إسلام ويب

الضوابط الشرعية لفهم الكتاب والسنة [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مستويات الناس في فهم الأدلة من الكتاب والسنة متمايزة ومتباينة، فالذي لا يفهم العربية أصلاً، هذا حظه من دلالة النصوص التقليد في دلالتها كما يقلد في نقلها ، ومن يفهم العربية على مراتب: الأولى: هي التي يسميها أهل الأصول بالمتبصر، وهو الذي لا يستطيع استنباط الأحكام من الأدلة، لكنه يستطيع الربط بين الحكم ودليله. والثانية: هي مرحلة الفقه، بأن يفهم الإنسان النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مرتبطاً بما معه من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويتأثر بذلك إيمانه ويبادر لتطبيقه، ثم بعد هذا من يسمى بمجتهد الترجيح، وهو مقلد في الواقع في داخل المذاهب، لكنه يستطيع ترجيح بعض الأقوال على بعض

    1.   

    تفاوت أهل العلم في فهم دلالات القرآن

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فبعد أن ذكرنا أنواع التفسير في القرآن، وأهل العلم المختصين بتفسيره، نتناول الآن فهم هؤلاء العلماء لدلالات القرآن، فأهل الرسوخ في العلم يتفاوتون في فهم الدلالات، فمنهم من يصل إلى مستوى الاستنباط من الإشارات لا من الألفاظ فقط، وهم قلائل أندر من السابقين، من فهم العبارة ثم فهم الإشارة بعد العبارة، وهؤلاء منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد فهم من قول الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[البقرة:233]، مع قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً[الأحقاف:15] أن أقل أمد الحمل ستة أشهر، وهذا ليس من دلالة أي لفظ من الآيتين، ولكنه من دلالة الإشارة فقط؛ لأنه جعل الإرضاع سنتين وجعل الحمل والإرضاع ثلاثين شهراً، والسنتان إذا أخذتا من ثلاثين شهراً لم يبقَ إلا ستة أشهر، فلم يترك للحمل إلا ستة أشهر، فهذا النوع من الفهم، هو فهم إشارات النص.

    ومثله فهم مالك رحمه الله جواز الإصباح جنباً من قول الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة:187]، قال: قد أباح الله الأكل والشرب والجماع طيلة الليل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلم يترك وقتاً للغسل، إذا كان الإنسان يجوز له الجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر لم يبقَ له وقت للغسل فدل على جواز الإصباح جنباً، وليس هذا من دلالة اللفظ، وإنما هو من دلالة الإشارة فقط.

    ومثل هذا دلالة التنبيه وهي التي يسميها كثير من الأصوليين بدلالة الإيماء، وهي أن يدل اللفظ على إشارة من التعليل وعلى العلية، اللفظ قد يدل على التعليل فقط أن الحكم معلل، ولكنه لا يدل على العلة، وقد يدل على التعليل والعلية معاً، يدل على أن الحكم معلل وعلى أن علته كذا، ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[الانفطار:13-14]، فارتباط الحكم بوصف مشتقٍ يدل على أن ما اشتق منه الوصف هو علة الفقه، معناه: إن الأبرار لفي نعيم لبرورهم، وإن الفجار لفي جحيم لفجورهم، فالبرور هو سبب دخول الجنة وسبب النعيم، والفجور هو سبب دخول النار، وهذا ليس دلالة صريحة ولا هو نص، لكنه إنما دلت عليه الآية بارتباط الحكم بالوصف المشتق، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[الانفطار:13-14].

    الجهات التي يبحث فيها في الأدلة من الكتاب والسنة

    ومستويات الناس في هذا متباينة متمايزة، يمكن أن نفصلها بالأرقام ليكون ذلك أدعى للانتباه.

    فالرقم الأول في الناس في فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم من لا يفهم العربية أصلاً، المطبق الذي لا يفهم العربية، فهذا حظه من دلالة النصوص التقليد في دلالتها كما يقلد في نقلها؛ لأننا ذكرنا أن الكتاب والسنة يبحث فيهما من جهتين: جهة الورود، وجهة الدلالة، وجهة الورود معناها: الثبوت.

    جهة ورود القرآن الكريم إلينا

    ونحن في القرآن حصل لدينا العلم الجازم بالتواتر به، وهو معصوم محفوظ؛ فلا يحتاج اليوم إلى التفصيل في الأسانيد والتدقيق في تراجم الرجال، لكن الإسناد مطلوب على كل حال، وهو من خصائص هذه الأمة، وقد شرف الله به هذه الأمة من بين الأمم؛ ولذلك يقول أهل الحديث: كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو اتصال بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإننا ما عرفنا أن حديثاً صحيحاً بسبب أن البخاري أخرجه في الصحيح، وإنما عرفنا ذلك بإسناده؛ لأن البخاري أتى بكثير من الأحاديث معلقة؛ فليس مجرد ذكرها في الصحيح دليلاً على صحتها؛ بل الصحة إنما عرفت من قبل إسنادها.

