بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
تقدم معنا أن أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها).
وبينما هو صلوات ربي وسلامه عليه في غار حراء في ليلة القدر إذ فجأه الوحي، وقال له: (اقرأ. فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فتلا عليه قول ربنا جل جلاله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]). وكانت هذه الآيات الخمس هي أول ما نزل من القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
( فرجع عليه الصلاة والسلام ترجف بوادره )، وهي العروق التي في صفحة العنق إلى الترقوة، ( حتى دخل على خديجة فقال: زملوني، زملوني )، فغطوه صلوات ربي وسلامه عليه حتى ذهب عنه الروع، أي: حتى ذهب عنه ما كان يجد من فزع وخوف، ثم قال: ( يا خديجة ! ما لي؟ )، وأخبرها الخبر، وقال: ( لقد خشيت على نفسي ).
فـخديجة رضي الله عنها كلمته بتلك الكلمات المحفوظة لدينا جميعاً: ( كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق )، وكلام خديجة رضي الله عنها يدل على رجاحة عقلها، ودقة فهمها وسعة علمها، كأنها تعلم أن من سنن الله عز وجل أن الجزاء من جنس العمل، فالذي يعمل خيراً ويبذل معروفاً ويحسن إلى خلق الله، فالله عز وجل لا يخزيه ولا يضيعه.
قالت رضي الله عنها: (إنك لتحمل الكل)، أي: الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يكتسب لنفسه، (وتقري الضيف)، بمعنى: أنك تكرم الضيف، (وتكسب المعدوم)، أي: تتصدق على الفقير والمسكين، (وتعين على نوائب الحق)، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان باذلاً نفسه في عون المظلوم وإغاثة الملهوف، وكما قيل:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
والله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين.
ثم ما اكتفت بذلك رضي الله عنها، بل صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخاً قد أسن، وكان يكتب بالعبرانية، وقد قرأ الكتاب الأول قالت له: (يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة : هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي أكون حياً- حين يخرجك قومك، فقال له عليه الصلاة والسلام: أومخرجي هم؟! قال: نعم. لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم يلبث ورقة أن توفي)، وهذا الكلام من ورقة يدل على علمه بسير الأنبياء وتواريخهم صلوات الله وسلامه عليهم.
قال الله عز وجل: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، يعني: ما من نبي من الأنبياء أتى إلى قومه فقال لهم: يا قوم! قولوا: لا إله إلا الله، فقالوا: لا إله إلا الله، وإنما آذوه وعادوه، وما استجاب له إلا طائفة، وقد حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه عرضت عليه الأمم فرأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد )، يعني: بعض الأنبياء ما آمن بدعوتهم أحد، وبعض الأنبياء كـنوح عليه السلام قال الله عز وجل عنه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، بعدما لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، أي: تسعمائة وخمسين سنة وهو يقول للناس: قولوا: لا إله إلا الله، وفي النهاية ما آمن معه إلا قليل، وكان على رأس من كفر به زوجه وولده، فزوجته كافرة وولده كافر.
هذه سنة الله عز وجل مع الأنبياء، ولذلك قال مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [فاطر:25]، وقال له: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34].
ومما ينبغي أن يقال: إن هناك أدلة نستطيع من خلالها الاستدلال على أن القرآن كلام الله.
فلو قال قائل: إن القرآن ليس إلا من كلام محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم ذلك الكذابون من المستشرقين وغيرهم، حيث يقولون: بأنه تلقى المعلومات التي في القرآن من كتب أهل الكتاب وأحبارهم ورهبانهم، ثم صاغها على ما جرت به عادة العرب في كلامهم!
نقول: هذا الكلام لا يقبل أبداً، ويدل على كذبهم أمور:
أولها: أن في القرآن الكريم آيات توجهت بالعتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: نحن نقرأ في القرآن قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، ونقرأ في القرآن بعد غزوة تبوك قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [التوبة:43]، ونقرأ في القرآن قوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، فهذا كله عتاب وملاطفة من الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام، فلو كان القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم أيعقل أن يعاتب المرء نفسه؟! وبعضها مسائل زوجية، يعني: نحرص على إخفائها، يعني لو أن أحدنا حصل بينه وبين زوجته خلافات ونزاعات فإنه لا يحب أن يعلم الناس بذلك، لكننا نقرأ في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1]، ونجد الخطاب لزوجاته: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً [التحريم:5]، هذا كله خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على أن الوحي من الله عز وجل: الآية التي يقول فيها ربنا مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ [يونس:94]، فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن داخلك شك في هذا الذي أوحي إليك فاسأل من كانوا على علم بالكتاب الأول من الأحبار والرهبان، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا أشك ولا أسأل ).
ومن الأدلة على أن القرآن كلام الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوجه إليه السؤال فيمسك عن الجواب زماناً طويلاً في انتظار الوحي، ولو كان القرآن من وضعه هو عليه الصلاة والسلام كان بمجرد طرح السؤال يعمد إلى أن يكتب آيات أو يؤلف آيات يجيب بها السائل، لكن نقرأ بأن المشركين لما ذهبوا إلى اليهود من مكة إلى المدينة وقالوا لليهود: ظهر فينا رجل يزعم أنه نبي، وصفته كذا وكذا، واليهود على عادتهم في لي ألسنتهم وعدم النطق بالحق، قالوا لأولئك المشركين: سلوا هذا الذي يزعم أنه نبي عن أمور ثلاثة: سلوه عن رجل ملك المشارق والمغارب؟ وعن فتية خرجوا في الدهر الأول ما خبرهم؟ وسلوه عن الروح؟
فجاء المشركون بهذه الأسئلة للنبي عليه الصلاة والسلام فقال لهم: ( أجيبكم غداً )، ولم يقل: إن شاء الله، ( فتلبث الوحي خمسة عشر يوماً ) يعني: خمسة عشر يوماً وما جاءه الوحي، حتى أرجف المشركون وقالوا: إن محمداً وعدنا أن يجيبنا غداً وقد مضت خمس عشرة ليلة، فأنزل الله سورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وفيها خبر ذي القرنين الذي بلغ المشارق والمغارب، وفي سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، وخاطب الله نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً [الكهف:23] إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24]، فهذا دليل على أن القرآن موحى إليه وليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم.
ومثله لما جاءت امرأة سعد بن الربيع رضي الله عنه قالت: (يا رسول الله! إن سعداً قتل في أحد، وقد ترك بنتين جاء عمهما فأخذ المال كله، ولا تنكحان إلا ولهما مال)، يعني: على عادة أهل الجاهلية ما كانوا يورثون النساء، فالرجل لما مات ترك زوجة وبنتين، فجاء أخوه فاستولى على المال كله، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجواب حتى نزل قول ربنا: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فاستدعى ذلك الرجل وقال له: ( أعط المرأة الثمن، والبنتين الثلثين، ثم شأنك بالباقي )، فقسم التركة على ما أنزل الله في القرآن الكريم.
ثم من الأدلة كذلك: أن حكمة الله عز وجل قد اقتضت أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب؛ وذلك لإبعاد شبهة الشك في مصدر هذا الوحي، قال الله عز وجل: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ [العنكبوت:48-49].
وما زال التحدي قائماً، إن كان هذا القرآن من وضع بشر فما أكثر الفصحاء والبلغاء وأرباب البيان: فأتوا بقرآن مثله، فإن عجزتم: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، فإن عجزتم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23].
قالوا: ومن حكمة الله أنه جعل القرآن سوراً طوالاً وقصاراً؛ من أجل أن يثبت الإعجاز، كما أن الناس عاجزون أن يأتوا بسورة كسورة البقرة، فهم أيضاً عاجزون أن يأتوا بسورة كسورة الكوثر.
وسورة الكوثر هي أقصر سورة في القرآن وأقل السور حروفاً، لا يستطيعون أن يأتوا بمثلها.
ولما قال مسيلمة الكذاب عليه لعنة الله: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، إن شانئك هو العتود، قال له عمرو بن العاص : (والله يا مسيلمة ! إنك تعلم أني أعلم أنك كاذب، وأن محمداً صادق).
ولما قال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، ضحك منه الناس، وعلموا أن هذا كلام فارغ، فالعاقل لا يقوله فضلاً عن أن يكون من رب العالمين جل جلاله.
ولما سمع الخبيث قول ربنا: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً [العاديات:1-3]، قال: والباذرات بذراً، والزارعات زرعاً، فالحاصدات حصداً، فالطاحنات طحناً، فالطابخات طبخاً، فاللاقمات لقماً، يعني: قصته كلها أكل وعجين.
