إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [8]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للبدع أحكام تتفاوت بحسب مراتبها، فهي تنقسم إلى بدع كبيرة وصغيرة، والعمدة في هذا التقسيم شيئان؛ الأول: اعتبار الضروريات والحاجيات والكماليات، والثاني: قياسها على المعاصي في تفاوت الدرجات. وللتفريق بين البدع الكبيرة والصغيرة جُعل لصغار البدع ستة شروط، منها: أن تكون في جزئي، وأن تكون بتأويل، وعدم المداومة عليها، والبدع تدخل في العادات بشرط واحد، وهو كون الفاعل للعادة قاصداً بها التعبد.

    1.   

    أحكام البدع وذكر مراتبها

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    فيذكر الشاطبي رحمه الله في هذا الباب أن البدع إذا كانت في الضروريات فهي من البدعة العالية في الرتبة، أي: العالية في التشديد والإغلاظ فيها، وإن كانت في باب التحسينيات فيراها أدنى رتبة، وإن كانت في باب الحاجيات فيراها وسطاً بين هذا وهذا، ثم يقول بعد ذلك: إن الذي في باب الضروريات ليس باباً واحداً، بل هو متفاوت.

    مقصود الشاطبي بالضروريات وما يرد عليه من إشكال في تقسيم البدع

    أولاً: ما مقصود الشاطبي رحمه الله تعالى بالضروريات؟

    مقصوده بها الضرورات الخمس: الدين والعقل والمال والنفس والنسل، أو يقال: العرض، وهو رحمه الله فيما يتعلق برتبة البدع بناه كثيراً على هذا المعنى، وهو الآن ذكر المعنى الكلي: أن البدع متفاوتة، وقلنا: إن هذا معنى لا جدل فيه ولا إشكال، لكن كان ينبغي أن يبنى على مقدمات يقينية، ولا نحتاج إلى أن نتردد في مقدمات يدخلها الجدل. هذا معنى انتهينا منه، وما يؤخذ على كلام الشاطبي فيه أنه كان ينبغي أن يبنى مباشرة على المقدمات، سواء قيل: البدع خمس، أو قيل: اثنتين، أو قيل: كذا، أو قيل: كذا، فهناك مقدمات يقينية من الشرع والعقل تدل ضرورة على أن البدعة لا يمكن أن تكون شأناً واحداً أو درجة واحدة.

    أراد أن يفصل تفاوت البدع؛ لأنه سيقول هنا: إنها تتعلق بالضروري والحاجي والتحسيني، فهذه ثلاث رتب، ثم يقول: الضروري مجموعة من الرتب، ثم يأتي بعد ذلك ويقول: البدع منها صغائر وكبائر؛ لأن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، وسيورد تفريقات، والإشكال هنا ليس التغليظ لكلام الشاطبي رحمه الله، كلا، ولكن الإشكال من حيث المقدمات العلمية، أنه بنى هذه الأوجه وجعل المؤثر في باب كون البدعة مغلظة هو أن ما تعلق بالضروري جعله من المغلظ، وجعله كبيراً، وما كان خارجاً عن ذلك فإنه يصرفه عن ذلك، ويجعله من أدنى البدع رتبة.

    والإشكال هنا يتعلق بأنه يمكن أن نقول: إن كل ما يتعلق بالدين والتشريعات، سواء ما سماه الأصوليون بالأحكام التكليفية، أو ما سموه بالأحكام الوضعية، جميع هذه لها متعلق بهذه الضرورات الخمس، فهذه الضرورات الخمس لا تذكر بمعنى أنها شيء. وثمة تشريع آخر ينفصل في ماهيته عنها، بحيث نقول: إن ما يتعلق بهذه الخمس يكون مغلظاً، وما يكون خارجاً عن ماهية هذه الخمس ومستلزمها يكون من الرتبة الدنيا في باب البدع أو ما إلى ذلك؛ لأن التعلق قد يكون من جهة المطابقة، وقد يكون من جهة التضمن، وقد يكون من جهة التلازم، لكن من حيث الأصل ما من حكم شرعي سمي تكليفاً أو سمي حكماً وضعياً إلا وهو متعلق بهذه الضرورات الخمس، ومتفرع عنها، إما مطابقة، وإما تضمناً، وإما التزاماً، فتقول عن أي حكم من الأحكام في العقود أو في العبادات أو في المعاملات: إن هذا من باب حفظ النفس، أو من باب حفظ الدين، أو من باب حفظ المال، أو من باب حفظ العقل، إلى آخره، وعليه ما من بدعة ستقع في الدين إلا ولنا أن نقول: إن هذه ترجع إلى الضرورات؛ لأنها تتعلق بالدين، والدين حفظه من باب الضرورات، فنرجع إلى أن البدع ستكون برتبة واحدة؛ وهذا المعنى الذي دار عليه الشاطبي رحمه الله جعله مناط الترتيب لدرجات البدعة يشكل من هذه الجهة؛ لأنه ما من أمر من البدع يقع إلا ويمكن أن يتعلق بواحدة من هذه الضرورات الخمس، وهذا يتقاطع مع ما يذكره الشاطبي من أن البدع منها ما يكون صغيراً، ومنها ما يكون كبيراً، مع أن هذا التقسيم سنأتي إليه إن شاء الله تعالى.

    مراتب البدع من حيث الضروري والحاجي والتحسيني

    إذاً: الوجه الأول في درجات البدعة عنده هي ثلاث درجات، تتعلق بالضروري، وتتعلق بالتحسيني، وتتعلق بالحاجي، فما كان في باب الحاجيات أو في باب التحسينيات فهو أدنى من باب الضرورات، وما يتعلق بالحاجيات فهو وسط بين الضرورات والتكميليات والتحسينيات، وهذا حقيقة كما نرى من الأمور النسبية؛ لأن ناظراً قد يقول: هذا العمل هو في باب التحسينيات، ويأتي آخر ويقول: إن هذا من باب الحاجيات، ويأتي آخر ويقول: هذا يرتبط بأحد الضروريات الخمس؛ لأن هذا يتعلق بالنفس أو بالدين أو بالمال أو بالعرض، والأشياء لا تخرج عن هذه الأشياء الخمسة، وهذه الكليات الخمس حفظت معاقدها الأولى وقواعدها الأولى، وأما التفصيلات فهذه هي التي يدخلها الاجتهاد بين العلماء في فقهها وردها إلى هذه الكليات الخمس؛ ولهذا حقيقة الوجه الأول الذي يذكره المصنف هو من حيث النظر المجرد قد يكون مناسباً، لكن إذا جئنا لتطبيقه؛ لنفرق بين هذه البدعة وأختها لم ينتظم معاك؛ لأنه ما من حاجي إلا ويمكن أن يكون بوجه آخر من باب الضروري؛ لأنك تستطيع أن ترده إلى مسألة الدين أو العرض أو المال أو ما إلى ذلك، فيكون متعلقاً، والمصنف ما أجاب عن هذا الإشكال، وإن كان أشار إليه، لكنه ما أجاب عنه إجابة بينة فعلاً تزيل هذه المراجعة على هذا المعنى عنده.

    مراتب البدع من جهة التحريم وما يرد على ذلك من إشكال

    ثم يقول بعد ذلك: الوجه الثاني من أوجه تفاوت البدع من جهة حكمها: اختلاف حكم البدعة من جهة التحريم والكراهة، والتحريم والكراهة كلمة جاءت في الاصطلاح، ويريدون في الأحكام التكليفية بالمحرم ما نهى عنه الشارع على جهة الإلزام، أو أمر بتركه على جهة الإلزام، والمكروه ما لا إلزام في تركه.

    والمصنف لماذا قسم البدعة إلى محرمة ومكروهة؟ هل هو بمؤثر الاصطلاح أو بمؤثر الأثر أي النقل عن السلف الأول؟ بمؤثر الأثر، هو يقول: وجدنا أئمة من السلف، ونقل عن مالك رحمه الله وبعض المتقدمين أنهم سموا بعض البدع مكروهة في جواباتهم وكلماتهم، يقول: فدل ذلك على أنهم يقسمون البدعة إلى محرمة ومكروهة. ثم أورد سؤالاً على هذا المعنى، فقال: فإن قيل: إن البدعة إذا قيل: إنها مكروهة فالمكروه لا إثم في فعله، ولو فعله الفاعل لا يؤاخذ بفعله، ثم أجاب بكلام، لكن نتيجة الجواب الرئيس في كلامه قال: إن هذا هو المكروه في اصطلاح الأصوليين المتأخرين، وهو أن المكروه عندهم ما لا مؤاخذة في فعله، قال: (وأما المقصود بكلام السلف كـمالك وأمثاله فيعنون بالمكروه هنا الذي كرهته الشريعة، وهو في حكمه محرم أي معزوم بتركه) إلى هنا الكلام صحيح، لكن كان ينبغي أن يقال: ما دام أنها على رتبة المحرم فلِمَ التقسيم إلى المكروه والمحرم؟ وهو يقصد بالمكروه هنا ما هو في معنى المحرم، فالإشكال يأتي في هذا الكلام، كأن الشاطبي رحمه الله استعار اللفظ الاصطلاحي في باب المحرم، وإلا ما دام أن المكروه الذي نطق به السلف في البدعة هو بمعنى المحرم، فلماذا نقسم البدعة إلى محرمة، إذاً: ما المقصود بالمحرم؟ إن أريد بالمحرم هنا المعنى الاصطلاحي أفسد المعنى الثاني؛ لأن الثاني معزوم بتركه، وإن أريد بالمحرم هنا ما هو أشد، أي: أنه درجة عالية من التحريم؛ فهذا اصطلاح لم يكن مطرداً عند السلف الذين نطقوا بذلك.

    فإذاً: هو يقول: البدعة محرمة ومكروهة، هل الذي قاده إلى التقسيم هو المصطلح الأصولي الذي قسم الأحكام إلى خمسة أقسام؟ الجواب: لا، إذاً: ما السبب؟ قال: وجدنا أئمة من السلف سموا بعض البدع مكروهة، قال: فإن قيل: فالمكروه يمكن فعله، أو لا مؤاخذة في فعله، قال: هذا المكروه في الاصطلاح. لكن في كلام المتقدمين المكروه بمعنى المحرم.

    إذاً: ما دام الأمر كذلك كان ينبغي أن يقال: إن البدعة محرمة في الشرع وتحريمها متفاوت، أو مكروهة في الشرع بمعنى الكراهة الأولى التي كان عليها المتقدمون وهذه الكراهة متفاوتة، لكن عندما تقول: محرمة ومكروهة، فمعناه أن الأولى هي المحرمة والثانية هي المكروهة، ما معنى المكروه؟ إذا قلت: إنه المعزوم بتركه، صار محرماً، إذاً: هذا من باب اختلاف التنوع في الوصف إن لم يكن من باب الاختلاف اللفظي، فلا نجد أن هذا التقسيم ينضبط، فهو في كلمة المكروه جردها من نظام الاصطلاح، وفي كلمة المحرم اعتبرها بنظام الاصطلاح، ومن هنا لا نجد أن هذا التقسيم يتسق في أن نقول: البدعة منها مكروه ومنها محرم، ثم يقول: والمكروه معزوم بتركه، إذاً: هو محرم، رجعنا إلى هذا.

    فإذاً: كلمة المحرم هنا جاءت على المعنى الاصطلاحي، فلا يكون هذا تقسيماً مناسباً.

    متى يكون التقسيم مناسباً في الترتيبات العلمية؟

    يكون التقسيم مناسباً في التراتيب العلمية إذا جعلت الكلمة الأولى والثانية كلاهما على المعنى الاصطلاحي؛ لأن الاصطلاح مفرق بين الأمرين، و الشاطبي يقول: هذا المعنى ليس مراداً، فنقول: هذا صحيح ليس مراداً عند المتقدمين، لكن ما دام أنه ليس مراداً إذاً لا نقول: إنها محرمة ومكروهة، بل يقال: هي محرمة والتحريم درجات، أو مكروهة والكراهة درجات، ويقصد بالمكروهة هنا المعنى الذي ذكره مالك أو غيره وهو بمعنى ما كرهته الشريعة، أو كرهه الشارع، وهو على معنى العزم بتركه، فيكون بمعنى المحرم، فإذاً الشاطبي يقول: لا نفسر كلام مالك بالمصطلح المتأخر. فنقول: هذا كلام صحيح، لكن ما دام أننا لا نفسر كلام مالك ، إذاً لا معنى لأن نقول: مكروهة ومحرمة؛ لأن هذا هو نظام الاصطلاح؛ ولأن التفريق بين الشيئين يقتضي المغايرة بينهما، فإن قيل: إن مراده أن ما كان مكروهاً معزوم بتركه، وما سماه محرماً معزوم بتركه، ولكن ما سماه محرماً أشد، نقول: هذا أولاً يستلزم التسلسل، وما سمي محرماً هو ليس مثالاً واحداً ولا صورة واحدة، بل هو متعدد، ويستلزم إشكالاً آخر: أن ما سماه مكروهاً لا يصح أن يسمى محرماً؛ لأننا إذا قلنا: مكروه ومحرم فمعناه أن ما سمي مكروهاً لا يصح أن يسمى محرماً، والمتقدمون ما أرادوا ذلك؛ لأن مرادهم بالكراهة هنا المعنى الأبعد عن المعنى الاصطلاحي، فإذاً إذا قلت: إنها مكروهة ومحرمة، فلا تسمي المكروهة محرمة، وهذا ليس مراداً لهم، ومن هنا فإن هذا التقسيم لا نتيجة له منضبطة.

    مراتب البدع من حيث الكبر والصغر

    ثم بعد ذلك ينتقل الشاطبي رحمه الله إلى تقسيم من وجه ثالث، فيقول: الوجه الثالث في تفاوت البدعة: أنها تنقسم إلى كبيرة وصغيرة، هذا هو الوجه الثالث والأخير في كلامه.

    إذاً: الآن الباب السادس مقدمته أن البدعة ليست رتبة واحدة، بل هي درجات، هذا لا شك أنه معنى محكم وصحيح، ولكن كان ينبغي أن يبنى مباشرة أو ابتداء على مقدمات يقينية؛ لأنه معنى يقيني فمقدماته ستكون يقينية، ولا يُدخل في مقدمات جديدة، وهذا هو المراجعة في كلام الشاطبي رحمه الله، وإن كان كلامه صحيحاً من حيث النتيجة.

    و الشاطبي وهو يبين لك هذا التفاوت ذكر ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول يقول: إن البدعة إما أن تتعلق بالضرورات الخمس، أو بالتحسينيات، أو بالحاجيات، فهذه ثلاث رتب، يقال: هذا من باب الفرض النظري صحيح، لكن إذا أردت طرده وتطبيقه دخل عليك دلالة التضمن والمطابقة والتلازم، فما من أمر إلا ولناظر أن يقول: إنه يرجع إلى عقل أو دين أو نفس أو ما إلى ذلك، فهو لا ينضبط في التطبيق، قد يقول قائل: هل معناه أنها لا توجد بدع في باب الضرورات وفي باب كذا وفي باب كذا؟ نقول: لا، يوجد هذا، ولكن إذا أردت أن تجعل هذا نظاماً تطبيقياً للحكم فهو لا يطرد معك تماماً.

    الوجه الثاني من أوجه التفاوت: إن البدعة إما محرمة وإما مكروهة، ثم فسر الكراهة بمعنى التحريم، فيقال: عاد الثاني إلى الأول، فما هناك نتيجة منتظمة، ويلزم منه ألا تسمى الثانية محرمة، مع أنك أعطيتها حكم المحرم، وإذا أعطيتها حكم المحرم فمن باب أولى أن تسميها به، خاصة أن التسمية الأولى ليست تسمية خاصة، فلو قال جدلاً: البدعة شرك وكبيرة، فإن كلمة شرك مدلولها خاص، وعندما يقول: محرمة ومكروهة، فيعطي المكروهة حكم المحرمة، التحريم وصف عام، فكل ما عزم بتركه صح أن يسمى محرماً؛ لأن الحرام في اللغة هو الممنوع، فكذلك المحرم شرعاً هو الممنوع شرعاً على جهة العزم، فإذا أعطيت المكروه حكم المحرم صح أن يسمى محرماً، فإذا سمي محرماً رجعنا إلى قسم واحد، وهل معنى هذا أننا نقول: إن المعنى الكلي عند الشاطبي أشكل حيث إن البدع متفاوتة؟ لا، لأننا قلنا: هذا معنى متفق عليه بين أهل العلم، ولا ينبغي لأحد أن يتردد في أن البدع متفاوتة، وأنها درجات، ولكن الكلام هو في هذه الأوجه التي ذكرها.

    ثم لما جاء إلى الوجه الثالث، قال: البدع تنقسم إلى صغيرة وكبيرة، وهذا التقسيم عند الشاطبي بمقدمتين: البدعة معصية، هذه المقدمة الأولى، والمعصية تنقسم إلى صغيرة وكبيرة، وهذه مقدمة ثانية، والنتيجة أن البدعة صغيرة وكبيرة، فبناه على هذا التنظير.

    البدعة الصغيرة وشروطها

    ولما جاءته هذه النتيجة التي بناها على هاتين المقدمتين، ذهب بعد ذلك رحمه الله ليضع ضابطاً للبدعة التي يسميها الشاطبي صغيرة، فذكر فيها شرطين:

    الشرط الأول: أن تكون في جزئي وليس في كلي.

    الشرط الثاني: أن تكون بتأويل وليس بدون تأويل.

    قال: فإذا كانت في جزئي بتأويل، فهي في اصطلاحه الصغيرة.

    ما هو الكلي وما هو الجزئي؟

    قال: الكلي ما يعود إلى الضرورات الخمس، ما معنى الضرورات الخمس أصلاً؟ معناه أن كل التشريع يدور على حفظ الدين والعقل والنفس والمال والعرض أو النسل، فما من تشريع سمي في الاصطلاح تكليفاً أو حكماً وضعياً إلا وهو يتعلق بهذه، إما مطابقة وإما تضمناً وإما التزاماً، فإذاً: يبقى السؤال والتردد قائماً، متى تقول عن هذا: إنه جزئي؟ قال: إذا لم يتعلق بالكلي، طيب وما وصف الكلي؟ قال: الكلي ما رجع إلى الضرورات الخمس، هنا ما المثال الذي يمكن أن ينضبط بين النظار على أنه لا يتعلق بالضرورات الخمس، ليس معنى هذا أننا نقول: إنه لا توجد كليات وما دونها، لا شك أن ثمة كليات من الشريعة، وثمة ما دونها، والاصطلاح الذي غلب في كلام الفقهاء وأهل الأصول أن الدين منقسم إلى أصول وفروع، فهذه تسمية مناسبة إذا فسرت تفسيراً مناسباً.

    يعني: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له اعتراض على هذا التقسيم من حيث الحد الذي حُدَّ به في كلام كثير من المتكلمين، وبعض طلاب العلم ينسب إلى شيخ الإسلام أنه يقول: إن تقسيم الدين إلى أصول وفروع بدعة، وهذا غلط على شيخ الإسلام رحمه الله، بل هذا تقسيم من حيث اللفظ هو تقسيم اصطلاحي لا مشاحة فيه.

    الأدلة على كون الدين منقسماً إلى أصول وفروع

    من المعلوم أن الدين منه ما هو أصول، وهذا نطق به مئات من أئمة السلف، وتجد أن الإمام أحمد و مالكاً وكثيراً من السلف يقولون: ومن أصول السنة عندنا، ومن أصول الديانة عندنا، فكلمة أصول الدين وأصول السنة وأصول الإيمان كلمة مستفيضة في كلام السلف، وما يقابلها يقال: هذا ليس من الأصول، أو يقال: إن هذا من باب الفروع؛ لأن المقابل للأصل هو الفرع، وكلمة الفرع لا ذم فيها حتى يقال: إن ما كان من الدين لا يسمى فرعاً، بل يسمى فرعاً باعتبار الأصل، والرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في الصحيح في رواية مسلم والحديث أصله متفق عليه: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى )، فقال: (أعلاها)، وقال: (أدناها)، فدل على أن الدين وأن الإيمان ليس درجة واحدة، بل هو شعب، وهذا يدل عليه قوله: (بضع وسبعون) (وستون)، وعبَّر الرسول عليه الصلاة والسلام بكلمة بينة في التفاوت، لما قال: (أعلاها)، و(أدناها).

    المراد من قول ابن تيمية: إن تقسيم الدين إلى أصول وفروع بدعة

    فإذاً: ابن تيمية رحمه الله عبَّر بالتعبير نفسه أن الدين منه أصول ومنه فروع، وهو لم يخالف في هذا، إنما قال عنه: بدعة، باعتبار حده لا باعتبار اسمه، والمقصود بالحد أن بعض الذين تكلموا بهذا من المتكلمين إذا قيل لهم: ما الفرق بين الأصول والفروع؟ قالوا: الأصول هي العلميات، والفروع هي العمليات، و ابن تيمية يقول: هذا بدعة، وهذا كلام متجه ولا إشكال فيه؛ لأننا إذا قلنا: إن أصول الدين هي العلميات وحدها، والفروع هي العمليات وحدها، لزم من ذلك أن الصلاة تكون في الفروع، ولا شك أن هذا مخالف للعقل فضلاً عن الشرع، فإن الصلاة من أركان الإيمان والدين ولا يجوز أن تسمى فرعاً، فمثل هذه المعاني هي التي سماها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنها بدعة لم تؤثر عن السلف.

    إذاً يقال: هذا التقسيم صحيح إذا فسر تفسيراً مناسباً، وأما إذا فسر ببعض حدود المتكلمين، كقولهم: الأصول العلميات، والفروع العمليات، فيلزم عليه أن كل علمي يكون أصلاً، وهذا لا يطرد، ويلزم عليه أن كل عملي يكون فرعاً، وهذا لا يطرد؛ لأنه ينخرم بالصلاة وبأشياء معروفة من الدين وهي أصول، أو كمن يقول: الأصول ما علم بالعقل والسمع، والفروع ما علم بالسمع وحده، فأيضاً هذه حدود مخترعة مبتدعة، وهي لا تتفق مع دلالات النصوص ومع دلالات الإجماع، وأما من قال: إن الدين أصول وفروع، وفسر الأصول بوجه مناسب، كالمسائل المجمع عليها عند أهل السنة أو ما أجمع الأئمة عليه، أو تواترت به النصوص، أو ما إلى ذلك، والفروع ما هو محل اجتهاد الفقهاء واختلافهم وما إلى ذلك، فهذه معانٍ مناسبة، وهو اصطلاح لا مشاحة فيه، والذي يقود إلى هذا أن المعنى الذي يشير إليه الشاطبي أن البدعة تنقسم إلى صغيرة وكبيرة بناه على مقدمة المعصية، وأن المعصية تنقسم إلى صغيرة وكبيرة، وإن كان أشار إلى خلاف في ذلك.

    الرد على من جعل المعاصي كلها كبائر

    وهنا أنبه إلى مسألة مهمة، وهي: أن الخلاف الذي ذكر في هذا من بعض أهل السلوك، وبعض الفقهاء، أو بعض شراح الحديث، وبعض المتكلمين، أنهم قالوا: المعاصي كلها كبائر، فإن المأثور عن أكثر الفقهاء وهو الذي عليه السلف الأول من الأئمة من الفقهاء والمحدثين أن المعصية تنقسم إلى صغيرة وكبيرة، ودرج على هذا جماهير أهل العلم والنظر، لكن جاء بعض النظار من المتكلمين، وجاء بعض أهل السلوك والتصوف، وجاء بعض الشراح من أهل الحديث من المتأخرين، فتكلم أعيان من هؤلاء المتأخرين، فقالوا: إن المعصية كلها كبيرة، وأرادوا بذلك الردع عن المعصية، أو تعظيم النهي عن معصية الله، قالوا: لا تسمى صغيرة؛ لأن من عصى الله وخالف أمره فلا يقال: إنه أتى صغيراً، بل أتى كبيراً؛ لأنه عصى رب العالمين سبحانه وتعالى، فنظروا إلى هذا الالتفات، ولا شك أن الله جل وعلا لما ذكر في كتابه أن معصيته صغيرة وكبيرة وقالوا: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، وكذلك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم، فليس من المناسب أن تُستدرج هذه المعاني؛ لتغير قدراً من الحقائق الشرعية التي جاء بها الشارع وانضبطت، والإنسان إذا فعل صغيرة من الصغائر ليس المقصود هنا أنه هون أمر الله جل وعلا كما حصل لمن هول أمر الله، بل هو لا يزال معظماً لله بالإيمان به وتوحيده والإسلام وما إلى ذلك، لكن غلبته نفسه في معصية، مثلاً تجد بعضهم في معصية من الصغائر يقول: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، وهذه الآية جاءت في قصة أناس يعصون الله في أصول الملل، وفي أصول الديانة، أما في صغائر الأمور فهذه التعبيرات لا ينبغي أن تكون مناسبة، ولا يصح، بل هذا التعبير يجرى على وصفه.

    فإذاً: الصواب أن المعصية تنقسم إلى صغيرة وكبيرة، وهذا ما جاء صريحاً في القرآن وكلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو إجماع عند الصحابة.

    فإذاً: الخلاف فيما بعد ليس خلافاً معتبراً، وإنما ينبه إلى ذلك؛ لأن بعض المتأخرين أرادوا زجر الناس عن المعاصي، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، فهذا من المبالغة في الوصف، وما دام أن الشارع وصفها بالصغيرة والكبيرة فينبغي أن يقصد إلى هذا المعنى، وأن يلتزم، ولا تجوز مخالفته بتأويل ليس على وجهه.

    تابع البدعة الصغيرة وشروطها

    السؤال: المعصية لما يقال: إنها صغيرة وكبيرة هل يستلزم أن تكون البدعة صغيرة وكبيرة؟

    الشاطبي رحمه الله قرر ذلك، ثم أورد إشكالاً عليه، يقول: إن الصغيرة لا مؤاخذة فيها ولا يعاقب الإنسان عليها، بل هي مغفورة باجتناب الكبائر وبجمل أخرى، ثم أراد أن يجيب عن هذا المعنى، ولكنه أجاب عنه جواباً ليس تاماً فيما يظهر، وانصب كلامه رحمه الله على التفريق بين الصغير من البدع والكبير، فقال: الصغير هو ما تعلق بالجزئي، وصاحبه متأول، قال: فإذا كان في جزئي وصاحبه متأولاً فهو صغير، وإذا لم يكن كذلك فهو الكبير، ثم لم يقف رحمه الله عند هذا، بل ذكر شروطاً مضافة على الصغير من البدع، قال: ومن شرط كون البدعة صغيرة [ ألا يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكون كبيرة ]، قال: [ الثاني: ألا يدعو إليها ]، قال: [ الثالث: ألا تُفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس ]، قال: [ الرابع: ألا يستصغرها ].

    فتكون النتيجة أن كون البدعة صغيرة عنده له ستة شروط: أن تكون في جزئي، وأن تكون بتأويل، وألا يداوم عليها، وألا يدعو إليها، وألا يفعلها في مواضع اجتماع الناس، وألا يستصغرها، يقول: إذا توفرت فيها هذه الشروط الستة فإنها تكون صغيرة، وهو ما ذكر هذه الشروط بهذا الانتظام، هو يقول: الكبيرة والصغيرة، الصغيرة ما كان في جزئي بتأويل، والكبيرة ما ليس كذلك، لكنه بعد ذلك خشي أن يدخل عليه من يدعو إلى الجزئي، أو يداوم على الجزئي، فذهب بعد ذلك يضيف شروطاً لبقائها صغيرة، فقال: ولكن بشروط أخرى، وهي الشروط الأربعة، فتكون حقيقة الشروط أنها ستة من الأوصاف، ولكن هذه الشروط الستة فيها قدر كبير من الإجمال والاشتراك، فإن الأول: أن تكون في جزئي، يقال فيه: لا شك أن ثمة أصولاً وفروعاً، ولكن لما يقول رحمه الله: إن الكلي ما عاد إلى الضرورات الخمس، فهذا هو الإشكال، هل العود هنا بمعنى أنه تعلق بها ولو على سبيل التلازم، فعليه يقال: كل أمر يعود إلى هذه الضرورات الخمس.

    فإذاً: لو أنه عرف الكلي بغير طريقة التعلق بهذه الضرورات الخمس لأمكن انفصاله عن الجزئي، لكن لما جعل الكلي ما تعلق بالضرورات الخمس، فيقال: التعلق قد يكون مطابقاً أو متضمناً أو ملازماً، وما من أمر من الأمور إلا وهو يتعلق بهذه الضرورات الخمس، أو بواحد من هذه الأوجه الثلاثة، فهل يكون كلياً؟

    لا يلتزم الشاطبي رحمه الله ولا غيره من العارفين بالعلم بهذا الأمر، وهو أنه كل ما أُدخل على أحد هذه الضرورات الخمس بوجه من الوجوه للدلالة يكون من الكليات.

    فإذاً: لو فرق الشاطبي بين الكلي والجزئي بغير مسألة العود إلى الضرورات الخمس لا تسق نظام الكلام، أما أن يقول: الكلي ما يعود إلى الضرورات الخمس، يقال: أين المثال الذي لا يمكن فرض عوده إلى الضرورات الخمس، خاصة إذا دخلت دلالة التلازم والتضمن؛ لأن هذه الدلالة لا تناهي لفروضاتها بسبب التسلسل في الاستصحاب للفرع ورده إلى أصله، أو الجزئي إلى كله.

    وعليه فهذا التقسيم للبدعة من هذا الوجه أيضاً لم تنضبط له نتيجة تطبيقية واضحة، صحيح أن المعاني التي أشار إليها الشاطبي وهي ما سميناه الشروط الستة مؤثرة في درجة البدعة، فالبدعة في كلي ليست كالبدعة في جزئي كما عبر، هذا فرق مؤثر، والبدعة التي معها تأويل ليست كالبدعة التي فيها قدر من المشاقة والمعاندة وما إلى ذلك، هذا أيضاً فرق مؤثر، والبدعة التي يدعو صاحبها إليها ليست كالتي يستخفي بها، والبدعة التي يداوم عليها ليست كالتي تعرض عنده، والبدعة التي تظهر أمام العامة ليست كالخاصة، هذا وجه من التأثير ليس بالضرورة أن كل خاص يكون أهون من كل عام، قد يكون الخاص أشد وبعض الناس يستسر ببعض البدع التي هي من طريقة خاصة الخاصة وما إلى ذلك، فتكون أشد عتواً من البدع العامة، لكن أقصد أن هذا وجه أيضاً له تأثير.

    فإذاً المعاني أو الشروط التي ذكرها مؤثرة، لكن لا تستطيع أن تقول: إنها هي التي تقسم البدعة إلى كبيرة وصغيرة؛ لأننا سنبقى في إشكال: ما هو الصغير من البدع بطريقة منضبطة؟ وهل معنى الصغير من البدع الصغير من المعاصي، بمعنى: أنه لا عقوبة على المعصية الصغيرة، وهل يعاقب ويؤاخذ عند الله من فعلها، أم أنها تكفر باجتناب الكبائر؟ الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، تكفر باجتناب الكبائر، وتكفر بالأعمال الصالحة.. إلى آخره، فهل سينتظم عند الشاطبي رحمه الله بدع يسميها صغائر لا يؤاخذ من فعلها عند الله، بل تكون من المعفو والمكفر وما إلى ذلك، ونجد أن الشارع قال: ( كل بدعة ضلالة ).

    كلمة إنصاف في الشاطبي

    وهنا معنى أشرت إليه سابقاً، وأحب أن أؤكده أن مثل هذا التنظير الذي جرى معه الشاطبي رحمه الله هو من حيث المعنى الكلي كما أسلفنا في هذا الباب عند كلامه: أن البدعة درجات متفاوتة، وهذا يعتبر من محكم فقهه رحمه الله وشريف نظره، الثاني: أنه أراد أن يجعلها درجات، وأن يقيد درجات هذه البدع من جهة أحكامها أيضاً، وهذا مقصد فاضل وفقه حسن عند المصنف، وأبو إسحاق هو أجود من كتب في هذا الباب، وإن كان ما كتبه في هذا الباب ليس على إطلاقه في سائر موارده، وبالمناسبة أذكر سؤالاً طريفاً سألني إياه أحد الإخوة، يقول: إننا في هذا المجلس مرة نجد عبارات تثني على الشاطبي رحمه الله بأن هذا من شريف علمه، وشريف فقهه، وأنه حقق في هذه المسألة وكذا، وأحياناً نجد عبارات فيها قدر من التساؤل على كلامه وأنا ما أحب أسميه رداً، ولا أسميه نقداً، نسميه تساؤلاً أو مراجعة في كلامه رحمه الله، فيقول: ما انتظم لنا.. أهو محقق يؤخذ منه أم هو ذو أخطاء فيترك، وهذه المشكلة في الحكم بل نقول: ما دام أنه بشر من أهل العلم المعروفين فهذا هو الأصل فيه أنك تجد له كلاماً حسناً وكلاماً ليس بين التسليم؛ بل هو قابل للمراجعة، وقابل للترك، وقابل لإيراد الأسئلة عليه، وأنا ذكرت لكم سابقاً: إن مثل هذه الكتب خاصة لمثل هؤلاء الرجال الذين عرفوا بقدر من التحقيق الطريقة العليا في القراءة لها إيراد الأسئلة على كلامهم، حتى يتبين لك المعنى، فأنت إذا ابتليته بجملة من الأسئلة العلمية المحكمة يتبين لك هل هذا الكلام منضبط أم لا؟ مثلاً عندما يقول: البدعة صغيرة وكبيرة، هل سيعطي هذا حكم هذا؟ وعندما يقول: البدعة محرمة ومكروهة هل معناه أنه سيلتزم أن المكروهة لا يسميها محرمة، وهو يعطيها حكم المحرم، هذا إذا التزمه يكون مشكلاً، وإذا لم يلتزمه يعود بالدور على معنى واحد، فيعود المعنى الثاني إلى المعنى الأول، فطريقة السؤالات هذه طريقة حسنة.

    كيفية الرد على المخالف الزائغ وعلى العالم الراسخ

    ولهذا كان بعض المتكلمين وبعض النظار يستعملون مثل هذه الطريقة، وهي طريقة لا تناسب العامة أو المبتدئ في طلب العلم، لكنها تصلح في الرتب العلمية المتقدمة، مثال ذلك: محمد بن عمر الرازي ، وهو من علماء الأشاعرة كما هو معروف، ومن الغلاة في مذهب الأشعرية، لكنه أحياناً إذا تكلم على دليل المعتزلة تكلم عليهم بالرد، قال: والرد على هذا الدليل، أو وإبطال هذا الدليل، فيسمي كلامه على المعتزلة رداً وإبطالاً، وأما إذا نقل كلاماً لمن هو من أصحابه من الأشعرية، ولكنه ما استجاز هذا الكلام أو ما قبل هذا الكلام، فإنه يقول: واحتج أصحابنا على مسألة حلول الحوادث بكذا من الدليل، ثم يقول: ولي على هذا الدليل اثنا عشر سؤالاً، إن أُجيب عنها قلت به، وإلا فأقف عنه، ثم يورد اثني عشر سؤالاً ويذهب بعدها، كأنه يريد أن يحقق في مذهبه، فيقول: هذا الدليل يرد عليه إشكالات من المخالف، وهذه هي أسئلة المخالف عليه، فقبل أن نلتزم الأخذ به في مذهبهم، يقول: لا بد أن نجيب عن هذه الأسئلة، فأنا أقول: إذا كان طالب العلم ينظر في كلام عالم من العلماء المعتبرين والمعروفين، وليس من أهل الخروج عن أصول السنة وما إلى ذلك، بل هو من جملة الفقهاء والقاصدين للسنة والمتبنين لها في عامة أمره، فينبغي الاعتدال في الأخذ والعطاء معه، فلا تستعمل الكلمات المغلظة، والرد عليه من كذا، وإبطال كلامه من كذا؛ لأنك لا تتكلم الآن مع شخص مفارق للسنة والجماعة، بل هذا من كبار أهل العلم وأهل الفقه في مذهب مالك ، وله تحقيق معروف في كثير من مسائل العلم، لكن هذا لا يوجب الغلو في نظريته أو في رأيه الذي كتبه في هذا الكتاب، فمنه ما هو محكم، ومنه ما هو محل تردد ونظر وتأمل.

    بعد هذا ننتقل إلى الباب الذي بعده، وهو يتعلق بدخول الابتداع في الأمور العادية، وهو: هل الابتداع يدخل في الأمور العادية أم أنه يختص بالأمور العبادية؟

    ترتيب ابن تيمية للبدع على حسب الشدة والضعف

    إذاً نتيجة الباب الذي سبق وأننا نقول: البدع تنقسم إلى درجات متفاوتة.

    من المعاني التي أراها أقرب إلى الانضباط، ويشير إليها الإمام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يسمى ببدع العقائد وبدع الأقوال وبدع الأفعال، فبدع العقائد رتبتها أشد، بخلاف البدع المتعلقة بفروع من القول أو فروع من العمل فهذه تكون رتبتها أخف، البدعة الإضافية في الجملة تكون أخف من البدعة الذاتية، مع أن فرض الاطراد ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً؛ لأنك إذا أردت التحقيق هنا فمعرفة درجة البدعة عن أختها في الرتبة هذا لا يحكمه أن تقول: إن هذه إضافية فيلزم أن تكون أخف من الذاتية، وهذه كذا فيلزم أن تكون كذا، لا، هذا إذا أردته على تحقيقه فإن العلم بتفاوت الدرجة من حيث التفصيل يرجع إلى سعة علم الناظر في دلائل الشريعة ومقاصدها وأوجهها المجملة والمفصلة، ومن هنا يعرف أن هذه البدعة على أي رتبة هي، هل هي من هذا المغلظ أو مما هو دونه؟

    1.   

    دخول الابتداع في العادات

    والباب الذي بعده ذكر فيه الشاطبي رحمه الله ما يتعلق بالأمور العادية والأمور العبادية، لو رجعنا إلى الباب الأول قال الشاطبي في تعريف البدعة: [ طريقة في الدين مخترعة ]، وقال: [ إنا قلنا: الدين حتى لا ندخل الأمور الدنيوية ]، وما قال: العادات، يقول: [ لا ندخل الأمور الدنيوية ]، ثم قال: [ تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التقرب إلى الله ]، قال: [ وهذا على قول من يقول: إن البدعة خاصة بالعبادات ]، قال: [ وأما على رأي من يرى أنها تدخل في العادات فنقول: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية ]، وسبق أن هذين التعريفين لا يصح إطلاق أي منهما أو ضبطه، وهذا الكلام لا نريد أن نعود إليه؛ ولكن أشار سابقاً في الباب الأول أن ثمة رأيين لأهل العلم؛ منهم من يقول: هي في العبادات والعادات، ومنهم من يقول: هي في العبادات وحدها، وبنى تعريفه للبدعة على هذين الرأيين.

    وتذكرون أن التعليق الذي أُشير إليه في المجلس الأول والمجلس الثاني أن إدخال البدعة في العادات فيه تكلف؛ لأنه لا أحد من العلماء يقول: إن العادة المجردة تكون بدعة شرعية، أي: حظرتها الشريعة، هذا لم يقل به أحد من أهل العلم.

    إذاً: متى تكون العادة محظورة؟ إذا قلبت العادة أو اتصل بها وجه من التعبد فتكون بدعة لهذا المؤثر، ولما اتصل بها وجه من التعبد سميت في باب العبادات، فقد قلنا سابقاً: إن الخلاف لا حقيقة له؛ لأنك عندما تقول: هل البدعة في العبادات والعادات أم في العبادات وحدها؟

    يقال: البدعة في العبادات، وما قال أحد من علماء الإسلام من المتقدمين: إن العادات تكون بدعاً من حيث هي عادات مجردة؛ ولهذا فإن من أدخلوا العادة في البدعة لا تجد أنهم يدخلونها بتجريدها، بل يدخلون عليها وجهاً من التعبد، فيسمون هذه بدعة، يقال: هذا ليس محلاً للخلاف؛ لأن الفعل العادي إذا اتصل به وجه من التعبد كالإرادة والنية انقلب إلى عبادة، فمثلاً: لو أن إنساناً فقد ابناً صغيراً له في المطاف، فصار يبحث عنه بين الطائفين، هو قصده هنا ألا يطوف بالبيت، وإنما البحث عن هذا الصبي، حركته هي نفس حركة الطائفين، فهل يسمى هذا أمراً عبادياً أو أمراً عادياً؟ هذا من العادات؛ لأن عادة الإنسان أنه إذا فقد حاجة له أو ابناً له أنه يبحث ويطوف، لكن لو أنه نوى بهذا الطواف بالبيت التعبد، فهذا هو الطواف المشروع.

    فإذاً: الفعل العادي المجرد تجريداً كاملاً لا أحد يقول: إنه يكون بدعة، وإنما إذا اتصل به قصد التعبد أو وجه من المعاني التي هي في مقاصد الشريعة وقواعدها تحول الفعل من كونه عادة إلى كونه عبادة.

    إذاً: لو أن الشاطبي رحمه الله ما بنى تعريف البدعة على هذين الفرضين من الرأي اللذين لا حقيقة منضبطة علمية لهما كمذهبين مختلفين لكان أولى، خاصة أنه رحمه الله عاد في هذا الباب ليقول بعد ذلك: إن أفعال المكلفين منها عادات ومنها عبادات، وهذا معنى معروف وبسيط ولا إشكال فيه، ثم يقول: وقد أشرنا سابقاً إلى آخره، ثم يذكر الكلام وينتهي إلى نتيجة تقول: إن العادة إذا اتصل بها وجه شرعي فإنها تكون من هذا الوجه عبادة فيدخلها اسم البدعة، وأما العادة المجردة مطلقاً من التعبد فهذه لا تسمى بدعة.

    الحال الذي يقال فيه للعادة: بدعة

    ثم يقول كلمة حسنة جميلة، ولو كانت في أول كلامه رحمه الله لكانت أولى، يقول: [ فالعاديات ]، أي: العادات، [ من حيث هي عاديات لا بدعة فيها ]، هذا كلام الشاطبي ، [ ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة ]، هذا كلام حسن، يقول: [ وحصل بذلك اتفاق القولين وصار المذهبان مذهباً واحداً ]، وبعدما ناقش مسألة العادات والعبادات، وهل البدعة تدخل في العادات، هذه هي النتيجة التي وصل إليها: [ فالعاديات من حيث هي عاديات لا بدعة فيها ]، إذا كانت عادة مجردة لا بدعة فيها، [ ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة ]، قال: [ وحصل بذلك ] أي: بهذا الجمع، [ اتفاق القولين، وصار المذهبان مذهباً واحداً، وبالله التوفيق ]، يقال: هذا كلام محكم في الفقه، أن العادة إذا نظر إليها من جهة كذا فهي بهذا الحكم، وإذا نظر إليها بهذه الجهة فهي بهذا الحكم، ولكن كان الأولى أن يكون هذا الكلام مستصحباً في الابتداء، ولا نعرف البدعة بفرضين، خاصة أنه رحمه الله يقول: وحصل بذلك اتفاق القولين، مع أنك لا تستطيع أن تقول: إن ثمة قولين في المسألة على جهة اختلاف التضاد، إلا فيما حكاه بعض المتأخرين من أهل العلم وهذا معروف، لكن إذا رجعت إلى كلام المتقدمين من الفقهاء وأئمة السلف لن تجد أحداً من السلف الأول يجعل العادة المجردة بدعة، إذاً: التحقيق أن يقال: ليس هناك خلاف منضبط حتى نفرض أننا جمعنا بين القولين؛ ولهذا يكون المشكل عندي إذا جاء بعض طلاب العلم، وقال: مسألة العادات والعبادات ودخولها في البدع فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أنها خاصة بالعبادات.

    القول الثاني: أنها تدخل في العبادات والعادات.

    ثم يقول: والقول الثالث وهو الذي اختاره الشاطبي : التفصيل بالجمع.

    وهذا كلام من يقول به يدل على نقص في الفقه، لأن هذا الذي يقوله الشاطبي ليس مذهباً ثالثاً، بل لا يوجد خلاف -في الحقيقة- إلا في تنظيم بعض المتأخرين من أهل العلم، لكن إذا رجعنا لقواعد الشريعة، ورجعنا لكلام الفقهاء الأوائل من القرون الثلاثة فليس هناك خلاف في مسألة العادة المجردة أبداً، ولا خلاف في أن العادة إذا تُعبِّد بها وقصد بها التقرب لله وهي لا أصل لها، يعني: حُولت العادة إلى عبادة، أنها تتأثر بهذا المعنى؛ لأنك إذا أردت بالتعبد بها الاحتساب عند الله، فهذا معنى صحيح، مثلما قال معاذ لـأبي موسى : وإني لأنام -مع أن النوم أمر من العادات- وإني أحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي. فاحتساب النية الصالحة في العادة هذا ليس ببدعة، هذا ما درج عليه الصحابة، وهو معنى قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام:162]، لكن إذا حُولت العادة إلى هيئة عبادية مخصصة كالعبادة المخصصة، فهذه لا أحد من السلف يقول: إنها لا تكون بدعة.

    فإذاً: الجمع الذي جمعه الشاطبي صحيح، لكن ليس هناك مذهب مطلقاً في العادة، ومذهب مطلقاً في إسقاط العادة، حتى نقول: المذهب الذي قاله الشاطبي هو الجمع. بل انتهينا إلى نتيجة كان الأصل أن الشاطبي ينتهي إليها مبكراً في كلامه، ولا يقال بفرض هذا الخلاف الذي له ذكر في كلام بعض أهل العلم، ولكنه ليس بذاك المستحكم، يعني لو قال رحمه الله: بأن هذا عرض في كلام بعض المتأخرين وصوابه عند التحقيق أنه لا حقيقة له، ولا يوجد في كلام المتقدمين لكان هذا فيما أرى أنه أنسب؛ لأن مسألة العادة الأصل فيها أنها لا صلة لها بالتعبد من حيث التبديع وما إلى ذلك، وأما إذا تكلف الفاعل لها في إدخالها في التعبد، فهذا يناسب صلتها بمسألة البدع من هذا الوجه.

    السكوت عن إنكار المنكر وعلاقته بالبدعة المذمومة

    آخر موضوع في هذا حتى ننتهي منه ونبقى على الباب الذي بعده ذكر فصلاً يقول: إذا كثرت المنكرات وفشت في الناس، وجرى عليها العمل حتى لم يقع لها منكر من خاص أو عام، فهل هذا يعد بدعة أم لا؟ هو بين لك سابقاً أن البدعة غير المعصية غير المخالفة، يقول مثلاً: من يسرق نسمي سرقته معصية، ولا تسمى هذه بدعة، فهو فرق بين المخالفة بترك المأمور أو فعل المحظور وبين البدعة، فهنا أورد إشكالاً يقول: المحرم الذي لا نسميه بدعة إذا فشى وسكت الناس عن إنكاره الخاصة منهم والعامة، فهل نقول إن هذا يعد بدعة؟ لماذا جاء هذا السؤال عند الشاطبي ؟

    يقول: لأنه قد يقال: إن السكوت يدل على أنه من الأمر الذي أقرته الشريعة، ولو أن أحداً فرض في محرم إقرار الشريعة له، لكان قوله هذا من أشد الضلال والابتداع، فيقول: المسألة لها نظران: النظر الأول: من حيث الوقوع، والنظر الثاني: من جهة ما يقترن بها.

    عمل العالم للمعصية وإطلاق البدعية عليه إذا ظنها الجاهل مشروعة

    ثم يقسم الشاطبي رحمه الله هذه المسألة إلى جملة من الصور، فيقول: أن يخترعها المخترع، وهذا أظهر الأقسام، أن يعمل بالمعصية العالم فيفهم الجاهل أنها مشروعة، فيقول: إن العالم إذا عمل بمعصية من المعاصي فقد يفهم بعض الجهال لعمل العالم بها أنها ليست من باب المعاصي، فهل نقول: إن فعل العالم بها يكون بدعة من هذا الوجه؛ لأنه قد يتعلق به فهم الجاهل باعتقادها أمراً مشروعاً أو أمراً سائغاً، أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم هذه الصورة الثالثة، أن تكون من باب الذرائع.

    حقيقة هذا المعنى أنه لا يتجاسر الإنسان أن يطلق عليه هذه الألقاب التي جاءت الشريعة بذكرها على معانٍ مخصوصة، فلا شك أن المنكر إذا فشى وما أُنكر فهذا يسمى منكراً، ويسمى ضلالاً، ولكن محاولة إدخال أوصاف لها خصوصيتها في الشريعة كمسألة البدعة وما إلى ذلك، هذا أمر أرى أنه من الأولى أن يتباعد عنه؛ لأنه يُدخل الأمور في دائرة من الجدل مع أنك تستطيع أن تسمي هذا الفشو منكراً، وتسميه ضلالاً... إلى آخره.

    هذا ملخص الباب السابع، وبهذا نكون قد انتهينا من الباب السادس والباب السابع، وإن شاء الله تعالى نستكمل بقية أبواب هذا الكتاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، ونقف دقائق مع بعض الأسئلة.

    1.   

    الأسئلة

    تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام

    السؤال: من قال: إن البدعة تجري عليها الأحكام الخمسة هل يوجد بدعة واجبة ومستحبة؟

    الجواب: سبق معنا أن تقسيم البدعة إلى هذه الأحكام الخمسة ليس صحيحاً، بل حتى تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ليس صحيحاً، بل البدعة بمعناها الذي ذكرته الشريعة مذمومة في سائر مواردها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( كل بدعة ضلالة )، ووصفها الشارع بأنها ضلالة في سائر مواردها بصيغة العموم، فيُعرف أن هذا التقسيم ليس بصحيح.

    دخول البدع في الكبائر والحكم على زيادة (وكل ضلالة في النار)

    السؤال: في حديث ( كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) إذا كان قد حُدد له العقوبة فهو كبيرة، أليس كذلك؟

    الجواب: هذا وجه من الاعتبار والنظر في النص صحيح، والحديث أصله في الصحيح، ولكن هذه الزيادة: ( وكل ضلالة في النار ) ليست في الصحيح، بل جاءت في السنن وغيرها، وتكلم بعض أهل العلم من جهة كونها شاذة أو كونها محفوظة، ففيها كلام لبعض الحفاظ من جهة ثبوتها، أعني: كلمة ( وكل ضلالة في النار ) ، والإمام ابن تيمية رحمه الله يميل إلى أنها شاذة، وبنى ذلك ليس على محض الإسناد، بل بناه على المتن، فيقول: إن متنه ليس محفوظاً، وعلل ذلك رحمه الله بقوله: إن الضلالة لا تستلزم العقوبة، فإن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فلا يقال: إن كل ضلالة في النار، بل من وافى ربه بضلالة دون الشرك فهو تحت مشيئة الله، هذا المعنى حقيقة ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وهل هو لازم على هذا المعنى؟ أو قد يقال: إنه من جنس قول الله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا [النساء:14] مع أن هذا من باب ما تحت المشيئة.

    على كل حال المقصود الإشارة إلى رأي شيخ الإسلام في هذه الرواية.

    القول بأن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام بدعة والرد عليه

    السؤال: ما رأيكم فمن يقول: إن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام بدعة؟

    الجواب: لعله يريد التقسيم المشهور في كلام أهل العلم أن التوحيد يسمى بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، ولا شك أن من يقول بأن هذا بدعة ليس فقيهاً في هذا الأمر، بل لا يقوله إلا من يتكلف في فرض التبديع على مثل هذه المسائل، فإن المقصود هنا اصطلاحي، وهو أن المعاني التي يتعلق بها توحيد الله سبحانه وتعالى في عبادة العباد ثلاثة: ما يتعلق بمعرفته سبحانه وتعالى في ربوبيته، وهي أفعاله جل وعلا كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وأمثالها، وما يتعلق بأسمائه وصفاته، معرفته من هذا الوجه، والإيمان بذلك وبمقتضاه، وما يتعلق بإفراده وحده بالعبادة والخلوص من الشرك. فهذه ثلاثة معاني في التوحيد، ولك أن تقول: إن التوحيد له ثلاثة معانٍ: توحيد في ربوبيته، وفي أسمائه، وفي عبادته، أو ألوهيته، فهذا من باب الترتيب العلمي ليس إلا.

    وإذا قيل: لماذا الصحابة ما قالوا: التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام؟ نقول: ما أراد الذين قالوا ذلك من أهل العلم أن يبتدعوا ما ليس معروفاً عند الصحابة، ولكن الصحابة بفقههم، وصدق إيمانهم وسعة بصرهم في الشريعة كانوا يفقهون الشريعة دون وسائط التراتيب الاصطلاحية التي تقرب المعاني وتضبط المعاني للعامة، فما كانوا يحتاجون إلى مثل هذه المقدمات، والمعروف في زمن الصحابة عدم وجود كتب تسمى كتب أصول الفقه، وتقول: الخاص والعام وصيغ العموم وصيغ الخصوص ودلالة المنطوق ودلالة المفهوم وهذا الكلام. لكن هل هذا المعنى من حيث هو معنى غير مدرك عند الصحابة؟ الجواب: لا، بل هو مدرك عند الصحابة، فالصحابي يعرف أن هذا عام من حيث الحكم، وهذا خاص، لكنهم لا يعبرون بهذه المصطلحات؛ لعدم حاجتهم إليها، فعلمهم متصل من حيث الأخذ بالشارع، بينما العلماء الذين قالوا ذلك أرادوا أن يبينوا للعامة لما فسدت كثير من أحوال العوام، وصاروا يظنون أن توحيد الله خاص في باب الربوبية، ويقعون في أوجه من الشرك، أو مما هو من أسباب الشرك في باب عبادة الله سبحانه وتعالى، ويظنون أنهم على تحقيق للتوحيد، فبين العلماء رحمهم الله ذلك، ومن أخص من بين ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأن ما يتعلق بتوحيد الربوبية هو معنى في التوحيد، وليس هو جميع التوحيد؛ ولهذا كان المشركون يقرون بجملة هذا الأصل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف:87]، مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [العنكبوت:61]، فتجد أن الجواب في القرآن لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61] ومع ذلك ما كانوا مسلمين بهذا، فأراد أهل العلم ولا سيما من عني بهذا كالشيخ رحمه الله، أن يبينوا للمسلمين أن معنى تحقيق التوحيد هو في تحقيق الإيمان بربوبيته سبحانه وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأما من يقر بالربوبية ويقع في أوجه من الشرك في الألوهية؛ فهذا لا يكون قد أتى بالتوحيد؛ ولهذا كان العلماء لهم اصطلاح آخر، وهو من الاختلاف اللفظي كما يستعمله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التوحيد نوعان: طلبي، وخبري. أو يقول: التوحيد يتعلق بالإرادة، ويتعلق بالعلم، فيعبر أحياناً بالتوحيد العلمي والتوحيد الإرادي، ويقصد بالعلمي ما يسمى بالربوبية والأسماء والصفات، وبالإرادي ما يسمى في الاصطلاح الثاني بالألوهية أو العبادة، فهذه مصطلحات للعلماء، ومن يريد أن يقول: إنها بدعة؛ يلزمه أن يمنع كل المصطلحات، ثم يقال: هل الإشكال في الاصطلاح أو في المعنى؟ ولهذا لا تجد أن من يسلم بالمعنى يستشكل في الاصطلاح.

    المقصود أن من يثير هذا السؤال هو في الأصل ربما يكون عنده إشكال في المعنى، فليس في هذا الاصطلاح ما يشكل، نعم قد يعرض لبعض طلاب العلم أو لبعض الناس أنهم يستغربون هذا الاصطلاح فيقولون: أبدعة هو؟ فيبين لهم ذلك، وهذا في الحقيقة ليس تقسيماً للتوحيد وإنما هو ترتيب للمعاني التي يتضمنها توحيد، وإلا التوحيد واحد، وهو توحيد الله جل وعلا، إفراده سبحانه وتعالى بالمعرفة والتصديق والإيمان والعمل والعبادة؟ فهو معنى واحد، ولكن له شُعب، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن هذا الوجه تقول: إن من يقول: إن هذا بدعة؟ إما أن يكون القائل جاهلاً، فالجاهل يجاب عن كلامه، وإما أن يكون القائل أراد بذلك أن يستشكل شيئاً من المعنى فهذه رتبة أخرى في الجواب أو جواب آخر.

    تقصد المشقة في العبادة

    السؤال: هل قصد المشقة في العبادة مطلوب؟

    الجواب: كلا، قصد المشقة ليس مطلوباً، ولكن الأعمال حسب ما هي في تشريع الشارع وفي تحصيل العباد لها، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة لما ذكرت حجتها، قال: ( ولكنها على قدر نصبك )، يعني: هل أراد النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة أنها تفعل أعمالاً في حجتها أو عمرتها ليست مشروعة؛ لتنصب فتثاب على هذا النصب؟ كلا، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن من أتى بهذا النسك، فإنه يلحقه قدر من النصب؛ لكونه بشراً، هذا أمر معروف ولا إشكال فيه، فهذا النصب الذي ينصبه الإنسان بعبادة شرعية وهو ليس متكلفاً فإنه يثاب عليه ويؤجر عليه، لكن أن الشريعة قصدت من العباد أن يتكلفوا بصناعة المشقة لأنفسهم فهذا غير مطلوب، فمن يجد ماءً بارداً؛ ليفطر به من صيام رمضان أو صيام غيره يترك البارد إلى ما هو أشد؛ لينصب زيادة، أو أن يستظل بالظل وهو صائم، فيذهب إلى الشمس لينصب ويعطش، هذه هي الرهبانية التي ابتدعت، وهي من جنس رهبانية أهل الكتاب.

    اندراج العادة المخالفة للشريعة في البدع أو المعاصي

    السؤال: العادة إذا خالفت الشرع هل تعتبر بدعة أم معصية؟

    الجواب: بحسب المخالفة، إن خالفتها باعتبار أن العادة قصد بها التعبد فتكون بدعة، وإن خالفتها باعتبار الخروج عن نظام الشريعة وقواعدها وآدابها فتكون معصية.

    جعل الخلاف في البدعة من حيث دخولها في العادات خلافاً لفظياً

    السؤال: ألا ترى أن الخلاف في البدعة خلاف لفظي من حيث دخولها في العادات؟

    الجواب: هذا كلام صحيح، ولكن سبقت الإشارة إليه.

    أهم الكتب والبحوث في مجال البدعة وأقسامها

    السؤال: سمِ لنا مجموعة من الأبحاث التي حررت موضوع البدعة؟

    الجواب: هذا الموضوع من حيث البحوث المعاصرة كتب فيه مجموعة من البحوث الأكاديمية، ولكن الذي أفضله لفقه هذا الموضوع هو ما سبقت الإشارة إليه أن طالب العلم يكثر من الاستقراء فيه، وأول ما يستقرأ في هذا نصوص الكتاب والسنة وكلام السلف الأول، ثم العناية بكلام المحققين من أهل العلم الذين كتبوا في هذا، ومن أخصهم الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

    توجيه كلام من يقولون بدخول العادات في البدع

    السؤال: ما هو توجيه كلام من يقولون بأن العادة تدخل في البدعة؟

    الجواب: هم يجعلونها متصلة بوجه من التعبد فيسمونها من هذا الوجه بدعة.

    نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755785627