إسلام ويب

شرح الحموية [6]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • انقسم المخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات إلى قسمين: منهم من يرى نفي ما لم يثبته العقل، ومنهم من يرى التوقف فيما لم يثبته العقل، وذلك لأنهم قرروا وجود تعارض بين العقل والنقل، ومن ثم قالوا: إذا تعارض العقل والنقل فإنه يقدم العقل على النقل، وهذه المقالة مقالة فاسدة باطلة من وجوه كثيرة.

    1.   

    أصناف المخالفين في باب الأسماء والصفات

    قال المصنف رحمه الله: [ثم هم هاهنا فريقان: أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه. ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم - الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض - فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا].

    يبين المصنف رحمه الله في هذا المقام أصناف المخالفين في تقريرهم لباب الأسماء والصفات، فيقول: إنهم فريقان:

    الأول: وهم الذين يرون نفي ما لم يثبته العقل.. وهذا مذهب أكثرهم.

    الثاني: وهم الذين يرون التوقف فيما لم يثبته العقل.

    إذاً: وقع الاختلاف فيما لم ينفه العقل، أما ما نفاه العقل فإن المتكلمين - سواء كان المتكلم من المعتزلة أو من الأشعرية والماتريدية وغيرهم- متفقون على أن ما تحصل نفيه بالدليل العقلي فإنه يصار إلى نفيه؛ ولهذا نفت الأشاعرة الصفات الفعلية على هذا الوجه، وأما ما لم يدل الدليل على نفيه - أي: الدليل العقلي- فمنهم من يرى التوقف فيه، ومنهم من يرى نفيه، وهذا هو الذي عليه أكثر المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من متكلمة الصفاتية.

    فهذا هو الصنف الأول والصنف الثاني من المتكلمين في هذا الباب.

    أجوبة المتكلمين عن سبب ورود آيات الصفات على خلاف قولهم

    [فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم، فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام].

    هذا هو جواب أكثر المتكلمين عن سبب ورود آيات الصفات على خلاف ما هو الحقيقة في نفس الأمر عندهم، فإنهم إذا نفوا الصفات وظاهر القرآن إثبات الصفات أجابوا عن هذا الظاهر القرآني بأنه قصد امتحان المكلفين به حتى يثابون على هذا الامتحان الذي يحصلونه بطريقة التأويل.

    [أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله].

    كما هي طريقة متأخري الأشاعرة الذين يجوزون التفويض والتأويل، أو كمن يلتزم التفويض فيما لم يدل الدليل العقلي على نفيه، أو من يلتزم التأويل مطلقاً.. فهذه ثلاث طرق للقوم في هذا الباب.

    1.   

    الكلام عن تعارض العقل والنقل

    [مع نفي دلالته على شيء من الصفات.. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين، وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه].

    وهذا التصريح يقررونه بطرق، ومن أخص هذه الطرق ما شاع في كتب المتكلمين من قانون تعارض العقل والنقل، وقد ذكر هذا القانون أئمة المعتزلة، وتحقيقه عند المعتزلة بين لا إشكال فيه، بل وكذلك ذكره كثير من أئمة الأشاعرة كـأبي حامد الغزالي وأبي المعالي الجويني ، ومحمد بن عمر الرازي وغيرهم، ومحصل هذا القانون -الذي عليه عامة المتكلمين كما يذكره الرازي في كتبه، وبخاصة في أساس التقديس الذي أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه نقض التأسيس - محصل هذا القانون كما يقول الرازي : إن الظواهر النقلية إذا عارضت القواطع العقلية فإما أن تقدم الظواهر النقلية، قال: وهذا ممتنع؛ لأن أصل قبول النقل هو العقل. وإما أن تقبل الظواهر النقلية مع القواطع العقلية، قال: وهذا ممتنع لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن ترفع الظواهر النقلية والقواطع العقلية؛ وهذا ممتنع لأنه رفع للنقيضين.

    بهذا يتبين أن تقديم النقل على العقل - بحسب زعم الرازي وأصحابه والمتكلمون بعامة - ممتنع؛ لأن أصل قبول النقل هو الدليل العقلي؛ وبما أن جمع النقيضين ممتنع ورفعهما ممتنع لم يبق عنده إلا الرابع: وهو تقديم العقل على النقل.

    قال: وإذا قدم الدليل العقلي القاطع على الظواهر النقلية فهذه الظواهر فيها مسلكان: التأويل والتفويض .

    إذاً: رتب المتكلمون من الأشاعرة مسألة التأويل ومسألة التفويض على مسألة تعارض العقل والنقل.

    وهذا القانون هو من أخص القوانين التي شاعت في طوائف المتكلمين نفاة الصفاة أو ما هو منها، وقد أجاب عنه أئمة السنة كثيراً وبخاصة ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل.

    1.   

    أوجه تناقض قانون تعارض العقل والنقل

    الوجه الأول

    هذا القانون متناقض من أوجه كثيرة؛ ولكن من أخص هذه الأوجه أن يقال: إن الدليلين إذا تعارضا فإن التقديم يقع باعتبار ظهور الدلالة، وهو ما يسمى بالدلالة القطعية والدلالة الظنية، والدليل فيه جهتان: جهة الثبوت وجهة الدلالة.

    فإذا صار في المقام دليلان بينهما تعارض نظر في جهتي الدليل:

    1- جهة الثبوت.

    2- جهة الدلالة.

    فأيهما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فإنه يقدم على ما يقابله؛ لأنه إذا تحقق في دليل من هذين الدليلين المتعارضين أنه قطعي الثبوت قطعي الدلالة لزم أن يكون الدليل الآخر ليس كذلك، لأنه لا يمكن أن يكون الدليل الآخر قطعي الدلالة قطعي الثبوت؛ حيث إنه لو أمكن هذا للزم التعارض بين القطعيين، وهذا ممتنع باتفاق العقلاء..

    فإذا جئنا إلى الدليل النقلي وهو: القرآن والسنة، وأخذنا القول في القرآن؛ فإن القرآن قطعي الثبوت بإجماع المسلمين، أما من جهة الدلالة فإن آيات الصفات قطعية الدلالة حسب سياق كلام العرب، فإن في قوله تعالى مثلاً: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] أضاف سبحانه الرضا إلى نفسه، أو في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] أضاف السمع إلى نفسه، وهذا الإسناد الصريح -كما يسميه أهل اللغة- هو أصرح سياق في العربية، ومن قال: إن الدلالة في آيات الصفات ليست قطعية من جهة اللغة العربية. يقال له: ليس هناك سياق قطعي في لسان العرب أكثر ظهوراً من سياق الإسناد الصريح.

    إذاً: القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة على آيات الصفات.

    وبهذا يعلم أن كل دليل يعارض القرآن -سواء سمي دليلاً فلسفياً أو عقلياً أو كلامياً أو ما شابه ذلك- يمتنع أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأن هذا الفرض يوجب التعارض بين القطعيين، وهو ممتنع باتفاق العقلاء.

    هذا الطريق من أقوى طرق الرد التي اعتمدها شيخ الإسلام ، وهو: تحقيق أن القرآن قطعي الثبوت -وهذا بدهي- وأنه قطعي الدلالة في آيات الصفات؛ لأن سياق آيات الصفات أصرح سياق عربي في لسان العرب، فإذا كان كذلك علم أن المقابل له على جهة المعارضة يمتنع أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه يوجب التعارض بين القطعيين، وهذا ممتنع باتفاق عقلاء بني آدم.

    الوجه الثاني

    أن يقال: إنه يعلم كون الدليل قطعياً من جهة الثبوت بطرق بحسب حال هذا الدليل، فإذا نظرنا في الدليل الذي يزعمون أنه عارض النقل -وهو الدليل العقلي على زعمهم- فمتى يصح أن نقول عن الدليل العقلي: إنه قطعي الثبوت؟ إذا اتفق عليه العقلاء، وإن شئت قل: إذا اتفق عليه أصحاب النظر العقلي، حتى لا ندخل فيما يتكلف له بعض المتكلمين ويقول: العامة ليسوا من أصحابه. إذاً: إذا اتفق على الدليل أصحاب النظر العقلي، أو هب أن الدائرة أقصر من هذا، وهي: إذا اتفقت عليه طائفة.

    فإذا نظرنا إلى أي دليل عقلي يعارضون به النقل فإننا نجد أنهم لا يتفقون عليه بعامة -أعني: النظار- بل ولا تتفق عليه طائفة اتفاقاً تاماً؛ فالدليل الذي يسميه الرازي وغيره من الأشاعرة بأنه دليل قاطع نجد أن المعتزلة لا يعتبرونه دليلاً قاطعاً، ونجد أن دليل المعتزلة الذي نفوا به الصفات لا تعده الأشعرية دليلاً قاطعاً، بل يرونه دليلاً وهمياً مناقضاً للعقل؛ فالمعتزلة تنفي سائر الصفات والأشعرية تقول: إن الدليل العقلي القاطع يدل على ثبوت أصول الصفات.

    وبهذا نجد أن كل طائفة من طوائف المتكلمين والنظار الذين خالفوا السلف كل طائفة تختص بدليل تزعم أنه دليل عقلي قاطع، مع أننا نجد إذا رجعنا إلى البدهيات في ضبط الأدلة أن الدليل إذا كان عقلياً لا يكون قطعي الثبوت إلا إذا اتفق عليه النظار -أصحاب النظر العقلي- على أقل الأحوال، إن لم نقل اتفق عليه سائر العقلاء.

    إذاً: ليس هناك دليل عقلي واحد اتفق عليه النظار؛ لأن مذاهب النظار متناقضة متعارضة متضادة.

    وبهذا يتبين أنه ليس هناك دليل قطعي الثبوت، وإذا لم يكن الدليل قطعي الثبوت فقد انتهى الأمر فيه من كل جهة.

    ومع ذلك إذا افترضنا -جدلاً- أن لديهم دليلاً قطعي الثبوت، فيبقى الشأن في الجهة الثانية وهي جهة الدلالة.

    فإننا إذا نظرنا إلى جهة الدلالة فإننا نجد أنهم متناقضون فيها، فضلاً عن مناقضة أئمة السنة لهم، فإن المعتزلة تناقض في جهة الدلالة التي تستعملها الأشاعرة والعكس، ومع المشبهة ومع أصناف المجسمة ومع المتفلسفة... وهلم جرا.

    إذاً هذا التناقض والتعارض في مذاهب المخالفين للسلف في ثبوت الأدلة وفي دلالتها -الذي هم يصرحون به في كتبهم- دليل على أن النقل لا يعارضه دليل عقلي قاطع لا ثبوتاً ولا دلالة.

    الوجه الثالث

    أن يقال: إضافة الأدلة إلى هذين القسمين ليس سديداً؛ فإن الدليل النقلي السمعي هو الدليل الشرعي، والدليل الشرعي يقابله الدليل البدعي، أما أن يقال: إن الدليل الشرعي يقابله الدليل العقلي فهذا غلط مبني على أن دلائل القرآن دلائل تسليمية محضة، وليس فيها ما هو من مخاطبة العقول؛ وهذا بسبب أن هذا القانون مبني على قول غلاة المتكلمين الذين يقولون: إن الدلائل القرآنية دلائل خبرية محضة مبنية على صدق المخبر. والحق: أن القرآن فيه دلائل خبرية محضة كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وفيه دلائل عقلية، الخطاب فيها للعقول، ولهذا يخاطب بها حتى الكفار، ومن ذلك قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] ولهذا كان من دلائل أهل السنة على أن الله متصف بالكلام أن الله أبطل ألوهية العجل وقبوله للعبودية -أي: لكونه محلاً للعبودية- بكونه لا يتكلم، ولو كان الإله الحق كما تزعم الجهمية ومن وافقها -تعالى الله عما يقولون- لا يوصف بالكلام لكان هذا نقصاً فيه، أو كان الاستدلال على بطلان ألوهية العجل بهذا ليس صحيحاً، ومثله قول إبراهيم: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42] فلو كان الإله الحق لا يسمع لكان هذا دليلاً على إبراهيم وليس له.

    ومن هنا حكم السلف على أدلة المخالفين العقلية الكلامية بأنها دلائل بدعية، وأن أصحابها قوم مبتدعة.

    فهذا قانون افتتن به كثير من المتكلمين والطوائف، وإن كان يعلم بطلانه بضرورة العقل، فضلاً عن ضرورة النقل.

    ثم إنهم اعتذروا عن تقديم النقل على العقل بأن قالوا: إن أصل قبول النقل هو العقل. ورتبوا ذلك على مسألة النبوة، وهو أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عرفت بالمعجزة والمعجزة آية عقلية.

    وهذا ليس بشيء؛ لأن نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن ثبتت بالمعجزة إلا أنها تثبت بغيرها أيضاً، فإنه ليس كل من أسلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغته دعوته فآمن به لم يؤمنوا إلا لما علموا ما معه من المعجزات، سواء كان ذلك من المشركين عبدة الأوثان أو كان من أهل الكتاب، فإن جمهور من أسلم لم يسلموا لكونهم رأوا آية -التي هي المعجزة- وإنما أسلموا لما سمعوا القرآن، ولا شك أن القرآن أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن إذا قصدنا بالآيات هنا ما تزعمها المعتزلة وأمثالها وهي الخوارق الحسية للعادات كتكثير الماء وأمثال ذلك.

    وهذا هرقل -كما ثبت في الصحيحين في حديث ابن عباس - لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أرسل إلى ركب من قريش كانوا في الشام، وكان معهم أبو سفيان ، وهو إذ ذاك مشرك، فلما دخلوا على هرقل وهو كتابي عالم بكتابه سأل أبا سفيان عن مسائل، هذه المسائل لم تكن عن المعجزات، فإن هرقل لم يسأله: هل لديه معجزة أم ليس لديه معجزة؟ بل سأله: من يتبعه؟ هل كان من آبائه من ملك؟ أيكذب؟.. إلخ، ولما انتهى من هذه السؤالات قال: ماذا يؤمركم؟ قال: ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة .. فماذا قال هرقل؟ قال: إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ، فقطع بثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجزم بها لمثل هذا.

    إذاً: زعمهم أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة.. ليس سديداً، بل تثبت بها وبغيرها؛ فإن آيات الأنبياء لا تختص بخوارق العادات.

    ثم لو فرض أن هذا صحيح.. فإن الدليل الذي عارض آيات الصفات ليس هو الدليل العقلي الذي ثبتت به المعجزة، إذاً لا يلتفت إليه.. وهلم جرا من الأوجه.

    1.   

    الرد إلى غير الكتاب والسنة يوجب الاختلاف

    [ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين، وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة].

    وإن كان هذا الرد أي: الرد إلى غير الكتاب والسنة، إما إلى العقل أو المقالات الفلسفية أو غيرها؛ الرد إلى هذه الأمور لا يزيد الأمر إلا شدة؛ لأنه يوجب كثرة الاختلاف، ولهذا لما استعمل هؤلاء هذه الدلائل كثر اختلافهم وافترقت طوائفهم افتراقاً مشهوراً.

    [ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً [النساء:60-62] فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية.

    ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم].

    قوله: إنما تقلدوا أكثرها لأنه قد يقع لهم دلائل يحصلونها بنظم عقلي مقرر ليس مولداً من مقالات فلسفية، لكن الدلائل التي هي أصول في هذه المذاهب لابد أن تكون فيها مادة فلسفية، وهذا قد تقدم الإشارة إليه.

    [مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ [البقرة:213] الآية، ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى].

    لازم هذه المقالة أي: مقالة التعطيل، سواء كان تعطيلاً لسائر الصفات أو لما هو منها.

    [ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بياناً ولا شفاء لما في الصدور، ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون أنه الحق الذي يجب اعتقاده؛ لم يدل عليه الكتاب والسنة، لا نصاً ولا ظاهراً].

    وأهل الكلام يسلمون بأن القرآن لم يدل على ما فصلوه في مذهبهم في صفات الله، وإنما غاية الذي يستدل منهم بالقرآن إنما يستدل بنصوص مجملة على ما نفاه مما خالف فيه القرآن.

    [وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] لقد أبعد النجعة؟].

    هذا لو لم يرد دليل الإثبات في الاستواء، لما كان هذا بياناً ظاهراً، كيف ودليل الاستواء متواتر في القرآن؟!

    [وهو إما ملغز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد].

    لأن الرد هنا اعتبر بالدليل العقلي، والعقل موجود قبل الرسالة وبعدها، بل الرسالة على هذه المذاهب الكلامية زادت الأمر إشكالاً؛ لأن الرسالة خاطبت المخاطبين في نصوصها القرآنية والنبوية بما يعارض الدليل العقلي الذي هو حق في ظن هؤلاء.

    [وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالاً، يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر].

    أي: كيف وسع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقل يوماً من الدهر، ولم يفصح يوماً من الدهر بنفي صفة من هذه الصفات المثبتة في القرآن؟

    كيف وسع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يذكر يوماً واحداً أن في القرآن ما يحتاج إلى تأويل أو أن هذا القرآن ليس على ظاهره؟

    هل يعقل أن كل من يسمع القرآن في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا يفقهون أنه مؤول؟

    وإذا ورد هذا السؤال على المخالفين من المعتزلة والأشاعرة فإن الفاضل منهم يقول: إن القوم زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة كانوا يعلمون أن هذه النصوص ليست على ظاهرها، وإنما احتاج التصريح بتأويلها فيما بعد لما ظن من ظن من المشبهة أنها على ظاهرها.. وهذا تكلف؛ لأنه لو كان ظاهرها يدل على التشبيه -مع أنه لا يدل عليه- هل يعقل أن كل من في زمن النبوة حتى حدثاء العهد بإسلام وحتى الأعراب، بل وحتى الكفار الذين يسمعون القرآن لا يتبادر إلى ذهن واحد منهم أن في القرآن ما هو من التشبيه؟ ثم يأتي من بعدهم من أئمة العلم الذين تحقق لهم العلم كأئمة السنة والجماعة فلا يفهمون منها إلا التشبيه ويجمعون عليه ويطبقون عليه، وهم لم يأخذوا إلا من مشكاة الصحابة رضي الله عنهم ؟؟ لا شك أن هذا ممتنع بالعقل امتناعاً صريحاً.

    [ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم أو اعتقدوا كذا وكذا؛ فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه].

    وهذا وجه آخر من استدلال المصنف رحمه الله على صحة مذهب السلف.

    [ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

    حديث الافتراق هذا مخرج في السنن والمساند وغيرها من حديث أنس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة ، وقد تكلم فيه بعض الحفاظ، والأكثر على تقويته، وكما تقدم أنه إن قيل بضعفه فإن هذا لا يعني شيئاً كثيراً؛ لأنه تواتر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، فهذا دليل على ثبوت هذا الافتراق، وأن قوماً يختصون بالحق الذي بعث به.

    [فهلا قال: من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضال. وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة في هذه المقالة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756489007