ولذلك أبو بكر رضي الله عنه لما رجعت بنو حنيفة بعدما ارتدوا قال لهم: (أسمعوني شيئاً من قرآن الكذاب! فقالوا له: أعفنا. فقال: لا والله أسمعوني. فلما قالوا هذا الكلام، قال لهم: ويحكم! أين كانت عقولكم؟!) يعني: دعونا من الكفر والإيمان أين كانت عقولكم؟
ولذلك فإن القرآن حتى الكفار أقروا بعجزهم، فـالوليد بن المغيرة لما جاء وسمع القرآن قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر.
وكذلك عتبة بن ربيعة لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأساء إليه قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( اسمع يا عم! وقرأ عليه صدر سورة فصلت: حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [فصلت:1-4]، إلى أن بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، فجاء ذلك الكافر ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! ناشدتك الله والرحم أن تكف )، ألقى الله الرعب في قلبه.
فالقرآن له سلطان، وله تأثير، ولذلك كانوا مقرين بعجزهم ولا يزال التحدي قائماً قال تعالى: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].
وقال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وفي هذه الآية يتحدى الله عز وجل البشر جميعاً ويقول لهم: ائتوا بآيتين في القرآن متعارضتين وهما محكمتان بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، أبداً لن تجدوا، لم؟ لأنه كلام الله جل جلاله العليم الخبير الجليل العظيم القدير.
فكلما قرأ المسلم القرآن ازداد يقيناً بأنه كلام الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآن تجدون من الأطباء والجيولوجيين وعلماء الآثار وغيرهم من أصحاب التخصصات تجدونهم يوردون الأدلة من القرآن على اكتشافات علمية ما توصل لها الناس إلا في زمان قريب.
مثلاً: نظرية الانفجار الكبير كما يسمونها، وجدوها في قول ربنا جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، يعني: الآن توصلوا إلى أن الكون كله كان كتلة واحدة ثم حصل انفجار انفصلت فيه سماواته عن أرضه وجباله عن بحاره وهكذا. هذا مجرد مثال.
ومثله أيضاً: الأطباء حين يقرءون قول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14]، وهذا الكلام نزل في زمن ما كان هناك مجاهر، ولا أشعة ولا موجات صوتية ولا كان هناك المعامل ولا شيء، بل كانوا في بيئة لا يعرفون إلا الإبل والنخيل والرمل، وفي بيئة متواضعة، وهذا الكلام أوحي به إلى رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، صلوات الله وسلامه عليه.
وبعدما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء انقطع عنه زماناً، حتى ظن صلوات ربي وسلامه عليه أن ربه قد قلاه، أو أن ربه قد ودعه، يقول عليه الصلاة والسلام بعد هذا الفتور، وبعد هذا الانقطاع من الوحي الذي استمر نحواً من أربعين يوماً : ( بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7] )، وبعدها حمي الوحي وتواتر، فلم يكن هناك انقطاع للوحي، بل صار الوحي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة متتابعة.
والحكمة من هذا الانقطاع والعلم عند الله تعالى: أن يحصل الشوق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن يشتاق لنزول الوحي، ولمجالسة هذا الملك.
وأيضاً: تأكيداً للحقيقة التي ذكرت قبل قليل وهي: أن الوحي ليس بيد محمد صلى الله عليه وسلم، فإن شاء أرسله وإن شاء أمسكه، قال تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:64].
والوحي كان يأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ست صور:
الصورة الأولى: أن يأتيه في صورة بشر، فقد كان يأتي جبريل عليه السلام متقمصاً صورة إنسان كما في الحديث: (إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)، يعني: استغربوا؛ لأنه رجل ليس من أهل المدينة، معنى ذلك جاء من الخارج، لكن لا تظهر عليه آثار السفر، فثيابه نظيفة، وشعره أسود فاحم، دلالة على العناية والترجيل، ثم جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه وسأله عن الإسلام، فلما أجابه قال: صدقت، يقول الصحابة: فعجبنا له يسأله ويصدقه)، يعني: السائل المستفهم ليس من حقه أن يقول: صدقت ولا كذبت. فالصحابة استغربوا بعدما انتهى من أسئلته وانصرف النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أتدرون من السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )، يعني: أحياناً الإنسان يطرح السؤال لا مستفهماً، وإنما من أجل أن يعلم غيره.
