إسلام ويب

دروس الحج يوم النحرللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله الحج لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ووقت له وقتاً معيناً لأدائه، وجعل له أركاناً وواجبات وشعائر وأذكاراً وأعمالاً نقوم بها، ونؤديها كما أمرنا بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    توجيهات وأحكام يوم النحر

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    ... فلذلك لا ترضوا عباد الله أن تتركوا حظكم من هذه الشعيرة العظيمة, واعلموا أن الشيطان حريص، وهو يحب أن تتركوا شيئاً من أركان دينكم، ويحب للناس أن يؤدوا بعض الدين وأن يتركوا بعضا, وفي ذلك رد على الله سبحانه وتعالى، وقد رضي بذلك اليهود عليهم لعائن الله حين تحققوا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحققوا رسالته فقالوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:150]، ولذلك رد الله عليهم بقوله: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ[آل عمران:72-73], وكذلك رد عليهم بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85], فاجتهدوا رحمني الله وإياكم بإكمال الشعائر والعناية بها جميعاً.

    واعلموا أن الحج خامس الأركان، فمن الذي يتقن الشهادتين, ولم يتقن الصلاة, ولم يتقن الصيام, ولم يتقن الزكاة, كيف يتقن الحج؟

    الجهة التي يرمى منها الجمرة وحكم تأخيرها

    ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الجمرة التي ترمى هذا اليوم وهي الجمرة التي تعداها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تجاوزها ثم عاد إليها فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, فإذا رماها الإنسان من غير الجهة التي ترمى بها، وهي الجهة التي بينك وبينها الجدار، بينك وبينها الحائط، هذه الجهة هي التي ترمى منها الجمرة, إذا كان بينك وبينها أشخاص فاصبر حتى تصل إليها, اصبر ولا ترمِ من بعيد حتى تصل ولا يكون بينك وبين الجمرة إلا الجدار، أو قليل من الناس لا يريدوا الرمي, فإذا وصلت إليها فارمها ولا ضرر بالتأخير, فالليل مختلف فيه هل هو أداء أو قضاء.

    فكثير من أهل العلم يرى أن الليل وقت أداء وحتى لو كان قضاء، فالراجح أنه لا يلزم الدم بالتأخير له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للعباس وأهل السقاية وأذن لرعاة الإبل في أن يجمعوا الرمي.

    وأيضاً فإن الدم إنما يلزم بترك الواجب، ومن رمى في وقت القضاء لم يترك، فحديث ابن عباس الذي أخرجه مالك في الموطأ عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ( من ترك نسكاً فليهرق دماً )، إنما فيه الترك، فمن أدى النسك في وقت القضاء فلا يلزمه الدم, فلذلك أَدوا نسككم رحمكم الله ولا تضيعوا فرص هذا اليوم فهو الأخير من الأيام العشر التي ما من أيام في السنة أحب إلى الله العمل الصالح فيهن من هذه الأيام، ولم يبقَ من هذه الأيام إلا ساعات معدودة, فاجتهدوا في ذكر الله وتلاوة القرآن، وتذكروا أن بقية هذا اليوم هو مثل بقية العمر، وقد قال أحد العلماء:

    بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمنِ

    يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

    فتذكروا أن بقية هذا اليوم هو مثل الخاتمة, فأحسنوا خواتمكم, واجتهدوا في إتقان بقية هذا اليوم؛ ليكون ختاماً حسنا لبقية الأيام العشر.

    حكم من فاته المبيت بمزدلفة وشك في رميه

    بالنسبة لمن توهم مكاناً من مزدلفة فبات فيه وصلى فيه، ثم تبين أنه ليس في مزدلفة فقد حصل الواجب ولا يلزمه شيء، لا يلزمه الدم ولا غيره, وكذلك من حبس في الزحام، فإن ابن القاسم ذكر في المدونة: أن من حبس ليلة العيد فلم ينزل بمزدلفة من أجل الزحام فإنه لا دم عليه, فلذلك لو أصبح الإنسان في عرفات أو في الطريق بينها وبين مزدلفة ولم يستطيع الوصول إلى مزدلفة في الليل فلا دم عليه, وكذلك من رمى الجمرة من الأعلى إذا تحقق أن الحصى يسقط في الأسفل في الحوض فإن رميه صحيح, فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى من فوق ناقته, وهذا دليل على جواز الرمي من الأعلى.

    وبالنسبة لمن رمى رمياً لم يتأكد من وصولها, هو رمى من الجهة الأخرى مثلاً! أو رمى من بعيد ثم تحلل فلا يلزمه فدية ولا دم, لكن عليه أن يعيد هذا الرمي سواءً في هذا المساء أو في الليل، وليس عليه دم, وهنا أذكر إلى أن التحلل الأصغر يحصل بأمرين من أمور هذا اليوم, فأمور العيد أربعه أعمال الحج اليوم أربعة:

    1.   

    أعمال الحج في أيام العيد وأحكامها

    الأول: رمي الجمرة العقبة. والثاني: نحر الهدي أو ذبحه. الثالث: الحلق أو التقصير. والرابع: طواف الإفاضة.

    فهذه أربعة أعمال هي أعمال هذا اليوم, ومن فعل منها اثنين فقد تحلل, إذا رمى الجمرة وحلق فقد تحلل, وإذا رمى الجمرة ونحر أو ذبح فقد تحلل, وإذا رمى الجمرة وطاف طواف الإفاضة فقد تحلل, لكن التحلل بغير طواف الإفاضة تحلل أصغر يمتنع معه النساء والصيد, وأما التحلل الأكبر فهو إذا طاف طواف الإفاضة، فإنه إذا طاف وتحلل التحلل الأكبر حل له كل شيء كان ممنوعاً عليه.

