إسلام ويب

قراءة موضوعية في كتاب الاعتصام [5]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما ينضبط به منهج طالب العلم أصلان عزيزان: الأول: الحذر من القول على الله بغير علم، والثاني: الحذر من الكتمان، فالعالم يبين الحق ويرد الباطل، ومن الباطل البدع، وهي على درجات ومستويات متفاوتة، ويكون الرد على البدع بالإرشاد والتعليم، أو الهجران لأهلها، أو غيرها من الأساليب.

    1.   

    أصلان ينضبط بهما منهج طالب العلم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    فسبقت الإشارة في المجلس الماضي إلى جملة من القواعد الشرعية في هذا الباب، وقبل أن ننتقل إلى الفصل الذي بعده أحب أن أذكر أن في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ذكراً لأصلين من أصول العلم، وهما من أخص القواعد التي تضبط العلم عند طالب العلم، فهذان الأصلان بهما ينضبط المنهج عند طالب العلم:

    عدم القول على الله بغير علم

    الأصل الأول: أن الله سبحانه وتعالى حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول بلا علم في شرعه خصوصاً، فإن القول بغير علم مما نهت عنه الشريعة حتى في أمور الصناعة وأمور بني آدم، فإنه ينهى أن يتكلم الإنسان في أمر حتى ولو كانت من الأمور التي تتعلق بحياة الإنسان كأمور الصنائع ونحو ذلك؛ لما يقع بذلك من فساد العلم وفساد التطبيقات وما إلى ذلك، وعظم الله جل وعلا في كتابه تعظيماً شديداً القول عليه بغير علم، ومعلوم أن من المقاصد في القول على الله بغير علم القول في شرعه، فهذا باب معظم في كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى مما يسلم به عند المسلمين في الجملة كأصل، ولكن الفقه في هذا الأصل والعناية بتطبيقه يقع فيه نقص كثير، وهذا الذي جعل كثيراً من كبار الأئمة يتوقفون في بعض المسائل، ويتجافون عن بعض المسائل، ويتباعدون عن أوجه من مادة الإفتاء وما إلى ذلك من الأمور المعلومة؛ لأنهم فقهاء في هذه القواعد الشرعية؛ ولهذا فإن من أعظم ما حرمه الله في كتابه، ويعد هذا من أصول المحرمات وأشد المحرمات هو القول عليه بغير علم، وإن كان الله جل ذكره قال: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] فهذا تحريم عام، ولكن القول عليه بغير علم هو من أشد المنكر وأشد الإثم، ويقع في أوجه من مادة الفسق، وربما وقع في أوجه من مادة الكفر.

    فإذاً: ينبغي لطالب العلم أن يكون فقيهاً في هذا الأصل، معظماً له ورعاً في شأنه.

    عدم كتمان العلم

    وهذا الأصل يقع معه أصل آخر هو متمم له وليس منافياً له، وهو: أن الله جل وعلا عظم في كتابه تعظيم نهي -أي: من باب النهي والتحذير- الكتمان للعلم، وجعل كتمان العلم وكتمان الحق وكتمان الشهادة بالحق من شأن أئمة الضلال، وكلام الله سبحانه وتعالى فيه ذم شديد لمن كتم البينات والعلم؛ ولهذا فإن هذا الأصل والأصل الذي قبله هما أصلان على معنى واحد، ولا يقال: إن هذا الظاهر يقابل هذا أو يعارض هذا، كلا؛ لأن الذي حرمه الله سبحانه وتعالى هو القول عليه بغير علم، والذي حرمه في الأصل الثاني هو كتمان البينات، ولا شك أن من تكلم بالبينات تكلم بعلم إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [البقرة:159] وحتى في قيام الحجة قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115].

    فإذاً: من تكلم بالبين من العلم فهذا لا يوصف بأنه قال على الله بغير علم حتى لو أخطأ في فهمه لهذا البين؛ لأن هذا إذا أخطأ فيكون خطؤه مغفوراً، واجتهاده مأجوراً فيه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) ، ولكن من لم يتكلم بالبين من العلم، وإنما تكلم بالخرص وغلبت عليه مادة الظن، فهذا هو المذموم؛ ولهذا قال الله تعالى في صفة المخالفين لرسله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:116] والإنسان في أمور الفروع وكثير من التفصيلات يحتاج إلى الأحكام التي ليست قطعية وإنما هي أحكام ظنية، لكن إذا كانت مادة الظن تغلب على حكم الإنسان، وينزل الظن منزلة القطع، وهذا إشكال آخر، أي: إذا غلبت مادة الظن فهذا وجه من السقط، والوجه الآخر من السقط ألا تغلب عليه مادة الظن، ولكنه ينزل الظني منزلة القطعي في كلامه أو أحكامه أو درجة الإلزام أو ما إلى ذلك؛ ولهذا فإن أهل العلم وأئمة الصحابة رضي الله عنهم والقرون الفاضلة كانوا يعظمون هذا وهذا، فكانوا بصيرين بالحق صريحين به؛ لأن الله يقول: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، ولكن كانوا أيضاً ورعين في درجة العلم التي يقولونها، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال كما ثبت في صحيح البخاري من حديث خولة بنت حكيم : ( إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة )، فإذا كان هذا فيمن يتخوض في المال، فكيف بمن يتخوض في الدين؛ لأن التخوض في الدين أشد من التخوض في المال، فإذاً لا بد لطالب العلم أن يكون جامعاً لفقه هذين الأصلين اللذين بينهما اتفاق، وأن يعظم القول على الله فلا يقول على الله -أي: في دين الله- إلا بعلم، خاصة في التفاصيل كما أسلفنا، في الحكم على الناس بأن هذا مسلم، وهذا خرج ببدعته، وهذا صار فاسقاً، وهذا صار كذا، وهذا صار كذا؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينبه في مقامات من هديه وسيرته أصحابه على كثير من هذه المسائل لما جيء بـ عبد الله الذي كان يدعى حماراً أو يلقب بذلك، وقد شرب الخمر كما في الصحيح من حديث أبي هريرة ، (فقال رجل: ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر لعنه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله)، وكما في حديث عتبان : ( لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام وصلى في دار رجل من الأنصار أصابه في بصره ما أصابه، وتكلم من تكلم من الصحابة في مالك بن الدخشم ، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، ورماه بالنفاق )، قال في الرواية: ( ودوا لو دعا عليه بشيء فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال رجل: يا رسول الله! إنه يقول ذلك وليس في قلبه، قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار ) أو كما قال، وليس مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يبرئ المنافقين، فإن المنافقين كما قال الله عنهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ولكن الافتئات على أحكام الدين المتعلقة بالأعيان بنوع من الظلم هذا أمر ما جرت به الشريعة، وإنما يقف الإنسان بما تحقق عنده من العلم في هذا الباب.

    فإذاً هذا ما يمكن أن يقال في الفصل الذي تقدم.

    1.   

    الحكم في القيام على أهل البدع

    بعده قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر، وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة]، وذكر في معنى هذا الفصل خمسة عشر أمراً فيما يقال على من اختصوا ببدع عن أهل السنة والجماعة ، وفارقوا جماعة المسلمين ببدع مهجورة وما إلى ذلك.

    فالمصنف رحمه الله يقول إن ثمة قياماً عليهم -أي: في باب الاحتساب وما إلى ذلك- بأمور ذكرها بعد ذلك، لكنه نبه في أول هذا الفصل إلى أمرين، وتنبيهه فيهما هو من فاضل العلم:

    القيام على أهل البدع بحسب درجات البدع ومراتبها

    التنبيه الأول: [إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل -وذكر جملاً أخرى- هو بحسب حال البدعة في نفسها، من كونها عظيمة المفسدة في الدين أو لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، أو داعياً إليها أو لا] إلى آخره، فإذاً يقول: إن الأحكام المقولة في البدع لا يجوز أن تنزل تنزيلاً واحداً على كل أوجه البدع، فإن البدع -كما هو معروف- في الشرع والعقل درجات، فمنها ما خالف السنة مخالفة في الأصول، ومنها ما يكون قد خالف في بعض المسائل التي تسمى بدعة، ولكن لا تصل مخالفته إلى أنه يكون خارجاً عن أهل السنة والجماعة، بل يكون من أهل السنة والجماعة، ولكن عرض في حاله كلمة من الكلمات التي هي بدعة أو فعل من الأفعال الذي هو بدعة، كما عرض من حماد بن أبي سليمان و أبي حنيفة القول في مسألة الإرجاء، ومع ذلك ما سماهم السلف مبتدعة بمعنى أنهم خارجون عن دائرة أهل السنة والجماعة، وإن كانوا يعدون قولهم إرجاء وبدعة؛ ولهذا قال أبو عبيد القاسم بن سلام : فهؤلاء وإن كانوا لنا مخالفين إلا أنهم وقعوا في أمر يقع الغلط في مثله، وقال: إنهم من أهل العلم والعناية في الدين، كما ذكر ذلك في كتاب الإيمان، فالمصنف يقول: إن هذه الأمور وهي خمسة عشر أمراً ترجع إلى فقهين: الفقه الأول: أنها بحسب الدرجات، ففرق بين البدعة المغلظة كالبدعة في مسائل الإلهيات والعقائد الكلية، وبين بدعة في صورة من صور العبادات التفصيلية، كاجتماع الناس على الذكر وما إلى ذلك، فهذه درجتها ليست كدرجة الثانية، وفرق بين من اختص ببدعته عن أهل السنة والجماعة، ومن كانت بدعته عارضة وهو ينتسب للسنة والجماعة، أو هو من أهلها ولكن عرض عنده شيء من البدع، ففرق بين الداعية إلى البدعة ومن ليس بداعٍ، فهذه جملة من الأحوال الفقهية لا بد لطالب العلم أن يعتبرها، فليس كل حكم نطق به إمام متقدم يطرد تطبيقه في كل ما سمي بدعة، بل ربما هذا المعنى ناسب وجهاً من البدعة ولا يناسب الوجه الآخر بحسب درجات البدعة وأحوال أهلها. فهذه المسألة لا بد لطالب العلم أن يكون فقيهاً فيها؛ ولهذا لما تكلم بالإرجاء قوم غلاة كـ جهم بن صفوان اشتد الإنكار عليهم، لكن لما عرض في كلام حماد بن أبي سليمان وهو إمام فقيه من علماء السنة والجماعة ما وصل الأمر في الكلام عليه إلى ما وصل إليه الأمر في الكلام على الغلاة من المرجئة؛ ولهذا تجد أن ثمة تفاوتاً وهذه طبيعة الأحوال الآدمية أنها متفاوتة في استجابتها، كما أنها متفاوتة في خطئها أو معصيتها، فإن الطاعة لا تكون وجهاً واحداً، فكذلك المعصية أو الخطأ لا يكون درجة واحدة، فهذا شأن في غاية الأهمية؛ ولهذا ربما قال عالم من العلماء حكماً في قوم من أهل البدع لا يجوز أن يكون هذا الحكم مناسباً لكل من عمل أو وصف بشيء من البدع، فهذا فقه لا بد لطالب العلم أن ينتبه له، ولا سيما أنكم تعرفون أن أكثر البدع التي تكلم عليها السلف رحمهم الله في كتب السنة هي البدع المغلظة التي ضلت في الأصول كبدع الخوارج بتكفير المسلمين، والقول بتخليدهم في النار، وكبدع القدرية في نفي علم الله أو نفي خلق أفعال الله، وكبدع الجهمية بنفي صفات الله أو القول بالجبر، وما إلى ذلك، فكانوا يتكلمون عن هذه الأوجه، وإن كانوا ينكرون ما دونها من البدع، لكن الأحكام المغلظة التي نطقوا بها والأوصاف الشديدة التي وصفوا بها أصحابها إنما كانت تتجه في الجملة إلى هذه الأوجه من البدع المغلظة، وهذا لا بد لطالب العلم أن يفقهه، قد يقع ممن هو من أهل السنة والجماعة في كلامه أو قوله ما هو بدعة، ولكن تكون هذه ليست في الأصول، وتكون كلمة أو فعلاً عارضاً. وحقيقة فإن العلماء الذين جاءوا بعد القرون المفضلة كان أمتنهم عارضة في هذا الموضوع هو ابن تيمية رحمه الله فتجد أن القواعد التي ذكرها أكثر انضباطاً، وأكثر إمكانية للتطبيق، وأكثر اتصالاً بالنصوص، ولا يغلب عليها التنظير؛ لأنه جاء في كلام بعض المتأخرين إشكال أنهم استعملوا نظام السبر والتقسيم، فصارت الأمور تأخذ قدراً من النظريات أكثر مما هي أصول تنضبط عند التطبيق انضباطاً واعياً ودقيقاً. أقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في هذا المعرض كلاماً مفاده: أن كثيراً من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، لكنهم لم يعلموا أن هذه بدعة، بل ظنوا أن هذا هو الصواب، والشاهد من كلامه أنه يقول: كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، وهؤلاء الذين أشار إليهم لا تجد أن أصولهم فيها ما هو بدعة ولكن عرض في شيء من أقوالهم أو أفعالهم، ولهذا لما تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما تكلم به حماد بن أبي سليمان و أبو حنيفة في مسألة الإرجاء، قال: وهذه عند التحقيق من بدع الأقوال، وليست من بدع العقائد التي يضلل صاحبها، ومقصوده بالتضليل، أي: أنه يخرج من دائرة أهل السنة والجماعة، فهذا فقه لا بد لطالب العلم من اعتباره، وأن ينزل أحكام الشريعة بحسب درجاتها؛ لأنه من قلة الفقه عند طالب العلم ألا يعي درجات العلم، فالعلم درجات والخلاف الفقهي درجات، وما يتعلق بما كتب في مسائل أصول الفقه درجات، وهذه القواعد التي يذكرها العلماء في ضوابط هذا الباب هي أيضاً درجات. إذاً: لا بد لطالب العلم أن يفقه درجات الأحكام الشرعية وما تنزل عليه.

    الاجتهاد في القيام على أهل البدع

    الإشارة الفقهية الثانية في هذا الفصل وهي أيضاً إشارة فاضلة وهي: أن القيام بهذه الأمور محل اجتهاد العلماء، بمعنى: أن هذه الأمور يدخلها إما في طردها، وإما في تطبيقها مادة من الاجتهاد، فهي موكولة للعلماء الفقهاء، وليست هذه الأمور التي ذكرها مما يعلقها العامة بعضهم على بعض، أو ينتحلها المبتدئ في طلب العلم ويطردها في تطبيقاته على أصحاب المخالفة مع عدم فقه في تفاوت درجتهم، بل نقول: إن هذه محل اجتهاد العلماء؛ وهذه المسألة الخلافية، لكن عن الإمام أحمد رواية أن الأحكام المغلظة في هذا الباب لا يقول فيها إلا القاضي؛ لأن هذه المسائل شغلها كبير، فهذه إشارة فقهية.

    رد البدع بالقيام عليها بالإرشاد والتعليم

    إذاً: المصنف في هذا الفصل يذكر خمسة عشر أمراً، ابتدأ هذه الأمور بقوله: أول قيام على من كان صاحب بدعة يقول هو (الإرشاد والتعليم)، وهذا من حسن فقهه، فإن من أخطأ فالأصل الفطري والشرعي مع صاحب الخطأ، أو صاحب ما هو فوق الخطأ كالضلال، أو ما هو فوق مطلق الضلال وهو الضلال المطلق وهو الكفر، الأصل مع كل هذه الدرجات هو الدعوة رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] فلا بد من الدعوة، ولا بد من بيان العلم؛ لأن بعض الأطراف من بلاد المسلمين أو بعض الأوساط أحياناً، أو بعض الأزمنة من أزمنة المسلمين ربما استحكمت بدعة من البدع ببلد أو بقدر من زمان هذا البلد، فخفي على كثير من العامة، وربما كثير من الخاصة ما في هذه البدعة من المخالفة للسنة.

    فإذاً: الأصل في هذا الباب هو العناية بالدعوة، وكما أن من الأصول المستقرة أن غير المسلم يدعى إلى الإسلام، فكذلك المسلم الذي ابتدع يدعى إلى ترك بدعته والأخذ بالسنة، ويستعمل معه الفقه الشرعي في الدعوة، ومن الفقه الشرعي ما ذكره الله بقوله في غير المسلمين: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، فلا بد أن يكون الأمر كذلك: يجادلون بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فإذا كانت هذه قاعدة في غير المسلمين وهو من له شبهة من كتاب نبي سابق نسخ فدخل هذا الكتاب تحريف كثير، فمن باب أولى من له شبهة من كتاب نبي هذه الأمة الذي لم تدخله مادة من التحريف، ولم يدخله شيء من النسخ، باعتبار النسخ الذي وقع بعد نبوته عليه الصلاة والسلام.

    فإذاً: لا بد لطالب العلم أن يكون فقيهاً فيه.

    فأقصد أن المصنف رحمه الله ذكر أن هذا القيام يقع في خمسة عشر أمراً ابتدأها بالإرشاد والتعليم.

    مواقف الصحابة في بيان الحجة للمخالفين للسنة

    قال: كما عمل ابن عباس رضي الله عنه عندما ذهب إلى الخوارج ؛ ولهذا الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا حكماء في هذا الباب، كما في حديث يزيد الفقير الذي رواه مسلم ، قال يزيد الفقير : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا المدينة، فإذا جابر بن عبد الله جالس على سارية يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو قد ذكر الجهنميين - أي: أصحاب الكبائر من المسلمين، وأنهم لا يخلدون في النار -، قال: فقلنا له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تقولون، والله يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192] ، والله يقول: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20]، فأجابهم جابر رضي الله عنه عن معنى هذه الآية والتي قبلها، قال يزيد : فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال أبو نعيم، يعني: استجابوا لداعي السنة لما جاءتهم السنة بينة، سنة هادئة، ففقه المخاطب منه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ) يعني: لا بد أن يكون فقه التعامل معهم مختلفاً عن فقه التعامل مع الآخر؛ ولهذا ينبغي لأهل الإسلام ولدعاته دائماً أن يكونوا فقهاء في طريقة دعوتهم إلى الله، يعني: أحياناً ننبه بعض الإخوة في مكاتب الجاليات ربما كتبت مطوية أو كتيب في التعريف بالإسلام، وتجد أن هذه المطوية أو هذا الكتيب يترجم للألمان، ويترجم لقبائل قروية مثلاً في شرق القارة الهندية، وغرب القارة الهندية، لأناس على درجة من الانغلاق، يعني لا يعرف مبدأ يسمى بأنبياء الله أو برسل الله، يقومون على أفكار وثنية منحطة في الخرافة انحطاطاً بعيداً، وهو ما يسمونه التخلف، هذا العقل وهذه الثقافة تختلف عن الثقافة الثانية حيث يفترض أنهم على أصل ديانة قائمة، وأن لهم ديناً موجوداً كديانة نبوية وهي ديانة عيسى عليه الصلاة والسلام، فإضافة إلى ما دخل عليهم من الفلسفة المعاصرة، وما قادتهم إليه من نظام التفكير وفصل الدين عن نظام الحياة وما إلى ذلك، فالمجتمع والثقافة والطبيعة تختلف، فليس من الحكمة أن تلك اللغة التي خاطبت بها هذا المجتمع القروي المنغلق في طرف من شرق الأرض تخاطب به رجلاً مثلاً في بيئة يفترض أنها بيئة متكاملة، أو يفترض هذا الرجل الغربي أنه وصل إلى السيادة وإلى نهاية الإدراك، طبعاً ليس كذلك في حقيقتها، لكن لا بد من هذه الأمور أن تكون مستصحبة في طبيعة الخطاب وفقهه، ولهذا اقرءوا كتاب النبي عليه الصلاة والسلام لـهرقل تجدوا فيه إشارات إلى هذه المعاني، حيث جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس قوله: ( إلى هرقل عظيم الروم: أسلم تسلم )، ( أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ) لو ما كتب لـهرقل أو كتب لرجل من عبدة الأوثان، ما تكلم معه بكلمة ( أسلم يؤتك الله أجرك مرتين )؛ لأن هذا من خصائص أهل الكتاب، كما في حديث أبي موسى وغيره في الصحيح: ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين - وذكر منهم - رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه واتبعه فله أجران )، فإذاً: فقه الخطاب على سنن الأنبياء هذا لا بد أن يكون كذلك.

    ثم قال المصنف: [والهجران]، وذكر بعد ذلك بقية الأحكام، أقول: إن هذه الأمور الخمسة عشر يمكن أن نقول: إنها تنقسم إلى قسمين، قسم منها محكم منضبط، وإن كان تنزيله يحتاج إلى فقه في درجاته.

    القسم الثاني: شيء من الاجتهاد الذي يختص به أعيان العلماء، ولا يعد من الأحكام المطردة، وليست هذه الأمور التي ذكرها هي قانون أو حكم يطرد في سائر موارده، بل بعضها عودة من الاجتهاد الذي عرض لبعض السابقين من العلماء، وكما أسلفت أن مثل هذه الأشياء التي تعرض في قول أو فعل بعض العلماء من السابقين تكون مناسبة لمحلها ليس إلا.

    مسألة قضايا الأعيان في بعض ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم والصواب في قصة سالم مولى أبي حذيفة

    وأنا أعجب؛ لأن طالب العلم انتظم في تفكيره أن يقول عن بعض حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: هذه قضية عين لا عموم لها، مع أن الحاكم فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا صحيح، فمثلاً هناك قضية عين لا عموم لها، يعني مثلاً ( لما جاءت سهلة بنت سهيل وقالت: يا رسول الله! -كما في حديث عائشة المتفق عليه- إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أرى في وجه أبي حذيفة من ذلك شيئاً )، يعني: أن سالماً كان صبياً خادماً في دار أبي حذيفة ، قد تجاوز سن الصبا إلى أن أصبح رجلاً بالغاً؛ فجاءت سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريد حلاً لهذا الإشكال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: ( أرضعيه تحرمي عليه ) ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة ، فأرضعته، وجماهير العلماء قالوا: إن هذه قضية عين لا عموم لها، أما الذين قالوا: إنها قضية عين لا عموم لها، فمنهم من يقول: إنها لـسالم خاصة لا تتجاوزه إلى غيره، حتى ولو كانت حاله كحال سالم ، هذه رخصة من صاحب النبوة من الشارع، لا يقاس عليها حتى من ماثله في الحاجة، وهذا مذهب الجمهور من أهل العلم، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وهو الصحيح في هذه المسألة.

    وقالت طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله: إنها تكون لـسالم ولمن كانت حاله كحال سالم ، وهذا مذهب مرجوح، وبالغ ابن حزم رحمه الله فخالف الجماهير من الأئمة، فقال: إنها قاعدة، وإن الرضاع يحرم ولو كان المرضع كبيراً.

    فالشاهد من ذلك أن طالب العلم الآن يقول: هذه قضية عين لا عموم لها، ويتجاهل ما جاء عن بقية أهل العلم في المسألة.

    وما دام أن كلام الشارع يفقه على هذا الوجه، وهذا الفقه في الجملة مناسب إذا نزل في منزلته، فكذلك الآن كلام العلماء هو من باب ما يكون جميعه مثلما إذا قال واحد من العلماء كلمة من الكلمات فليس بالضرورة أن هذه الكلمة تعطينا نصاً عاماً يراد ظاهراً وباطناً منطوقاً ومفهوماً وما إلى ذلك، يعني: هذه الكلمة ينظر في قدرها، فالإمام مالك رحمه الله لما قال: كل يؤخذ من قوله ويرد، هذه كلمة بينت الاتفاق مع نصوص الشرع وقواعده ومقتضياته ومقاصده في كلمة، لكن أحياناً تجيء كلمة من بعض العلماء ما أراد بها التنزيل العام إنما أراد بها التنزيل الخاص، فلا يجوز أن يبتلى هؤلاء الفقهاء بفقه حادث بعدهم يتكلف عليهم؛ لأن الأحوال والمقامات والدرجات -كما أسلفنا- تختلف، فإذاً: هذه الأمور التي ذكرها المصنف منها ما يكون مسلماً على الاطراد، ومنها ما هو نوع من الاجتهاد يوكل إلى أهل العلم، وليس هو من الأحكام المجوبة بالإطلاق أو بالاطراد.

    1.   

    أقسام البدع

    بعد ذلك الفصل الأخير في هذا الباب، يتعلق بتقسيم البدعة.

    قال المصنف رحمه الله: [فصل: فإن قيل: كيف هذا] إشارة إلى ما سبق، [وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات]، أراد بهذا أن يتكلم عن البدعة، هل يقال: إن جميع البدع مذمومة أم يقال: إن البدعة منها ما هو حسن ومنها ما هو سيئ؟ قال: [فلذلك قسم الناس البدع، ولم يقولوا بذمها على الإطلاق]، هذا فرض فرضه المصنف، وهو موجود في كلام بعض العلماء، ثم قال: [وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه]، ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر البدع ذمها بصفة العموم، فقال: ( كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، هل نقول: إن البدع جميعها توصف بأنها ضلال؟ أم يقال: إن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة؟ هذا الذي جاء في كلام بعض أهل العلم أنهم قسموا البدعة إلى بدع حسنة وبدع سيئة، فمنهم من قال: البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة حسنة وبدعة سيئة، ومنهم من قال: البدعة تنقسم إلى خمسة أقسام، حتى قالوا: البدعة الواجبة، والبدعة المكروهة، والبدعة المستحبة، والبدعة المحرمة، والبدعة المباحة، لكن التحقيق في هذا وهو الذي نصره الشاطبي رحمه الله أن البدع بمعناها الشرعي مذمومة، ولا ينضبط شرعاً ولا فطرة ولا عقلاً أن تقول: إن البدعة منها ما هو حسن ومنها ما هو سيئ، فإنه إذا كان حسناً لماذا سميته بدعة؟ فلا يكون حسناً إلا إذا قبلته الشريعة، فإذا قبلته الشريعة فمعناه أنه يكون سنة، بمعنى: هدياً شرعياً مقبولاً، وإن لم يندب إليه بخصوصه.

    الرد على من استدل بالأحاديث على أن البدعة منها الحسن ومنها السيئ

    المصنف رحمه الله أشار إلى جملة من الإشكالات في فهم بعض النصوص، يقف معها من يقسم البدعة إلى حسنة وسيئة، قال المصنف رحمه الله: [ وحاصل ما ذكروا ] أي: من قسموا البدعة إلى حسنة وسيئة [يرجع إلى أوجه:

    أحدها: ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده ) إلى أن قال: ( ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ) ] إلى آخره. فيقول: إن هذا الدليل استدل به من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة، وأجاب عنها المصنف بجوابين:

    أولاً: هذا الدليل هو حديث جرير بن عبد الله البجلي ، وهو في سياق معروف، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من رواية جرير بن عبد الله البجلي قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، قال: فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن ثم أقام، فصلى، ثم خطب الناس، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، فتلا الآية التي في سورة النساء، والآية التي في سورة الحشر، ثم قال بعد ذلك: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره. حتى قال: ولو بشق تمرة. قال جرير رضي الله عنه: فقام رجل من الأنصار، فجاء بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، فتتابع الناس ... )، قوله: (فقام رجل من الأنصار)، يعني: أول الأمر ما تصدق أحد، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، ودخل وخرج، ولم يقم أحد يتصدق، فأذن وأقام وصلى ثم خطب، فقال: ( تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره. حتى قال: ولو بشق تمرة ) ، فقام رجل هو أول من قام في هذا المجلس بالصدقة، قال: ( فقام رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، فتتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة )، فمن هذا السياق قال عليه الصلاة والسلام لما قام الأنصاري وتتابع الناس: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) إذاً: مقصوده عليه الصلاة والسلام افتتاح السنن في الأحوال أو المجالس المعينة، مثلما إذا دعي إلى جمع تبرعات أو كحفظ القرآن أو شيء من هذا، ثم قام رجل وافتتح الأمر، فيقال: هذا سن سنة حسنة، مع أن الصدقة مشروعة.

    فإذاً: هذا ليس من باب الابتداع في الدين لا من قريب ولا من بعيد، وحتى الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: من ابتدع بدعة حسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سن سنة حسنة ) يعني: أحيا سنة.. حرك سنة.. بعث سنة؛ لأن المؤمنين الأصل فيهم أن بعضهم يقتدي ببعض، فالأكمل يقتدى به؛ ولهذا أمر الله نبيه بالاقتداء، وأمرنا بالاقتداء بنبيه وبالأنبياء، فالاقتداء من سنن المرسلين: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، فهذا الاقتداء من معالم الشريعة، فالرد على الاستدلال أولاً: لا توجد كلمة بدعة، ثانياً: أنها في باب الصدقة وهي مشروعة بالإجماع، هذا هو الجواب المحقق عن هذا.

    فالجواب الأول عند المصنف أنه قال رحمه الله: [ فالجواب وبالله التوفيق أن نقول أما الوجه الأول فإن قوله عليه الصلاة والسلام: ( من سن سنة ) الحديث؛ ليس المراد به الاختراع ألبتة، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ] إلى آخره، وهذا هو المعنى الذي أشرت إليه.

    الاستدلال على تقسيم البدعة بالتحسين والتقبيح العقليين

    ثم ذكر الجواب الثاني وقال: [ والوجه الثاني من وجهي الجواب أن قوله: ( من سن سنةً حسنةً )، و( من سن سنةً سيئةً ) لا يمكن حمله على الاختراع من أصل؛ لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه، وهذا مذهب جماعة أهل السنة ، وإنما يقول به المبتدعة، أعني: التحسين والتقبيح بالعقل ] إلى آخره، فإذاً: الوجه الثاني عنده بناه على قضية التحسين والتقبيح، ويقول: إن العقل لا يحسن ولا يقبح عند أهل السنة، وكما أسلفنا في مجلس سبق أن هذا الإطلاق ليس صواباً، وهذه مسألة خلافية بين المتكلمين، فالمعتزلة قالوا بتحسين العقل وتقبيحه على غلو في ذلك، وجاء المتكلمة من متكلمة أهل الإثبات فنفوا تحسين العقل وتقبيحه على قدر من الغلو في النفي، وهذا هو المذهب الذي ينتصر له المصنف، ويقول: هو مذهب جماعة أهل السنة باعتبار، ولماذا يقول: هو مذهب جماعة أهل السنة؟ لأن المتكلمين الذين قالوا به ينتسبون للسنة والجماعة كأصحاب أبي الحسن الأشعري وأمثالهم، فهذا الوجه ليس له ما يقتضيه، وليس هو على القواعد العلمية الصحيحة.

    وعلى كل حال فهذا الحديث هو أخص ما يذكره المصنف من الدليل أو من الحجج للذين قسموا البدعة، وهذا جوابه ومعرفة جوابه كما أسلفنا بمعرفة سبب وروده.

    الاستدلال بعمل السلف على البدعة الحسنة

    الحجة الثانية عند من قسم البدع إلى حسنة وسيئة قالوا بملخص كلام الشاطبي فيما ذكره عنهم: إن السلف الصالح قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسناً وأجمعوا عليه، قالوا: ولا تجمع الأمة على ضلالة، كجمع القرآن في المصحف، فإن هذا لم يقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع في زمن الصحابة، والمصنف أجاب عن هذا بجواب معروف أن هذا من باب المصالح المرسلة؛ لأنه يقول في أول كلامه: البدعة طريقة في الدين مخترعة، وقال: إن كلمة (مخترعة) احتاجها لأن الشيء إذا كان له أصل فلا يسمى مخترعاً.

    فإذاً: جمع القرآن وكتابة الحديث وما إلى ذلك لا يقال: إنها من الأمور البدعية، بل هذه من السنن بالإجماع، وهي إنما كانت كذلك؛ لأنها ليست مخالفة للدين، بل هي من الدين، سواء سمي هذا باصطلاح المصطلحين (المصلحة المرسلة)، أو سمي بأي اسم آخر من الأسماء العلمية، فالأمر فيه سعة، هل نقول: هذا من باب المصالح المرسلة، كما هو في الاصطلاح العلمي عند الأصوليين؟ أو نقول: إن هذا موافق للأصول الشرعية وموافق للنصوص إلى آخره؟ هذه أمور فيها سعة في التعبير، فمثلاً: كتابة الحديث، صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء عنه ما يدل على النهي عن الكتابة، لكن ليس هذا من باب النص الذي أريد به العموم والإطلاق، وإنما هو على معنى أشير إليه في بعض أوجه الرواية، كما في حديث عبد الله بن عمرو : ( لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن ) لكن تجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كتب شيئاً من حديثه، أليس هو عليه الصلاة والسلام قد كتب إلى هرقل وإلى غيره والمكتوب هو حديث وكتبه الرسول عليه الصلاة والسلام لما احتيج إلى هذه الكتابة، ولما جاء أبو شاه وهو رجل من أهل اليمن، وتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه خاف ألا يحفظ هذا الكلام، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما عنده، قال: يا رسول الله! اكتب لي كتاباً، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( اكتبوا لـأبي شاه ) ، فهذه أمور تبنى على المقاصد والقواعد الشرعية.

    فإذاً: ليس من الصحيح أن السلف قد فعلوا أمراً ليس عليه دليل، فلهذا أحب أن أقف على المسألة وأرى أنها غاية في الأهمية، ما دام أنا نقول: هذا من باب المصالح المرسلة، وهذا كذا وهذا كذا.

    معرفة البدعة من السنة عند اختلاف العلماء في المسائل

    إذاً البدعة هل نقول فيها: إنها ما خالف السنة ولو في نظر بعض أهل الاجتهاد؟ أم أنه ما خالف السنن البينة التي ثبت عند أهل الفن والاجتهاد أنها تخالف السنن البينة؟

    يعني: هل البدعة في الفرض الأول ما خالف السنة في نظر بعض المجتهدين، وإن كان القسم الثاني من أهل الاجتهاد يرونه موافقاً للسنة؟ أم أن البدعة هي ما خالف السنن البينة وما خالف قواعد الاجتهاد التي ينضبطون عليها.

    وربما بالمثال يتضح المقصود في الفرضين، يعني: لو أن عالماً نظر في سنة من سنن الصلاة، وهي هيئة فعلية، ورأى باجتهاده أنه لا دليل عليها، ونظر في هذه المسألة عالم معتبر، وقال: إنه لا دليل على مشروعيتها، ونظر في هذا الفعل عالم آخر معتبر، ورأى أن حديثاً من الأحاديث أو وجهاً من الرواية يدل على شرعية هذا الفعل أو هذه الهيئة، هل يحق للأول أن يقول: هذه هيئة وفعل في الصلاة لا دليل عليه؟ فيقول: إنه لا دليل عليها، أو يقول: إنها ليست مستحبة عنده؟

    الجواب: نعم، هو يقول: إنها ليست مستحبة عنده، لكن هل له أن يقول: إنها بدعة، وبعد ذلك ربما يقول: إن من يفعل هذه فهو مبتدع؟ الجواب: لا، فمثلاً في مسح الركن اليماني: لو سألت: إذا ما توفر له مسح الركن اليماني هل يشير إليه كما يشير إلى الحجر الأسود أو لا يشير إليه؟ هذه مسألة خلافية، إذا اجتهد مجتهد وقال: إن الأدلة لا تدل على الإشارة، هل يحق له أن يقول: هذه الإشارة هيئة عبادية من فعلها فقد فعل بدعة؟ أم أن البدعة هي ما خالف السنن البينة، وما خالف أوجه الاجتهاد المعتبر، أيهما؟ الثاني وإلا فلو فرضنا أن البدعة هي ما خالف اجتهاد العالم المعين للزم أن السلف يبدع بعضهم بعضاً، أو على أقل الأحوال يحكم بعضهم على أقوال بعض بأنها بدعة، فـالشافعي يقول: يلزم من هذا أن قول أبي حنيفة بدعة، و أبو حنيفة و مالك يجعلان قول الشافعي بدعة، وهذا الشأن لا وجود له ألبتة في كلام السلف، ولا وجود له كمنهج عندهم.

    أحياناً بعض طلبة العلم الذين قد يدخل عليهم هذا الإشكال يقول: إنا نجد في بعض المصنفات كمصنف عبد الرزاق أو شيء من هذه الكتب التي عنيت بجمع آثار السلف والصحابة ومن بعدهم، يقولون: قد نجد في بعض الأمور التي هي محل خلاف أن بعض الأعيان وصفوا هذا الفعل بأنه بدعة، يقال: هذا ليس فرعاً عن منهج يقوم على معنى أن ما خالف اجتهاده في فقه السنة يجعله بدعة، لا. هو قائم على منهج عنده أن ما خالف السنن البينة يجعله بدعة، فهذا المعين من أهل العلم رأى في هذا الفرع أنه يخالف سنة بينة، ويكون عند التحقيق أنه ليس كذلك، فأحياناً الإمام مالك رحمه الله يصف بعض الأمور بأنها محدثة، مع أننا لو جمعنا أقوال أئمة العراق والشام وما إلى ذلك وجدنا أن ثمة معشراً من كبار الأئمة يقولون بهذا، هل معناه أن مالكاً رحمه الله عنده منهج أن ما خالف اجتهاده في فقه السنة يجعله بدعة؟ لا، هذا عند مالك فرع على القاعدة الأساسية أن البدعة ما خالف الدليل، لكن مالكاً رأى في هذا الفرع أنه مخالف للسنن البينة؛ لأن الرواية فيه لم تبلغ مالكاً وهذا سبب آخر؛ ولهذا وصف هذا الفرع بأنه بدعة أو بأنه محدث، وقس على ذلك في غير مالك رحمه الله، فإذاً: من يحتج على أنه يبدع الأقوال أو الأفعال التي يقولها مخالفوه من أهل الاجتهاد من أهل العلم الكبار كأئمة القرون الثلاثة وأمثالهم، فيجعل البدعة ما خالف السنة باجتهاده، بل يحتج على ذلك ببعض كلمات مالك وأمثاله من الأئمة، فقال: إنما قال مالك رحمه الله ذلك؛ لأنه يرى أن هذا الفرع باجتهاده ليس له أصل، مع أنه جاء في حديث لكنه ما بلغ مالكاً رحمه الله؛ ولهذا وصفه بأنه محدث، ولذلك مالك هل تراه يقول عن الأقوال الأخرى دائماً: بأن هذا محدث إذا خالف اجتهاده أو ما إلى ذلك؟ كلا.

    فإذاً: القاعدة هنا أن البدعة ما خالف السنن البينة، وما خالف أوجه الاجتهاد المعتبرة، وأما إذا كان القول من أوجه الاجتهاد المعتبرة، كاجتهاد الأئمة الأربعة، فهذا يقال فيه: راجح ومرجوح، وما إلى ذلك من التعبيرات، نعم من لا يرى هذا الفعل في النسك أو في الصلاة أو شيء من هذا له أن يقول: هذا ليس من السنة، يعني: مثل الاستياك للصائم بعد الزوال معروف أن الفقهاء منهم من قال: يستحب له، ومنهم من قال: لا يستحب له، من لا يستحب هذا لا يجوز له أن يقول: هذا بدعة، ومن لا يرى الإشارة إلى الركن اليماني لا يقول: هذا بدعة، وإنما يقول: هذا ليس سنة في النسك، ولكن يأتي عالم آخر، ويقول: هذا سنة في النسك، ركعتين عند الإحرام، من لا يرى أن لها دليلاً يخصها له أن يقول: وليس من السنة ذلك، لكن يأتي عالم آخر، ويقول: ومن السنة أن يصلي ركعتين، لكن الأول لا ينبغي له ولا يحق له أن يقول: فعل ركعتين قبل الإحرام وعند الإحرام بدعة؛ لأن البدعة ما خالف السنن البينة، وما خالف أوجه الاجتهاد المعتبرة، أما أوجه الاجتهاد إذا كان للقول وجه في الاجتهاد المعتبر، كاجتهاد الأئمة، لو فتح هذا الباب لما انغلق، وأنه يلزم كل واحد اجتهد أن يبدع ما خالف اجتهاده في الأمور العبادية، فهذا فقه ينبغي لطالب العلم أن يعتبره.

    الاستدلال بكلام القرافي والعز بن عبد السلام على تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام والرد عليه

    الحجة الثالثة: قال: احتجوا بأن من أهل العلم من قسم البدعة إلى أقسام، ومن هؤلاء العز بن عبد السلام والقرافي إلى آخره، وهذا التقسيم ليس حجة؛ لأن النزاع فيه أصلاً، و الشاطبي يقول: إن بعض من في عصره اتكئوا على كلام العز بن عبد السلام أو على كلام القرافي من المالكية، وأنهم قالوا: البدعة تنقسم إلى خمسة أقسام كالأحكام التكليفية، فيجيب الشاطبي : إن هذا التقسيم أمر مخترع لا دليل عليه، فهو يحتاج إلى استدلال، وليس هو بنفسه دليل.

    الاستدلال على تقسيم البدعة بقول عمر: (نعمت البدعة هذه) والرد عليه

    قال: الحجة الرابعة عندهم: قول عمر عن صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه، يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ والجواب: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أنها لم تقع في زمن أبي بكر ]، ثم وقعت في زمن عمر إلى آخره، [ فلا مشاحة في الأسامي ]، الجواب الأدق في التعبير حتى يكون المعنى مبيناً: أن السياق هنا جرى على لسان العرب، وهذا أخصر في التعبير وبيان المقصود وفي الانتظام العلمي، أن عمر هنا ما كان يذكر البدعة بمعناها الذي ذمه الشارع، وإنما أراد (نعمت البدعة هذه) باعتبارها أمراً ليست جارية على مثال مطرد سابق، فهي بدعة باعتبار المعنى اللغوي، وتعرف أن البدعة اللغوية هي على هذا المعنى، فـعمر رضي الله عنه إنما تكلم بكلمة عربية، وليس مقصوده أنه يسوغ شيئاً من البدعة باسم شرعي، فهذا لا يصح أن يكون حجة، فكلمة عمر هذه على وفق السياق العربي، ومعلوم أن الكلمة تأتي ويراد بها الحقيقة الشرعية، وتارة تأتي في النص ويراد بها الحقيقة اللغوية، وما إلى ذلك من المعاني التي لا تخفى.

    الاستدلال بأفعال المتصوفة على تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة والرد عليه

    الحجة الخامسة: الذي يقوله الشاطبي أن من يقسم البدعة إلى حسنة وسيئة يحتج بأن الصوفية المشهورين باتباع السنة فعلوا أفعالاً ليست محفوظة، وهم لا يخرجون عن الإجماع، وهذا يدل على أنهم يقسمون البدعة إلى حسنة وسيئة، ولا أدري ما وجه هذا الاجتهاد بهذا المعنى، ولا يصح أن يطرد هذا المعنى ويكون دليلاً، ولا شك أن الشاطبي فرضه ثم أجاب عنه، فقال: كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن لا يخلو: إما أن يكون له أصل شرعي فهذا ليس بدعة، أو لا يكون له أصل شرعي، فيقول: إن هذا لا يوافقون عليه، وأنه لا عصمة لهم، وهذا المعنى صحيح، لكن فرض هذه الحجة بهذا الأسلوب ليس له مقتضى علمي مطرد، وإنما له مقتضى في زمن الشاطبي ، يعني أنت ربما تقول: ما مبرر هذه الحجة من الأصل، لماذا الصوفية بالذات؟

    هذا له مبرر ليس علمياً يطرد اطراد الأزمنة كحجة علمية، لكن له مبرر في زمن الشاطبي ، فمثلاً في زمن الشاطبي كان مثل هذا مما يتكئ عليه العامة وبعض من يعلمهم أو ما إلى ذلك، فـالشاطبي ذكر هذا المعنى لشيوعه وشيوع الاتكاء عليه، وأراد أن يجيب عنه، هذه هي جملة المعاني.

    وآخر ما ذكره المصنف في إجابته على هذه المسألة، قال: إن ما عمل به الصوفية إما أن يكون له أصل فهم كغيرهم موافقون للأصل، وإما ألا يكون له لهم أصل فليس لهم عصمة، قال: ثانياً الأعمال التي اختصوا بها الواجب علينا التوقف عن الاقتداء بها، وإنما ترد لقواعد الشريعة، هذا معنى صحيح.

    الثالث قال: إن هذه المسائل وما شابهها قد صارت مع ظاهر الشريعة متدافعة.

    1.   

    مفهوم التعارض في النصوص وبيان المنهج الصحيح فيه

    ثم ساق المصنف كلاماً جاء في معرضه جمل مشهورة وليست هي مقصودة بذاتها في كلامه لكنه عبر بها، ولأهميتها في نظره أحب أن أقف معها في ختام هذا المجلس قال: [ وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر في بعضها نسخ، فالواجب الترجيح ] وهذه قضية تتعلق بكتب أصول الفقه أو بعض الكتب التي تكلمت في الناسخ والمنسوخ والجمع بين الأدلة، أو في عرض كلام العلماء لكلمة تعارض الأدلة، ولا شك أنه من حيث المقاصد معروف أن علماء المسلمين من السابقين واللاحقين لا أحد منهم يقول: إن نصاً من كلام الله أو كلام رسوله يعارض نصاً آخر.

    إذاً: مقاصدهم معروفة في أنها مقاصد صحيحة، ولا جدال فيها، المعروف أن مقصودهم بهذا ليس التعارض بين النص من حيث هو مع نص آخر، لكن إذا وقفنا أدباً مع كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم رأينا انضباطاً في التعبير العلمي، فإن عبارة (تعارض الأدلة) يعبر بها إذا تعارضت الأدلة فثمة أوجه: الوجه الأول النسخ، الترجيح، الجمع، هل يقدم هذا أو يقدم ذاك، إلى آخره، تارة يعبر بـ(تعارض الأدلة)، وتارة بعض العلماء يخففون السياق فيقولون: الأدلة التي ظاهرها التعارض. والجملة الثانية لا شك أنها أخف تعبيراً من الجملة الأولى، ولكن كلا التعبيرين يجب تركه، أو على أقل تقدير ينبغي تركه، وإنما يقال: إذا تعارض فهم الناظر؛ لأن من يقع التعارض فيه هو الفهم، والدليل لا يقع فيه التعارض، قد يقول قائل: العلماء يقصدون هذا، نعم، هم يقصدون هذا، لكن ينبغي في التعبير أن نعبر بعبارة تتعلق بالحقيقة العلمية الصحيحة: أن التعارض لا توصف به الأدلة؛ لأن عبارة: (تعارض الأدلة) ما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا أئمة السلف رحمهم الله يطلقونها؛ لأنك تضيف التعارض هنا في أصل الكلام إلى الدليل، ثم تأتي بعد ذلك تفسر المقصود وتصرف الكلام عن ظاهره، إذاً ما دام أنك ستصرف الكلام عن ظاهره لماذا لا تتحاشى هذا التعبير من الأصل؟ ويكون التعبير المناسب مثلاً: إذا تعارض الفهم عند المستدل.. إذا تعارض الفهم في فقه الأدلة عند المجتهد.. إذا تعارض الفهم عند الناظر.. إذا تعارض فهم العلماء، فيرجع التعارض إلى فهم وعقل الإنسان؛ لأن عقل الإنسان يحتمل هذه الأمور، لكن النص لا يحتمل هذه الأمور لا من حيث المعنى كما هو بدهي عند جميع العلماء، ولا حتى عند التحقيق من حيث الوصف اللفظي؛ لأن الله جل وعلا أمرنا أن نوقر كلامه، وأن نوقر كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، لذلك ما كان الصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم! واليهود كانوا يقولون: يا أبا القاسم! مع أنه عليه الصلاة والسلام هكذا كنيته، أنه أبو القاسم، لكن ما كان الصحابة يدرجون هذا الاستعمال كثيراً عندهم؛ لأن هذا من باب التوقير للنبي صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2].

    إذاً: أرى أن من توقير النصوص وتوقير كلام الله ورسوله أننا لا نعبر بكلمة (تعارض الأدلة)، إنما إذا تعارضت الأدلة، فنقول: إذا تعارض الفهم عند المجتهد أو أي عبارة من العبارات، يؤتى بعد ذلك بطرق أهل العلم.. الجمع.. الترجيح.. النسخ والنظر في النسخ إلى آخره، لكن كلمة (التعارض) قد يقول قائل: قد يقع التعارض إذا كان ثمة ناسخ ومنسوخ، حتى إذا كان ناسخاً ومنسوخاً يقال: إذا نسخ نص نصاً آخر، ولا يقال: إذا عارضه؛ لأن التعارض دائماً يكون بين المختلفين، وكتاب الله جل ذكره ليس فيه اختلاف أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].

    فإذاً لا شك أن مقاصد العلماء من أهل الفقه والأصول بهذه الكلمة مقاصد صحيحة ومعروفة، ولكن التعبير الفاضل أو اللائق هو أن يقال: إذا تعارض الفهم أو غير ذلك، وأما أن ينتظم كلامنا أو تعبيراتنا في الكتب عبارات مثل: (فصل تعارض الأدلة)، أو (الأحاديث المتعارضة في السنن) مثلاً، أو (الجواب عن الأحاديث المتعارض)، فهذا كأن الإسلام فيه مادة من التعارض، وهذه مشكلة العقول، وليست مشكلة الإسلام، الإسلام لا يأتي من هذه النصوص إلا الخير، ولا يأتي منها إلا الصواب، ولا يأتي منها إلا الحق، فكلمة التعارض إقحامها على الأدلة فيما أرى أنه من التجاوز في الاصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن إذا كان الاصطلاح فيه شيء من مادة الخروج عن الأدب مع كلام أحكم الحاكمين، فمن توقير كلام الله وكلام رسوله أنا لا نعبر بهذا.

    الآن لو جاء شخص وقال لعالم: إذا تعارض كلامه، أو هذا العالم كلامه متعارض، هذا لا يقدر هذا العالم، حتى ولو فسر مقصوده بتفسير مناسب، فكلمة تعارض لا يوصف بها الكلام الفاضل، وإنما توصف به الكلمات التي دون ذلك، فأرى أنه من باب الأدب والتوقير لكلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام خاصة إذا تتبعت القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة من توقيرهم لكلام الله وتوقيرهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أئمة السلف كيف كان فعلهم، مالك رحمه الله كيف كان يفعل إذا خرج لمجلس التحديث؟ ماذا كان الإمام أحمد رحمه الله يفعل؟ كانت عناية الأئمة بهذا الباب والأدب معه عناية متميزة، كذلك ابن عباس قال في كلمة خالف فيها الجمهور، لكن مع ذلك لما قيل له: قال أبو بكر و عمر . قال: يوشك أن تنزل علينا حجارة من السماء، أقول قال الله قال رسوله، وتقولون: قال أبو بكر و عمر . فكيف نأتي ونقول: إذا تعارضت الأدلة، ثم بعد ذلك نقول: والمقصود بذلك في نظر المجتهد، من الذي ألزمنا بكلمة (تعارض).

    لماذا ما يكون التعبير ابتداء بـ(إذا تعارض الفهم عند المجتهد)؟ فالتعارض هو في فهمه في الدلالة ليس إلا؛ ولذلك ينبغي الالتزام بذلك، ولا ينقص هذا من الحقيقة العلمية، بمعنى: أن تذكر الترجيح والجمع والنسخ إلى آخره.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الأخذ بالمطلق أو العام دون النظر في المقيد أو الخاص

    السؤال: ذكر الشاطبي أن من اتباع المتشابه الأخذ بالمطلقات قبل النظر في تقييدها، أو في العام قبل النظر في مخصصاته؟

    الجواب: مصطلح المطلق والمقيد والخاص والعام في مصطلح علمي انتظم كمصطلح فيما بعد، فلا شك أن الأخذ بالمطلق دون النظر في تقييده أو بالعام دون النظر في تخصيصه أو ما كان مخصصاً له، لا شك أنه من المخالفة العلمية لفقه القواعد الشرعية.

    أهمية استقراء كلام المحققين فيما يتعلق بالمنهج الصحيح في التعامل مع مصطلح (تعارض الأدلة)

    السؤال: هل هناك مصنف ورسالة جمعت كلام ابن تيمية في هذا الباب؟

    الجواب: هناك رسائل علمية أكاديمية كما يقال، وجمعت كثيراً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لا أذكر شيئاً بالتخصيص من أسمائها، وإنما هناك جملة من الرسائل في هذا، ولكن الأكمل أن طالب العلم يستقرئ كلام المحققين، ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله، فمن استقرأ كلامه فهذا هو الأجود، له رسالة كما أسلفت يسيرة في المجلد الثالث من فتاواه، في شرحه لحديث الافتراق.

    حمل قول عمر: (نعمت البدعة) على المعنى الشرعي

    السؤال: إذا قلنا: إن جواب عمر : نعمت البدعة هذه. هو على المعنى اللغوي، فكيف يصار إلينا ما يمكن حمله على المعنى الشرعي إذا صح التعبير؟

    الجواب: ما أدري ماذا يقصد الأخ، هل يقصد أننا لو حملناه على المعنى الشرعي كيفما جاء، فنقول: لسنا محتاجين إلى مثل هذا الفرض.

    معنى قول شارح النووية: (إن البدعة من أعظم مسائل الدين)

    السؤال: ذكر الشيخ محمد حياة في شرح الأربعين في حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ) أن البدعة من أعظم مسائل الدين؟

    الجواب: كأن المتكلم يحتاج إلى أن يكون محيطاً بأصول الدين وفروعه، فما وجه القول، لو أراد أن القول في هذا بدعة وليس بدعة يقع في مسائل فيها من الأصول، ويقع في مسائل التفاصيل الفعلية من العبادات، فالبدعة هي ما خالفت السنة، فلا يفقه الإنسان ما يكون بدعة إلا إذا كان عارفاً بالسنن، أما أن يبادر إلى القول بأن هذا بدعة وهو ليس عارفاً بالسنن، فربما قال عن أمر: سنة، مما يحتمله الاجتهاد أنه بدعة وهو ليس كذلك، ومقصود الشيخ محمد حياة فيما ذكره الناقل عنه هذا.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755813158