ومرة نزل جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وكان رجلاً حسن الوجه في الصحابة الكرام، فهذه الصورة الأولى.
الصورة الثانية: أن يأتيه بصوت كدوي النحل، الصحابة يسمعون صوتاً كصوت دوي النحل، وفي تلك اللحظة يكون الوحي نازلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثالثة وهي أشدها على النبي عليه الصلاة والسلام: أن يأتيه كصلصلة الجرس، قالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي وإنه ليفصم عنه في اليوم الشديد البرد، وإنه جبينه ليتفصد عرقاً)، عليه الصلاة والسلام.
الصورة الرابعة: أن يراه على الصورة التي خلقه الله عليها، صورته الحقيقية، وهذا تأويل قول ربنا جل جلاله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:5-10]، إلى أن قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، يعني: الصورة الرابعة هذه حصلت مرتين.
الصورة الخامسة: أن يأتيه الوحي مناماً، وهذا تجدونه كثيراً، فالرسول صلى الله عليه وسلم يرى في منامه رؤيا يعلم بأنها وحي من الله، فقبل غزوة أحد: ( رأى في منامه بقراً تذبح، ورأى في سيفه ثلمة -يعني: كسرة- ورأى أنه أدخل يده في درع حصينة، قالوا: فما تأولتها يا رسول الله؟ قال: أما البقر: فنفر من أصحابي يقتلون، فقتل سبعون. وأما الثلمة التي في سيفي: فرجل من أهل بيتي يقتل، فقتل حمزة . وأما الدرع الحصينة فهي: المدينة ).
وكذلك: ( لما رأى صلى الله عليه وسلم في منامه أصحابه وعلى كل واحد منهم قميص، ورأى على عمر قميصاً يجره - قميص طويل يجره- قالوا: فما تأولته يا رسول الله؟ قال: العلم )، العلم؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل قد أفاض الله عليه علماً، فكان محدثاً ملهماً.
ومثله أيضاً: ( لما رأى في المنام عليه الصلاة والسلام: إنساناً مضطجعاً وآخر قائماً على رأسه بصخرة يثلغ بها رأسه، فيتدهده الحجر فيأتي به وقد التأمت الرأس فيفعل به ذلك ) -يعني: رجل راقد وآخر آخذ حجراً كبيراً يرميه في رأسه، فيشق رأسه اثنين، والحجر يتدحرج، ومرة أخرى يأتي بالحجر فيجد رأسه قد التأمت، يعني: لو من المرة الأولى مات كان ارتاح، لكن لا، تلتئم الرأس فيفعل به ذلك- ( فسأل: من هذا؟ قيل: هذا الذي يؤتيه الله القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة ).
ورأى عليه الصلاة والسلام: ( رجالاً ونساءً في مثل التنور أعلاه ضيق، وأسفله واسع، يأتيهم اللهب من أسفلهم، فإذا جاءهم هذا اللهب ضوضوا -صاحوا- فسأل عنهم؟ فقيل: هؤلاء هم الزناة والزواني ).
ورأى: ( رجلاً جالساً وآخر قائماً عليه بمثل الكلوب -الكلوب الذي تعلق به الذبيحة عند الجزار- يشرشر شدقه إلى قفاه، وأنفه إلى قفاه، ثم يأتي إلى الشق الآخر فيفعل به ذلك، ثم يرجع إلى الأول فإذا هو قد التأم فيفعل به ذلك، فلما سأل، قيل له: هذا الذي يخرج من بيته يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق )، يعني: يكون عنده جريدة أو إذاعة أو قناة أو تلفون سريع الاتصال، يكذب يقول: حصل كذا كذا، وبعد ساعات تجد الخبر قد انتشر وهو يعلم أنه كاذب، فهذا عذابه في جهنم والعياذ بالله.
الصورة السادسة: ذكرها بعض أهل العلم وهي: أن يكلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، وهذه يقيناً حصلت مع موسى عليه السلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، وبعض أهل العلم قالوا: حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين فرض الله عليه خمس صلوات في كل يوم وليلة.
أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم، وأن يحيينا على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يتوفنا على ملته، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم اجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم أكرمنا بشفاعته، اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهه الشريف برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
السؤال: ورد في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في معنى الحديث: أن أول ما نزل من القرآن الكريم (يا أيها المدثر)، فما الأرجح سورة المدثر أم (اقرأ باسم ربك الذي خلق)؟
الجواب: جزاك الله خيراً يا أخي! واعلم بأن العلماء رحمهم الله قد اختلفوا في هذه المسألة حتى قال بعضهم: إن أول ما نزل: فاتحة الكتاب، وبعضهم قال: أول ما نزل سورة المدثر، ولكن الذي عليه جمهورهم وهو الذي تشهد له الرواية التي رواها البخاري في كتاب بدء الوحي، حديث أمنا عائشة : بأن أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس الآيات الأول من سورة العلق.
السؤال: أسأل عن كيفية الجمع بين المغرب والعشاء والتراويح عند نزول المطر؟
الجواب: إذا نزل المطر فإنه يجوز لكم أن تجمعوا بين المغرب والعشاء، أما صلاة القيام فلا تكون إلا بعد دخول وقت العشاء، حتى لو كان الإنسان مثلاً مسافراً وجمع بين المغرب والعشاء فإنه لا يقيم الليل إلا إذا دخل وقت العشاء.
السؤال: لماذا سورة التوبة لم تبدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)؟
الجواب: هذه ذكر فيها العلماء أقوالاً:
من هذه الأقوال: بأن سورة التوبة نزلت بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وطوائف من المشركين، وقد جرت عادة العرب أنهم إذا نقضوا العهد لا يبسملون، وقيل: بل لم تبدأ بالبسملة؛ لأنها مع الأنفال وموضوعهما واحد، وهو: الجهاد، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين أهي من الأنفال أم سورة سواها؟ فاختلف الصحابة في ذلك، فلما كتب عثمان رضي الله عنه المصحف جعل فاصلاً بين السورتين رعاية لقول من قال بأنهما سورتان، ولم يكتب البسملة رعاية لقول من قال: بأنهما سورة واحدة.
السؤال: ما هو علاج الأحقاد والحسد؟ وهل انتشارها يعد من علامات الساعة؟
الجواب: أما علامات الساعة فلا أدري؛ لأن الأحقاد والحسد من زمان، يعني: الحسد هو أول ذنب عصي الله به في الأرض، وأول ذنب عصي الله به في السماء، فأول من حسد في السماء إبليس لما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، لأنه الحسد أصلاً قالوا: مركب من مصيبتين: المصيبة الأولى: تعظيم النفس، والحاسد يعظم نفسه، والمصيبة الثانية: ازدراء المحسود، يعني الحاسد يرى المحسود أنه ليس أهلاً للنعمة التي هو فيها، إذاً: الحاسد من ناحية يرى نفسه أعظم مكانة وأعلى منزلة وأنه أجدر بهذه النعمة، ومن ناحية ثانية: يرى المحسود لا يساوي شيئاً، وهذا الذي حصل من إبليس.
وأما في الأرض: فقد حسد ابن آدم أخاه حتى حمله ذلك على أن يقتله والعياذ بالله! فالحسد موجود من زمان، وكذلك الحقد موجود من زمان.
أما علاجه فبمجاهدة النفس.
أولاً: الحسد لا يسلم منه أحد، كما قيل: ما خلا جسد من حسد، وفي الحديث: (ثلاث لا يسلم منهن أحد: الحسد، والظن، والطيرة -يعني: التشاؤم- قالوا: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض)، فحسد النفس مثل: لو رأيت بأن فلاناً هذا ليس أهلاً لهذه النعمة، وتمنيت زوال هذه النعمة عنه، فلا يصحب ذلك بغي؟ يعني: مثلاً السيارة لا تحاول تكسرها له، ولا تحرقها، ولا تشخطها ونحو ذلك. وإنما حسدك هذا لو مسكته في نفسك فالله سيعافيك.
وأيضاً من علاج الحسد: أن الإنسان يدعو الله الذي رزق فلاناً أن يرزقه، فخزائنه ملأى جل جلاله، وبيده ملكوت السموات والأرض؛ ولذلك لو دعوت الله أن يرزقني من الذرية كما رزقه، أو أن يرزقني من المال كما رزقه، أو أن يرزقني من متاع الدنيا كما رزقه، فلا مانع من ذلك.