    وهذا ركن ركنه متسع، فيجوز تأخيره ما لم ينتهِ شهر ذي الحجة، ولا يلزم من ذلك الدم, ومن كان متمتعاً، أو كان من أهل مكة الذين أحرموا منها فإنه بقي عليهم السعي أيضاً بعد طواف الإفاضة, وكذلك من كانت ذات مانع من النساء فلم تطهر، فإنها إذا طهرت واغتسلت طافت طواف الإفاضة، وسعت بعده سعي الحج, ولا يجب في الحج إلا سعي واحد, السعي بين الصفاء والمروة إنما يكون في الحج مرة واحدة, المفرد والقارن يؤديه بعد طواف القدوم, والمتمتع ومن كان من أهل مكة يؤديه بعد طواف الإفاضة.

    ومثل ذلك المرهق وهو الذي جاء في وقت متأخر فشهد عرفة, ولم يستطيع أداء الطواف أي: طواف القدوم قبل عرفة، فإنه يؤخر سعيه ويؤديه بعد طواف الإفاضة, وكذلك بقي واجبان من واجبات الحج التي تجبر بالدم، ألا وهي المبيت هنا، ألا وهما المبيت هنا في هذه الليالي, فالليلة يجب مبيتها في منى, والمقصود بالمبيت أكثر الليل، أي: حوالي أربع ساعات من الليل، من وسطه، لا بد من المبيت هنا في منى وذلك واجب.

    حدود منى

    فالمبيت هذه الليالي بمنى, والمقصود بمنى حدودها كلها، فهي من جمرة العقبة إلى نهاية الوادي إلى جهة وادي محسر فلا يجوز المبيت خلف جمرة العقبة من جهة مكة, كما لا يجوز المبيت في وادي محسر، ولا في ما وراءه، أي: في حدود مزدلفة، فوادي محسر ووادي النار الذي أهلك الله فيه أبرهة وجنوده وهو مابين حدود منىً وحدود مزدلفة ، وهو الذي ينبغي الإسراع فيه، فمنىً إذاً هي ما بين هذين الواديين: وادي العقبة الذي حدوده الجمرة، ووادي محسر الذي هو بين منى و مزدلفة.

    قدر المبيت بمنى وحكمه

    والمبيت الواجب هو أربع ساعات من الليل، والأفضل أن تكون من وسطه فيجوز للإنسان أن يخرج بحوائجه أول الليل وفي آخره, لكن بشرط أن يكون قادراً على الرجوع على رجليه؛ لأن السيارات كثيراً ما تحصر عن دخول منى في الليل, فإذا أراد الإنسان مثلاً أن يطوف طواف الإفاضة, فإن كان ضعيفاً لا يستطيع المشي فلا يخرج في الليل, وإن كان قادراً على المشي فلا حرج أن يخرج أول الليل ويطوف طواف الإفاضة ويعود على رجليه إذا حبست سيارته فيدخل منى, وهذا المبيت لا يلزم فيه النوم، فيجوز للإنسان إذا لم يكن له مقر أن يسير على الأرصفة أربع ساعات من الليل وبذلك يتم المبيت الواجب بمنى.

    حكم رمي الجمار وكيفية رميها وما يستحب في الرمي

    أما الواجب الثاني: فهو رمي الجمار، وذلك في يومين على كل أحد وفي اليوم الثالث على من لم يتعجل, والجمار التي يجب رميها في الأيام القابلة هي الجمار الثلاث: الجمرة الصغرى، والوسطى، والكبرى, وطريقة رميها أن يبدأ الإنسان بالصغرى شرطاً ثم بالوسطى بعدها ثم بالكبرى أي: جمرة العقبة التي رميتم اليوم, وترتيبها شرط مثل ترتيب الصلوات.

    وهذا الرمي كل حصاة منه واجب يجبر بالدم، وهو كله واجباً واحد يجبر بالدم أيضا, والأفضل أن يصل الإنسان إلى الجمرة الصغرى فيحاول أن يستقبل القبلة, وليقف عند الجدار مباشرة ليس بينه وبينه من يرد رمية، ويرمي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, ثم ينفتل عنها قليلاً وراءها، ويقف للدعاء طويلاً قدر هذَّ سورة البقرة, والأفضل في هذا البكاء, فإن لم يستطيع البكاء فليتباكى, ثم ليسر بالسكينة والوقار إلى الجمرة الوسطى, ويستقبل القبلة أيضاً, ويحاول الاقتراب من الجدار حتى ما يكون بينه وبينه أحد, ثم يرمي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, ثم إذا انتهى منها تياسر قليلاً أيضاً للدعاء، وأطال الدعاء والبكاء قدر هذَّ سورة البقرة إن استطاع, ثم يمشي إلى الجمرة الكبرى التي رميتم اليوم, ولا بد أن يتعداها الإنسان ويأتيها من الجهة الغربية فإنها لا ترمى إلا من تلك الجهة.

    ولذلك تلاحظون أن الجمرتين الصغرى والوسطى وضع عليهما سور دائري، دائرة كاملة, ويمكن أن يرميا من كل جانب, أما الجمرة الكبرى وهي جمرة العقبة فالسور الذي عليها نصف دائرة فقط, والجهة التي فيها العمود لا ترمى منها الجمرة, إذا لم يكن بينك وبين العمود الجدار فاعلم أن رميك غير صحيح, ويرميها الإنسان بسبع حصيات أيضاً يكبر مع كل حصاة, ثم بعد ذلك ينفتل ولا دعاء عليه ويرجع إلى المخيم, فإذا أكمل من ذلك يومين غداً وبعد غد فقد كمل حجه إن كان متعجلا, لكن التعجل من شرطه أن يخرج من حدود منى قبل غروب الشمس؛ لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203] , فأتى بـ (في) التي هي حرف جر للظرفية, ومعنى ذلك أن التعجل لا بد أن يكون في داخل اليومين, أما إذا غربت الشمس على الإنسان وهو في منى قبل أن يتعدى جمرة العقبة فإنه لا يحل له التعجل؛ بل يجب عليه مبيت الليلة الثالثة ويجب عليه رمي اليوم الثالث.

    وإذا أكمل الإنسان ذلك فإن كان متعجلاً فلا تحصيب عليه, وإن كان متأخراً فيندب له عند المالكية أن ينزل بالمحصب محصب بني كنانة، وهو المسجد الكبير الذي عند أمانة العاصمة المقدسة بوادي الأبطح دون مقابر مكة, فينزل هنالك ويصلي أربع صلوات وهي الظهر، والعصر, والمغرب والعشاء.