    ومن أجل هذا فما كان من القراءات السبع برواياتها الأربعة عشر من طرقها الثمانية والعشرين فهو متواتر قطعاً؛ لأن هذه القراءات السبع أجمعت الأمة على تواترها، واختلف فقط في أمر واحد منها، وهو الاختلاف في هيئة الأداء بين الألفاظ؛ فمثلاً قول الله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف:19]، والقراءة الأخرى: (( وجعلوا الملائكة الذين هم عِند الرحمن إنهاثاً أو اشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون))، وفي رواية قالون : (( أأَوشَهِدُوا خلقهم ستكتب شهادتهم ))، بألف الإدخال؛ فهذا الاختلاف في هيئة الأداء مختلف في تواتره، أما ما سواه فهو إجماعي محل التواتر.

    واختلف في تتمة العشرة وهي القراءات الثلاث برواياتها الست، بطرقها الاثنتي عشرة، هل هي مكملة للسابقة فيكون الجميع متواتراً بثمانية وأربعين رواية أو لا؟ والراجح أنها متواترة، أما ما زاد على العشر فالراجح فيها عدم التواتر، وقد اختلف في ثلاث قراءات وهي: قراءة سليمان بن مهران الأعمش ، وقراءة الحسن البصري وقراءة ابن المحيصن ؛ فهذه الثلاث إذا أضيفت إلى الثلاثة المكملة للعشرة وهي: قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع ، وقراءة خلف ، وقراءة يعقوب الخراساني ؛ فهذه الثلاث هي المكملة للسبعة التي هي قراءة نافع ، وقراءة ابن كثير ، وقراءة ابن عامر ، وقراءة أبي عمرو بن العلاء ، وقراءة الكسائي ، وقراءة حمزة ، وقراءة عاصم بن أبي النجود ، فهذه هي القراءات المتواترة القطعية.

    جهة ورود السنة إلينا

    أما الحديث فإن البحث فيه من الجهتين معاً مستمر؛ لكن ما أخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين دون تباين في لفظه فهو محل إجماع على صحته، وكذلك ما أخرجه البخاري فقط، وبعده ما أخرجه مسلم فقط، ثم بعد ذلك ما كان على شرطهما لدى كتب الصحيح الأخرى، ثم ما كان على شرط البخاري فقط، ثم ما كان على شرط مسلم فقط، ثم ما كان على شرطهما معاً، ثم ما كان على شرط البخاري ، ثم ما كان على شرط مسلم ، ثم ما كان على شرط غيرهما من ذوي الصحيح، وهذه التي قال فيها العراقي في الألفية:

    وأرفع الصحيح مرويهما ثم البخاري فـمسلم فما

    شرطهما حوى فشرط الـجعفي فمسلم فشرط غيرٍ يكفي

    فتكون بهذا سبعة أقسام هي مراتب الصحيح.

    أما من ناحية التصحيح لدى المتأخرين؛ فإن الراجح فيه أن يقلد الإنسان أهل العلم في الجرح والتعديل؛ لأنه لم يلتق بالرجال حتى يعرف المطعون فيه من غيره، فمن حكم عليه أهل العلم والأمانة بأنه ثقة قبلت روايته مطلقاً، ومن حكموا عليه بأنه ضعيف ردت روايته مطلقاً، ومن سكتوا عنه فقد اختلف فيه أهل الحديث، فرأى ابن حبان رحمه الله أن المجهول مستور، وعلى هذا فالأصل في أهل العلم ومن رواه العدالة، فقبل روايته، وخالفه من سواه، فقالوا: لا تقبل رواية المجهول مطلقاً.

    والمجهول ينقسم إلى قسمين: إلى مجهول عين، ومجهول حال، فمجهول العين هو من لم يرو عنه إلا إنسان واحد، ومجهول الحال هو من لا يقال فيه تعديل ولا جرح.

    واختلف أيضاً في أمرٍ آخر، وهو من أخرج له أهل الصحيح ولم يحكموا عليه بتوثيق ولا جرح ولا غيره، فذهب عبد الحق الإشبيلي إلى أن كل من أخرج له في الصحيح فهو ثقه تلقائياً، ولو لم نجد فيه جرحاً ولا تعديلاً، وخالفه ابن القطان فذهب إلى أن مجرد الإخراج لشخص لا يقتضي تعديله؛ ولذلك فإن أصحاب الصحيح ينتقون من الأخبار؛ لأن الشخص الواحد قد يكون ثقة في الرواية على أهل مصر غير ثقة في الرواية على أهل مصر آخر، فمثلاً: إسماعيل بن عياش ما رواه عن أهل الشام فهو ثقة فيه، وما رواه عن أهل العراق فهو غير ثقة فيه، و إسماعيل بن أبي أويس ابن عم مالك و ابن أخته وزوج ابنته ما رواه عن أهل المدينة فهو فيه ثقة، وما رواه عن أهل العراق فهو غير ثقة فيه، وأكبر منه هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنهم، فهو ثقة فيما رواه عن أهل الحجاز، ولا تقبل روايته عن أهل العراق.

    1.   

    الحاجة إلى معرفة التاريخ وتجديده

    ونظير هذا كثير جداً فكم من إنسان تقبل روايته عن شخص ولا تقبل روايته عن آخر؛ ولهذا احتيج إلى تجدد العلوم من علوم الحديث المكملة ومنها علم التاريخ، فهو من العلوم المهمة فيما يتعلق بالتلقي؛ ولهذا فإن الحاكم أبا عبدالله أحمد بن البيع رحمه الله لقي رجلاً بنيسابور يحدث عن هشام بن عمار البصري، فقال: حدثنا هشام بن عمار فقال له الحاكم : أيها الشيخ! متى دخلت مصر؟ قال: سنة مائتين وثمانين؛ فقال: إن هذا الشيخ يحدث عن هشام ، لقي هشاماً بعد أن مات بإحدى عشرة سنة، يحدث عنه بعد موته بإحدى عشرة سنة، فرد حديثه وانصرف الناس عنه.

    ونظير هذا ما حصل للخطيب البغدادي رحمه الله، فإن اليهود عليهم لعائن الله لا يألون جهداً في تشكيك المسلمين وإفسادهم أمورهم، ولم يكن كيدهم الذي نشاهده ونعيشه في زماننا هذا جديداً، بل كيده قديم جداً منذ حاربوا رسول الله فقتلوا بعضهم وآذوا بعضهم الآخر، وحاولوا قتل عيسى بن مريم وصلبه، وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات، ووضعوا له السم في الشاة، ولا يزال كيدهم مستمراً للإسلام والمسلمين أبد الآبدين؛ ولذلك قال الله تعالى فيهم: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120]، وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا[البقرة:217] فمن كيدهم أنهم كتبوا في أيام أحد خلفاء بني العباس وثيقة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، ووضعوا على الوثيقة الزيت ووضعوها في الشمس حتى صارت قديمة، ثم أودعوها عند أحبارهم حتى طال عليها الزمن، ثم أخرجوها لأحد الخلفاء الجهال، فقالوا: هذه وثيقة من النبي صلى الله عليه وسلم تسقط عنا الجزية؛ فعرضها الخليفة على أهل العلم من أهل الحديث، فتحيروا فيها حتى عرضت على الإمام الخطيب البغدادي حافظ المشرق؛ فلما عرضت عليه بصق عليها، فقيل له: كيف هذا، فقال: هذا موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وما الدليل على ذلك؟ قال: شهود هذه الوثيقة الذين كتبوا أسماءهم فيهم سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان ولم يجتمعا في الإسلام، فقد جرح سعد يوم الأحزاب وتوفي بعد معركة بني قريظة، ولم يسلم معاوية إلا عام الفتح.

    فاليهود كانوا قد كتبوا أن الوثيقة بكتابة علي بن أبي طالب وشهادة عدد من الصحابة منهم: سعد بن معاذ وفلان وفلان وفلان و معاوية بن أبي سفيان ؛ فالتاريخ هو الذي يقضي على هذا.

    وقد نبهنا الله تعالى في كتابه على أهمية التاريخ في رد هذه الشبهات؛ فقال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ[آل عمران:67]، اليهود زعموا أن إبراهيم منهم، والنصارى زعموا أنه منهم، فقيل لهم بدلالة القرآن: متى بدأت اليهودية؟ من هو رسول اليهود الأول الذي منه بدأت اليهودية؟ قالوا: موسى، قيل لهم: موسى من ذرية يعقوب، ويعقوب من ذرية إبراهيم كيف يكون إبراهيم من اليهود!

    وكذلك النصارى من رسول النصرانية ؟ عيسى عليه السلام، عيسى من ذرية إبراهيم، إذاً: لا يمكن أن يكون إبراهيم نصرانياً.

    كذلك قوله تعالى: وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[آل عمران:65]، رد الله عليهم رداً بليغاً بالتاريخ وكذبهم به، فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً! وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:65].

    1.   

    مراتب فهم النصوص الشرعية لمن يفهم اللغة العربية

    كذلك فإن المتدبر لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا إذا تجاوز هذه المرحلة الأولية، فلم يكن عامياً في اللغة، بل كان يفهم اللغة العربية، سواء كان ذلك بالسليقة أو بالتعلم، فله مراتب:

    مرتبة المتبصر

    المرتبة الأولى: هي التي يسميها أهل الأصول بالمتبصر، والمتبصر هو الذي لا يستطيع استنباط الأحكام من الأدلة، لكنه يستطيع الربط بين الحكم ودليله؛ فإذا أخذ الحديث فإنه لا يستطيع أن يستنبط منه الأحكام، ولكنه إذا عرف مسائل فقهية وعرف أدلتها من الحديث عرف ارتباطها وعلاقتها بهذا النص، وهذا مثل طلاب العلم المبتدئين لا يستطيع أحد منهم أن يستخرج لنا فرائض الصلاة من آية المائدة، لكن إذا قرأ فرائض الصلاة باستخلاص الفقهاء واستخراجهم، وقرأ آية المائدة طبقها عليها فوجد ذلك صواباً، وعرف دليلهم من الكتاب ولم يقلد أحداً، وهذا غير مقلد في الواقع؛ لأن التقليد لا يكون إلا عن جهل مطلق؛ ولذلك قال ابن الرومي :

    عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد

    التقليد: هو الأخذ بقول غير المعصوم من غير معرفة دليله، أما ما عرف الإنسان دليله فلا يعتبر فيه مقلداً.

    مرتبة الفقه

    المرحلة الثانية: هي مرحلة الفقه، والمقصود بها أن يفهم الإنسان النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مرتبطاً بما معه من الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويتأثر بذلك إيمانه ويبادر لتطبيقه، ويسأل عما أشكل عليه، ويرجع في ذلك إلى أهله وذويه، فهذه مرحلة فوق التبصر؛ لأن صاحبها قد عرف هذه الدلالات، والمتبصر لا يشترط فيه أن يكون قد سمع القرآن كاملاً ولا سمع أحاديث الأحكام كاملة؛ بل لو أن آية واحدة سمعها قامت عليه الحجة بها، أو حديثاً واحداً سمعه قامت عليه الحجة به بدلالته، أما الفقيه فمعناه أنه قد ألم بهذه النصوص التي يحتاج إليها، وهذه النصوص من القرآن خمسمائة آية هي آيات الأحكام، ومن الحديث حوالي أحد عشر ألف حديث، وهذه الأحاديث جمعها عدد من أهل العلم ومنهم البيهقي في سننه الكبرى.

    فهذا الفقيه استطاع معرفتها، ولكنه لا تمنع معرفته بالأدلة أن يكون مقلداً لأحد أصحاب المذاهب، فهو يبحث عن الحكم مجرداً ثم يبحث أدلته بعد ذلك، وربما لا يطلع على دليل المجتهد فيبحث هو عن دليل فتتكاثر عليه الأدلة في بعض الأحيان؛ ولهذا فإنكم تجدون في بعض الأحيان للحكم الواحد عدداً من الأدلة، سبعة أدلة أو ثمانية أدلة، وليست هذه الأدلة هي الأصل الذي استنبط منه الحكم؛ بل الأصل الذي استنبط منه الحكم لا يكون إلا دليلاً واحداً؛ وذلك لضرورة الحدوث في استنباط المجتهد، يأتي خالي البال ليس جازماً بحكم في مسألة، فيأخذ المصحف فيقرأ، فإذا قرأ هذه الآية استنبط منها هذا الحكم فهي أصل هذا الدليل، هذا الدليل هو أصل الحكم هنا لديهم، ولكن لا يمنع ذلك من أن يكون هذا الحكم قد دل عليه عدد آخر كبير من الآيات، لكن لم تحضر في ذهنه وقت الاستنباط، أو قد ورد فيه عدد كبير من الأحاديث، أو جاءت فيه أقيسة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا فإن قاعدة الدليل في ترتب المدلول عليه:

    أن الدليل سابق على المدلول لدى الناظرِ ولاحق للمدلول لدى المناظر

    الناظر: هو المجتهد الذي يستنبط، والمناظر: هو الفقيه الذي يريد ترجيح مذهب من المذاهب؛ فالدليل سابق على المدلول لدى الناظر، لدى المجتهد، لاحق له لدى المناظر؛ فالمناظر يبحث عن دليل مذهبه ويحشر عدداً من الأدلة لتقوية مذهبه؛ لكن المجتهد يأخذ من دليل واحد ويستنبط منه الحكم ويتجاوز.

    مرتبة اجتهاد الترجيح

    ثم بعد هذا من يسمى بمجتهد الترجيح، وهو مقلد في الواقع في داخل المذاهب، لكنه يستطيع ترجيع بعض الأقوال على بعض، وإذا رجح قولاً بمعنى قوى دليله أو قوى دلالة الدليل؛ فالبحث هنا إما في الدليل نفسه أو في دلالته، وكلاهما يستغرق جهداً فيرجح هذا القول، وإذا ترجح لديه أحد الأقوال وجب عليه العمل به؛ لأن العمل بالراجح واجب لا راجح، وهؤلاء أقل من المرتبة السابقة.

    مرتبة اجتهاد التخريج

    ثم أعلى منهم مرتبة، مرتبة مجتهد التخريج، ومجتهدو التخريج هم الذين يخرجون بعض الأحكام على نظائرها، فهذه الوقائع التي تتجدد يومياً وهي كثيرة جداً لا يمكن أن تكون نصية كلها في الكتاب والسنة، ولا أن تكون أيضاً قد استنبطها أهل الاجتهاد جميعاً في كتبهم الفقهية؛ فمن أين لنا معرفة حكمها، ونحن نعلم أن لله فيها حكماً قطعاً، لكن من أين لنا أن نحصل عليه، إنما يكون ذلك بالتخريج، والتخريج أنواع: فمنه تخريج الفروع على الأصول، ومنه تخريج الفروع على الفروع.

    فتخريج الفروع على الأصول: هو ألا تجد نصاً في المسألة؛ لكنك وجدت قاعدة عامة في الشرع فتدخل فيها الفرع؛ لأنه تابع لها، مثل قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275]؛ فهذا الأصل تدخل فيه كل ما وجدته من الفروع داخلاً في مسمى البيع أو داخلاً في مسمى الربا، فتخرجه ولو لم يذكر، لم يذكر هذا البيع بذاته في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الفقهاء، مثلما خرجته أنت على النص الموجود لديك، ونحن نعلم أن مناط الأحكام وهو العلة التي أناط الشارع بها الحكم، يبحث فيه من ثلاثة أوجه: يبحث فيه في تحقيقه، ثم في تنقيحه، ثم في تخريجه، ولا بد من التفريق بين هذه الثلاثة، بين البحث في تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط.

    فالبحث في تحقيق المناط معناه: البحث في دلالات القواعد والألفاظ وما يدخل فيها مما لا يدخل فيها، مثلاً قول الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ[الطلاق:2]، هل جاء في القرآن أن فلاناً عدل وفلاناً عدل وفلاناً عدل، وهل جاء ذلك في السنة، ولا يمكن أن ينص عليه في أي كتاب حاصل، لكننا نأخذ صفات العدل فنطبقها على الأفراد، فنجد أن هذا عدل، وهذا عدل، وهذا عدل وهكذا، فنستشهدهم فهذا يسمى تحقيق المناط.

    النوع الثاني: هو تنقيح المناط، وتنقيح المناط، معناه: إزالة الأوصاف التي لا تصلح للتعليل ونوط الحكم بالوصف الباقي الذي يصلح للتعليم، وهو نوعان: نوع يسمى تنقيح المناط بالزيادة، ونوع يسمى تنقيح المناط بالنقص، وسأمثل لكم بمثال واحد يجمع القسمين:

    ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وفي رواية: أعرابي- يضرب صدره وينتف شعره، فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت وواقعت أهلي في نهار رمضان؛ فأمره بالكفارة )، هذا الحديث سنستنبط منه العلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الأعرابي بأن يكفر كفارة الصيام، وهي: إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، لكنه لم يقل لنا: من فعل كذا فليكفر، ومن لم يفعله لا كفارة عليه، أطلق وتعبدنا الله بأن نستنبط، الله غير عاجز عن أن يفصل لنا الأحكام مثل المواد القانونية، لكنه أتى بها بهذا الأسلوب ليتعبدنا بالاستنباط، وليتفاوت الناس فيه في الأجر والمنزلة، فجاء أهل العلم فأخذ طائفة منهم بتنقيح المناط بالنقص فقط، فقالوا: كونه أعرابياً لا يصلح للتعليل إذ لا فرق بين الأعرابي والحضري، وكونه قال: (واقعت أهلي) لا فرق بين أهله وبين أمته، وكذلك الأجنبية نسأل الله السلامة والعافية، وكونه قال: (في نهار رمضان) لا خصوصية لذلك اليوم، ولا خصوصية لذلك الرمضان عن غيره من الرمضانات؛ فألغوا هذه الأوصاف وقالوا: كل من جامع في نهار رمضان لزمته الكفارة، ويختص هذا بالجماع عندهم، والمقصود بالجماع ما يقتضي إخراج المني، فلو أخرج المني بغير الجماع التحق به؛ فتلزمه الكفارة عندهم، وهذا مذهب الشافعي و أحمد ، ولا تلزم الكفارة إلا بذلك عندهما.

    جاء الآخرون فأعملوا نوعاً آخر من تنقيح المناط، يسمى تنقيح المناط بالزيادة؛ فقالوا: نعم نحذف الأوصاف التي لا تصلح للتعليل فلا يبقى لنا إلا قوله: (واقعت أهلي)؛ فنقول: (واقعت) هذا اعتداء على حرمة الصيام بمبطل من مبطلات الصيام وهو الجماع، ومبطلات الصيام هي: الجماع والأكل والشرب، وكلها محرمة على الصائم بنص كتاب الله ولا فرق بينها في الحكم؛ فنجعل الكفارة منوطة بالاعتداء على حرمة الشهر بالمفطر، سواءً كان جماعاً أو أكلاً أو شرباً، فكل من جامع أو أكل أو شرب في نهار رمضان تلزمه الكفارة، وهذا يسمى تنقيح المناط بالزيادة؛ لأنهم زادوا وصفاً غير مذكور في الحديث، وإنما زادوه بالعقل؛ لأن مقتضى العقل عدم التفريق بين الجماع والأكل والشرب في الاعتداء على الصوم؛ لأن الله تعالى يقول: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة:187]؛ فجعل الله الجماع والأكل والشرب متساوية في الصيام.

    القسم الثالث وهو تخريج المناط، وتخريج المناط: هو أن يأتي الشارع بحكم دون أن يبين لنا علته، فيجتهد أهل الاجتهاد في استخراج العلة، فيبينون العلة التي من أجلها حرم الله كذا أو أباح كذا أو أوجب كذا.

    مثلاً: حرم الله تعالى شرب الخمر، ولكنه لم يذكر لنا علة تحريم؛ فيأتي أهل الاجتهاد فيقولون: علة تحريمه هي الإسكار. ومعرفة العلة مفيد؛ لأنه يقتضي كل ما وجدت فيه هذه العلة بنفس المنصوص عليه، ومثل هذا تحريم الربا في الذهب والفضة نص الأحاديث الصحيحة، فإذا جاء أهل الاستنباط قالوا: هذه العملات التي نتعامل بها لم تكن موجودة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم علة تحريم الربا في الذهب والفضة، لكننا يجب علينا تخريجه واستنباطه، فاستنبطناه فوجدنا أن علة تحريم الربا في الذهب والفضة هي الثمنية أو الغلبة في الثمنية، وقد تحقق ذلك في العملات الموجودة اليوم، فلا فرق بينها وبين الذهب والفضة في الربا، فهذا هو تخريج المناط.

    أما تخريج الفروع على الفروع فمعناه هذا الفرع عرفنا حكمه، قال به أحد الأئمة وبين لنا دليله، فقسنا عليه غيره، قسنا هذا الفرع على هذا الفرع، أو جاء بالنص حكم فرع فنلحق به غيره؛ مثلما جاء النص بتحريم الربا في البر، فنلحق به الأرز، مع أن الأرز لم يرد في النص الربوية فيه، لكنه لا فرق بنيه وبين البر، فنقيسه عليه، وهذا من تخريج الفروع على الفروع.

    مرتبة الاجتهاد المقيد

    أما المجتهد المقيد فهو متقيد بقواعد مذهب معين، ومذاهب سبق أن بينا أنها مجرد طرق للتعامل مع النصوص؛ فليست هي ديانات، لأن الدين واحد وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المذاهب مجرد مدارس وهذه المدرسة يتعلم فيها الإنسان قواعد معينة تسير عليها هذه المدرسة فمثلاً: المدرسة المالكية ترى دلالة العام قطعية قبل التخصيص، وترى تقديم الجمع على الترجيح، وترى كذلك أن الدليل إذا لم يصحبه العمل دل هذا على نسخه، وترى كذلك أن المرسل صالح للاحتجاج، فهذه هي قواعد المالكية؛ فمن تقيد بهذه القواعد وأضاف إليها القواعد الأخرى العقلية، مثل: تقديم المصلحة، ومثل: سد الذرائع، ومثل: مراعاة الخلاف ونحوها فهو مالكي بمعنى المدرسة، لكن ليس معناه أنه يعتقد أن كل ما قاله المالكية صواب وصدق؛ بل يعرف أن فيه خطأ وفيه صواباً حتى على مقتضى قواعد المذهب، ويعلم أن الفقه المدون لدينا ليس كله من استنباطات مالك المجتهد؛ بل كثير منه من استنباطات الفقهاء، لم يصلوا إلى مستوى الاجتهاد ولا قريباً منه، ولم يدعوا ذلك، وهو يعلم أن حكم الله هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، من حيث أنه مكلف به لا خطاب الناس، ومن هنا يبحث عن الدليل؛ فيكون بهذا مجتهداً مقيداً، معناه مجتهداً داخل المذهب.

    إذاً المجتهد المقيد هو الذي يلتزم قواعد مذهب معين، كان يكون درس في مدرسة معينة، فتقيد بقواعد تلك المدرسة واستنبط على أساس المقاييس التي تعلمها فيها ولم يستطع الخروج عن ذلك؛ فهذا لا يصل إلى درجة الاجتهاد المطلق ولا يبقى أيضاً في درجة التخريج فقط؛ بل يتعدى هذه.

    مرتبة الاجتهاد المطلق

    أما المجتهد المطلق فهو الذي يضع هذه القواعد ويختارها؛ فلا يتقيد بقواعد أي شخص آخر، وهذا يشترط له من الشروط ويطلب فيه من الصفات ما ليست مطلوبة في الأقسام السابقة.

    موقف المسلم من النص الوارد إليه

    بهذا الاستعراض الخفيف الذي تناول بعض مراتب التعامل مع الكتاب والسنة من ناحية الاستنباط، وأخذ الأحكام يتبين لنا أمور:

    موقف المسلم من النص الصريح من القرآن أو السنة دون معارض

    أن من جاءه موعظة من ربه، فجاءه نص صريح من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه، وعرف صحته لا يحل له العدول عنه، وإذا عدل عنه متعمداً كفر بذلك؛ لأنه يقول: يا رب! هذا كلامك وقد فهمته واستوعبته، ولكنني أرده عليك ولا أعمل به، أو يقول هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فلا يحل لأي إنسان أن يرد على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم أي نص من النصوص ولا أي أمرٍ من الأوامر؛ بل من فعل ذلك سيتعرض للفتنة لا محالة، والفتنة نسأل الله السلامة والعافية منها: سوء الخاتمة، ومعناها أن يختم الله له بالسوء، كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:63].

    موقف المسلم من النص الوارد إليه ولم يستطع التمييز بين صحته وضعفه

    كذلك من جاءه نص فلم يعرف هل هو صحيح أم ضعيف، أو لم يعرف هل هو مقبول أم مردود، فإنه يجب عليه البحث في ذلك ويكفيه سؤال أهل العلم، أو الرجوع إلى الكتب المصنفة، كما قال العراقي في ألفية الحديث: (ويكتفي الآن بالرجوع إلى المصنف)، يكفيه أن يرجع إلى كتاب معتمدٍ من كتب الحديث، مثلاً: إذا وجد الحديث في الموطأ أو صحيح البخاري أو في مسلم يكفيه ذلك في إقامة الحجة عليه به، وحينئذٍ يجب عليه أن يبادر إلى الأخذ به.

    موقف المسلم من النص الوارد إليه ولم يعلم دلالته

    إذا وجد نصاً عرف صحته، ولكنه خفيت عليه دلالته، كذلك يجب عليه الرجوع إلى أهل العلم: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]، ويختار منهم من يثق به، وهذا المستوى من الاجتهاد لا يقصر عنه أحد وهو مستوى الاختيار بين الناس، فما منكم أحد إلا وله رتبة من الاجتهاد، فالعامي المطبق الذي لا يعرف شيئاً لديه رتبه من الاجتهاد يختار بها من يسأله، سيأتي فيرى الناس جميعاً في المجلس؛ فلماذا يذهب إلى فلان من بينهم ويسأله ويختاره؟ لاجتهاد لديه.

    وهذا القدر من الاجتهاد يجب عليه أن يبذل فيه الوسع، فيختار من الناس من يسأله، وحينئذٍ إذا حصلت له القناعة بإفتاء واحد وجب عليه القناعة وعدم تجاوزها، وإذا لم تحصل له القناعة فليسأل من يثق به ممن سواهم، فإن اتفقا فبها ونعمت؛ وتكون قد حصلت القناعة المطلوبة، وإن اختلفا فإن تردد بينهما اختلف فيه؛ فقالت طائفة من أهل العلم: تتساقط الفتويان ويبحث عن ثالث يفتيه، كأنه لم يسمع شيئاً، وقالت طائفة أخرى: بل يأخذ بقول الأشد لأنه احتياط، والاحتياط مطلوب في أمور الدين، وقالت المعتزلة: يأخذ بقول الأخف لأن الدين يسر، والله تعالى يقول: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج:78]، لكن الأحوط هو أن يبحث عن زيادة علمٍ فيسأل شخصاً آخر، حتى يرجح لديه أحد القولين.

    موقف المسلم من النص الوارد إليه مع ما يعارضه من النصوص

    إذا وجد نصاً صريحاً فهمه وعرف أنه صحيح ووجد نصاً آخر يعارضه في ظاهر عقله هو، وعرف صحة كل واحد منهما، فحينئذٍ أيضاً يجب عليه سؤال أهل العلم، لأنه تعارضت عليه الأدلة.

    إذا لم يجد نصاً في المسألة، كأن تكون عرضت عليه مسألة من التكليف لا يعرف فيها نصاً، يجب عليه أن يسأل أيضاً وأن يختار من يسأله، وهذا الذي يقتضي الترابط بين الناس، فهنا نحتاج إلى أهل العلم وإلى المجتهدين عند عدم النص، وعند تعارض نصين، وعند جهالتنا بدلالة النص، وعند جهالتنا بحال النص من الصحة وعدمها.

    إذاً هذه أربعة مواضع نحتاج فيها إلى من نقلده:

    الموضع الأول: إذا لم نجد نصاً من الكتاب ولا من السنة.

    الموضع الثاني: إذا وجدنا نصاً ولم نعرف درجته من ناحية الصحة والضعف.

    النوع الثالث: إذا وجدنا نصاً ولم نعرف دلالته.

    الموضع الرابع: إذا وجدنا نصين متعارضين في مقتضى عقولنا نحن.

    موقف المسلم من النص الوارد إليه دون معارض مع صحة الدليل

    وإذا وجدنا نصاً صريحاً ليس له معارض وفهمناه وعرفنا صحته، فإن من هذا حاله غير معذور في تقليد أحد ولا يحل له ذلك.

    يبقى أن الإنسان حينئذٍ إذا عرف أمراً وعرف دليله فعليه أيضاً أن يعرف أنه لم يحط بالعلم كله، فبالإمكان أن يكون المخالف ذا دليل خفي عليه هو، ومن هنا سيتصف بما قال الشافعي : (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، وإذا ناقشه في قوله فإن عليه أن يكون ذلك بالتي هي أحسن، فيقول له: أنا رأيي في هذه المسألة كذا، ودليله كذا وكذا، وقد رأيتك تخالف ذلك فما دليلك عليه؟ فإن أتى بدليل مقنع فبها ونعمت، وإن أتى بدليل مقنع للخصم غير مقنع له هو، وكله إلى قناعته ولم ينكر عليه، وإن لم يأتِ بدليل، وكان جاهلاً بالدليل فإن العمل بالراجح واجب لا راجح، وما عرف دليله أولى بالاتباع مما جهل دليله مطلقاً.

    1.   

    تنبيهات حول العلم والتعلم

    وبهذا على الإنسان ألا يهجر هذه النصوص وأن يخاف خوفاً شديداً من حجيتها القائمة عليه.

    الحذر من نسبة الجهال إلى العلماء

    فمن المؤسف جداً أن تصبح الأمة تنسب كثيراً من الناس إلى العلم، وهم لا يحفظون آيات الأحكام ولا يعرفون طرق الاستنباط، ولم يقرءوا أي كتاب من كتب الحديث، لم يطلعوا على الموطأ وعلى صحيح البخاري ، ولا على صحيح مسلم ، ومع ذلك يوصفون بأنهم أهل علم، ويسألون ويفتون في دين الله، فهذا دليل على رفع العلم وعلى اتخاذ رؤساء جهالاً يفتون بغير علم.

    الحذر من انشغال العلماء عن العلم بأمور الدنيا

    ومن المؤسف جداً أننا نجد بعض كبار السن الذين أنعم الله عليهم بعمر طويل وعافية، وقد فهموا واستوعبوا كثيراً من الكتب ينشغلون إلى لحظاتهم الأخيرة في الدنيا دون أن يدرسوا شيئاً من تفسير كتاب الله، ودون أن يدرسوا شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وشرحها، إن هذا من علامات طمس البصيرة: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ[البقرة:61]، كيف يتم هذا؟ كيف يرضى الإنسان أن يستبدل كتاب الله المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بكتب الناس، إن هذا القرآن من أعرض عنه متوعد يوم القيامة بالعمى، نسأل الله السلامة والعافية: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[طه:124].

    وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أعرض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر عند جمهور أهل العلم، وقالت طائفة أخرى: بل الإعراض تعرض للكفر لا كفر بذاته، وقد كان كثير من أهل العلم يكفرون بعض الناس بإعراضهم عن بعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

    خطورة معارضة كلام الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

    كذلك ينبغي أن نستحضر أن من كبائر الإثم أن يعارض كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم بأي كلام آخر، فكيف يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعلم أنه سيعرض على الله، إذا جاءه نص فقيل له: هذا كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: قال فلان، أو ليس هذا قول فلان، هل هذا عقل ودين؟ لا يمكن أن يكون هذا.

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله ليوشكن أن ترجمنكم الملائكة بحجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتقولون: قال أبو بكر و عمر . وهم ما أبعدوا، لكن لا يمكن أن يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أي أحد آخر، ولا يمكن أن يعدل عن قوله إلى قول غيره إلا إذا كان الإنسان يرضى بذلك الغير بدلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول في الصباح والمساء: ( رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا)، كيف تقول هذا وأنت تكذب على الله؟ لا ترضى به وتريد من سواه، هذا لا يمكن أن يتم.

    الاهتمام بعلوم الآلة أكثر من غيرها

    كذلك علينا في هذا المجال أن نعلم أن تعلم الآلات آلات هذا الدين أمر لا بد منه، ولكن علينا ألا نغلو فيها أيضاً ونجاوز الحد المطلوب، بل ذلك من فروض الكفايات التي من اشتغل بها ممن جهل فروض الأعيان يأثم بذلك.

    أجد في بعض الأحيان بعض طلبة العلم يمكثون السنوات ذوات العدد وهم يدرسون النحو والصرف، ولم يدرسوا شيئاً من أحكام الفقه ولا من أدلتها، وهذا غلط في ترتيب الأولويات وخطأ كبير؛ لأن الأصل أن أول ما يبدأ به الإنسان ما كلف به أولاً، وهذه المتممات مطلوبة لا محالة؛ ونحن لسنا من رافضيها؛ بل هي أمور لا بد منها، لكن مع ذلك لا بد من التوسط والعدل.

    الحذر من الغلو في السنن

    كذلك فإن بعض الناس يغلو في السنن، وهذه السنن كما ذكرنا مع التسليم لكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يطالب الإنسان ألا يغلو فيها، فكثير من الناس كلما صح لديه حديث واحد ووجد الناس على خلافه ظن أن الناس جميعاً قد ضلوا سواء السبيل، وأنه هو وحده الذي اطلع على الصواب من بينهم، وهذا غلو في السنن؛ ولذلك لا بد أن ينتبه الإنسان إلى أن من السنن ما يكون صحيحاً، لكن فهمك أنت له غير صحيح، ومنها ما يكون صحيحاً في الصناعة الحديثية، ولكنه يعارضه ما هو أصح منه، ومنها ما يكون صحيحاً في الصناعة الحديثية، ولكنه من ناحية الاستدلال والاستنباط غير صحيح؛ ولهذا فإن أهل العلم وضعوا أربعة عشر ضابطاً لتضعيف الحديث في جهة المتن فقط، وعدداً كبيراً من الضوابط لتضعيفه من جهة الإسناد.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يعلمنا كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من الآخذين بهما غير الغالين فيهما، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767986333