته إلا مغفورةً، فكل عمل يعمله قد سبقه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده.

    وقد يسعد الإنسان سعادة دنيوية، عندما يرضي ضميره، فمثلاً: صاحب الشجاعة، إذا قتل وهو صابر متقدم إلى الأمام، فإنه بذلك ينال سعادة عجيبة حتى لو قتل، ولو حصلت الهزيمة، ولذلك قال أبو تمام في رثائه لـمحمد بن حميد الطوسي :

    كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم ترق ماءها عذر

    توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر

    وما كان إلا مال من قل ماله وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر

    إلى أن يقول فيه:

    فتى مات بين الضرب والطعن ميتةً تقوم مقام النصر إذ فاته النصر

    فأغرس في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر

    تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر

    وقد وصف سعادته بذلك فقال:

    ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

    ونظير هذا ما حصل أيضاً لأحد السلف عندما غضب عليه ملك من الملوك فقتله وصلبه، وخاف أن يأتيه الناس فيصلوا عليه ويدفنوه، فأوقد حوله ناراً ورتب له حراساً يحرسون جثته، وهو قائم على الخشبة مصلوباً، فجاء أحد الشعراء فأنشد قصيدةً يرثيه بها يقول فيها:

    سمو في الحياة وفي الممات لحقاً أنت إحدى المعجزات

    كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

    كأنك قائم فيهم خطيباً وقد صفوا وراءك للصلاة

    ويذكر وصفه أنه من كبريائه، لم يجعل الناس له قبراً في الأرض، بل جعلوا له قبراً في ما بين السماء والأرض، فرفعوه في الهواء، وجعلوا الهواء قبراً له، كأنه أكبر من أن يدفن في الأرض، وأنه لسموه في قلوب الناس رتب له الحراس يحرسونه وهو ميت، وأوقدت الأنوار حوله؛ لمنع الناس من الوصول إليه، فلما سمع الملك هذه القصيدة قال: ليتني كنت أنا الذي قتلت وصلبت، وقيل فيّ مثل هذا الشعر.

    وكذلك حال العباد الزهاد الذين يجدون لذتهم التي لا يعدلها شيء في قربهم من الله، وإخلاصهم له وسجودهم بين يديه، وتذللهم له وبكائهم بين يديه، وعبادتهم له، فقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. فالملوك، وأبناء الملوك، يبحثون عن الراحة والسعادة في الحياة الدنيا، ولو عرفوا ما فيه العباد الزهاد من الراحة والسعادة، لكان ذلك أهم عندهم من الملك والسلطان، ومن جميع ملذات الحياة الدنيا.

    1.   

    شروط التجارة مع الله وثمرتها

    وهذه التجارة تنجي من هذا العذاب، وقد وصفها الله بذلك وصفاً يقتضي عدم التخلف؛ لأنه قال: تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10]، ولم يقل: يمكن أن تنجيكم من عذاب أليم، فمعناه: أن هذا الإنجاء من العذاب الأليم متحقق بمجرد المشاركة في هذه التجارة. ما هي هذه التجارة؟ التجارة لا بد فيها من طرفين: إيجاب وقبول، وثمن ومثمن، فذكر أن الصفقة هي مع الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، ويد الله هي العليا، ويد المخلوق هي اليد السفلى، فالمخلوق بينه وبين ربه صفقة، الجانب الذي يبيعه المخلوق ما هو؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، هذا المثمن، والثمن ما هو؟ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:12-13].

    شرط الإيمان بالله للتجارة مع الله

    ما نقدمه نحن في هذه التجارة، هو الإيمان بالله، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ [الصف:11]، فأول هذه التجارة الإيمان بالله جل جلاله، وهذا الإيمان مقتضٍ للإيمان بإلاهيته، وأنه خالق هذا الكون ومدبر شأنه، وأنه وحده الذي خلق الكون، وأنه وحده الذي يتصرف فيه، ليس له وزير ولا نظير ولا معين، ولا يمكن أن يتغير شيء من تدبيره، ولا أن يختل شيء من أمره جل جلاله، كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].

    وكذلك الإيمان بعبادته، أي: أن نعبده وحده، وأن نعلم أن ما سواه لا يستحق صرف أي شيء من العبادة، ولا من التشريع، فلا يمكن أن يحل ولا أن يحرم، إلا الله وحده، ولا يمكن أن يصرف أي شيء من العبادة إلا له جل شأنه، فهو الذي يستحق الثناء، وهو الذي يستحق النذر، وهو الذي يستحق الصلاة، وهو الذي يستحق الذكر، ومن سواه لا يملك لنفسه ولا لغيره حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ [الحج:73]، فلذلك لا يستحقون أن يصرف لهم شيء من العبادة، فمن يرائي المخلوق بصلاته أو بقراءته للقرآن، أو بقراءته للعلم، أو بذكره، أو بقيامه لليل، أو بصيامه للنفل، أو بأية طاعة يفعلها مغبون في صفقته؛ لأن المخلوق الذي يرائيه لا يملك له ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، ولا يستطيع أن يدفع عنه شيئاً كتبه الله عليه، ولا يمكن أن يوصل إليه أي شيء، لم يكتبه الله له، والذي يخلص لله جل جلاله حتى لو كان الناس جميعاً في الكفة الأخرى، وعادوه جميعاً، فإنهم لن يضروه شيئاً.

    ولنتذكر حال إبراهيم الذي تألب عليه أهل الارض جميعاً، فوضعوه في المنجنيق ورموه في النار، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، (حسبي الله) معناه: كافيني، فهو وحده كافٍ دون من سواه، أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، فليجتمع الخلائق جميعاً من أولهم إلى آخرهم، وليفعلوا ما أرادوا، فلا يستطيعون تغيير شيء كتبه الله، فلما قال هذه الكلمة بإيمانه وصدقه، قال الله للنار: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70]، فنجاه الله من كيدهم، وآتاه الكتاب والحكمة والنبوة، وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [العنكبوت:27]، وجعل من ذريته محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل الله له بذلك ذكراً في الآخرين، ولسان صدق فيهم إلى يوم القيامة.

    ولنتذكر كذلك نوحاً وهو يقف أمام قومه، ولم يؤمن به إلا قليل، وقد تألب عليه أهل الأرض، فقال لهم: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71].

    ولنتذكر لوطاً كذلك عندما وقف قومه في وجهه جميعاً، فقال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]، فسلط الله عليهم الريح العقيم، ونجى لوطاً ومن معه، ونجى هوداً ومن معه من خزي يومئذٍ، ومن ذلك العذاب الغليظ.

    ولنتذكر محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما قال لهم الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فأين ذهبت تلك الجموع؟ ولمن كانت العاقبة؟ ألم ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصراً باقياً مؤزراً؟ ألم يكتب له التمكين والظفر؟ ألم يهلك الله أعداءه؟ ولم تبقَ منهم باقية؟ فلذلك يتكرر هذا الدرس عبر التاريخ، وعلى الإنسان أن يكون مطمئناً له دائماً، وأن لا يشك فيه بوجه من الوجوه، ومن ذلك الإيمان أيضاً بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فكلما ازداد الإنسان معرفةً بأسماء الله وصفاته، وفهماً لها وإيماناً بها، كلما ازداد محبةً لله جل جلاله، فإذا عرفه بتلك الأسماء والصفات عرف جماله وجلاله، وكماله وكبريائه، وعظمته، فأحبه حباً شديداً جل جلاله، ومن عرفه بعلمه وإحاطته بالخلائق، وقدرته عليهم وإرادته، وبتدبيره للكون كله، وبسمعه وبصره وكلامه جل شأنه، وفي حكمته البالغة وعدله، وغير ذلك من صفاته، فإنه سيحبه حباً شديداً.

    إذاً هذا هو أول من نقدمه الإيمان بالله، تؤمنون بالله.

    شرط الإيمان بالرسول للتجارة مع الله

    ثم بعد ذلك: الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11]،، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي تصديقه في كل ما أخبر به، فإنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وكل ما جاء به من عند الله فهو حق، صدق يجب الإيمان به وتصديقه فيه جميعاً؛ لأن الله صدقه بالمعجزة، ولا يمكن أن يصدق الله جل جلاله من هو كاذب عليه، بل قد قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]. ويقتضي كذلك الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم طاعته في كل ما أمر به، فكل ما أمر به فقط أمر الله به؛ لأنه مبلغ عنه، وصادع بأمره جل جلاله، وقد قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ [النساء:64]، وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. ويقتضي كذلك أن لا يعبد الله إلا بما جاء به من عنده، فنحن لم نعرف الله جل جلاله إلا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، ولا صلة لنا بالله إلا عن طريق محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فليس في هذه الأمة رسول من عند الله، إلا هذا الرسول وحده، ولا ينزل إلى هذه الأمة أي وحي، ولا إرشاد من الله جل جلاله إلا ما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكل ما بلغنا عن الله فهو رسالته والدين الذي ارتضى الله لنا، وكل ما لم يأتِ به من عند الله فلا خير فيه، وليس موجهاً إلينا، ولا هو رسالة من عند الله؛ لأننا نؤمن يقيناً أنه ليس في هذه الأمة رسول سواه، فما جاء به إذاً هو الصدق، ويجب الأخذ به جميعاً دون تفصيل، وما لم يأتِ به لا خير فيه، ولو كان فيه خير لجاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله. ويقتضي ذلك محبته حباً شديداً؛ لأنه أجدر العباد بالطاعة، وأجدرهم بالتوقير والإجلال، وأمنهم على العباد، وأفضلهم وأزكاهم عند الله جل جلاله، فقد اتخذه الله خليلاً، وشرفه على جميع الرسل والأنبياء، والخلائق جميعاً، وأدخلهم جميعاً في شفاعته يوم القيامة، فكل ذلك يقتضي تمام محبته.

    إذاً هذا الأمر الثاني من هذه التجارة: تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ [الصف:11].

    شرط الجهاد بالمال والنفس للتجارة مع الله

    الأمر الثالث: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، تجاهدون معناه: تبذلون الجهد، والجهد: هو الطاقة، معناه: أن تبذل كل جهودك، سواءً كانت ماديةً، أو معنوية، وسواءً كانت راجعةً إلى العقل والتفكير، أو كانت راجعةً إلى السمع والبصر، أو كانت راجعةً إلى القول باللسان، أو العمل باليد، أو المشي بالرجل، أو غير ذلك، كل هذه الطاقات تبذلها لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فإذا اقتضى نصرة الدين أن تقدم نفسك وتقتل في سبيل الله فبها ونعمت، ومرحباً بالقتل إذا كان في سبيل الله، وإذا كان إعلاء كلمة الله يقتضي أن تخرج من مالك في سبيل الله فمرحباً بها، وتقدم مالك كله في سبيل الله، وهكذا في وقتك وعقلك، وتفكيرك وجهدك كله، فهذا هو معنى الجهاد.

    والمطلوب في نصرة الله ورسوله: ليس مجرد المشاركة أو الهامش، كما يتصوره كثير من المسلمين، كثير من المسلمين يظنون أن الإنسان إذا تصدق وبذل، أو دفع مالاً من أجل إعلاء كلمة الله، أو شارك في الدعوة بكلام أو بحضور أو بغير ذلك، أو شارك فيها سياسياً، أو اجتماعياً بأي وجه من الوجوه، وأن هذا يكفي، لكن الواقع أن هذا لا يسمى جهاداً حتى يكون الإنسان قد بذل قصارى جهده، وعلم من نفسه أنه لا يستطيع أكثر من هذا، فالإنسان ما دام يعلم أنه يستطيع أكثر من هذا لم يجاهد بعد؛ لأن الجهاد معناه الوصول إلى آخر ما يمكن أن تصل إليه، ونحن الآن ننام كثيراً، ونغفل كثيراً، وننشغل كثيراً بأمور دنيانا، فهل نحن مجاهدون إذاً؟ لا يكون الجهاد إلا ببذل كل الطاقة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ولذلك ما دام الإنسان ينشغل بأموره الخاصة، ولا ينوي أنها إعانة على الجهاد، فإنه قد خسر في تلك الأمور خاصة، لكن إذا كان يريدها عوناً، نوى في أموره الخاصة، فإذا نام احتسب نومته كما يحتسب قومته، و كما قال أبو الدرداء : " أني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي "، وإذا أكل نوى بذلك التقوي لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وإذا شرب، وإذا خالط، وإذا ربط أية علاقة، زواج أو مصاهرة، أو غير ذلك، نوى أن يكون لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فيكون بذلك مجاهداً؛ لأنه بذل كل أموره في سبيل الله.

    الإخلاص في الجهاد

    وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ [الصف:11]، هذا الجهاد، وهو بذل الجهد يمكن أن يكون في سبيل الله، ويمكن أن يكون في سبيل الشيطان، ويمكن أن يكون في سبيل النفس، ويمكن أن يكون تبعاً للهوى، فكثير هم أولئك الذين يجاهدون من أجل هواهم، أو من أجل شيطانهم، أو من أجل مصالحهم، وكل ذلك ليس في سبيل الله، فسبيل الله: لا بد أن يكون خالصاً ليس فيه إشراك، ولا مشاركة لأحد.

    وقد أخرج مسلم في الصحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع غيري تركته وشركه )، فكل عمل أشرك فيه الإنسان مع الله جل جلاله أحداً سواه، فإنه غير مقبول، وهو مردود عليه.

    ومن هنا لا بد أن يكون الإنسان مخلصاً في ذلك العمل، حتى يكون في سبيل الله، وفي حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل، فقيل له: الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميةً، ويقاتل ليرى مكانه، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا، فذلك في سبيل الله )، معناه: أن كل ما سوى ذلك ليس في سبيل الله، فلذلك قال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ [الصف:11].

    الجهاد بالمال

    وهذا الجهاد بماذا يكون؟ قال: بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، وبدأ بالمال قبل النفس؛ لأن مال الإنسان محبوب لديه، وكثيراً ما يضحي بنفسه من أجل المال، ونحن نرى في كل يوم قوارب الهجرة السرية، والناس الذين يموتون في هذا المحيط، ويبذلون أرواحهم من أجل المال، وهم يعبدون هذا المال فيقدمون أرواحهم من أجله، وهذا يقتضي أن المال كثيراً ما يكون أحب إلى الإنسان من نفسه، فيخاطر ويغامر بنفسه؛ من أجل الوصول إليه، ولهذا بدأ الله بالجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس، قال: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11].

    جهاد النفس ودرجاته

    ثم عطف الأنفس على المال بعد ذلك، والجهاد بالنفس يشمل: الدعوة والنصح والتعليم والإرشاد، وقتال العدو، وتغيير المنكر باليد، وغير ذلك، كل ذلك جهاد في سبيل الله، ولا يمكن أن يكون الجهاد نوعاً واحداً؛ لأن الفجور ليس نوعاً واحداً، فسبيل الشيطان ليس نوعاً واحداً، فمن سبل الشيطان مثلاً المنكر في بلاد الإسلام، ومن سبل الشيطان التجهيل، ومن سبل الشيطان معصية الوالدين وعقوقهما، ومن عقوق الزوج ومعصيته وغير ذلك، فإذا خالف الإنسان هذه الأمور فقد جاهد، ولهذا قال بعض أهل العلم: الجهاد أربع عشرة درجةً، أربع منها لجهاد النفس، واثنتان لجهاد الشيطان، وأربع لجهاد المنافقين، وأربع لجهاد الكافرين، فالأربع التي هي لجهاد النفس، هي جهادها على تعلم ما أمر الله به، ثم جهادها على العمل بما تعلمته، ثم جهادها على الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم جهادها على الصبر على طريق الحق حتى تلقى الله، فهذا أربع، وهي التي تضمنتها سورة العصر، التي قال فيها الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس.

    وهي وصية لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، هذا تعليم، ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17]، وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه هي الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]، وهذا الصبر على طريق الحق.

    جهاد الشيطان ومراتبه

    وبعد ذلك جهاد الشيطان، وهو مرتبتان، جهاده فيما يلقيه من الشهوات، وجهاده فيما يلقيه من الشبهات، فالشيطان له جندان يغزو بهما الإنسان: جند الشهوات، وجند الشبهات، ولنا جندان من جنود الله قوانا الله بهما على الشيطان، فجند الشهوات قوانا الله عليه بالصبر، وجند الشبهات قوانا الله عليه باليقين، فإذا انطلق الإنسان من الدليل والتزم ما يوقن به، خلا من الشبهات، وإذا صبر عن معصية الله، وصبر على طاعته، وصبر على قضائه وقدره، فإن ذلك قاطع للشهوات عنه، ومنظم لشهواته حتى تكون وفق المعمول فيه شرعاً فقط، ولا تتعدى ذلك.

    جهاد المنافقين ودرجاته

    وجهاد المنافقين أربع درجات، فيكون بالقلب: ببغضهم وكراهتهم؛ لكراهتهم لله جل جلاله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وباللسان بالرد عليهم، والتحذير منهم ومناقشتهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، لعل الله يهديهم، وبالمال ببذله لهم لتأليفهم، أو ببذله لرد كيدهم، وجهادهم به، وجهادهم باليد بتغيير منكرهم، فإذاً هذه أربع درجات.

    جهاد الكفار ودرجاته

    وجهاد الكفار كذلك أربع درجات؛ لأنه يكون بالقلب بكراهتهم؛ لأنهم كرهوا الله ورسوله، وباللسان بالرد عليهم والتنفير منهم، ودعوتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وبالمال ببذله لتأليفهم، وفي رد كيدهم ومؤامراتهم، وباليد بغزوهم وقتالهم. فإذاً هذه أربع عشرة درجة كلها تدخل في الجهاد في سبيل الله، الذي هو من التجارة التي أرشدنا الله إليها.

    1.   

    الخيرية في التجارة مع الله

    قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، بذلكم لكل هذه الأمور للإيمان بالله، والإيمان برسوله، وللجهاد في سبيله بالنفس، وبالمال، وأن يكون الجهاد في سبيل الله، هذه خمس مراتب: الإيمان بالله، والإيمان برسوله، وأن يكون الجهاد في سبيله، وأن يكون بالمال، وأن يكون بالنفس، هذه الخمسة هي المثمن، و (ذلك) في الأصل اسم إشارة للمفرد المذكر، ولكنها تطلق على الماهي المركبة، فقد تطلق على ما هو مؤلف من قسمين، كقول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، لم يقل: بين ذينك، بل قال: بين ذلك، أي: بين هذه الماهي المؤلفة من شقين، وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، أي: بين هذه الماهية المؤلفة من شقين، وهما الإسراف والتقتير.

    فكذلك هنا قال: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:11]، خاطبنا فقال: (( ذَلِكُمْ )) وأتى باللام التي تدل على البعد، وبالكاف التي تدل على البعد كذلك، والمقصود بذلك التعظيم مع قربه، وكان مقتضى الأسلوب لو لم يرد فيه التعظيم لقال: هذا خير لكم، ولم يقل: ذلك؛ لأن (ذلك) تدل على البعد، ولكنه لتعظيمه وارتفاع شأنه جيء معه باللام والكاف الدالتين على البعد للتعظيم.

    ومن ذلك قول النابغة :

    رأيت بني غبراء لا ينكرونني ولا أهلها ذاك الطراف الممدد

    طراف بين يديه، (ولا أهلها ذاك الطراف الممدد)، فأتى به بصيغة اسم الإشارة بالبعد، تعظيماً له.

    ومثل ذلك في قصة يوسف قول امرأة العزيز : فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:32]، وهو قائم بين أيديهن؛ لأنها قالت: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:31-32]، ذلكن جاءت باللام، والكاف الدالتين على البعد مع قربه للدلالة على تعظيمه فهو معظم، ولذلك أدى تعظيمه من هؤلاء النسوة إلى تقطيع أيديهن، وإلى بيان أنهن لا يعتقدن أنه من البشر، بل يعتقدن أنه من الملائكة.

    ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الصف:11]، (خير) في الأصل أفعل تفضيل، فأصل الصيغة (أخير)، ولكنها لكثرة الاستعمال حذفت منها الهمزة فأصبحت خيراً، وقد قال ابن مالك :

    وغالب أغناهما خير وشر عن قولهم: أخير منه وأشر

    فمعناه أن هذا هو أخير ما يمكن أن تصل إليه من الخير، أخير ما يمكن أن تفعله من الخير، هو هذه الأمور الخمسة، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، معناه: لو عرفتم عاقبتها ونتيجتها النهائية لعرفتم أنها أخير العمل وأفضله، فهي خير من كل التجارات الأخرى، وخير لكم مما لو ملكتم الأرض وما عليها، ومن عليها.

    وجاء هنا بصيغة: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:11]، وهي جملة اعتراضية بعد الإسناد بتقويته، ومعناه: أن هذا شأن عظيم، يمكن أن يخفى حتى على الألباء وذوي العقول، فلذلك نوه به.

    1.   

    ثمن التجارة مع الله

    ثم ذكر الطرف الآخر: وهو الثمن، ما هو ثمن هذه الأمور الخمسة؟ هو هذه الأمور اللاحقة.

    الثمن الأول

    يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]، أول الثمن: مغفرة السيئات، ومغفرة الذنب معناها: ستره في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، أن يستره الله في الدنيا، فلا يفضح الإنسان، ولا يطلع عليه الناس، إذا اطلعوا عليه نسوه، ومحي من أذهانهم، فلا يعيبونه به، ولا يشتمونه به؛ لأن الله ستره فمحاه من أذهانهم. إذاً هذا ستر الذنب في الدنيا.

    وعدم المؤاخذة به في الآخرة، ألا يأتي في طائر الإنسان إذا أخرج كتابه، أخرج له كتابه وهو يقرأه، لم يجد فيه هذا الذنب؛ لأن الله محاه، وستر الذنب في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، إذاً هي المغفرة، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]، والذنوب: جمع ذنب، وهو ما له أثر سيئ على الإنسان، وهو مشتق من الذنب؛ لأن له ذنباً، وهو ما يعقبه ويأتي بعده من العقوبة، فكل ذنب في الأصل وراءه جريرة؛ لأن الإنسان يجر بذنبه جريرةً على نفسه، وعلى أهله، وشؤم الذنوب يضر أهل الأرض جميعاً، فلذلك سميت المعاصي بالذنوب، فكم من ذنوب ذهبت ملذاتها، وبقيت تبعاتها، كثيرة جداً الذنوب التي ذهبت ملذاتها، وبقيت تبعاتها، فيبقى الإنسان محاسباً عليها، وتبقى ندامةً ومذلةً عليه يوم القيامة، وظلمةً في وجهه، وسواداً في قلبه، وبغضاً له في الناس، وقعوداً به عن الطاعات، ومع ذلك ذهبت لذتها، لم يستفد منها شيئاً.

    الثمن الثاني

    الجزء الثاني من هذا الثمن: هو الجنة: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، وهذا الإدخال يكفي في التمليك؛ لأنه مقتضٍ لأن يملككم تلك الجنات، فتكون ملكاً دائماً، ليست مثل ملك الدنيا، فملك الحياة الدنيا منقطع، ولذلك قال: آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فهذا الثوب الذي تلبسه، هل يبقى معك أبد الآبدين، إما أن تموت أنت فيرثه من سواك، وإما أن يبلى هو فترميه، فكل ملك لك في الحياة الدنيا تخرج منه، أو يخرج منك، لا بد لا محالة.

    أما ملك الآخرة، فهو ذلك النعيم المقيم، والملك الكبير، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [الإنسان:20]، ملكاً كبيراً ليس مثل ملك الحياة الدنيا، ضخمه الله وكبره، ودخول الجنة مؤذن برضا الله سبحانه وتعالى؛ لأن من دخلها لا يخرج منها، ليست مثل النار، فالنار يدخلها كثير من أهل الإيمان بسبب سيئاتهم، ثم يخرجون منها، منهم من يمكث فيها مليارات السنين، ومنهم من يمكث فيها الملايين، ومنهم من يمكث فيها السنوات، ومنهم من يمكث فيها الشهور، ومنهم من يمكث فيه الأسابيع، ومنهم من يمكث فيها الأيام، ومنهم من يمكث فيها يوماً واحداً أو ساعة واحدة، والجميع أجارني الله وإياكم يشهد ما هنالك من العذاب الأليم.

    أما أهل الجنة، فإنهم بمجرد الدخول يصل إليهم روحها وريحانها، فيتمتعون بتلك الملذات التي لا تنقطع، فاللذة الأولى التي تصل إلى الإنسان، عندما يصل إليه شيء من ورحها وريحانها تبقى معه، ولو جاء بعدها مليارات اللذات، تأتي اللذة على اللذة فتتكسر النصال على النصال، ويبقى ذلك مستمراً لا انقطاع فيه أبداً، ومن هنا قال: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ [الصف:12] بصيغة الجمع، فالجنة ليست جنةً واحدة، إذا أطلقت الجنة (بأل) (فأل) التي فيها جنسية، وليست الجنة مفرداً، بل المقصود بها جنس الجنان وهي كثيرة، كما ثبت في الصحيح، في حديث أم حارثة ، وهي الربيع ، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدها حارثة وقد قتل فتىً صغيراً يوم بدر، فقالت: ( يا رسول! أخبرني عن ولدي حارثة ، أفي الجنة هو فأصبر أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: أو جنة هي؟ إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها )، فهي جنان كثيرة جداً، ( وأهل الجنة يتراءون الغرف، كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء؛ لتباعد منازلهم ).

    وكل هذه الجنان تنقسم إلى قسمين: كما في سورة الرحمن، وفي سورة الواقعة، وكل من القسمين أيضاً مثنىً، فجنتان هما أعلى الجنة، وفيهما من النعيم ما لا يخطر على البال، وقد بالغ الله فيه فذكره في سورة الرحمن، وفي سورة الواقعة، ثم دونهما: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62]، جنتان أخريان أيضاً دون الجنتين العليين، فالجنتان العلييان للمقربين، والجنتان الأخريان لأصحاب اليمين.

    فلذلك قال: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ [الصف:12]، والجنات: جمع جنة، وهي في الأصل البستان، ولا يطلق عادةً على البستان إلا إذا كان مزهياً، فالبستان الذي لا ثمر فيه لا يسمى جنة، فإنما يسمى البستان جنة، إذا كان مزهياً، أي: مثمراً، وتكاملت ثماره، ونضجت، فحينئذٍ يسمى جنة؛ لأنه يستتر به، أو يستتر فيه، أو لأنه يستر الأرض عن أشعة الشمس، أو لغير ذلك؛ لأن الاجتنان في الأصل معناه في اللغة: الاستتار، ومنه الجن؛ لأنهم مستترون عن الأعين، وجن الليل بمعنى: أظلم، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا [الأنعام:76]، والجَنان بالفتح معناه: القلب لاختفائه في الجسم.

    وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، هذه الجنات وصفها وصفاً عجيباً، فلم يذكر لنا لبنها، ولا خمرها، ولا لحمها ولا ثمارها، وإنما ذكر ماءها؛ لأن الماء أصل الحياة، وهو ملاك الأمر، وإذا ذكر فهو كافٍ عن كل ما سواه، وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، فجريان الأنهار من تحتها يقتضي تمام ثمارها، وزروعها، وبذلك تتم لحوم طيرها، وأنعامها، ويتم كل ما فيها من الألوان الزاهية، ولا يمكن أن تكون الأنهار جارية في المكان الخرب، فالمدينة إذا خربت انقطعت مياهها، أما الأنهار إذا كانت تجري في البستان، فهذا دليل على عمارته وتمام خيراته وثمراته.

    الثمن الثالث

    وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، هذه الجنات من دخلها كان مستقراً فيها لا يخرج منها أبداً، فليست مثل بيوت الدنيا التي تؤجر لمدة محددة، فإذا لم يؤدِّ الإنسان الإيجار أخرج من البيت، أو يبنيها الإنسان ويعمرها، فإذا متع بها وقتاً إذا هو ينفق المال في هدمها وإزالتها، أو تتهدم عليه، أو يموت فيتركها ويحمل إلى القبور، وتبقى لمن وراءه، أما الجنة فأهلها مخلدون فيها، ولذلك يقال لهم عند الدخول: ( يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا، وأن تشبوا فلا تهرموا، وأن تنعموا وتكرموا، ويؤتى بالموت في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل الجنة، فيقال: أعرفتموه، فيقولون: نعم، ويشمئزون منه، ويقولون: هو الموت، ويعرض على أهل النار، فيقال: أعرفتموه، فيقولون: نعم، ويشمئزون منه، ويقولون: هو الموت، ثم يذبح على مرقب بين الجنة والنار، فينادي المنادي: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، و يا أهل النار! خلود فلا موت ).

    فلذلك هم خالدون في هذه الجنات، وما معهم من الأرزاق والخيرات خالد بخلودهم، لا يتغير شيء منه، فلا يتغير طعم اللبن، ولا طعم الخمر، ولا طعم الفاكهة، ولا تنتابها الفصول، فالحر على بعده منهم، والبرد على بعده منهم، وهم في راحةٍ دائمة، لا يتعاقب عليهم الملوان، ولا يجدون ظلاماً، ولا انقطاعاً في الكهرباء، ولا تغيراً في الحال أبداً، فنعيمهم دائمٌ مستمر، وهم بذلك راضون عن ما هم فيه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].

    إذاً الأمر الأول من الثمن قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف:12]، والأمر الثاني: وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الصف:12]، والأمر الثالث: خَالِدِينَ فِيهَا [البقرة:162]، الخلود فيها.

    والأمر الرابع: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12]، مع الدخول في الجنة، إذا دخل الإنسان في بوابتها، وفتحت له أبوابها الثمانية، ورأى ما هنالك، فإنه يرى المنازل، ثم بعد ذلك يكون له هو منزل مخصوص، فلذلك قال: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، وحكم الله لهذه المساكن بأنها طيبة، ليس فيها ما تكرهه العين، ولا ما تكرهه الأذن، فلا يسمع فيها الإنسان أي صخب ولا خصام، ولا لغوٍ، ولا لهوٍ، إلا قيلاً سلاماً سلاماً، ولا يرى فيها أي شيء تكرهه العين، فليس فيها الغبار، ولا تشم فيها رائحة الدخان، ولا فيها أصوات السيارات المزعجة، ولا فيها أصوات الموسيقى المزعجة، لا يسمع فيها الإنسان إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:26]، يسمع فيها التسليم والترحيب من الملائكة يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، ويسمع فيها التحية من رب العالمين، فيقول الله جل جلاله: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فبذلك يجد فيها مساكن طيبة، والمساكن جمع مسكن، وهو مشتق من السكون؛ لأنه مكان الراحة، فيسكن فيه الإنسان، وينال فيه راحته وهدوءه الذي هو محتاج إليه.

    فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، هذه المساكن في داخل هذه الجنات، فهي: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، معناه: في جنات خلود، فعدن بالمكان معناه أقام به، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [الصف:12]، معناه: مكان الخلود، الجنات الخالدات، التي ليس فيها تغيير.

    ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12]، هذه المساكن من فاز بها فقد نال فوزاً عظيماً؛ لأن الفوز العظيم هو المزحزحة عن النار، وإدخال الجنة، كما قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، فالفوز العظيم هو أن ينجو الإنسان من النار، وأن يدخل الجنة، وينال فيها مساكن طيبة في جوار الرحمن جل جلاله.

    الثمن الخامس

    وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا [الصف:13]، هذا الأمر الخامس، أخرى تحبونها: وهي في الحياة الدنيا، فكثير من الناس مولعون بالعاجل من هذه الحياة، وليس ذلك عيباً؛ لأن أهل الإيمان يسألون الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ولكن بدأ بالأكبر الأعظم، كالمغفرة ودخول الجنة، ووجود المسكن، والخلود فيها، وهذه أربعة أمور كلها أخروية، ثم جاء بالأمر الخامس الدنيوي، فقال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا [الصف:13]، هي محبوبة إلى النفوس.

    نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، هذه الأخرى التي في الدنيا ليست الخلود في الدنيا، وليست المعافاة الجسمية الأبدية فيها، بل ذلك منافٍ للسعادة؛ لأن الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه، والله تعالى يقول: بسم الله الرحمن الرحيم: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى الرجل على قدر دينه ).

    فإذاً ليس من الثمن أن تجد مالاً في الحياة الدنيا واسعاً، أو أن تعمر فيها عمراً طويلاً، أو أن تعافى فيها من جميع الأسقام والأمراض، لم يذكر ذلك في هذا الثمن، فما هو إذاً الثمن الدنيوي؟ قال: نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف:13]، أن تنصر على أعداء الله، فيمكن الله لك، ويعلي شأنك عليهم، نَصْرٌ مِنَ اللهِ [الصف:13]، وهذا يجد فيه الإنسان راحةً وطمأنينةً وسعادةً قلبية لا يعدلها شيء، فـموسى والملأ من بني إسرائيل معه، نصرهم الله على فرعون وجنوده نصراً عزيزاً، حيث أراهم مصارعهم وهم ينظرون، فكان ذلك نصراً عزيزاً، ولذلك قال الله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ المُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ [الصافات:114-119]، فـموسى وهارون امتن الله عليهما بهذا النصر المبين، قال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الصافات:114-116]، نصرناهم، أي: موسى و هارون وقومهما، نصرناهم فكانوا هم الغالبين.

    وكذلك نصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصراً مؤزراً فقال: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]، وقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، وقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، وقال تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]، فلذلك قال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، وهذا النصر معه الفتح القريب، والفتح معناه التمكين، فأن يفتح الله للمؤمنين حتى يقيموا شعائر دينهم، لا يخافون أحداً إلا الله، ولا يخافون في الله لومة لائم، هذا نصر عزيز من عند الله، وهذا الفتح قريب لا محالة، فما هو آتٍ في الزمان قريب، ولذلك في كل وقت، إذا تهيأ المؤمنون للفتح، فاتصفوا بصفات أهل النصر، نصرهم الله؛ لأن الله يقول: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8]، وهذا وعد منه أن ينصر من ينصره، ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، فكل من نصر الله، لا بد أن ينصره الله عز وجل بعز عزيز، أو بذل ذليل.

    ولذلك قال: وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ [الصف:13]، فهذا الفتح لما كان قريباً بشر به أهل الإيمان، فهو قريب منهم دائماً، فنصر الله قريب دائماً، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فنصر الله قريب، لكن لا يكون إلا بعد الامتحان، يبتلى الإنسان ويمتحن، فإذا نجح في امتحانه، جاءه النصر، كما قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:110-111]، وهذا النصر هو من عند الله وحده، ليس بالآلات ولا بالوسائل، ولذلك قال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ [آل عمران:126]، وقال: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، وقد تعهد الله بالنصر في الدنيا والآخرة لأوليائه، فقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، فليس النصر مقصوراً على الدنيا فقط، بل هو مستمر أيضاً، وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].

    ولذلك الخصام الدنيوي بين المؤمنين والكافرين، وبين الصالحين والفاسقين، تنصب له محكمة يوم القيامة، وقد بين الله ذلك فقال: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]، وبين ما يقابل ذلك، وهو ما أعد للمؤمنين لأهل الإيمان في جناته، من رحمته ومرضاته والفوز العظيم الذي أعده لهم، وأيضاً ما هداهم له في الحياة الدنيا؛ لأنه بعد أن ذكر ذلك الأخروي قال: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24].

    فهذه البيعة التي دعاكم الله إليها، وهذه التجارة التي دعاكم الله إليها، فيها في المثمن خمسة أقسام، وفي الثمن خمسة أقسام، وإذا قارنتم المثمن بالثمن، عرفتم أن المثمن والثمن كلاهما من عند الله، وأنكم ما خسرتم شيئاً، فلذلك عليكم أن تعاملوا الله سبحانه وتعالى معاملة حسنةً، وأن تقوموا بهذه التجارة مع الله، وأن تكونوا راضين بها قائمين بحقها، فذلك ربح طائل، ووعد لا يخلف، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه على كل شيء قدير.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767376155