    وقت الرمي وحكم من فاته بعض الرمي

    ومن المعلوم أن الرمي في الأيام القابلة يبدأ وقته من الزوال، والأفضل أن يبدأ فيه الإنسان قبل الصلاة إن كان مطيقاً قادرا, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالرمي قبل صلاة الظهر, ويستمر وقته بالاختيار إلى غروب الشمس, والليل مختلف فيه هل هو أداء أو قضاء، واليوم اللاحق قضاء قطعاً, فكل يوم يقضي فيه الإنسان عمل الماضي إذا لم يتقنه، وإن بقي على الإنسان حصاة واحدة من أية جمرة من الجمرات فليبدأ بالقضاء قبل الأداء.

    مثلاً! إذا بقيت عليك حصاة من رمي اليوم ولم تتذكرها إلا في الغد في وقت الرمي، فابدأ بتلك الحصاة التي هي قضاء عند جمرة العقبة، ثم اذهب إلى الجمار الأخرى فرتبها على ترتيبها, فالقضاء في هذا مقدم على الأداء.

    إذا استقر الإنسان بمحصب بني كنانة وصلى فيه الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، فليذهب حينئذٍ إلى مستقره في مكة ، وإن كان من أهل المدينة فالأفضل له تسريع الأوبة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الوداع في تلك الليلة ثم عاد إلى المدينة وقال: ( لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث ), فأعطى فرصة ثلاث ليال للمهاجرين أن يقيموا بـمكة, ومن المعلوم أن المهاجرين قد باعوا مكة لله سبحانه وتعالى، فلا يحل لهم المقام فيها أي: إقامة أربعة أيام صحاح بلياليهن لا يحل لهم هذا, ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم في مدة مقامه بمكة في أيام الفتح، وقد أقام فيها سبعة عشر يوماً كان يقصر الصلاة ولم يتمها؛ لأنه مهاجري لا يحل له المقام بمكة, فإنما استقر فيها لتهيئة الجيوش للغزو، ولتثبيت أركان الإسلام في مكة.

    وقت إحلال العمرة بعد أعمال الحج ومكان الإحلال

    ثم إذا كمل حج الإنسان وغربت الشمس من اليوم الأخير من أيام الرمي، وهو اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة, إذا غربت الشمس من ذلك اليوم وانتهت أعمال الحج بالكلية, فحينئذٍ بقي الوقت مفتوحاً للعمرة، لا يحل للإنسان أن يحرم بالعمرة قبل أن تغرب الشمس من اليوم الثالث عشر من أيام شهر ذي الحجة، وهو اليوم الثالث والأخير من أيام التشريق أي: أيام الرمي غداً وبعد غد والذي بعده.

    فإذا غربت الشمس يجوز للإنسان أن يحرم في عمرة عن نفسه أو عمن شاء من أهله, لكن لا بد أن يذهب إلى الحل فيحرم منه؛ لأن كل نسكٍ لا بد أن يجمع فيه بين الحل والحرم، فالحج تحرم فيه من مكة؛ لأنك ستقف فيه بعرفة وهي خارج حدود الحرم.

    أما العمرة فكل أفعالها بداخل الحرم فلا بد أن تخرج للحل، وأفضل الحل الجعرانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها في عمرته في ذي القعدة بعد غزوة حنين.

    وبعدها التنعيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يحرم بعائشة من التنعيم, ثم بعد ذلك عرفة ؛ لأنها أفضل مناطق الحل, ثم بعد ذلك ما شاء الإنسان من الحل, ومن المعلوم أن الحل هو ما وراء الحرم.

    بيان حدود الحرم

    وحدود الحرم متفاوت بتفاوت الطرق، فأقربها التنعيم إلى جهة المدينة فهو سبعة كيلو فقط من الحرم، وأبعدها البوابة التي إلى جهة جدة أي: آخر الحديبية، فهي اثنان وعشرون كيلو فهذا أبعد شي من الحرم, ودون ذلك مناطق متفاوتة فمنها ثمانية عشر كيلو من الجعرانة, وتسعة كيلو من عرفة وغير ذلك، فهذه هي حدود الحرم.

    وقد كان إبراهيم عليه السلام حددها, ثم جددها بعد ذلك قريش في الجاهلية, ثم جددت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدداً من كبار السن من قريش أن يجددوها، وأمر عليه الحويطب بن عبد العزى فجددوها أنصاب الحرم, ولم تزل الدول المتعاقبة تجددها, وقد كتبت اليوم على اللوحات، ووضع عليها الأميال المميزة لها فهذه هي حدود الحرم.

    وقد ذكر فقهاء المالكية أن من علامة حدود الحرم أن السيل الحل يقف دونه, كما قال خليل رحمه الله: ويقف سيل الحل دونه أي: إذا جاء السيل من الحل لا يدخل الحرم, أما سيل الحرم فيندفع إلى الحل, ولذلك يقول أحد الفقهاء:

    إن رمت للحرم المكي معرفة فاسمع وكن واعياً قولي وما أصف

    واعلم بأن سيول الحل قاطبةً إذا جرت نحوه من دونه تقف

    فلذلك تقف سيول الحل كلها دون الدخول في الحرم.

    أركان العمرة وواجباتها ومندوباتها

    ثم ينبغي أن نعرف أن العمرة لها ثلاثة أركان هي الإحرام من الحل, ثم بعده الطواف الذي هو مثل طواف القدوم, ثم بعده السعي من الصفا والمروة.

    أما واجباتها فهي: الحلق أو التقصير بعد نهاية الإحرام، بالإضافة إلى خلع المخيط، ويندب لها ما يندب للحج من التنظف والاغتسال، فهذا هو عمل العمرة لا يتجاوز هذا, وإن ترك الإنسان حلق العمرة أو تقصيرها، أو حلق الحج أو تقصيره حتى رجع إلى مكة فليأخذ من شعره حينئذٍ ولا يلزمه الدم إلا بالرجوع إلى بلده الذي جاء منه, إذا رجع إلى بلده الذي جاء منه ولم يقصر ولم يحلق لزمه الدم بترك هذا الواجب, وإلا فإن رجع إلى المدينة أو إلى جدة فتذكر أنه لم يحلق أو لم يقصر، فليبادر إلى ذلك وليفعل وهو مجزئ عنه.

    وينبغي أن نعلم أن التقصير هو أخذ جميع الشعر من قرب أصوله، هذا مذهب المالكية، أن التقصير هو أخذ جميع الشعر لقرب أصوله، ذلك أن يأخذ الإنسان بالماكينة جميع الشعر على رقم اثنين مثلاً! أو رقم صفر فهذا أخذ جميع الشعر من قرب أصوله، أما ما زاد على ذلك بأن يأخذ بالمقص مثلاً، أو نحو هذا فلا يسمى ذلك تقصيراً؛ لأنه ليس أخذاً لجميع الرأس، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27], فقد عطف قوله (مقصرين) على قوله (محلقين رءوسكم) وإن كان مفعول مقصرين محذوفاً إلا أنه يدل عليه مفعول محلقين، فدل ذلك على أن المقصود تقصير جميع الرءوس لا تقصير بعضها فقط, إذاً هذا هو الباقي علينا إن شاء الله تعالى من أعمالنا هنا.

    حكم من لم يسأل عما يجهله من الدين

    لكن جدير بنا ونحن في هذا السياق، نرى حرص كل إنسان منا على طلب العلم وحضور الذكرى والدروس, ونرى كذلك الحرص على إجابة الأسئلة أن نتذكر أن طلب العلم واجب وأنه مطلوب في كل مكان, فحرصكم الآن على السؤال عما يعنيكم من أمور دينكم لا ينبغي أن يكون مقصوراً على الحج, بل لا بد لكل من عرض له عارض من أمر الدين أو الدنيا لا يعرف حكمه أن يبادر إلى سؤال أهل الذكر عنه فقد قال الله تعالى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43], وهذا السؤال نصف العلم، وهو واجب يأثم الإنسان بتركه؛ لأن الله تعالى وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36], وتعرفون أن الأخضري رحمه الله قال في مقدمته: ولا يحل له أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه, ويسأل العلماء، فيجب على الإنسان إذا جهل أمراً من أمور الدين أن يبادر للسؤال عنه فإن تعلمه بادر للعمل به.

    ثم كذلك علينا عباد الله أن نحرص على سماع الذكرى، فإن كثيراً منا يظن أن الذكرى إنما يطالب سماعها في الحج ونحوه من المواسم، وإذا كان في بيته وحوله مسجد من مساجد الله تقام فيه الدروس، والعبر والمواعظ فلا يشهدها ولا يحضرها، وهذا غلط كبير ونقص عظيم في أمور الدين، فعلى الإنسان أن يتجاوزه وأن يتوب إلى الله منه.

    1.   

    أحوال الناس في سماع الذكرى والموعظة

    ثم علينا أن نعلم أن الناس في الذكرى على أربعة أقسام:

    القسم الأول من أحوال الناس في سماع الذكرى

    القسم الأول: الذين لا يتحملون سماع الذكرى بآذانهم، يفرون منها كما يفرون من المجذوم أو من الأسد، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51], فالمشركون لا يتحملون سماع الذكرى، إذا سمعوا قائماً يذكر بالله ويدعو إليه نفروا منه وفروا، ورأوا أنه أتى بأمر منكر، فلذلك لا يتحملون سماعه يخرجون من المسجد إن كانت الذكرى في المسجد، ويفرون منه غاية الفرار، وهذا دليل على أن القلب ميت، وأن الإنسان لم يأخذ طريق الرشاد؛ بل أخذ طريق الغي نسأل الله السلامة والعافية.

    فالذي يفر من الذكرى قد سلك طريقاً من طرق الغي لا محالة، وقد قال الله تعالى سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146].

    القسم الثاني من أحوال الناس في سماع الذكرى

    القسم الثاني: من أقسام الناس بالذكرى، الذين يستطيعون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن أذنهم غير أمينة فلا توصلها إلى قلوبهم, يسمعونها بالآذان وينتهي السماع مع المجلس فقط، وهؤلاء هم المنافقون الذين ختم الله على قلوبهم كما قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16], فالذين يسمعون الذكرى بآذانهم، لكن القلوب مطبوع عليها لا تبلغها الذكرى، فلا عين تدمع ولا قلب يخشع ولا يتذكر الإنسان شيئاً مما سمع، هؤلاء الذين ختم على قلوبهم وطبع عليها فالآذان غير أمينة، فلا تنقل الذكرى إلى القلوب, والقلوب كذلك غير حية بل هي مريضة أو ميتة, فلذلك لا تتحمل سماع الذكرى بوجه من الوجوه, ولهذا قال الله تعالى: ومنهم أي: من المنافقين طائفة من يستمعون إليك مجاملة، حتى إذا خرجوا من عندك بعد انتهاء الذكرى والدرس خرجوا من عندك قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [محمد:16]، أي: الذين استمعوه فأفادهم، فهؤلاء هم الذين أتوا العلم, فالذين أتوا العلم من هم؟ هم الذين سمعوه وانتفعوا به, قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد:16], كأنهم لم يدركوه ولم يعقلوه ولم يشهدوه ولم يحضروه: مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [محمد:16].

    القسم الثالث من أحوال الناس في سماع الذكرى

    أما القسم الثالث، من أقسام الناس في الذكرى، فهم الذين يفصلون فيها: إذا سمعوا مذكراً يعجبهم استمعوا له، كأهل الجاهلية من أهل مكة والطائف عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ[الزخرف:31-32]، فالذين يفصلون بالذكرى يريدون السماع من بعض الناس، يحلو لهم أن يسمعوا من بعض الناس دون بعض هؤلاء لم ينتفعوا بالقول؛ لأنهم ظنوا أن الحق يعرف بالرجال، والوقع أن الرجال هم الذين يعرفون بالحق.

    ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7], ألم يفكر بعضكم في الصلاة لماذا هذا التكرار؟ أنتم تعرفون أن أبلغ الحديث كلام الله, وأن أبلغ القرآن هذه السورة، فهي أعظم سورة في كتاب الله سورة الفاتحة, فلماذا يقع فيه التكرار؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7], إنما جاء ذلك التكرار؛ لنعرف الحق دون الرجال ثم بعد ذلك نعرف الرجال بالحق, لو قال الله تعالى: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لظننا أن الصراط لا يعرف إلا بالرجال, لكن لما قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6], عرفنا الصراط باستقامته, ثم بعد ذلك أضافه للرجال فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7], فالحق أبلج يعرف بذاته, والرجال يعرفون بقدر ما أتاهم الله من لزوم الحق.

    القسم الرابع من أحوال الناس في سماع الذكرى

    ثم القسم الرابع من أقسام الناس في الذكرى: وهم الذين يستمعون إلى كل مذكر ولا يفصلون في ذلك، فقلوبهم مشتاقة إلى ما يذكرها ببارئها سبحانه وتعالى، مشتاقة إلى ما يصرفها عن الانشغال بغير الله، تحب السماع عن الله سبحانه وتعالى حتى لو كان العهد جديداً، إذا كان الإنسان في الصلاة مع الله فسمع مذكراً بعد الصلاة يتذكر ما قال الشاعر:

    وأسأل عنها الركب عهدهم وعهدي.

    فهو مشتاق إلى الله سبحانه وتعالى في كل مجالسه، ويحب أي حديث يذكر فيه اسم الله, يحب أي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, يحب أي حديث عن أمرٍ من أمور الدين, فلذلك لا يستعجل هو أمر الدنيا عن أمور الدين يستمع إلى كل مذكر، فإذا ما يقوله صحيحاً حسناً انتفع به ولله الحمد, وإلا فقد حصلت له مزية الاستماع, ثم إن أراد مزية أخرى فلينكر المنكر من القول، وليرد الغلط مما قاله القائل, وهؤلاء هم الذين بشرهم الله بالبشارة العظيمة إذ قال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18], وقال فيهم: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:9-10], أي من يخشى الله, الذين يخشون الله على الإيمان والتقوى، هم أول من ينتفع بالذكرى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى:10-11], الذي يتجنب الذكرى شقي لا محالة، بل هو أشقى بصيغة أفعال التفضيل التي تدل على الزيادة - نسأل الله السلامة والعافية-, وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13], وقال فيهم: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11], إنما تنذر، وهذا خطاب لكل منذر ليس مختصاً بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل هو لكل منذر: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11], الذي اتبع الذكرى وكان من أهل القرآن يؤتيه الله فرقاناً يميز به بين الحق والباطل، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [الأنفال:29], فأهل القرآن والإيمان يعطيهم الله برهاناً يميزون به بين الحق والباطل مما يسمعون, فإن سمعوا الحق اتضح لهم وعرفوه, وإن سمعوا الباطل أنكروه, لكن ليس الأعراض مدحاً، بل لم يذكر الله الإعراض عن السماع إلا في حق الكفار: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26].

    أما السماع فقد امتدح به مطلقاً, فقد قال: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان:73], وقال: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55], فهم أهل الإيمان والتقوى من قبل لكنهم ينتفعون بالذكرى، فهي بمثابة المسك الذي إذا كرر تضوع, كما قال الشاعر:

    أعد ذكر نعمان إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع

    القرآن لا يمل سماعه وتلاوته

    ولذلك لا حظوا أن هذا القرآن هو أبلغ ما يذكر به وأبلغ ما يجاهد به.

    وأنا متأكد أن الشيخ محمد محيودان الآن لو قرأ علينا أية آية من كتاب الله، لا شك أن كثيراً منكم ستقرع أسماعهم كأنما يسمعونها لأول وهلة، لماذا؟ لأن هذا القرآن يزداد حسناً على تكراره ولا يمل, وهي معجزة من معجزاته, ولذلك قال الإمام الشاطبي رحمه الله:

    وبعد فحبل الله فينا كتابه فجاهد به حبل العدى متحبلا

    وأخلق به إذ ليس يخلق جدة جديداً مواليه على الجد مقبلا

    وقارئه المرضي قر مثاله كالأترج حاليه مريحـــــــاً ومــــــــــوكلا

    هو المرتضى أما إذا كان أمة ويممه ظل الرزانة قنقلا

    فيا أيها القاري به متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا

    هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج و الحلى

    فما ظنكم بالنجل عند جزائه أولئك أهل الله والصفوة الملأ

    ألوا البر والإحسان والجود والتقى حلاهم بها جاء القرآن مفصلا

    عليك بها ما جئت فيها منافساً وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلى

    فهذا القرآن كما قاله: وترداده يزداد فيه تجملا، كلما ردده الإنسان كلما تذوق من المعاني الجديدة، وكلما تطفل على مائدة الله التي لا تنفذ, ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: أيها الناس إن هذا الكتاب مائدة الله في الأرض, فتطفلوا على مائدة الله، فهو أحدث الكتب بالله عهدا، أبينها بيانا, وأوضحها حلالاً وحراما, وأفصحها عبارة, وأوضحها إشارة.

    معنى رفع القرآن وكيفية رفعه

    فلذلك لا بد إن نتمسك به وحبل الله المتين, من تمسك به عصم, ومن تركه من جبار قصم الله ظهره, إما أن يكون شافعاً مشفعاً, وإما أن يكون ماحلاً مصدقا, ونحن في زمان قد اقتربت فيه الأشراط الكبرى، وأقترب أن يرفع هذا القرآن من بين أظهرنا، ولا خير فينا إذا رفع, فإنه لا محالة سيسرى عليه فيطمس من القلوب والمصاحف, وقد قال الله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86], وأنتم تعلمون أن من رفعه ألا تطبق أحكامه في النهار، وألا يقام به في الليل، وهو الآن قد وقف بثنية الوداع، وهم قبلي مثله بالإقلاع, فبادروا رحمني الله وإياكم لتدارك ما بقي من كتاب الله.

    فنحن نعلم أن المدارس النظامية في بلادنا بينها وبين القرآن عداوة؛ لأن القرآن إنما يسهل حفظه في أيام الصغر، فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر, ولذلك فإن كثيراً من علمائنا الأبرار كانوا يحذرون التعلم في المدارس على الصغار غاية الحذر؛ لئلا يشغلهم ذلك عن تعلم القرآن.

    ولهذا فإن العلامة الشيخ عبد الله بن داداه رحمة الله عليه، كان يخاف أن يرفع القرآن بسبب المدارس، وقد ذكر لي بعض من يعرفه أنه كان يخاف أن يكون الانشغال بالمدارس بداية رفع القرآن؛ لأن الناس سينشغلون عنه, وهذا الذي توقعه الشيخ وإن كان هو رحمه الله لم يعيش حتى يدركه فقد أدركنها نحن, فكثير من الأولاد الذين يمكن أن يعد لهم سبعة آباء وثمانية من حفظة كتاب الله اليوم، لا يحفظون القرآن، وهذا مؤشر خطر جداً يدل على أن هذا القرآن سيرفع, فلذلك لا بد أن نبادر لتحفيظه وحفظه وليس للإنسان سن ينتهي إليها من حفظ القرآن.

    ولذلك سئل الجنيد رحمه الله: متى يقبح الطلب أي: طلب العلم؟

    قال: متى حسن الجهل؟ إذا حسن الجهل حينئذٍ يقبح الطلب, ولا يمكن أن يقبح هذا الطلب أبداً؛ لأن الجهل لا يمكن أن يحسن, فلذلك لا بد أن نحرص على حفظ القرآن وعلى تحفيظه لأهالينا وذوينا.

    فضل من تعلم القرآن وعلمه

    وأن نعلم أن الذي يحفظه هو أعظم الناس وظيفة, فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ), هل بعد هذا مزية أن يكون الإنسان خير هذه الأمة، خيركم من تعلم القرآن وعلمه.

    وكان أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وهو الذي روى هذا الحديث يرتفق آخر الليل في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، وهو الخليفة الإمام مع ذلك يريد أن يكون معلماً للقرآن، ومن المؤسف جداً أن كثيراً من الناس في زماننا هذا يظنون أن أقل المهن ريعاً ومردودية هي مهنة محفظ القرآن، ولا يعطى من الرواتب إلا أقلها، فهو في سلم الوظائف في آخر القائمة فوقه السائق والطباخ والحارس والفراش وغير ذلك, وهذا لا شك انقلاب في المفاهيم، وانعكاس في الفطرة لا يقبله عقل ولا شرع، فالذين يقرؤون القرآن ويعلمونه هم أفضل هذه الأمة، وهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ كتاب ربه إلى الناس, فلذلك لا بد أن تقدر لهم منزلتهم، وأن يعلم أن احترامهم من احترام كتاب الله، وأن تقديرهم من تقدير النبي صلى الله عليه وسلم, فلذلك علينا جميعاً أن نحرص على الازدياد من كتاب الله, وأيضاً فعلينا أن نعلم أن كثيراً من الذين كانوا يحفظون القرآن في بلادنا لم يكونوا يعتنون بتجويده.

    ولهذا فإن العلامة محمد فال بن بابا بن أحمد بيبا رحمه الله لما سافر فسمع تجويد المصريين للقرآن وغيرهم وأعجبه ذلك، رجع فذكر أن بعض الحروف يقع فيها الخلل في البادية في تلفظ أهلها بها، ورأى أن أهل تلك البلاد بحاجة إلى تصحيح التجويد, ولذلك اعتنى كثير من العلماء بتصحيح هذا التجويد، فإن كثيراً من الناس يظنونه غير واجب, وقد قال ابن الجزري رحمه الله:

    والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم

    فالله تعالى يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4], فلذلك لا بد أن نتقنه, وأن نتقن أيضاً مخارج حروفه, وأن نتقن صفاته, وأن نتعلم ذلك فلا عيب على الشيخ الكبير إذا جاء يقرأ الفاتحة حتى تصلح له الحروف والمخارج والصفات، فهذا مما لا عيب فيه، وهو من أبلغ ما يشتغل به وأهمه.

    ثم علينا كذلك أن نعلم أن أركان الإسلام كما نبهت بعد صلاة الظهر خمسة، والناس اليوم يؤدون الحج بعناية محمودة مشكورة إن شاء الله, لكن لا بد من العناية بالأركان الأخرى، فمثلا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي الركن الأول الذي هو شرط للأركان الأخرى, وهذه الشهادة كثير من الناس لا يتقنها فالشهادة مسؤولية عظيمة.

    أنتم تعلمون أن من أكبر الكبائر شهادة الزور، فلا بد أن يكون الإنسان إذا شهد يعرف مقتضى شهادته.

    1.   

    مقامات الشهادة

    والشهادة أياً كانت لها أربع مقامات، أربع مستويات في مستويات الشهادة:

    المقام الأول من مقامات الشهادة

    المستوى الأول: والمقام الأول: هو أن يعرف الإنسان معنى ما يشهد به؛ لأن الإنسان الذي يجهل الشيء ولا يعلمه لا يحل له أن يشهد به، فقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81], وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86], فلا بد للشاهد أن يكون عالماً بما يقول, أما الذي يجهله فشهادته باطلة؛ لأنه يشهد شهادة الزور, فإذاً لا بد من العلم بما يقول الإنسان.

    وقد أخرج البيهقي في السنن بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع ), الشهادة إنما تكون مثل الشمس، شيء يوقنه الإنسان غاية اليقين, إذاً المقام الأول هو معرفة هذه الشهادة, معرفة ما تشهد به.

    المقام الثاني من مقامات الشهادة

    المقام الثاني: هو النطق أن يتلفظ الإنسان بها مؤدياً لها؛ لأن من أُتمن على شهادة فلم يؤدها خائن، فقد قال الله تعالى في آية الطلاق: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2], فيجب على الإنسان أن يؤدي الشهادة كما تحملها, فلذلك لا بد أن يؤديها، وقولها في الأصل فرض مرة في العمر, لكنه مع ذلك لازم في كل الأوقات، وهي أفضل ما يتلفظ به الإنسان, وينبغي أن يجعل الإنسان في هيجيراه لا إله إلا الله، وكانت هيجيرا أبي بكر لا إله إلا الله، والهيجيرا الكلام الذي يقوله الإنسان إذا استيقظ, وإذا غفل, وإذا سها, وإذا تألم, وإذا أحس بأي شيء, الكلمة التي تجري على لسان الإنسان عندما يرتاع, وعندما يتألم, وعندما يستيقظ, وعندما يتحرك أية حركة هذه هيجيرا, فينبغي للإنسان أن يجعل في جيراه لا إله إلا الله, فأنتم تعلمون أن كثيراً من الناس هيجيراه الدعاء بالويل, نسأل الله السلامة والعافية.

    إذا تألم دعا: يا ويلاه, وهذه هيجيرا مذمومة؛ لأن الإنسان قد يموت عليها، فما من ألم أشد من ألم نزع الروح عند الموت, ولذلك مثله عمرو بن العاص رضي الله عنه بمن وضع على صفاةٍ فقال: كأني وضعت على الأرض بالسواء ووضعت السماء علي وكأن روحي تخرج من خرق إبرة وكأن الشوك يجر في داخل مخي, ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات ).

    فلا بد أن نعلم أن أشد ألم يتألمه الإنسان هو ألم الموت عند النزع, فلذلك إذا تألم دعا: يا ويله، فسيقول ذلك عند الموت, لكن إذا كان هيجيراه: لا إله إلا الله فسينطلق بها لسانه إذا تألم ألم الموت.

    المقام الثالث من مقامات الشهادة

    ثم المقام الثالث ومن مقامات الشهادة: هو الالتزام بمقتضاها، أن يلتزم الإنسان في خاصة نفسه بمقتضاها, فأنت إذا شهدت أنه لا إله إلا الله، وشهدت أن محمداً رسول الله، فما تقتضيه هذه الشهادة منك إذا لم تؤده فقد شهدت على نفسك, وكنت أول الشاهدين على نفسك, ولا إله إلا الله إذا لم يقم الإنسان بمقتضاها فإنها تلعنه على لسانه، فيأرب قولٍ يقوله الإنسان وهو يلعنه ويبرأ منه؛ لأنه لا يقوم بحقه, فلذلك لا بد أن تلتزم مقتضاها في خاصة نفسك.

    المقام الرابع من مقامات الشهادة

    ثم بعد هذا المقام الرابع: من مقامات الشهادة: وهو إلزام الغير بمقتضاها، لا بد أن تسعى لتكثير سواد أهل لا إله إلا الله, وإن تسعى لالتزام الناس بمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا لم تفعل فلست من جنود محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنك لست مقتنعاً بشهادة أن لا إله إلا الله حين لم تسعَ لإقناع الآخرين بها, أنتم تعرفون الآن أن من اقتنع منا أن الطريق إلى هذا الاتجاه، ورأى آخرين يسيرون إلى اتجاهات أخرى، فإنه إن كان ناصحاً صادقاً سيدلهم على الطريق، ويقول: يا إخواني ضيعتم الطريق، يا هادي الطريق جرت أو حرت، إنما أمامك الفجر أو البحر، ويدلهم على الطريق, إلا إذا كان غاشاً لهم غير ناصح، وقد أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم البيعة بالنصح لكل مسلم , فلذلك لا بد من إلزام الغير بمقتضى هذه الشهادة, هنا نصل إلى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الذي يلزم إن تلتزم به في نفسك ويلزم أن تلزم به الغير.

    1.   

    مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله

    ما هو هذا المقتضى؟ هذا المقتضى سبعة أركان سبعة مقتضيات، أربع منها هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وثلاث هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.

    المقتضى الأول لشهادة أن لا إله إلا الله

    أما مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، فأول مقتضى منها: ألا يصرف شيء من خصائص الألوهية إلا لله وحده, فأنت شهدت أنه لا إله إلا هو، فمعنى ذلك أن لا تصرف شيء من خصائص الألوهية إلا له.

    وخصائص الألوهية: منها العبادة، فالعبادة لا بد أن تصرف لمستحقها وحده لا شريك له, فلا يمكن أن يصرف الإنسان شيئاً من عباداته أياً كان ذلك الشيء لغير الله, لا بد أن يكون نذرك لله، وصلاتك لله, وحجك لله, وزكاتك لله, وصومك لله, وذكرك لله, وقراءتك لله, وإنفاقك على أهلك لله, وكل أعمالك لله رب العالمين لا شريك له: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].

    ومن هنا لا بد أن نتذكر أن كثيراً منا الآن يتصورون أن أصعب الأشياء، وأصعب الامتحانات هو الموت في سبيل الله، الشهادة في سبيل الله, لكن الواقع أن الحياة في سبيل لله أصعب وأعظم من الموت في سبيل لله؛ لأنه قال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، فالمحيا في سبيل لله شاق جداً؛ لأنه يقتضي من الإنسان أن يحفظ الرأس وما وعى, والبطن وما حوى, وأن يؤثر الآخرة على الأولى, وأن يكون متأدباً مع الله في تعامله, وأن يكون على أنسٍ به واتصالٍ في كل أحواله, فهذا الذي يكون حياً لله, يمسك عينه عما لا يرضى الله, يمسك سمعه عما لا يرضى الله, يمسك جوارحه كلها عما لا يرضى الله, فهذا هو الحياة لله رب العالمين لا شريك له.

    الدعاء من خصائص الألوهية

    ثم كذلك لا بد أن نعرف أن الدعاء من خصائص الألوهية، فقد قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14], وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57], وقال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38], فلذلك لا بد أن يكون دعاؤنا لله رب العالمين وحده لا شريك له, فقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6], وقال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36].

    فلذلك على الإنسان أن يطهر لسانه من دعاء غير لله, نحن نعلم أن كثيراً منا لا يعتقد بقلبه إلا ألوهية الله وحده, ولا يعتقد لمخلوق نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الخالق، لكن يجري على الألسنة في كثيرٍ من الأحيان كثير من دعاء غير الله، وهذا ممنوع مردود على أصحابه، فهو بذاته مخالف لشهادة أن لا إله إلا الله.

    المقتضى الثاني من مقتضيات الشهادة

    ثم بعد هذا المقتضى الثاني من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: ألا يشرع إلا الله، فهو الحكم العدل وحده: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114], فالله وحده هو الذي يحل وهو الذي يحرم, فكل قانون يحل ويحرم من دون ما أنزل الله فهو شرك بالله يقول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21], وكل قانون يحل ويحرم من دون الله فهو دين آخر غير دين الله, ألا تذكرون قول الله تعالى في قصة يوسف : كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76], في دين الملك أي: في قانونه، إلا أن يشاء الله, فكل قانون فيه إباحة وتحريم من دون شرع الله, فهو شرك بالله سبحانه وتعالى، ودين آخر غير دين الإسلام.

    ومن هنا فعلينا أن ننكر بقلوبنا وألسنتنا كل قانون لفظي، وأن نبرأ منه لله رب العالمين وحده, وأن نحرص على تطبيق قانون الله وشرعه, وأن نبذل في سبيل ذلك, إذا كنت يا أخي لا تستطيع إلا أن تدعو بأن تسود هذه الشريعة أهل الأرض, وأن يتحاكموا إليها فهذا الدعاء يجب عليك, وإذا كنت تستطيع أن تطالب بذلك فتلك المطالبة واجبة عليك لا تعذر بتركها, ومن هنا فعلينا عباد الله أن نعلم أن المطالبة بإقامة شرع الله على الأرض هي فريضة على المسلمين، ومن تأخر فيها فهو آثم, فكل قادر عليها يلزمه أن يفعل, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما سيقع في آخر الزمان من تعطيل شرع الله، وذكر أنه من أنكر برئ لكن من رضي وتابع, من رضي وتابع فإنه لا يبرأ أن يكون معهم فيما هم فيه من التشريع, نسأل الله السلامة والعافية.

    عاقبة الحكم بغير ما أنزل الله

    فلذلك لا بد أن ننكر كل تشريع من غير شرع الله، وأن ننكره بقلوبنا وألسنتنا, وأن نبرأ إلى الله منه بالكلية, وأن نعلم أن تعطيل أي حكم من شرع الله, وأي حد من حدوده هو رزية كبيرة يصاب بها أهل الأرض, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه أحمد في المسند و ابن ماجه في السنن و ابن حبان في صحيحة و ابن خزيمة في صحيحه و الحاكم في المستدرك من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( يا معشر المهاجرين أعيذكم بالله أن تتركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن في من مضوا من أسلافهم, وما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة, ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم, وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا, وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).

    فما تشهدونه من الخلافات والشحناء والبغضاء في المجتمعات المسلمة اليوم، ما سببه؟ أن أئمتهم لم يحكموا بما أنزل الله, وقد قال الله تعالى في كتابه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], هذا قسم من الرب سبحانه وتعالى, ومن أصدق من الله حديثا, ومن أصدق من الله قيلا, فلذلك أقسم فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    المقتضى الثالث للشهادة

    ثم المقتضى الثالث من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: أن يحب الله حب الإلهية، إن كثيراً من الناس يظنون أن حق الله هو أن يعبد، لكنهم لا يحبون الله, فحبهم له ناقص, والواقع أن القلوب لا بد أن تمتلئ بحب من خلقها وبرأها, وهذا الحب لا يمكن أن ينال إلا بالرياضة والتدرب، فالإنسان ما لم يتدرب على محبة الله, ومناجاته, والخشوع بين يديه, والتذلل له, وأيضاً حتى الدعاء له بالضراعة وحتى لا يتعود لسانه على الثناء عليه لا يمكن أن يحبه.

    وحب الله يحصل بعشرة أسباب: أعظمها الصلاة له، فالسجود يقترب فيه الإنسان من ربه, وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, فذلك مما يزيد حب الإنسان لله.

    الثاني: الدعاء، أن ينهج إلى الله بالدعاء، ويضرع بين يديه, فذلك هو العبادة وهو مما يزيد حبه لله.

    ثالثاً: تذكر النعم، أن يتذكر نعمة الله عليه, فإذا لم يكن لئيماً فلا بد أن يحبه، فلإنسان إذا أحسن إليه آخر غاية الإحسان, أليس سيحبه, وما من أحدٍ أكثر إحساناً ولا نعمةً من ربنا سبحانه وتعالى، فهو أرحم الراحمين, النعم كلها من عنده وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53], وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34], فإذاً هو يستحق في ذلك أن يحب.

    ثم بعد هذا: تذكر الخوف منه، فالخوف منه يقتضي محبته؛ لأنك تحذر عقابه, ولا ينجيك من عقابه إلا محبته, فتذكر خوفه وتذكر سلطانه وعظمته وجلاله وما بيده, فتذكر كل ذلك, تذكر أنه الملك الديان الحي القيوم الذي لا يموت, والإنس والجن يموتون.

    أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق, وأن يصرف عنا سيئها لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا هو, وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا, وأن يجعلنا من المقبولين الفائزين وألا يجعلنا من المردودين الخائبين، وأن يجعل حجنا مبرورا وسعينا مشكورا, وأن يردنا إلى هذا المكان أعواماً عديدة وسنوات مديدة، موفقين طائعين, مقصرين رؤوسنا ومحلقين.

    نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يهدينا لاتباع سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, وأن يجعلنا في قرة عينه, وأن يجمعنا به, وأن يجعلنا من المبعوثين تحت لوائه, وأن يحشرنا في زمرته, وأن يسقينا من حوضه شربةً هنيئةً لا نظمأ بعدها أبدا.

    نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتم حجنا على الخير, وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم, وأن يغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان, ولمن أوصانا على الدعاء, ولمن عاهدنا عليه ولمن يستحقه علينا.

    وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768231392