وأيضاً من علاج الحسد: أن يعلم الإنسان أنه لن يغير من قدر الله شيئاً، فالله كتب الأرزاق، وكتب الآجال، وكتب الأعمال قال تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ[الرعد:8]، جل جلاله. فما فائدة الحسد إذاً طالما أني لن أستطيع أن أغير من الأمر شيئاً؟!
وأيضاً من علاج الحسد: التفكر في العاقبة، بأن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ لأن الحاسد دائماً يضطر للكلام في المحسود، ويحاول أن يضعه، وأن يهدمه، وأن ينقص قدره، وهذه كلها ظلمات بعضها فوق بعض.
السؤال: هل يمكن الجمع بين القضاء والست من شوال؟
الجواب: لا. لا يمكن الجمع بين القضاء والست من شوال؛ لأنه لا يجوز هنا التشريك في النية، فالقضاء مطلوب لذاته، وستاً من شوال مطلوبة، فصم القضاء ثم صم ستاً من شوال، وإن صعب عليك فصم الست من شوال، وبعد ذلك اقض خلال العام.
السؤال: حفظت القرآن الكريم ووهبته لوالدي، فهل سيشفع لهم يوم القيامة؟
الجواب: إن شاء الله الثواب يصل إليهما، من قرأ قرآناً ووهب ثوابه لميت مسلم فإن الثواب يصل إليه على ما قال كثير من أهل العلم.
السؤال: صلى بنا الإمام وهو يمسك المايك بيده اليسرى، ويقوم ويسجد ويركع، وكل الحركات، والمايك بيده اليسرى، علماً بأن المايك يثبت في جلبابه، فما رأي الشرع في ذلك؟
الجواب: الأفضل أن يثبته في الجلباب، لكن ربما الإمام لا يعرف بأنه يثبت في الجلباب، وعلى كل حال الصلاة صحيحة، فإن الحركة في الصلاة إذا كان هناك ما يدعو إليها فلا بأس بها ( فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حامل أمامة بنت زينب ، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها )، وهذه حركات.
ومثله أيضاً : ( لما صلى أبو بكر بالناس فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد ذهب ليصلح بين حيين من بني عمرو بن عوف، فلما قدم عليه الصلاة والسلام بدأ الناس يتنحنحون. فلما أكثروا من التنحنح التفت أبو بكر فرأى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأشار إليه أن مكانك )، يعني: واصل صلاتك، لكن أبا بكر رضي الله عنه وهو الأديب الأريب (حمد الله، ثم رجع القهقرى إلى أن دخل في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس)، ففيه حركة من أبي بكر وحركة من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومثله أيضاً: لو كان مكبر الصوت يخرج أصواتاً مزعجة تذهب خشوع الناس، فلو مد يده وأغلقه فلا حرج.
السؤال: تناقشنا أنا وزوجتي في أمر لشرائه من السوق، هي تقول لي: بأنها أخبرتني به، وأنا أقول: بأنني لم أسمع به، واشتد النقاش وقلت لها: علي الطلاق ما سمعت به، وأنا واثق مما أقول، هل يترتب على ذلك شيء؟
الجواب: ما يترتب شيء إن شاء الله؛ لكن لا ينبغي أن تحلف بالطلاق، فإن الحلف بالطلاق يمين الفساق، فلا تحلف بالطلاق، قل لها: والله ما سمعت شيئاً، فليس هناك داعٍ للطلاق.
والطلاق لا يقع؛ لأن هذا لغو، بل حتى لو حلف بالله بناءً على غلبة ظنه، يعني مثلاً قال: والله ما سمعت، ثم تبين له فيما بعد، مثل لو ذكرته زوجته فتذكر وعرف بأنه قد حصل، فلا حرج عليه؛ لأنه ما تعمد كذباً، وقد قال الله عز وجل: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225].
وسعد رضي الله عنه مر بـعثمان فسلم عليه، قال له: السلام عليكم. فما رد عليه عثمان ، فدخل سعد رضي الله عنه على عمر بن الخطاب فقال له: يا أمير المؤمنين! هل حدث في الإسلام حدث -يعني: هل هناك شيء جديد في الدين؟- قال له: وما ذاك؟ قال: مررت على عثمان فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فـعمر رضي الله عنه أتى بـعثمان . قال له: لم لا ترد على أخيك؟ قال له: والله ما سلم عليَّ، حلف بالله. وسعد حلف بالله أنه سلم. فـعثمان رضي الله عنه بدأ يستعيد. وقال: بلى وأستغفر الله، إنك مررت بي وأنا أحدث نفسي بكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما تفكرت فيها كدت أغيب عن الوعي، فقال له عمر : إني لأعلمها. فقال له عثمان : وما هي؟ قال له: ( دعوة لا يقولها مكروب إلا نفس الله كربه وهي دعوة ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين )، فهنا عثمان رضي الله عنه حلف بناءً على غلبة الظن.
أما لو أن إنساناً حلف متعمداً الكذب فهذا -والعياذ بالله- قد وقع في يمين الغموس التي تغمسه في نار جهنم.
السؤال: ما حكم المديح في المجالس؟ ومتى يكون المديح مشروعاً؟
الجواب: المديح مشروع بأربعة شروط:
الشرط الأول: أن يبتغى به وجه الله، ما يكون لأجل التسول، يعني (بعض الناس يأخذ الطار ويمشي أمام الدكاكين وينادي: يا رسولنا! يا رسولنا! ثم يمد الطار، فهذا ينبغي أن يضرب، ويقال له: اذهب وابحث لك عن عمل. فالشرط الأول: أن يبتغى به وجه الله.
الشرط الثاني: ألا يتضمن غلواً في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا انتقاصاً منه، يعني: لا تصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق إلا برب العالمين، وفي الوقت نفسه لا تنقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم كما نسمع في بعض الإذاعات أو القنوات يقول لك: (مثل هذا الرسول أصله ما فيه، بنحبك يا رسول الله مثل الكسرة والملاح، نحبك يا رسول الله مثل الشطة والليمون)! هل هذا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لو أن أحداً الآن في الجامعة أو في القاعة قال لصاحبته: بحبك مثل الشطة والليمون! هل ترضى بهذا الكلام؟! يمثلها بالشطة والليمون! هذا يدل على فساد ذوق، وضعف تصور، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].
الشرط الثالث: أن يكون المجلس مجلس وقار وسكينة، فلا يوجد فيه تصفيق ولا حركات بل أن تجلس مؤدباً.
الشرط الرابع: ألا تصحبه معازف.
إذاً: الشرط الأول: أن يبتغى به وجه الله، والثاني: ألا يكون فيه غلو ولا انتقاص من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث: أن يكون المجلس مجلس وقار وسكينة وحلم وأدب، والرابع: ألا تصحبه معازف.
السؤال: أنا أعمل في مجال البناء والمقاولات، ولدي عقد في بناء المسجد لمدة ثلاثة أشهر، إذا لم أنته في هذه المدة فعلي شروط جزائية، والشرط جزائي عن كل يوم تأخير، فهل يجوز لي الإفطار هذا الشهر؟
الجواب: الإفطار يجوز في المرض ويجوز في السفر، أما في المقاولات فلا، ومع ذلك هو شغال بيده، يعني: إذا كان مقاولاً معناه عنده عمال، فعليه أن يبذل من الأسباب ما يستطيع الصيام، مثل: أن يؤخر السحور، ويكثر من شرب الماء، ويحمل مظلة أو شمسية ونحو ذلك، ويجتهد، ولا أجد له رخصة في الإفطار. والعلم عند الله تعالى.
السؤال: هل هناك شروط لصلاة الضحى؟
الجواب: صلاة الضحى أنبه فيها على مسألتين:
المسألة الأولى: نلاحظ أن البعض يبادرون إلى الصلاة بمجرد طلوع الشمس، يعني: إذا كان طلوع الشمس في السادسة واثنتين وثلاثين دقيقة تلقاه أول ما يأتي هذا الوقت يقوم ويصلي الضحى. وهذا خطأ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن الصلاة في ذلك الوقت كما ثبت عند البخاري من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: ( ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب )، فساعة طلوع الشمس الصلاة فيها ممنوعة، فالمفروض أن الإنسان ينتظر حوالي ربع ساعة وبعد ذلك يصلي.
المسألة الثانية: الأفضل أن تصلي هاتين الركعتين ولا تضيع صلاة الضحى إذا اشتد الحر، الساعة الحادية عشرة أو الحادية عشرة والنصف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ).
السؤال: امرأة استمرت معها الدورة لأكثر من خمسة عشر يوماً، فهل يجوز أن تصوم وتصلي؟
الجواب: ليس هناك دورة أكثر من خمسة عشر يوماً، أجمع أهل العلم على أن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تمكث شطر عمرها لا تصلي )، و(شطر العمر) يعني: النصف. فما زاد على خمسة عشر يوماً يكون دم علة وفساد ولا يترتب عليه شيء، وإنما تغتسل وتصلي وتصوم.
السؤال: والدتي فوق الستين من عمرها ومصابة بداء السكري، والطبيب أمرها بالإفطار، ولها بعض سنين كانت تفطر وتخرج الفدية، لكنها هذا العام وهي من بداية رمضان صائمة، فأيهما أفضل في الشرع: الصوم أم الإفطار وإخراج الفدية؟
الجواب: إذا كان الطبيب منعها من الصيام فينبغي لها أن تلزم قوله، ولا تعرض نفسها للهلاك؛ لأن الله قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]؛ ولأن الله قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، فينبغي لها أن تفطر وتفدي.
السؤال: رجل متزوج ويريد الزواج بالثانية، فهل يشترط إخبارها بأنه متزوج بالأخرى؟
الجواب: يتزوج ولا يكثر الكلام.
السؤال: ما هو تفسير قوله تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [طه:88]؟
الجواب: يعني: هذا السامري دجال من دجاجلة بني إسرائيل، لما ذهب موسى لميقات ربه صنع لهم عجلاً من الذهب، وهذا العجل كانت الريح إذا دخلت من فمه -لأنه أجوف- وخرجت من دبره، كانت الريح تحدث أصواتاً، ودعا بني إسرائيل إلى عبادته وقال لهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، فبدءوا يعكفون عنده ويطوفون حوله ويتمسحون به، فلما جاء موسى عليه السلام دعا على هذا السامري، قال له: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97]، يعني: أسأل الله أن يبتليك بمرض لا تستطيع أن تمس أحد، ولا أن يمسك أحد، وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ [طه:97]، أي: نشعل فيه النار، ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97]، وبنو إسرائيل من كان منهم منحرفاً ضالاً تتبع هذا العجل، فشرب من الماء بعدما ذره موسى عليه السلام في اليم، وظهرت الصفرة على شفاههم، قال الله عز وجل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [البقرة:93]، يعني: من شدة محبتهم للضلال والانحراف حتى بعدما أحرقه موسى عليه السلام، ورمى بالرماد في البحر، تتبعوه وشربوا من ذلك الماء تبركاً، نعوذ بالله من الضلال والخبل.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم برحمتك الواسعة عمنا، وقنا شر ما أهمنا وغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا، وارفعنا ولا تضعنا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، نسألك خير المسألة وخير الدعاء، وخير الثواب وخير النجاح، وخير العلم وخير العمل، وخير الحياة وخير الممات، وثبتنا وثقل موازيننا، وحقق إيماننا وارفع درجاتنا واغفر خطيئاتنا، وتقبل صلاتنا، ونسألك الدرجات العلا من الجنة، نسألك عيشة هنيئة وميتة سوية، ومرداً غير مخز ولا فاضح، نسألك عيش السعداء وموت الشهداء ومرافقة الأنبياء والفوز يوم القضاء، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً ومن كل ضيقاً مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا، واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك، اللهم كما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في جنات النعيم، وأن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأن تجعلنا إخواناً على سرر متقابلين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
والحمد لله رب العالمين.
أريد أن أقول: إن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مرده إلى رياضة نفسية، ولا إلى تتابع في الشعائر التعبدية، ولا إلى حديث النفس، وإنما هو وارد خارجي، يعني: هناك طرف يوحى إليه وطرف يوحي وهناك واسطة.
أما الموحى إليه: فهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الموحي فهو: رب العالمين جل جلاله؛ ولذلك قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52].
وأما الواسطة: فهو السفير بين الله وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام في مرة من المرات قال لـجبريل: ( لم لا تأتينا في كل يوم؟ فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم:64] ).
والدليل على أن الوحي أمر خارجي ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخوف والوجل، معنى ذلك: أنه لم يكن متوقعاً يعني هذا الأمر، بل كما قالت أمنا خديجة رضي الله عنها: ( إذ فجأه الوحي )، فقولها: (فجأه) بمعنى: أتاه فجأة، وما كان ذلك متصوراً له، أو يخطر بباله صلوات الله وسلامه عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر