الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقد قال المصنف: [أقسام العلم].
عقد هذا الباب لبيان تقسيمات العلم وتعريف أقسامه، بعد أن عرف العلم وما يقابله وهو الجهل.
فقال: [ والعلم الضروري: ما لا يقع عن نظر واستدلال، كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس].
فقسم العلم هنا إلى ضروري ونظري.
فالضروري: منسوب إلى الضرورة، بمعنى: الذي يضطر الإنسان إليه، فالإنسان مضطر لأن يعرفه بذاته.
قال: والعلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال، أي: ما لا يتوقف على نظر واستدلال، والنظر كما قلنا: هو الفكر. والاستدلال: هو إقامة الدليل، فالضروري هو: ما لا يحتاج إلى التأمل، وما لا يحتاج إلى حركة النفس فيه. قوله: (كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس) فالمرئيات والمسموعات والمذوقات والمشمومات والملموسات كلها يحصل بها العلم الضروري، فلا يحتاج الإنسان فيها إلى تأمل، فمن سمع كلام إنسان جزم بأنه متكلم، وبأن هذا الكلام صدر منه، ومن رآه يفعل فعلاً جزم بذلك دون أن يحتاج إلى تأمل أو إقامة دليل عليه وهكذا، ولهذا قال: (كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس: وهي السمع والبصر والشم واللمس والذوق).
وهذه في الواقع ليست هي الحواس، بل هذه وظائف الحواس، فالحواس جمع حاسة، والحاسة التي تحس، وهي العين والأذن والفم والأنف واليد، فهذه هي الحواس، لكن وظيفتها هي الإحساس، والإحساس أنواعه هي هذه الخمس: السمع والبصر والشم واللمس والذوق.
قوله: (أو بالتواتر) وهو ما نقله عدد من الناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن عدد، حتى اتصل العدد بذلك المشاهد أو المحسوس، فهذا الذي يسمى بالتواتر، فهو إخبار عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم لمحسوس.
فالتواتر لا يكون إلا في المحسوسات، فالعقليات لا يحتاج فيها إلى الراوية بالتواتر ولا بالآحاد، وما لا تتعلق به الحواس الخمس لا ينفع فيه الخبر المتواتر ولا يثبته التواتر، وإنما التواتر فيما يشاهد بإحدى الحواس الخمس، والتواتر في الأصل التوافق، والعلم الذي يحصل بالتواتر قطعي، كقطع الإنسان الذي لم ير مكة بوجودها أو بوجود البيت الحرام، فهذا القطع ضروري لا يحتاج إلى التأمل؛ لأنه من عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، فاستقر في ذهنه، ولم يعد قابلاً للنقاش لديه.
ومثل ذلك: ما يحصل للإنسان بخبر من الأخبار سمعه من عدد كثير من الناس فاستيقن به، كمعرفة الإنسان أنه ابن فلان وأن فلاناً والده، وكمعرفة نسبه إلى أجداده وآبائه بالنقل المتواتر، فيستقر ذلك في ذهنه ويجزم به، ولم يعد قابلاً للنقاش لديه.
والتواتر: إنما يكون بحصول عدد الذين لا يمكن أن يتواطئوا على الكذب عادة، وهذا يختلف باختلاف الناس، فمن الناس من يحصل له العلم بإخبار عدد يسير، إذا جاءت الدواعي متوافرة على عدم كذبهم، ولم تقتض الدواعي كذبهم بوجه من الوجوه، فليسوا من سن واحدة، ولم يخبروا بذلك في مكان واحد، ولا في وقت واحد، فذلك يقطع به، ويعد متواتراً لحصول العلم اليقيني.
والمتواتر كالقرآن -مثلاً- فقد نقله في كل عصر من عصور هذه الأمة الملايين من الناس عمن فوقهم، إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان متواتراً لا يمكن الشك فيه.
قال المصنف: [ وأما العلم المكتسب: فهو ما يقع عن نظر واستدلال ]، والمقصود به: العلم النظري، والمكتسب، أي: الذي يكتسبه الإنسان بعد تعب فيه.
(فهو ما يقع عن نظر) والنظر: حركة النفس في المعقولات وهو الفكر، (واستدلال) أي: إقامة للدليل، وعرف النظر بقوله: [ والنظر: هو الفكر في حال المنظور فيه ] أي: حركة النفس فيما تتعلق به، وذكر المنظور هنا في تعريف النظر فيه إشكال كما سبق في تعريف العلم، فيمكن أن يعرف النظر بأنه: حركة النفس في المعقول.
أي: فيما يتعلق به العقل، أما حركة النفس في المحسوس فتسمى تخيلاً.
قال: (والاستدلال: طلب الدليل) الاستدلال في الأصل: طلب الدليل؛ لأن الاستفعال يدل على الطلب، لكن في هذا الكلام الاستدلال بمعنى: إقامة الدليل.
(والدليل: هو المرشد إلى المطلوب؛ لأنه علامة عليه)، والدليل في اللغة: هو المرشد إلى المطلوب سواء كان حسياً مثل الدليل الذي يدل الناس في السفر على الطريق، أو معنوياً مثل الدليل الذي يؤخذ منه حكم وقد سبق ذلك.
قال: [ والظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر ].
