إسلام ويب

شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [7]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • السنة هي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه، وقوله كفعله في دائرة الاحتجاج، والمراد بذلك هو الاعتداد، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام باعتبار التكاليف الشرعية: أولها: الأقوال وهي تفيد التكاليف الشرعية الخمسة. الثاني: الأفعال وهي التي تفيد الوجوب والندب. الثالث: التقريرات وهي تفيد الإباحة. والعلم ينقسم إلى قسمين: علم يقيني وعلم ظني، والأخبار على قسمين: متواترة وآحاد. ومن أدلة الأحكام الإجماع وهو حجة لعصره ولمن أتى من بعدهم، وهو ينقسم إلى قسمين: إجماع حقيقي، وإجماع سكوتي، ومن المسائل المتعلقة بأدلة الأحكام قول الصحابي وهل قوله حجة أم لا؟

    1.   

    السنة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين.

    قال رحمه الله تعالى: [ باب السنة ].

    المراد بالسنة الطريقة، وهي طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهجه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ )، وهي سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، فسبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هي طريقته ومنهجه.

    ويعرفها بعض العلماء: بأنه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلقية، أو خُلقية، والصواب أن يقال: إنه ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلُقية، باعتبار أن الأخلاق على قسمين: أخلاق فطرية غير مكتسبة مجبول عليها الإنسان، وهناك أخلاق مكتسبة، وكل ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المكتسب والفطري؛ لأن الله عز وجل خص رسوله به، فاستحب للإنسان أن يأخذه اكتساباً إذا لم يوجد فيه.

    أقوال النبي صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله تعالى:

    [ قول النبي المصطفى كفعله بلا نزاعاً حجة في شرعه ]

    النبي عليه الصلاة والسلام قوله كفعله في دائرة الاحتجاج، والمراد بذلك هو الاعتداد، وقوله: (قول النبي المصطفى كفعله بلا نزاع حجة في شرعه)، ومعنى الاحتجاج الاعتبار، والمراد بالحجة البينة التي يعتمد عليها الإنسان، وليس المراد بذلك هو بيان الوجوب، وذلك أن الفعل قد يؤدي إلى سنة، وقد يؤدي إلى إباحة في بعض الأحيان إذا ثبتت فيه القرائن، والأصل التعبد.

    وقوله: (قول النبي) النبي أقواله يدخل فيها الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة والإباحة بحسب اللفظ، وكذلك أيضاً السياق.

    وقوله: (بلا نزاع حجة في شرعه)، يعني في شرعة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله أمر بالامتثال به في قوله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21]، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأصل في فعل النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب، منهم جماعة من الفقهاء كـأبي سعيد الاصطخري وأبو العباس بن سريج وغيرهم، وهؤلاء خالفوا عامة العلماء في هذه المسألة، وذلك أن الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التشريع، أما أن نقول بوجوب هذا، فهو قول ضعيف، بل ينظر إلى القرائن فيه، والنزاع المنفي هنا هو النزاع في أبوا ب الحجية، قال: (بلا نزاع حجة في شرعه)، يعني: في شرع محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس كافة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ:28].

    حجية أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم

    بالنسبة لأفعال النبي عليه الصلاة والسلام إنما كانت حجة؛ لأن الله أمرنا بالاقتداء به وأما أفعال غيره فليست بحجة؛ ولهذا يقول العلماء قاعدة، وهي أن كلاً لا يحتج بفعله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتج بفعل أحد على مذهبه على الإطلاق لماذا؟ لانتفاء العصمة واحتمال ورود الخطأ؛ لهذا إذا رأيت أحداً فعل فعلاً في الصلاة، كأن افترش في حال التورك، هل تقول فلان يرى السنية أو لا يرى السنية في هذا الموضع؟ لا تستطيع القول بذلك لاحتمال نسيانه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يؤخذ من فعله تشريع؛ لأن ورود سهيه عليه الصلاة والسلام في أمر العبادة غير ممكن، أما الإمام الذي يقول رأيت: أبا حنيفة وأحمد يفعل كذا في الصلاة، رأيته يفترش أو يتورك، نقول: هذا أصلاً ليس بحجة عنده، وكذلك عندنا؛ لأن الحجة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لهذا يقول العلماء: كل يحتج بقوله لا بفعله إلا رسول الله فيحتج بقوله وفعله.

    خطاب الشرع بين تعميمه لرسول الله وغيره أو اختصاصه برسول الله

    قال رحمه الله:

    [ عدا الذي كان به مخصصا مثل الأضاحي والوصال والنساء ]

    تقدم معنا الإشارة إلى أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لخطابات الشريعة فالأصل فيها العموم، وأنه يدخل فيها النبي عليه الصلاة والسلام ويدخل فيها غيره، والتخصيص فيها لا بد له من دليل، كما في قول الله عز وجل: خَالِصَةً لَكَ[الأحزاب:50]، يعني: يا محمد هذه استثناء، والدليل على العموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين )، فإذا جاء الخطاب متوجهاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا أيها النبي، فالخطاب لأمته عامة، وإذا جاء الخطاب لأزواج النبي فقال: يا أمهات المؤمنين، فالمراد به عموم النساء قاطبة، وهذا لا خلاف فيه عند العلماء إلا ما دل عليه الدليل، والخصوصية تثبت بالنص، وتثبت أيضاً بالإجماع؛ وذلك لكثير من الأحكام.

    وقد مثل لها المصنف رحمه الله بالوصال والنساء والأضاحي وغير ذلك، هذه الأمور دخلها التخصيص، فهل يأتي الشخص مثلاً يقول: أنا رأيت رؤيا أريد أن أضحي بابني، باعتبار أنه رأى رؤيا يأتي بالأضحية؟ لا، نقول: هذا من الخصائص، أو يأتي كذلك أيضاً في مسألة الوصال للصائم يريد أن يواصل، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )، فقوله: (لست كهيئتكم) دليل على الاستثناء، كذلك في مسألة تعدد النساء، تعدد الرجل بزواجه من أكثر من أربع هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محل إجماع، ولا خلاف في ذلك.

    يقول رحمه الله:

    [ وقل بذاك إن تكن في القربة لا في القيام والقعود والتي ]

    أفعال النبي عليه الصلاة والسلام على ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: أفعال عبادة وهذا هو الأصل.

    الثاني: أفعال عادة يفعلها النبي عادة، والقرينة في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يشترك مع غيره من الكفار في ذلك، وذلك كأفعاله عليه الصلاة والسلام في لباسه وفي شعره ونحو ذلك، فالنبي يجعل له ظفائر، وربما جعل له جمة كسائر العرب، يفعل هذا المشركون الكفار من قريش، ويفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لماذا لم نقل بالسنية؟ نقول: لم نقل بالسنية للاشتراك في الفعل، ثم لم يأت به أمر، ولم يأت به حث مع تلبس الناس به، ولكن نقول بالتشريع في مسألة اللحية والشارب مع أن كفار قريش يعفون لحاهم لماذا؟ لأنها تجاوزت الفعل المجرد إلى الأمر، ولو كان فعلا مجرداً لقلنا عادة كترك الإنسان لشعر رأسه، لذا يقول هنا: (وقل بذاك إن تكن في القربة) أي: في أبواب القربات.

    النوع الثالث: هو فعل الجبلة الذي يجبل عليه الإنسان، ولا يفعله لسبب، لا لعادة قومه ولا غيره، وإنما هو شيء فطري، كأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام معين كما جاء في حديث أنس في اختياره صلى الله عليه وسلم للدباء، أو اختياره لنوع من اللحم، أو نحو ذلك، فهذا يفطر عليه الإنسان من غير اختيار ولا يتطبع عليه.

    يقول: (لا في القيام والقعود والتي) يعني: طريقة القيام وطريقة القعود، وكذلك ذهابه ومجيئه، هذا من الأمور التي يجبل عليها الإنسان من الناس، من له هيئة معينة في مشيته، والتفاته ونحوها.

    ما تقتضيه أفعال رسول الله من الأحكام التكليفية

    قال رحمه الله تعالى:

    [ فيها الدليل باختصاص لم يجب أقوال أهل العلم فيها تضطرب

    بعض يقول إنها للندب والوقف يأتي إن يكن في القرب

    والبعض يقضي فيه بالوجوب وهو الذي أفتى به محبوبي

    ما لم يكن عن اقتراب منتفي فهو المباح عندنا يا منصفي ].

    ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً نقسمه إلى ثلاثة أقسام باعتبار التكاليف الشرعية:

    أولها: الأقوال وهي تفيد التكاليف الشرعية الخمسة.

    الثاني: الأفعال وهي التي تفيد الوجوب والندب.

    الثالث: التقريرات وهي تفيد الإباحة.

    وأفعال النبي عليه الصلاة والسلام ما الأصل فيها؟ نقول: الأصل فيها التشريع، أما الوجوب فلا بد فيه من قرينة، ومن هذه القرائن المداومة وعدم الخروج عن نسق الثبات عليها، وهذا يأتي عن رسول لله صلى الله عليه وسلم في أحوال قليلة، ومثال ذلك: قيام الليل فالنبي عليه الصلاة والسلام ما ترك قيام الليل قط على الدوام، هل نقول بالوجوب؟ نقول: لو لم يرد دليل ينص على الاستحباب لقلنا بالوجوب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام دل الدليل على ثباته على هذا الفعل.

    ومن هذه القرائن أيضاً التي تدل على الوجوب إجماع السلف على أن هذا الفعل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب، وهذا ككثير من أفعاله عليه الصلاة والسلام في أبواب المناسك تجد أن بعضها لا يوجد فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن نجد فيها إجماعاً، هذا في أبواب الأفعال، كذلك أيضاً فيما يتعلق بأبواب التروك، ويصرف الفعل الترك والخروج عن النسق الدائم إذا علمنا أن النبي فعل ثم ترك، أو أمر ثم فعل يعني خالف أمره عليه الصلاة والسلام، وهذا من باب بيان التخفيف.

    ولا يختلف العلماء في أن أفعاله صلى الله عليه وسلم من التشريع، ولكن الخلاف في مسألة الوجوب، فإن هذا يحتاج إلى القرائن، وفي قول المصنف رحمه الله: (فيها الدليل باختصاص لم يجب أقوال أهل العلم فيها تضطرب) يعني: اختصاص النبي عليه الصلاة والسلام بشيء هل هو واجب عليه بذاته، أو لا بد من الدوام من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق الوجوب بمعنى أن الأمر إذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يفيد الوجوب أم لا؟ نقول: الأصل في الأوامر الوجوب؛ ولهذا حذر الله عز وجل من مخالفة أمره، فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ[النور:63]، أي: يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجون عنه، فهؤلاء متوعدون بالفتنة، ومخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون بترك ذلك المأمور أو فعل ذلك المنهي.

    وعليه نقول: إن الأصل في الأوامر الوجوب، ولكن يخرج الأمر عن الوجوب لقرائن، ومن هذه القرائن:

    ورود مخالفة من النبي عليه الصلاة والسلام لذلك المأمور، كما في مسألة استقبال القبلة عند في البول والغائط، وكذلك الاغتسال بفضل المرأة، فنعلم أن هذا الأمر والنهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على الوجوب، وكذلك أيضاً هناك جملة من الصوارف في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نعلم بها أنه للتأديب أو للدلالة والإرشاد.

    ومن القرائن كذلك عدم الدوام، بأن نعلم أن النبي فعله مرة مثلاً، أو أمر به مرة، وما كرر ذلك الأمر، بل عمل به قلة، فنحمل هذا الأمر على الاستحباب، بخلاف الذي يأمر به كثيراً.

    ومن القرائن أن يأمر به ولا ينهى عن ضده فهذه قرينة تفيد أن الأمر ليس على الوجوب.

    ومنها كذلك مخالفة خيرة الفقهاء من الصحابة لامتثال ذلك الأمر مما يدل على أنه ليس على التأكيد، وهذا ينظر فيه بحسب مرتبة الصحابة وقربهم منه، كالخلفاء الراشدين، وأمهات المؤمنين، وفقهاء الصحابة الكبار كـعبد الله بن عباس وابن عمر وابن مسعود وأضراب هؤلاء.

    السنة التقريرية

    قال رحمه الله:

    (تقريره قولاً وفعلاً وعمل فحجة لبعد إقرار الزلل)

    إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لشيء من الأعمال هل يفيد التشريع أم يفيد الإباحة؟ الصواب أنه يفيد الإباحة، وذلك كإقرار النبي عليه الصلاة والسلام أكل الضب على مائدته فهذا دليل على الإباحة، ولا يزيد عن ذلك، وأصحابه كثيراً ما يفعلون شيئاً ويبقى الأمر على إباحته، بخلاف إذا كان جنس الشيء في ذاته عبادة، فلا نقول إنه مباح بل نقول إنه عبادة، مثاله ما جاء في الصحيح أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلبون بغير تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، والنبي كان يقول: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك ) إلى آخره، أما الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فيلبون بغير ذلك، كقولهم: لبيك مرغوباً ومرهوباً إليك، لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، أو قولهم: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل، فهل نقول: بأن هذا مباح؟ لا؛ لأن هذا لا يمكن أن يكون إلا سنة من جهة العمل، فإقراره دليل على صحة معناه.

    فنقول: في هذا إنه من السنة التقريرية، إذاً: في حال تقرير النبي عليه الصلاة والسلام لفعل أو وقول صدر من الصحابة يرجع فيه إلى أصل ذلك العمل، إن كان من العادات أو مما يفطر عليه الناس فهذا نقول: إن الأصل فيه الإباحة، وإن كان في ذاته من العبادة نقول إنه تشريع، وتقرير النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يقترن بشيء زائد عن السكوت، وذلك كتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ابتسامته على فعل أو نحو ذلك، فنقول: إن هذا قدر زائد عن الإقرار، وذلك مثلاً في قصة مجزز ( لما جاء إلى أسامة وزيد وقد التحفا بلحاف وبدت أرجلهما فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال القمر )، وهذا فيه ابتهاج وأنس من ذلك، وهذا زائد عن التقرير وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام ساكت؛ لهذا نقول: إنه لا بد من النظر إلى القرائن.

    بيان أن سكوت النبي إقرار

    قال رحمه الله تعالى:

    [ كذا سكوت عن صنيع وجدا في عهده مع علمه مجددا ]

    وما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ثبت أنه علمه وسكت عنه فهذا إقرار بجوازه، كالعزل فقد كان يحدث في زمنه ولم يتكلم عليه، كما جاء في الحديث: ( كنا نعزل والقرآن ينزل )، يعني أن المشرع في ذلك يعلم، وإذا جاء أن من الصحابة من يفعل منفرداً من غير فعل جماعة فإن هذا لا يدل على التشريع؛ لأن فعل الواحد لا يعني ظهور الأمر وجلاءه؛ لأنه قال: (في عهده مع علمه) والعلم يقتضي الإشهار لا فعل الخفاء.

    المتواتر والآحاد

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وأوجب العلم بما تواترا علماً يقينياً وكن مناظرا

    ومسند الآحاد يقضي بالعمل وهو مفيد العلم لا بما اتصل ]

    العلم ينقسم إلى قسمين: علم يقيني وعلم ظني، والأخبار على قسمين: متواترة وآحاد، والمتواتر المراد به المتتابع في اللغة، وفي الاصطلاح: هو ما يرويه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد: هو ما يرويه أناس أو واحد عن مثله أو عن أكثر منه ما لم يبلغ حد التواتر، ويفيد علم الظن، وإنما ذكر الآحاد لأنه دون التواتر، ويقسم باعتبار المحصل من العلم إلى علم نظري وعلم ضروري كما تقدم الكلام عليه، قال: (وأوجب العلم بما تواترا علماً يقينيا وكن مناظرا)، يعني: أن العلم إذا أفاد اليقيني فهو المتواتر، كما هو في كلام الله جل وعلا وشيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال:

    (ومسند الآحاد يقضي بالعمل وهو مفيد العلم لا بما اتصل)

    ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من أخبار الآحاد صحيحاً فهو يفيد العلم، لا يفيد الظن؛ لأن الظن أكذب الحديث، والله عز وجل أمر باجتناب الظن، ويتجوز فيه المتكلمون حيث يجعلون أخبار الآحاد ظناً، وهذا فيه نظر، ولما نشأ هذا المصطلح علم اليقين وعلم الظن، وجعلوا علم اليقين متواتراً، وعلم الظن هو لأخبار الآحاد، تسامح في ذلك بعض أهل السنة، ثم تجاوزوا في ذلك إلى ما نتج عنه من محظورات، وهو عدم العمل بأحاديث الآحاد في العقائد أو في الأصول الكلية، ومنهم من قال بالأحكام، ومنهم من ألغى علم الظن بالكلية؛ لأن الآحاد تفيد ظناً، ونتج عن ذلك أصل التقسيم.

    والمسند هو الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يفيد العلم، ويجب العمل به إذا كان صحيحاً.

    الاحتجاج بالحديث المرسل

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وإن حديث مرسلاً عنهم أتى فحجة في قولنا قد أثبتا ]

    الحديث المرسل هو من أنواع الانقطاع، ويريد به أهل الاصطلاح: ما سقط منه صحابي ويرويه تابعي كبير، وإنما قلنا تابعي كبير؛ لأنه إذا رواه التابعي الصغير فيحتمل أن يكون سقط صحابي ومعه تابعي، والكبير هو الذي يغلب على الظن أنه يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعي وأسقط الصحابي، وهذا القيد الذي نذكره هنا على سبيل الاحتياط.

    والحديث المرسل في قول بعض العلماء حجة، كما قال هنا: (في قولنا قد أثبتا)، يعني بذلك في الاحتجاج من جهة الاعتداد به، لا كون هذا الحديث صحيحاً؛ ولهذا مسألة الاحتجاج شيء، ومسألة القول بصحته شيء آخر.

    لكن الصواب أنه ليس بحجة عند عامة النقاد، وإنما يقبل إذا اعتضد بغيره، وهذا الاعتضاد إما أن يجري على أصل، أو يعضده قياس، أو عمل الصحابة، أو توافقه أحاديث أخر ضعيفة ونحو ذلك، وبعض العلماء نجد أنه يحتج بالحديث المرسل لاعتضاده بأشياء أخرى، لكن لا ينص عليها ونظن أنه احتج بالحديث المرسل على سبيل الانفراد، والعلماء يحتجون بما هو أبعد من ذلك.

    قال رحمه الله تعالى:

    [ سوى الذي روى سعيد المجتبى فإنه الصحيح فاطلب مأربا ]

    ويظهر من كلام المصنف أنه يفرق بين الحجة وبين الصحيح، وأن الاحتجاج شيء والصحة شيء، يعني أن الاحتجاج قد يكون بحديث ضعيف، وقد يكون بصحيح، وهنا استثنى ما جاء من مراسيل سعيد بن المسيب، قال: (فهي صحيحة) وسبب هذه الصحة أن الغالب في مراسيل سعيد بن المسيب أن معانيها صحيحة والعمل عليها يجري، ولكن ثمة مراسيل لا يعمل بها العلماء، وذلك كما رواه أبو داود عن سعيد بن المسيب مرسلاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من ضرب أباه فاقتلوه )، هذا مرسل، ولكن لم يعمل به حتى الإمام الشافعي الذي يعتد بمراسيل سعيد بن المسيب، كذلك أيضاً مرسلة في دية أهل الكتاب لم يعمل به الإمام الشافعي رحمه الله؛ لهذا نقول: إن صحة المعنى لا يعني صحة الإسناد، ونستطيع أن نقول إنه كلما تقدمت طبقة الراوي الذي أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قوي القول بصحة مرويه.

    1.   

    الإجماع

    قال رحمه الله تعالى: [ باب الإجماع.

    وما عليه فقهاء العصر بعد النبي المصطفى ذي الطهر

    عن اتفاق في أمور تحدث فهو الصحيح ما سواه محدث ]

    مسألة الإجماع تقدم الإشارة إليها، وأن الإجماع من الأدلة الإجمالية التي تدخل في أبواب علم الأصول، قال: (وما عليه فقهاء العصر)، يعني لابد أن يطبق أهل زمن في عصر معين، لا أن يجمع قول واحد من عصر مع قول واحد من عصر آخر، ثم يؤلف بينها فيقال: أجمع هؤلاء، ويسمى إجماعاً على الاصطلاح، فقوله:

    [ بعد النبي المصطفى ذي الطهر

    عن اتفاق في أمور تحدث فهو الصحيح ما سواه محدث ]

    في قوله: (بعد النبي)، يعني: أنه في زمن النبي ينبغي أن يرجع إلى الدليل، وقوله: (في أمور تحدث)، أي: ما لم يحدث بل كان في زمن النبي ينبغي أن يرجع فيه إلى الدليل، وأما الأمور النوازل والأمور الحادثة فهذه مما يجتهد فيها الإنسان، ويقع فيها الإجماع.

    يقول: (وما سواه محدث)، وهذا يحمل على معنيين: ما يظن فيه الإجماع فهذا مخالف ومحدث من المعاني، أو ما يخالف الإجماع فهذا إحداث وشذوذ وسلوك لسبيل غير المؤمنين، وهذا مما حرمه الله سبحانه وتعالى، وهذا فيه إشارة إلى النظر إلى مسألة وهي أن الإجماع إذا صح الخروج عنه فيمن بعده شذوذ وإحداث وابتداع كخروج الإنسان عن النص.

    قال رحمه الله تعالى:

    [ ولا اعتبار بالعوام قل ولا بقول مولود لعصرهم تلا ]

    وقوله هنا: (ولا اعتبار بالعوام) لأنه خصه بفقهاء العصر، فقال: (وما عليه فقهاء العصر)، قد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلوك طريق العامة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ( ودع عنك العوام )، أما العلماء فأمرنا الله عز وجل بسؤالهم فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]، والعوام أمرنا الله عز وجل باجتنابهم، لماذا؟ لأنهم لا يدركون معاني الشريعة، إذاً ليسوا بمعتبرين في مسائل الإجماع، فإذا كان العمل على حال عند العامة لا اعتبار به، بل العبرة بالعلماء، ومن أراد أن يلتمس إجماعاً في زمن معين فلينظر إلى علماء عصره.

    وفي قوله: (ولا بقول مولود لعصرهم تلا)، يعني من جاء ممن ولد بعدهم لا عبرة بقوله؛ ولهذا العلماء يذكرون في شروط الإجماع: انقراض العصر الذي انعقد فيه الإجماع، بمعني إذا أجمع أهل زمن فيموت آخر واحد منهم يصح الإجماع، وما دام حياً فالإجماع ليس بصحيح، لماذا؟ لاحتمال أن يرجع واحد منهم، فمثلاً يقولون: إن بيع أمهات الأولاد كان عليه العمل، ثم طرأ العمل على خلاف ذلك؛ لهذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطبقوا في زمن أبي بكر ثم خرج قول لـعمر في خلافته أو قول لـعلي في خلافته وعلي موجود قبل ذلك هذا هل يعد من الإجماع المعتبر عند العلماء؟ في كلام المصنف هنا يشترط انقراض أهل العصر الذين انعقد فيهم الإجماع، فمن شروط صحة الإجماع أن لا يرد عن واحد منهم خلاف بعد ذلك، ولكن نقول: ينبغي أن لا نخرج الإجماع الذي ثبت في زمن عن قوته -من جهة القوة لا من جهة إثبات ذلك الإجماع- إذا ورد من يخالفه بعد ذلك.

    حجية الإجماع

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وحجة لعصره ومن أتى من بعدهم في أي عصر ثبتا ]

    في أي عصر يأتي بعدهم فالحجة في الرجوع إليهم؛ لهذا ينبغي لطالب العلم في مسائل الإجماع أن ينظر إلى الإجماع من جهة تحقق ثبوته، وأن ينظر إلى الزمن السابق له، فإذا ثبت إجماع آخر فلا عبرة بهذا الإجماع؛ ولهذا تمتلئ كتب الفقه بحكايات إجماع سكوتي أو إطباق أهل بلد فنقول: لا عبرة به؛ لأن المراد بذلك هو إجماع الأمة، ثم إن ثبوت الإجماع في الأزمنة المتأخرة متعذر؛ وذلك لشتات الناس وكثرة مذاهبهم وأهوائهم، أما الزمن الأول فثبوت الإجماع فيهم ممكن مع عسره، وكل ما تقدم الزمن كان ثبوت الإجماع أظهر وأقرب، فيكون في زمن الصحابة أقوى من زمن التابعين، وفي زمن أتباع التابعين أقل من زمن التابعين وهكذا يقل شيئاً وشيئاً؛ لهذا نقول: إنه ينبغي أن تضبط مسائل إجماع الصحابة في ذاتها، ومن عجب أن الإجماع الذي يحكيه العلماء في مصنفاتهم جمع، وإجماع الصحابة لم يجمع، ولم يصنف فيه أحد مع قوته وجلالة قدره، وكذلك أهميته وفضل ذلك الزمن، وهو أعلى القرون فضلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    اشتراط انقراض العصر في حجية الإجماع

    قال رحمه الله تعالى:

    [ ولا اشتراطاً لانقراض العصر عن الإمام أحمد ذي الفخر ]

    من العلماء من لا يشترط انقراض العصر، وهذا قد تقدم الكلام عليه، وأن مسألة اشتراط انقراض العصر هذه من مواضع الخلاف، فمنهم من يشترط انقراض العصر، ومنهم من يقول: إذا ثبت وأجمعوا على ذلك فبشرية الإنسان التي رأت بعد ذلك الإجماع لا تخالف بشرية غيره ممن جاء بعده ورأى غيره، فإذا سوغنا له أن يخرج عن الإجماع الذي انعقد وهو معهم فإننا نسوغ خروج من جاء بعدهم كذلك؛ لأنه بشر في ذاته، لذا من العلماء من قال بعدم اشتراط انقراض العصر، وهو ظاهر قول الإمام أحمد رحمه الله، ومن العلماء من اشترط انقراض العصر، والأول أولى.

    تقسيم الإجماع إلى حقيقي وسكوتي

    قال رحمه الله تعالى:

    [ ونقل الخلف عن الصديق وذهب الجمهور للتصديق

    بالقول والفعل جميعاً صححوا إجماعهم إن لم يكونوا أفصحوا

    بالخلف من بعض الذين أجمعوا من غير حمل لاضطرار يمنع ]

    ينبغي أن يشار إلى مسألة: أن الإجماع يمكن أن يقسم إلى قسمين: إجماع حقيقي، وإجماع سكوتي، الإجماع الحقيقي: هو الذي طرأ عليه النطق والبيان، والإجماع السكوتي: هو أن يقول قائل منهم بقول ولا يعلم له مخالف، الإجماع السكوتي هو أكثر أنواع الإجماع، وهو أكثر ما يقع فيه الوهم والتجوز في حكاية الإجماع؛ لهذا نقول: إن الإجماع السكوتي لا يوصف بأنه إجماع إلا إذا توفرت فيه أمور:

    من هذه الأمور أن يشتهر قول القائل في المسألة، وصورته تعرف بأحوال: من هذه الأحوال أن يقول ذلك أمام جمع، إما على منبر جمعة، أو كان له أصحاب متوافرون واشتهر قوله ذلك عندهم ونقلوه عنه، ولا يعلم له مخالف، أو قضاء يفعل أمام جماعة كالحدود التي تفعل ويشهدها طائفة من المؤمنين، ونحو ذلك، فهذا من القرائن.

    الأمر الثاني في مسألة الإجماع: أن يستقصى أحوال المخالفين له، وأنه ينبغي أن يعلم أنه عدم وجود المخالف لا ينفي العدم من جهة الحقيقة، بل ينبغي له أن يستقصي من جهة التتبع، كذلك أن ينظر إلى اتحاد البلد التي طرأ فيها القول، ربما يشتهر هذا القول في الكوفة ولكن في غيرها من البلدان لا يعرف، فلا يقال: إن هذا من مسائل الإجماع باعتبار أنه لم يوجد مخالف له؛ لأن من كان في المدينة ربما لا يعلمون عن هذا القول، وأقوى وجوه الإجماع السكوتي هو في المدينة ومكة؛ لانتشار العلم، ولقوة الديانة، والقرب من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوى وجوه الإجماع أن يثبت بالقول والعمل، يقولون بالقول، ثم يوافقونه من جهة العمل.

    1.   

    قول الصحابي

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وليس قول للصحابي حجة على صحابي فاقتفِ المحجة ].

    هنا ذكر ما يتعلق بقول الصحابي عليه رضوان الله هل قوله حجة أم لا؟ هذا مما اختلف فيه الأصوليون، وينبغي قبل ذلك أن نعلم أن من الصحابة فقهاء، ومنهم من له شرف الصحبة ولا يعرف له قول في الفقه، وهذا لعدة اعتبارات منها: أن يكون من جهة حقيقته هو ليس بفقيه باعتبار أن النبي عليه الصلاة والسلام توفي وتأخر إسلام هذا الصحابي قبل وفاة النبي بزمن يسير، وهؤلاء الصحابة كثير؛ لهذا الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً من مائة وعشرين ألفاً كما ذكر ذلك أبو زرعة، وهذا العدد هل نقول: إنهم كلهم فقهاء يعلمون الأدلة من القرآن، العام والخاص، والمطلق والمقيد، المحكم المتشابه، المجمل والمبين، وغير ذلك؟ نقول: إن هذا متعذر عقلاً أصلاً، ولكن من جهة شرف الفضل والمنزلة والمكانة والصحبة فهي للجميع، لهذا نعلم أن التباين موجود قدراً حتى في دائرة الفقهاء بذاتهم، فينبغي أن ننظر إلى الصحابة بأن السابقين من الصحابة هم أفقه من اللاحقين، لماذا؟ لأن الشريعة نزلت وعاينوها، فنقول: إن المهاجرين أفضل من الأنصار، وهم أقعد منهم في هذا الأمر؛ لأن القرآن نزل على لسان قريش، وهم أقرب وأفهم إلى مراد الله سبحانه وتعالى، ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام ولدته قريش كما قال: ( ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن )، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدته قريش، ونشأ فيهم، وأخذ منهم سلامة اللسان الذي نزل عليه القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام أفصح العرب، واقترن ذلك بعصمة الله عز وجل له؛ لهذا نقول: إن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى السابقون منهم أقوى من اللاحقين لهم، والمهاجرون أقوى من الأنصار، ثم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة شهدوا معه بدراً وأحد، ثم الذين آمنوا قبل الفتح أفضل من الذين آمنوا بعد الفتح بنص القرآن.

    نقول: إن أفضل السابقين هم العشرة المبشرون بالجنة وكلهم من قريش، ثم يأتي بعد ذلك جملة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ممن يعتد به في أبواب الفقه، وفي فهم التأويل كـعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وهم فيما بينهم ليس أحداً منهم حجة على الآخر، ولكن إذا أجمعوا فالإجماع إجماع الصحابة كما قال الإمام أحمد رحمه الله كما نقله القاضي أبو يعلى، فقال: الإجماع إجماع الصحابة ومن بعدهم تبع لهم، ونقل هذا أيضاً ابن حزم الأندلسي، فإذا أجمعوا على شيء وجب إتباع قولهم؛ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، وهذا بدلالة الأولى أنه إذا أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين فكيف بالإجماع إذا اقترن الخلفاء مع غيرهم، فكان إطباق الأمة، ومن خالف سبيلهم فقد اتبع غير سبيل المؤمنين فيوله الله ما تولى ويصله جهنم.

    لهذا نقول: إنه يجب في الاتباع اتباع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء عن الصحابة في حال الإجماع، وأما في حال الخلاف فنقول: إذا اجتمع الخلفاء الراشدون الأربعة على قول فلا يخرج القول عن قولهم، وقولهم حجة بنص الدليل ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، وهنا حذر من المحدثات إشارة إلى أن قول الصحابة لا يخرج عن هديه عليه الصلاة والسلام، ويكفي في ذلك عطفه لهديهم بعد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وأما أقوال الصحابة فيما بينهم فهم مجتهدون في ذلك ويتباينون فيه، ونعلم أنه لاختصاص الصحابة أثر في ذلك، فمنهم من يختص في أبواب، كـابن عباس وهو من أهل التأويل، وعبد الله بن مسعود وهو من أهل التأويل والفقه بأحكام الحلال والحرام، وهناك من امتاز بمعرفة الحلال والحرام على غيره كـمعاذ بن جبل، ومنهم من هو من أهل الفرائض وهو زيد بن ثابت، ومنهم من يعرف بمسائل الأقضية كالتعزيرات ونحوها وهو كـعلي بن أبي طالب، كذلك الحال أيضاً في زمن التابعين عليهم رضوان الله تعالى، ويستدل في هذا ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى قال عليه الصلاة والسلام: ( أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد )، وهذا فيه إشارة إلى أن العمل بما جاء عن الصحابة والتمسك به هو أمان للأمة وهداية وتثبيت، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونرجئ ما تبقى إلى الدرس الأخير في الغد بإذن الله جل وعلا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    معنى قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب

    السؤال: [ ما المقصود بقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب؟ ].

    الجواب: قول الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فقد كذب، يريد بذلك الإجماع على سبيل التتبع والحقيقة، وهذه الدقة ظاهر من كلام الإمام أحمد أنها منتفية، ولكن مراد العلماء في الإجماع هو أن يعرف عن أعيان أهل العلم قول لا يعرف خلافه، أما تتبعهم في ذاته فهو الذي نفاه الإمام أحمد، فيريد الإمام أحمد بأن يبين تساهل كثير من الناس في حكاية الإجماع، وهو أن تتبع ذلك من الأمور المحالة، وهذا إذا كان في زمنه فهو في زمننا من باب أولى، أما من جهة تحقق أصله فهو ثابت؛ فلهذا الإمام أحمد بنفسه يحكي الإجماع، فيقول: أجمعوا عليه في كذا، وإجماع الصحابة في كذا، إشارة إلى أن الإجماع يثبت ولكن ليس على النحو الذي يظنه الناس بعدم وجود المخالف، فينبغي أننا إذا تكلمنا خاصة في الإجماع السكوتي -ولعله الذي قصده الإمام أحمد رحمه الله- أن هذا لا يعني على الحقيقة الموافقة؛ لأن القول ربما لا يشتهر، أو لم يكن ثمة داعٍ له حتى يثار.

    التفريق بين الحكمة والعلة

    السؤال: هل العلة المستنبطة والحكمة بمعنى واحد؟

    الجواب: لا، الحكمة شيء والعلة شيء، العلة التي لأجلها ثبت الحكم، وأما بالنسبة للحكمة فهي المقصد الذي طرأ لأجله الحكم، مثلاً الحكمة من تخفيف الغسل من ولوغ الهرة هو التيسير وعدم المشقة، والعلة أنها من الطوافين، إذاً: فالعلة أنها من الطوافين، والحكمة هو المقصد من ثبوت الحكم، وهذا يأتي في كثير من الأحكام الشرعية.

    معرفة الحكمة في الأحكام الشرعية

    السؤال: [ هل يشترط على الفقيه معرفة الحكمة؟ ].

    الجواب: الفقيه ليس بالضرورة أن يعرف الحكمة، إذا عرف العلة فهو فقيه، معرفة الحكمة ليس بلازم حتى يوصف الإنسان بالفقه، من عرف الحكمة ولم يعرف العلة فهذا قصور، شخص يعرف الحكمة من التيسير في ولوغ الهرة ولكن لا يعرف العلة، هذا لا يستطيع أن يقيس، وهذا جانب يتعلق بالإيمانيات في جانب التعبد، هناك من يغلو ويبالغ في جانب العلل، وهناك كتاب للحكيم الترمذي اسمه العلل، وهو غير الترمذي المصنف، وفيه زيادات ومبالغات في هذا، وصنف بعضهم رسالة في أبواب العلل حتى أشار إلى كثير من العلل كما في إشارة المصلي بيديه هكذا في الصلاة، ما المقصود بها؟ وفي قبضه على يديه، وفي إشارته بالسبابة، ما هو المقصود بها؟ وفي التفاته لماذا يلتفت يميناً ويلتفت شمالاً؟ لماذا يبقى في الصلاة هكذا لجهة القبلة قليلاً؟ لماذا يغلب عليه التفاته على اليمين؟ ونحو ذلك، فهذه علل يستنبطها الإنسان وفيها نوع من التكلف، نقول: لا حرج من ذلك لكن الحرج في إبراز كل علة تنقدح في الذهن للناس بحيث يظنون أن هذا هو الذي نزل لأجله الشرع، فإذا انتفت العلة قالوا: ليس لها حاجة، مثال ذلك: التصاوير، فقد منع الله عز وجل منها أن ينصب الإنسان الصور، وأن يرسم بيده شيئاً؛ خشية أن تجر الناس إلى العبادة، يقول لك: الحمد لله في بلدنا لا يوجد وثنية، وما رأينا أحداً يسجد عند الصور، لماذا لا ننصب التماثيل؟ ووضعوا الصور في المجالس ووضعوها في كل مكان، هذا يطرأ من بعض العامة، ولكن العلة في الحقيقة أبعد من ذلك، وهي أن يتوطن جيل ثم جيل ثم يأتي الجيل الثالث هو الذي يعبد؛ ولهذا تماثيل ود وسواع ويغوث لم يعبدوها مباشرة، ولكن أول شيء نصبوها، ثم جاء جيل عظموها في نفوسهم، ثم جاء جيل عبدوهم من دون الله، كما قال ذلك عبد الله بن عباس، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768250233