بالنسبة للعلم ينقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول منه: اليقين: وهو الذي يقتضي حصول تمام العلم، بحيث لا يبقى الإنسان متردداً في معلومه، ويليه الظن: وهو حصول جمهور العلم، بحيث يكون الحصول أرجح لدى الإنسان من خلافه.
والشك: هو استواء الطرفين، فيبقى الإنسان متردداً بين الأمرين، واقفاً بينهما حائراً.
والوهم: هو مقابل الظن. أي: الاحتمال المرجوح؛ فإن كانت الاحتمالات كلها على وجه واحد كان ذلك يقيناً، وإن كان جمهور الاحتمالات على وجه كان ذلك ظناً، والجانب الذي يقابله -وهو الاحتمالات القليلة- يسمى وهماً، وإن كانت الاحتمالات متساويه في الجانبين بحيث يتردد الإنسان فيهما فهذا الشك.
قال: (والظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر) أي: المظنون أظهر من الآخر والآخر هو الموهوم.
قال المصنف: [ والشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر ]، فيكون الإنسان متردداً بينهما، ولم يعرف الوهم هنا: وهو تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، فالمرجوح منهما هو الوهم، فهو يقابل الظن. ولم يعرف اليقين كذلك؛ لأن تعريفه هو تعريف العلم السابق: معرفة الشيء على ما هو به.
ثم عاد لتعريف الأصول بالمعنى اللقبي فقال: [وعلم أصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها]، أي: أن علم أصول الفقه بمعناه اللقبي: هو أدلة على سبيل الإجمال، (بالطرق) المقصود بها الأدلة، على سبيل الإجمال.
أي: الإجمالية، وكيفية الاستدلال بها. أي: كيفية أخذ الأحكام منها، فيشمل ذلك معرفة الأحكام أيضاً، ويشمل الكلام في المستدل الذي هو المجتهد ببيان شروط الاجتهاد والتقليد ومراتب المجتهدين، فكل ذلك داخل في الاستدلال بها.
قال: [وأبواب أصول الفقه] أي: الأبواب التي اشتهر تقسيم الأصول إليها في زمان المؤلف، وليس معنى ذلك: انحصار هذا العلم في هذه الأبواب التي ذكرها، بل قد اعتاد المتأخرون من الأصوليين تقسيمه على اعتبار الأدلة الإجمالية، فيعقدون الباب الأول للكتاب، والباب الثاني للسنة، والباب الثالث للإجماع، والباب الرابع للقياس، والباب الخامس للاستدلال بالأدلة الأخرى المختلف فيها، والباب السادس لتعارض الأدلة وطرق الجمع بينهما والترجيح، والباب السابع للاجتهاد.
فهذا الذي جرى عليه المتأخرون، وهو أضبط وأكمل، أما التبويب الذي ذكره المصنف في قوله: [وأبواب أصول الفقه أقسام الكلام، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والأفعال، والناسخ والمنسوخ، والإجماع، والأخبار، والقياس، والحظر، والإباحة، وترتيب الأدلة، وصفة المفتي والمستفتي، وأحكام المجتهدين].
فهذا التقسيم غير حاصل، وترتيبه أيضاً غير مبني على درجات القوة، وأقسام الكلام هو أول باب عقده من هذه الأبواب، ثم أتبعه بأنواع الأبواب الأخرى، بالكلام فيها على وجه الاختصار والتعريف، فلا نحتاج الآن إلى تعريف هذه الأمور؛ لأن كل واحد منها عقد له باب مستقل، وسنعرفه فيه، وإنما قصدنا وضع خطة كتابه، ليتبين ما سيتكلم عليه في هذا الكتاب، وهذا الذي يسميه المعرفون بالعلوم بالمسائل؛ فيجعلون لكل علم مقدمات وهي معرفة موضوعه، وقد سبق أن موضوع أصول الفقه: الأحكام الشرعية وأدلتها.
وواضعه: وهو أول من وضع مصطلحاته، وليس لهذا العلم واضع محدد، لكن أول من ألف فيه كتاباً مستقلاً الشافعي .
و(حده): أي: تعريفه، وقد سبق تعريف أصول الفقه، و(مستمده) أي: ما أخذ منه، وهو النصوص الشرعية، وكلام العرب، ومصطلحات المتكلمين وعلم الكلام أيضاً.
وكذلك نسبته إلى غيره من العلوم: فنسبة أصول الفقه إلى غيره من العلوم نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لاشتراكه مع بعض هذه العلوم في بعض الأبحاث، ولانفراده بكثير من البحوث التي يختص بها، فبعض الأبحاث تجدها في أصول الفقه وفي علم البلاغة، وبعضها تجدها في أصول الفقه وفي علم التفسير، وبعضها في أصول الفقه وفي علم الحديث وهكذا...
فمثلاً: الكلام على تعريف القرآن وبيان المتواتر منه وغير المتواتر هذا يدرس في أصول الفقه وفي علم القراءات والتفسير، والكلام على السنة بتعريفها وطرق نقلها وشروط الناقل، وما يشترط له من العدالة والضبط، كل ذلك يدرس في أصول الفقه وفي مصطلح الحديث، وكذلك الكلام في الحقيقة والمجاز مما يدرس في أصول الفقه ويدرس في علم البلاغة، وكذلك الأمر والنهي وهكذا...
وأما فضله: فقد سبق ذلك في المقدمة التي قدمناها، وفائدته: هي الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وسير الإنسان على بصيرة من أمر دينه، بحيث لا يكون مقلداً تقليداً أعمى، واسم هذا العلم هو: أصول الفقه أو علم الأصول، ومسائله: وهي هذه التي ذكرها هنا في قوله: (وأبواب أصول الفقه).
هذه هي المقدمات العشر التي يفتتح الناس بها العلوم للتعريف بها.
قال المصنف: [ أقسام الكلام ].
والكلام في اللغة: يطلق على عدة أمور، منها الخط، كقول عائشة رضي الله عنها: (ما بين دفتي المصحف كلام الله) والذي بين الدفتين هو الخطوط.
وكذلك يطلق الكلام على الإشارة، كقول الشاعر:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر
ولم يعلم الواشون ما كان بيننا وقد قضيت حاجتنا بالضمائر
ويطلق الكلام كذلك على ما يفهم من حال الشيء.
يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
والكلام في الاصطلاح: هو اللفظ المركب الموضوع لمعنى، والنحويون يشترطون فيه الإفادة وقصد الإفادة، بأن يكون مفيداً، وأن يكون مقصوداً للإفادة، واللفظ في اللغة: مصدر لفظ الشيء إذا رماه أو تركه، فيقال: لفظت الدابة الحشيش إذا تركته، ويقال: لفظ فلان الحصاة إذا رمى بها، ومنه قول غيلان :
عشية ما لي حيلة غير أنني بلفظ الحصى والخط في الرمل مولع
والمقصود باللفظ هنا: الصوت الخارج من الفم، المشتمل على بعض الحروف الهجائية، فقولنا: (الصوت) هو ما يحصل عند اجتماع الأجرام أو افتراقها مما يسمع، وقولنا: (الخارج من الفم) خرج به أصوات الأجرام عند اجتماعها وافتراقها، أي: إلا ما كان خارجاً من فمه.
قولنا: (المشتمل على بعض الحروف) خرج به أصوات البهائم التي لا تشتمل على بعض الحروف الهجائية، والهجائية المنسوبة إلى الهجاء وهو الخط، فخرج بذلك حروف المعاني، فقد لا يكون اللفظ مشتملاً عليها، وقولنا: (المركب) مخرج للكلمة الواحدة فلا تسمى كلاماً في الاصطلاح، و(المفيد) يشمل الدلالة على معنى، فاللفظ الذي لا يوضع لمعنىً كديزٍ الذي هو مقلوب زيدٍ لا فائدة فيه، فلا يمكن أن تدل الألفاظ -وهي غير مستعملة- على معنى ولا أن تكون كلاماً.
قال المصنف: [ فأما أقسام الكلام: فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان، أو اسم وفعل، أو فعل وحرف، أو اسم وحرف ].
قوله: (أقل ما يتركب منه الكلام) دل هذا على أن الكلام لابد أن يكون مركباً، والكلمات ثلاث هي: (الاسم، والفعل والحرف)، فالاسم: ما دل على المسمى.
والفعل: ما دل على حركة المسمى.
والحرف: ما دل على معنى من إثبات أو نفي أو تأكيد أو نحو ذلك.
قوله: (وأقل ما يتركب منه الكلام اسمان) مثل قولك: ذا أحمد، فذا: اسم مبتدأ، وأحمد: خبره.
أو اسم وفعل، مثل: استقم، فالفعل: استقم، والاسم: هو ضمير مستتر فيه، أي: أنت، ومثل: قام زيد، فقام: فعل، وزيد: اسم، ومنها تركبت الجملة الفعلية، فكان هذا كلاماً مفيداً، ولهذا قال: (فأقل ما يتركب منه الكلام اسمان) مثل: زيد قائم، ذا أحمد، أو (اسم وفعل) مثل: قام زيد أو يقوم زيد.
قال: (أو فعل وحرف) وهذا لا يكون أبداً، فالكلام لا يتركب من فعل وحرف، بل الاسم لابد منه في الكلام؛ لأنه لا يمكن أن يصدر فعل إلا بفاعل، فلا يمكن أن يوجد كلام بغير اسم.
قوله: (أو اسم وحرف): هذا أيضاً لا يكون إلا على تقدير، فلابد في الكلام من اسمين، وهما ركنا الإسناد، أو اسم وفعل، ويكونان ركنين للإسناد أيضاً، فلا يتركب الكلام من حرف وغيره وحدهما، بل لابد من اسم وفعل أو اسمين، كما قال ابن مالك رحمه الله في الكافية:
وهو من اسمين كزيد ذاهب واسم وفعل نحو فاز التائب
وما كان على تقدير من وجود حرف واسم مثل: يا فلان! في النداء، فهو على تقدير فعل ينوب عنه الحرف المذكور، معناه: أدعو فلاناً.
قال المصنف: [ والكلام ينقسم إلى: أمر ونهي وخبر واستخبار ].
هذا تقسيم آخر للكلام بعد تقسيمه الأول إلى أنواع المركبات، ينقسم الكلام أيضاً إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار، وفي الأصل ينقسم الكلام إلى إنشاء وخبر، فالإنشاء: إحداث معنى بلفظ يقارنه في الوجود: كبعت، وأعطيت، وخذ، ومن أنت؟ وكيف حالك؟ وكيف أنت؟ فهذا إنشاء.
والقسم الثاني هو الخبر: وهو التحدث عن أمر قد حصل أو يحصل.
أما الأمر والنهي فكلاهما من الطلب، والطلب من أقسام الإنشاء، والاستخبار كذلك وهو الاستفهام، وأما الخبر: فهو قسم مستقل بذاته، وهو الذي يقبل التصديق والتكذيب، مثل: جاء زيد.. مات زيد.
قال: [ وينقسم أيضاً إلى تمن وعرض وقسم ].
هذا التقسيم كله غير حاصل، ويقصد أن من أقسام الكلام ما يسمى بالتمني، وهو من الإنشاء، كقولك: ليت زيداً قادم، فهذا تمنٍ، والعرض، مثل: (ألا تأكلون)، والقسم: (والله لتفعلن كذا)، وكل هذه من الإنشاء، مثل الأمر والنهي والاستخبار.
فالتقسيم غير حاصل، وكان الأولى أن يذكر في أقسام الكلام هنا أنه ينقسم إلى قسمين: إلى إنشاء وخبر، فالإنشاء يدخل فيه أنواع الطلب كلها، وهي: الأمر والنهي، والعرض والتحضيض، ويدخل فيه التمني وإنشاء العقود، ويدخل فيه الاستخبار الذي هو الاستفهام.
والخبر إما أن يكون بجملة اسمية: كزيد قائم، أو بجملة فعلية: كقام زيد.
قال المصنف: [ ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز ].
هذا تقسيم آخر للكلام، فهو ينقسم إلى: حقيقة ومجاز، قال: (فالحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه)، الحقيقة: هي اللفظ المستعمل أولاً، أي: اللفظ الذي بقي على ما استعمل فيه في أول ما عرف.
والمقصود بذلك: اللفظ المستعمل في معناه المتبادر إلى الذهن، فاللفظ قد لا يكون له إلا معنى واحد في الأصل، فهذا المعنى هو الذي وضع له ذلك اللفظ، فاستعماله فيه هو الحقيقة، واستعماله لمعنى آخر ليس معناه الأول بواسطة تشبيه أو نقل يسمى مجازاً.
فعلم أن الحقيقة والمجاز لا يكونان إلا في المركب، فاللفظ المفرد يحمل في الأصل على الحقيقة، فكلمة (أسد) باللفظ المفرد تطلق على الحيوان المفترس المعروف، لكن إذا كانت في أثناء الكلام فيمكن أن تكون على الحقيقة، ويمكن أن تكون على المجاز، مثل: جاء أسد، يمكن أن يكون معناه رجل شجاع، ويمكن معناه الحيوان المفترس المعروف.
وقوله في تعريف الحقيقة: [ فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه ].
(ما بقي) أي: ما بقي شائعاً. (في الاستعمال)، أي: في استعمال الناس له. (على موضوعه)، أي: على ما وضع له على دلالته الأصلية.
ثم قال: [وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة]، وقد اختلف في اللغة هل هي وضعية -أي: اتفق الناس على وضعها- أو هي توقيفية من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا قلنا: هي توقيفية من عند الله، فلا يقصد بذلك كل ألفاظها، بل ما يحصل به التفاهم في كل لغة، وإلا فإن كل لغة قابلة للثراء والنماء، فتزداد بكثير من الألفاظ المشتقة من أصولها الموجودة، ويندرس منها كثير من الألفاظ كذلك، وهي: الألفاظ التي توصف بالغرابة مع طول الزمن، فكثير من الألفاظ التي كان العرب يستخدمونها لا نستخدمها نحن اليوم، وهي من لغة العرب، لكن لم تعد مستعملة اليوم، وكثير من الألفاظ التي نستخدمها نحن اليوم لم تكن مستخدمة في لغة العرب قديماً، ومع ذلك فالجميع من لغة العرب، والغريب منها والمحدث أو المعرب... أو غير ذلك كله من لغة العرب؛ لأنه جارٍ على قواعدها، وترتيب حروفها.
والحقيقة: مشتقة من (حق) بمعنى: ثبت واستقر، لا من الحق الذي هو خلاف الكذب، فليس المجاز كذباً، ولو كان كذلك لما جاز وروده في الوحي، فقول الله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا[يوسف:82] ، وقوله تعالى: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ[الكهف:77] لا يمكن أن يكون هذا كذباً، ولو كانت الحقيقة من الحق الذي هو خلاف الكذب لكان ضدها يوصف بالكذب! وهذا غير ممكن، فالحقيقة هنا: من الحق، الذي هو الثابت المستقر، (فحق عليهم القول) بمعنى: استقر عليهم وتحقق فيهم، فهذا معنى الحقيقة.
قال المصنف: [ وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة ]، أي: ما اصطلح الناس عليه، واتفقوا عليه من المخاطبة في أصل الكلام.
قال المصنف: [والمجاز ما تجوز عن موضوعه].
المجاز في اللغة: مكان الجواز، أي: العبور، فتقول: هذا مجاز، أي: باب يجاز منه إلى غيره، وهو في الاصطلاح: ما تجوز عن موضوعه، أي: ما نقل عما وضع له في الأصل، بمعنى: اللفظ الذي استعمل في غير ما وضع له، أو اللفظ الذي استعمل ثانياً، استعمالاً غير الاستعمال المعهود المتبادر إلى الذهن.
قال المصنف: [ والحقيقة: إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية ].
الحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى حقيقة لغوية، أي: استعمال اللفظ على معناه الأصلي المتبادر في اللغة، كما ذكرنا في الأسد، فاستعماله اللغوي الحقيقي هو الحيوان المفترس، وإما شرعية: وذلك كاستعمال الصلاة في العبادة المخصوصة، فإن الشارع خصها بذلك، فكانت حقيقة في العبادة المخصوصة، وتطلق على غير ذلك، كالدعاء (من كان صائماً فليصل) أي: فليدع، فيكون ذلك مجازاً شرعياً.
والعرفية أي: ما تعارف الناس عليه بعد أصل اللغة، كالدابة: فهي حقيقة عرفية في ذوات الحافر، وهي في الأصل تطلق على كل ما يدب على وجه الأرض، لكن تعارف الناس على إطلاقها على الخيل والبغال والحمير فقط.
قوله: [والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة].
هذه أقسام المجاز بعد أقسام الحقيقة، فالمجاز: إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة.
قال: (فالمجاز بزيادة) مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[الشورى:11]، أي: بزيادة في الكلام يمكن في الأصل الاستغناء عنها، ولكنها جيء بها لأمر آخر؛ وذلك مثل قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] ، فالكاف هنا زيادة في الكلام، فأصل الكلام: ليس مثله شيء، ولا يقصد أنه ليس مثل مثله شيء، ولكن الكاف جاءت لتأكيد ذلك المعنى، فكانت زيادة مفيدة خارجة في الأصل عن أصل الوضع، فسميت مجازاً بالزيادة.
ثم قال: [ والمجاز بالنقصان: مثل قوله تعالى: واسأل القرية ]، أي: اسأل أهل القرية، فهذا نقص في الكلام، فخرج به الكلام عن استعماله الأصلي المتبادر، فكان مجازاً بالنقص، ثم قال: [ والمجاز بالنقل: كالغائط فيما يخرج من الإنسان ] أي: نقل اللفظ عن معناه الأصلي إلى معنىً آخر ملتبس به، له به التباس أو علاقة، فالغائط، في الأصل لفظ يطلق على الغائر من الأرض أو المطمئن منها، ولكن الشارع نقله للدلالة على الحدث الخارج من البدن: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ[النساء:43] ، فاستعمل الغائط إذاً في معنىً آخر غير معناه الأصلي بالنقل.
قوله: [ والمجاز بالاستعارة، كقوله تعالى: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ[الكهف:77] ].
(أو استعارة) الاستعارة معناها: طلب الإعارة، والمقصود بها في الاصطلاح: التشبيه الذي حذفت أداته، فالشيء يشبه بغيره، ولكن تحذف أداة التشبيه فيجعل كذلك؛ وذلك مثل قولك: زيد أسد، أي: كالأسد. فهذا استعارة؛ لأن المقصود هنا تشبيهه بالأسد؛ فحذفت أداة التشبيه فقلت: زيد أسد.
بعد هذا قال: [ باب الأمر ] عقد هذا الباب للأمر، والأمر: مصدر أمر بالشيء إذا طلب وقوعه، وهو يطلق بقيد شيء، أي: بقيد الجزم، وبقيد لا شيء، أي: بقيد عدم الجزم، ولا بقيد شيء، أي: من غير تعرض لذكر الجزم أو نفيه، فالأول: وهو ما أطلق بقيد شيء: هو الأمر الدال على الوجوب.
والثاني: وهو ما أطلق بقيد لا شيء. أي: بقيد عدم الجزم: وهو الأمر الدال على الندب.
والثالث: وهو ما أطلق لا بقيد شيء. أي: لا بقيد الجزم ولا عدمه: هو الأمر المطلق، وكل هذه يبحثها الأصوليون.
قال: [ والأمر: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب ] والأمر تعريفه: استدعاء الفعل، أي: طلب وقوع الفعل، بالقول: فإنما يعرف ذلك بالقول سواء كان صريحاً باللفظ أو كان بإشارة أو كتابة كل ذلك من الأمر، وذلك القول لا يكون لفظ اكفف أو اترك، فذلك من باب النهي لا من باب الأمر.
(ممن هو دونه) فشرط العلو للآمر، وهذا خلاف بين الأصوليين: هل يشترط بالآمر العلو أو يطلق الأمر على طلب وقوع الفعل مطلقاً؟ والمناطقة يقسمون طلب الفعل إلى ثلاثة أقسام: فإن كان الطالب أعلى من المطلوب منه الفعل سمي ذلك أمراً، وإن كان أدنى منه سمي ذلك دعاءًً، وإن كان مساوياً له سمي ذلك التماساً.
قوله: (على سبيل الوجوب) أي: على سبيل الجزم، وهذا القيد مستغنىً عنه ولا حاجة إليه هنا؛ لأنه يخرج الأمر الذي لا يقتضي الجزم، ويخرج أيضاً الأمر المطلق الذي لا ينظر فيه إلى قيد الجزم ولا إلى قيد عدم الجزم.
قال المصنف: [ والصيغة الدالة عليه افعل ].
هذا إثبات أن للأمر صيغة، وأن صيغته هي لفظ (افعل)، فصيغة فعل الأمر قد تكون من الثلاثي كافعل، أو من الرباعي كعلِّم وأكرم، أو من الخماسي مثل: انطلق.. تعلَّم، أو من السداسي كاستخرج واستنبط، فكل ذلك من صيغة افعل، فلا يقصد بها هذا الوزن، وإنما يقصد بها فعل الأمر مطلقاً، فهو صيغة الأمر الأصلية، ومثل ذلك الفعل المضارع المقترن بلام الأمر: لتقم ولتنطلق ولتتعلم، فهو صيغة للأمر أيضاً.
قوله: [ وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه ].
(وهي) أي: صيغة الأمر، (عند الإطلاق) معناه: عدم تقييده بقيد يصرفه عن ذلك، (والتجرد عن القرينة) أي: عدم وقوع القرينة الحالية التي تصرفه أيضاً عن ذلك، (تحمل عليه) أي: تحمل على استدعاء الفعل على وجه الوجوب، فالأمر في الأصل يحمل على الوجوب، ومحل هذا أمر الشارع، وأمر من هو أعلى؛ فإنه يحمل على الوجوب في الأصل، عند الإطلاق والتجرد عن القرينة، والقرينة: ما يقارن الشيء، وهي: إما حالية وإما مقالية، والمقصود بها هنا الحالية؛ لأن المقالية مذكورة في قوله: (عند الإطلاق)، فقد خرجت القرينة الحالية بقوله: (عند الإطلاق)، وخرجت القرينة الحالية بقوله: والتجرد عن القرينة، (تحمل عليه)، أي: على طلب الفعل على وجه الجزم.
قال المصنف: [إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة].
هذا الاستثناء منقطع؛ لأن ما دل الدليل على أن المراد به الندب والإباحة ليس عند الإطلاق والتجرد على القرينة.
فالمقصود: أن الأمر إذا لم يحتف بقرينة حالية أو مقالية تدل على عدم إرادة الوجوب؛ فإن محمله على الوجوب، ولكنه إذا دلت قرينة حالية أو مقالية على أن المقصود به الندب فإنه يصرف إلى الندب، أو دلت قرينة حالية أو مقالية على أن المقصود به الإباحة دل على الإباحة، فإطلاقه الأصلي الوجوب، مثل قول الله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43] فهذا في الأصل للوجوب، وإذا احتفت به قرينة تقتضي عدم الوجوب عمل بتلك القرينة؛ وذلك فيما إذا قيل: افعل كذا إن شئت، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال في الثالثة لمن شاء)، وقال: (بين كل أذانين صلاة، ثم قال: لمن شاء)، فهذا يقتضي الإباحة؛ لأنه قرنه بقرينة مقالية تقتضي التخيير، ومثل ذلك ما إذا كان الأمر بعد الحظر، كقوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا[المائدة:2] ، فهذه قرينة تدل على عدم الوجوب، فلا يجب على من تحلل من الحج والعمرة أن يصطاد؛ لأن هذا الأمر جاء بعد النهي وهو قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[المائدة:96] ، ومثله قول الله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ[البقرة:222] (فأتوهن) هنا صيغة أمر، ولكنها لا تدل على الوجوب؛ لأنها جاءت بعد حظر؛ لأنه قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ[البقرة:222] ، فجاء الأمر بعد الحظر.
والقرينة الحالية غير المقالية كما إذا كان سياق الأمر للإرشاد الطبي أو نحوه، كبعض الأوامر التي تأتي ويقصد بها الإرشاد، ويفهم من ذلك عدم الوجوب، أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قصد وجوب ذلك الفعل المأمور به، والإرشاد: قد يفهم من القرينة المقالية أيضاً، مثل قوله: (فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) زوروها: هذا أمر بزيارة القبور، ولكنه ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الإرشاد؛ لأنه قال: (فإنها تذكركم الآخرة) فبين العلة وهي قرينة مقالية تدل على عدم إرادة الوجوب.
قال: [ ولا يقتضي التكرار على الصحيح إلا إن دل الدليل على قصد التكرار ].
أي: أن الأمر في أصل صيغته لا يدل على التكرار، والتكرار هو فعل الشيء أكثر من مرة، فإذا قال الآمر: صل، فلا يقتضي ذلك تكرار الصلاة، بل تكفي في امتثاله صلاة واحدة على الصحيح.
(إلا إذا دل الدليل على قصد التكرار) إذا دل الدليل على قصد التكرار: سواء كان ذلك الدليل أيضاً حالياً أو مقالياً، فقد يكون مقالياً مثل: كلما غربت الشمس فصل، فلفظ (كلما) يقتضي التكرار: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185] والشهر متكرر فأنيط الأمر هنا بأمر متكرر فاقتضى ذلك التكرار، أما إذا لم يدل الدليل على قصد التكرار فإن الأمر مجرد عنه في الأصل، وهذا المقصود به هنا: الأمر المطلق الشامل، الدال على الوجوب والدال على الندب.
قوله: [ ولا يقتضي الفور ] أي: أن الأمر أيضاً لا يقتضي الفورية، وهذا محل خلاف أيضاً بين الأصوليين، وقد ذهبت طائفة منهم إلى أن الأمر يقتضي الفور إذا تجرد عن القرائن، فإذا قال: افعل كذا، فلابد من المبادرة والمسارعة، وقالت طائفة أخرى: لا يقتضي الفور، بل يبقى مطالباً به، فمتى ما أداه حصل المقصود، والمقصود بالفور: المبادرة لأدائه، فالله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران:97] ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا) هل هذه الصيغة تدل على الفور أو على التراخي؟ محل خلاف بين الأصوليين، فقالت طائفة: كل من استطاع سبيلاً إلى الحج وأدرك وقته فيلزمه أن يبادر إليه، إذا لم يكن قد حج من قبل، وقال آخرون: بل يجب عليه ذلك في العمر مرة، ومتى ما أداه فإن ذلك يجزئ.
قال المصنف: [ والأمر بإيجاد الفعل أمر به ].
الأمر قد يتعلق بالشيء مباشرة، مثل: (فحجوا) وقد يتعلق بسببه وما يتوقف عليه، فيكون ذلك أمراً به؛ لأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، ومحل ذلك إن كان جزءاً من المأمور به، مثل غسل الوجه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6] فلا يمكن أن يتحقق إلا بغسل شيء من الرأس حتى يتحقق الإنسان أنه غسل كل الوجه، فما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، فيدخل ذلك الجزء في وجوب غسل الوجه، ومثله مسح شيء من الوجه مع الرأس أيضاً؛ لأن مسح الرأس لا يتحقق إلا بذلك، على القول بأن الواجب مسح الرأس كله، وأن الباء في قوله: بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6] للإلصاق لا للتبعيض، وهو محل خلاف بين الفقهاء والأصوليين.
أما إن كان سبباً فإنه لا يجب سواء دخل في الطوق أو لم يدخل فيه، فالسبب الداخل في الطوق كجمع المال حتى يبلغ نصاباً لوجوب الزكاة، فالزكاة سبب وجوبها ملك النصاب ودوران الحول عليه، فلا يجب عليك أن تجمع المال حتى يبلغ نصاباً لتجب عليك الزكاة؛ لأنه سبب ولو كان داخلاً في الطوق، وما ليس داخلاً في الطوق -كتغريب الشمس لتجب عليك صلاة المغرب- فلا يجب؛ لأنه من المحال ولا تكليف بالمحال، أما إن كان شرطاً فإن كان داخلاً في الطوق كالطهارة للصلاة فهو واجب، وإن خارجاً عن الطوق كالنقاء من دم الحيض والنفاس فلا يجب؛ لأنه خارج الطوق أصلاً لا يستطيعه المكلف، ثم قال المصنف: [ وبما لا يتم الفعل إلا به كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة المؤدية إليها ]؛ لأن الطهارة شرط للصلاة وهي داخلة في الطوق.
ثم قال: (وإذا فعل خرج المأمور عن العهدة) إذا فعل المأمور ما أمر به خرج عن العهدة، فإذا أتى بالمأمور به على الوجه الصحيح، أجزأه ولم يخاطب به مرة أخرى؛ لأنه قد أتى به على الوجه المطلوب فتبرأ ذمته منه.
قال: [ من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل ] قد يكون مقتضى الأمر، أي: ما يقتضيه ليس من فعل المأمور مباشرة، بل من فعل غيره، وقد يكون الأمر متناولاً بعض المأمورين دون بعض والنهي كذلك فعقد هذا الفصل لذلك، وهو في جزئيات باب الأمر والنهي.
فقال: [ يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون ] فإذا قال سبحانه: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43] فيشمل هذا كل مؤمن لله سبحانه وتعالى، إلا إذا كان متصفاً بما يمنع دخوله في العموم كغير المكلف، ومن رفع عنه القلم، فلا يدخل في هذا الخطاب، ولهذا قال: [ والساهي والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب ] فالساهي، أي: غائب العقل في وقت الخطاب، سواء كانت غيبته عميقة كالإغماء أو خفيفة كالسهو.
والصبي: وهو غير البالغ، والمجنون: المصاب بما يغطي عقله، فهؤلاء غير داخلين في الخطاب، وأما المريض مرضاً دون ذلك بحيث لا يستطيع أداء الفعل في وقته، والمسافر الذي هو بالخيار له أن يفطر وله أن يصوم، فقد اختلف في دخولهما، فقيل: يدخلان في الخطاب؛ لأنه يلزمهما القضاء، ومثل ذلك: الحائض فيما يتعلق بالصوم دون الصلاة، والحائض لم تخاطب بالصلاة لا أداءً ولا قضاءً ولم تخاطب بالصوم أداءً، ولكنها خوطبت به قضاءً، فالقضاء هل هو بأمر جديد أو بالأمر الأول؟ والمريض والمسافر: هل تعلق بهما الخطاب في الوقت الأول، أو تجدد لهما خطاب في وقت القضاء وهو الوقت الثاني؟ هذا محل خلاف عند الأصوليين.
قال المصنف: [ والكفار مخاطبون بفروع الشرائع ] الكفار غير معذورين بكفرهم، فهم مخاطبون بفروع الشرائع، أي: تفصيلاتها الزائدة على أصل الإيمان، فيدخل في ذلك الصلاة والصوم والحج إلى آخر.
قال: [ لأنهم مخاطبون بالإسلام ] وهذه المسألة محل خلاف بين الأصوليين: فذهب جمهورهم إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لقول الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ[المدثر:42-47]، فهؤلاء كفار؛ لأنهم قالوا: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) ومع ذلك مما سلكهم في النار ما بينوه عندما سئلوا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)، فتركوا الصلاة وتركوا الزكاة، (وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) وكانوا يكذبون،(وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ).
وقالت طائفة أخرى: هم غير مخاطبين بفروع الشريعة؛ لأنها لا تجزئهم ولا تصح منهم، فلو كانوا مخاطبين بها لأجزأهم فعلها، ومن المعلوم أن الكافر إذا صلى لا تصح صلاته، وإذا صام لا يصح صومه، وإذا حج لا يصح حجه، وإذا زكى لا تقبل منه زكاته: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان:23] ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ[الزمر:65] ، مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ[البقرة:217] .
قال: [ وبما لا تصح إلا به ] أي: مخاطبون بما لا تصح الفروع إلا به وهو أصل الإيمان، وهو الإسلام؛ لقول الله تعالى: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ[المدثر:43] ...الآيات.
لكن من المعلوم أن الكافر إذا أسلم لم يخاطب بقضاء شيء مما مضى، فلا يلزمه قضاء شيء من الماضي مع أنه كان مخاطباً به، لكنه إن مات على الكفر عذب على أصل الكفر وعلى الجزئيات التي تركها.
قال: [ والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده ].
(الأمر بالشيء نهي عن ضده) أي: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، فإذا قلت لك: قم فهذا نهي عن الجلوس وعن الارتفاق وعن الاتكاء، فهو نهي عن جميع الأضداد؛ لأنك لا تكون ممتثلاً إلا إذا فعلت ما أمرت به، فإذا فعلت أي ضد من أضداده لم تكن ممتثلاً، فكان الأولى أن يقول: والأمر بالشيء نهي عن كل أضداده.
(والنهي عن الشيء أمر بضده) أي: بأحد أضداده فقط، فإذا قلت لك: لا تقم، فإنك تكون ممتثلاً إذا جلست، وإذا ارتفقت، وإذا اضطجعت، فكل ذلك امتثال، فالنهي عن الشيء أمر بضد واحد من أضداده، أما الأمر بالشيء: فهو نهي عن جميع أضداده.
(والنهي) عقد هذا الباب للنهي: وهو ضد الأمر، فعرفه بقوله: [والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب]، فتعريفه ضد تعريف الأمر، (فهو استدعاء الترك) أي: طلب الترك، (بالقول) سواء كان باللفظ أو بالإشارة أو بالخط (ممن هو دونه) هذا شرط للعلو أو الاستعلاء، (على سبيل الوجوب) ليقتضي ذلك الجزم، والأولى عدم ذكر هذا في التعريف؛ لأن النهي أيضاً يطلق بقيد شيء -أي بقيد الجزم- فيدل على التحريم حينئذٍ.
وبقيد لا شيء -أي: بقيد عدم الجزم- فيدل على الكراهة، ولا بقيد شيء، فهو النهي المطلق الذي يشمل التحريم والكراهة.
قوله: [ ويدل على فساد المنهي عنه ] مقتضى الأمر التكليفي هو الوجوب -على الراجح- كما سبق عند الإطلاق، وقد يدل على الندب وقد يدل على الإباحة بالقرائن، والنهي مقتضاه التكليفي التحريم -على الراجح أيضاً- وقد يقتضي الكراهة، وأما مقتضاهما الوضعي فإن مقتضى الأمر الوضعي الصحة، ومقتضى النهي الوضعي البطلان والفساد.
ولهذا قال: (ويدل على فساد المنهي عنه) أي: يدل الأمر على فساد المنهي عنه، فإذا نهى الشارع عن أمر فليس لذلك الأمر حقيقة؛ لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، فيدل على فساد المنهي عنه، فلا يترتب عليه أي أثر؛ لأنه فاسد.
قال المصنف: [وترد صيغة الأمر والمراد به: الإباحة أو التهديد أو التسوية أو التكوين].
يقصد أن صيغة الأمر قد ترد لغير المعنى الأصلي؛ لقرينة تدل على ذلك، فقد ترد للإباحة كقول الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا[المائدة:2] ، فاصطادوا هنا لا تدل على الوجوب وإن كانت صيغة أمر، ولا تدل أيضاً على الندب، بل تدل على الإباحة.
وكذلك قد ترد صيغة الأمر للدلالة على التهديد، فلا يقصد بها حينئذ الأمر، كقول الله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ[إبراهيم:30] ، فليس هذا أمراً بالتمتع على حقيقته، بل المقصود به التهديد، ومثله: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[الكهف:29] فهذا للتهديد.
ويرد كذلك للتسوية، وهي: التسوية بين الفعل والترك، وذلك مثل قول الله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ[الطور:16] ، فاصبروا هنا ليس الأمر فيها للوجوب، بل هو للتسوية؛ بدلالة ما بعدها، فالقرينة المقالية اقتضت صرف الأمر عن معناه الأصلي.
قوله: (أو للتكوين) وهو الإيجاد، كقول الله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ[البقرة:65] ، فكونوا هنا ليس الأمر فيها للوجوب، وإنما هو للتكوين. والقرائن أكثر مما ذكر، بل هذه أمثلة للقرائن، ومثلها في النهي، فقد يرد النهي على غير ما هو له: قد يرد للكراهة، وقد يرد للتهديد ونحو ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر