بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى هو المشرع وحده لا يمكن أن يحل، ولا أن يحرم، ولا أن يأمر، ولا أن ينهى فيما يتعبد به إلا هو وحده؛ لأنه الذي إليه منتهى كل شيء, وهو الذي تصير إليه الأمور: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53], علم كل شيء بيده سبحانه وتعالى؛ فلذلك هو وحده الذي يستطيع التشريع والإحلال والتحريم، ومن دونه لا يعلمون مآلات الأمور, فإذا رأوا مصلحة في وقتٍ من الأوقات، فيمكن أن تتغير تلك المصلحة في وقتٍ آخر, وإذا رأوا مفسدة في وقتٍ من الأوقات، فيمكن أن تنقلب تلك المفسدة مصلحة في وقتٍ آخر: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
فلذلك لم يكل الله أمور الدين إلى اجتهادات البشر وآرائهم؛ بل شرعها الله سبحانه وتعالى وأنزل بها الوحي واختار له أمين الملائكة، وأنزله على أمناء البشر وهم الرسل المبلغون عن الله سبحانه وتعالى، وقد قامت الحجة على الثقلين الإنس والجن بما جاء به رسل الله من عند الله من الدين، ثم قفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فختم به الرسالة وأوضح به معالم الدين، وأنزل عليه في آخر ما أنزل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3].
وسر ذلك أن الله علم أن جوارحنا محدودة محصورة، وأننا نتفاوت فيها ونحن مضطرون للتعايش في هذه الدار، وعقولنا ما هي إلا حاسة من حواسنا؛ فكما أن العين لها حدود إلى أدنى فلا تبصر ما في الجفن من الخطوط والعروق والألوان، ولها حدود إلى أقصى فللبصر منتهىً يقف عنده, وكما أن الأذن لا تسمع جريان الدم في العروق، ولا تسمع الأمواج المحملة المحيطة بها مع أن أصواتها كبيرة مزعجة؛ كذلك لها حدود إلى أقصى فتبلغ قوة الانفجار أو الصاعقة بحيث لا تسمعها الأذن ولا تستوعبها.
وكذلك الأصابع في اليد فإن لها قدرة تستطيع أن تحمل الشيء الذي في طوق الإنسان حمله، ولكن لا تستطيع حمل أثقل من ذلك، كما أنها يشق عليها انتزاع الشيء اليسير الصغير الذي لا يمكن الوصول إليه وحده، كانتزاع الخربصيصة من الرمل، والخربصيصة: هي الهنة التي تتراءى في الرمل، فأخذ الإنسان لها بأصبعيه من الأمور الشاقة؛ لأنها أصغر من مدى طاقة الحمل.
فكذلك العقل له حدود إلى أدنى، وحدود إلى أعلى، فحدوده الدنيا منها بداياته كالأوليات، والمشاهدات والحدسيات، والشعور الذي يشعر به الإنسان كشعوره باللذة والألم والرضا والغضب، هذه أمور لا يناقشها العقل ومنها يبدأ, ثم للعقل نهايات لا يمكن أن يتعداها وهي مواقفه كاجتماع الضدين، والنقيضين، وكارتفاع النقيضين، وكقلب الحقيقة، وكبطلان الحصر ونحو ذلك؛ فهذه الأمور يقف عندها العقل ولا يمكن أن يتعداها, فإذا كان العقل محصوراً فلا يمكن أن يكون حكماً؛ لأن الحكم لا بد أن يكون غير محصور؛ لأن الزمان غير محصور إلا بنهايته الحتمية التي تأتي وهي نهاية الدنيا.
ولأن المكان غير محصور كذلك إلا بتنوع ما خلق الله من الأمثلة في هذه الأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم؛ فكل ذلك يقتضي أن يكون التشريع خارجاً عن عقول البشر, فشرع الله سبحانه وتعالى للناس هذا الدين، وبناه أتم بنيان ورتب بعضه على بعض، وجعله جميعاً من عند الله, فلو اختلفت نظراتنا نحن إلى أهميته، ورأى بعضنا الاهتمام ببعضه دون بعض؛ فإنما ذلك لجهلنا بقيمة الجانب الذين نظنه أدنى، فما شرعه الله سبحانه وتعالى كله هو مصلحة البشر في الدنيا أو في الآخرة؛ فما عرفنا مصلحته في الدنيا هو الذي يسميه الناس بالتعللات، وما لم نعرف مصلحته في الدنيا وكانت مصلحته أخروية فهو الذي يسميه الناس بالتعبديات.
والأحكام كلها إما تعليلية أو تعبدية, فالتعليلية: معناه ما أدرك البشر علاقته بالمصلحة الدنيوية كقطع يد السارق وجلد شارب الخمر ونحو ذلك، وكترتيب العقود من إيجاب وقبول، فهذه يعرف البشر مصلحتها فيرونها تعليلية.
أما الجانب الثاني: فهو كترتيب أربع ركعات على زوال الشمس، وأربع ركعات على دلوكها، وثلاث ركعات على غروبها، وأربع ركعات على غيوب شفقها، وركعتين على طلوع فجرها, فهذه أمور لا يدركها العقل في هذه الحياة الدنيا.
فمصلحتها أخروية فهي التي تسمى بالجانب التعبدي؛ لكن يؤمن الإنسان المؤمن أنها قطعاً هي المصلحة، فلا يمكن أن تكون الصلاة المناسبة لوقت الفجر مثلاً: أربع ركعات، أو ثلاث ركعات، وقد اختار الله أن تكون ركعتين, ولا يمكن أن تكون الصلاة المناسبة لهذا الوقت الذي صلينا الآن ركعتين وقد اختار الله أن تكون أربع ركعات, فما اختاره الله هو المصلحة.
ولذلك فمن أراد أن يعرف قصور العقل فلينظر إلى عقول البشر؛ ولذلك لا يوجد اثنان على مستوىً واحد في العقل, وما من أحد إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به.
فإذا عرفنا ذلك عرفنا أنه لا بد من الرجوع إلى الوحي في التشريع, وأن نعلم أن الوحي هو الحكم الذي لا يجور؛ لأنه من عند الله سبحانه وتعالى، وهو كلامه وأمره إلى عباده الذين خلقهم وسواهم.
فأنت لو شوهت في خلقتك لكان بالإمكان ألا ترضى بمسلاخك، وتحب أن تكون أطول من هذا أو أقصر أو أبيض أو أسود أو أجمل أو أقبح, ويمكن أن تقترح أن يكون لك ثلاثة عيون أو أربعة عيون بدل عينين, لكن الله اختار لك هذه الصورة فخلقك في أحسن تقويم.
ولهذا فلم نرَ أحداً يعترض على أن له يدين أو عينين أو أذنين؛ فلماذا يعترض إذاً على الأحكام؟ ما الفرق؟
كل من عند ربنا؛ فالجميع من تدبير الخالق الكريم سبحانه وتعالى وهو أعلم؛ فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه في شيء؛ ولذلك قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23], وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51], وقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8], فهذا تركيب الله سبحانه وتعالى للعباد.
وهذا الدين الذي شرعه الله للعباد قد رتب بعضه على بعض، فلا يمكن أن يستقيم بدون ذلك البعض؛ لأنه مبني عليه كدرجات السلم, هل يستطيع أحد أن يجد سلماً مقطوع الأسفل غير متصل بالأرض فيصعد عليه وينتفع به؟
أبداً، بل لا بد أن تكون درجات السلم مرتبةً ترتيباً يمكن من الانتفاع بها وإلا حصل الإشكال؛ فلذلك رتب الشارع الكريم الأحكام كلها عقائدها وأوامرها، ونواهيها، وآدابها، وأخلاقها، وحدودها، وقضاءها، وأحكامها، وسياستها، واقتصادها، واجتماعها ترتيباً جاء من عند الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يخلف ولا أن يغير, وهذا الترتيب وإن كان مترتباً في التدريج، وفي هيئة الأداء وفيما نعرف نحن الحاجة إليه أو مبادرة الحاجة إليه، فالجميع مع ذلك من عند الله فلا بد من احترامه جميعاً وتقديره، ولا بد من معرفته جميعاً.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن: ( ادعوهم إلى كبير الإسلام وصغيره )؛ فلا يمكن التجزئة في الإسلام, فالإسلام كله هو دين الله وليس بين الناس.
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا تفاصيل الأحكام حتى في دخول الخلاء وما يتعلق بذلك؛ ولهذا فإن حبراً من اليهود أتى سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: ( لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل علمنا ألا نستقبل القبلة ولا نستدبرها ببول ولا غائط، وأن نستجمر بثلاث ), فهذا تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من عند الله وتشريعه، وقد أمره الله أن يبين للناس ما أنزل إليهم.
وبهذا نعلم أن الشرع يتدخل في كل شيء, فمن ظن أن الإسلام مقصوراً على بعض الجوانب فهو إما جاهل به لا يعلم ما هو, وإما مغرور يرد على الله بعض ما شرع لعباده؛ كحال اليهود الذين قالوا: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض, وكحال طائفة منهم الذين قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72]؛ ولذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه وقد وافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأراد العرب العلمانية إذ ذاك فقالوا: نقر الصلاة ونرد الزكاة، قال أبو بكر : إن الزكاة أخت الصلاة فوالله لأقاتلن من فرق بينهما.
فهذا الدين إذاً غير قابل للتجزئة، ولا يستطيع الإنسان أن يأخذ بعضه ويرد بعضه، إما أن تكون مقراً بأن الله عز وجل هو ربك الذي خلقك وأنعم عليك، ومقراً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي أرسل الله إليك، فلا بد أن تأخذ بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله وألا ترد عليه شيئاً, أو أن تكون راداً على الله منكراً لربوبيته، راداً على محمد صلى الله عليه وسلم منكراً لرسالته فلا تأخذ شيئاً مما جاء به.
إن هذا التشريع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله قد نظم للناس كل شئون حياتهم؛ فنظم لهم علاقاتهم بربهم سبحانه وتعالى, فأنتم تعلمون أن الله سبحانه وتعالى لا يستطيع الناس أن يقدروه حق قدره وأنه هو العلي الكبير، وأنه هو ذو الجلال والكمال والجمال، لا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضرر, ولا يمكن أن يعرفوه إلا من خلال ما شرع.
فاحتاج العباد إذاً إلى ما يعرفهم بالباري سبحانه وتعالى، فجاء جانب من الدين هو جانب العقائد يعرف العباد بمنطلقات عقولهم؛ فهذا العقل الذي خلق الله لنا منطلقاته التي ينبني عليها تكون تصوراته هي هذه العقائد, وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فبين ستة أركان هي محددات ومقومات إذا خرج عنها العقل فقد ضل عن سواء السبيل, فقال: ( أن تؤمن بالله, وملائكة, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره ), هذه المنطلقات الستة هي التي تحكم تصورات العقول، وهي التي تقتضي من الإنسان أن يعرف ما قبله، وما بعده، وما هو محتاج إليه في وقته.
من أين للإنسان أن يعرف خلق آدم وقصص الأنبياء السابقين لو لم يأت الوحي بذلك, ومن أين له أن يعرف مشاهد القيامة وأشراطها والجنة والنار وما فيهما لو لم يأتِ الوحي بذلك؟ فالعقل محصور في حياة الإنسان لا يصل إلى ما قبله ولا يصل إلى ما بعده؛ فاحتاج الإنسان إذاً إلى تنوير خارجي، يعرف به ما هو محتاج إليه، وهذا التنوير هو الوحي المنزل من عند الله تعالى في مجال العقائد.
ثم بعد ذلك المعاملة مع الرب الكريم سبحانه وتعالى, وهذه المعاملة تقتضي أن يعبد حق عبادته, وأن يتقرب إليه بما يرضيه, وأن يسعى الإنسان لأن يكون من عباده المخلصين المخلَصين, ولا يمكن أن يتم ذلك من خلال مجرد نظرات العقول وتخميناتها, فلا يمكن أن يتقرب إلى الله إلا بما شرع, فلو أن الإنسان ترك سدىً وقيل له: تقرب إلى الله، ماذا سيعمل؟ طبعاً هو لا يراه؛ لأنه (لا تدركه الأبصار)، ولا يجد له مثالاً؛ لأنه (ليس كمثله شيء)؛ فكيف يتقرب إليه؟ لا يمكن أن يتقرب إليه حينئذٍ.
ولهذا كان عبد الواحد بن عاش الحكيم رحمه الله حين قال: الحمد لله الذي علمنا من العلوم ما به كلفنا, ولو كلفنا ولم يعلمنا لكانت مشكلة.
كذلك ما يتعلق بالتعامل بين البشر، فإن الله قد أعطى بعضهم ما لا يحتاج إليه، وأعطى آخر ما يحتاج إليه ذلك البعض السابق؛ فلو وكلوا إلى آرائهم لكان القوي يأخذ ما يريده وما يرغب فيه بالقوة عن طريق الغصب, وكان الضعيف يحتال لذلك عن طريق السرقة, لكن الله تعالى رتب لهم البيوع والعقود التي يتقاضون فيها حقوقهم، فيصل كل إنسان إلى حاجته عن طريق عقل موثق مبناه على الرضا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29], إنما البيع عن تراض، فيتراضون جميعاً فلا تقع مشكلة، لا يحتاج الضعيف إلى السرقة, ولا يحتاج القوي إلى الغصب والانتزاع، فكل له وسيلة الامتلاك ما يرغب فيه، وهي العقود التي شرعها الله وفيها التراضي والتساوي؛ فيكون بذلك العدل مبسوطاً على هذه الأرض لا يحتاج فيه الإنسان إلى تغيير ولا إلى انتزاع ولا إلى وساطة ولا إلى مساعدة، حقه بين يديه.
وكذلك ما يتعلق بالعيوب والأعراض والأمراض التي يقع فيها الناس، فإن الناس عرضة لأن يستخفهم الشيطان فيقعوا في الذنوب الخطيرة, وهذه الذنوب بعضها اعتداء على الحرمات البشرية كالقتل وكالزنا وكالسرقة، وبعضها اعتداء على مقدسات المجتمع، وعلى أصول الدين كالردة مثلاً عن الإسلام وكالحرابة وإخافة الطريق.
فالأول: ما يتعلق بالردة اعتداء على ثوابت الدين ومبادئه.
والثاني: اعتداء على مقومات المجتمع وأخلاقياته, فيحتاج إذاً إلى علاج لهذه الأمور التي يستخف الشيطان إليها بعض الناس، وهذا العلاج لا يمكن أن يكون من الناس؛ لأن الناس متفاوتون في لين القلوب وقسوتها وفي الرحمة والشدة والفظاظة والغلظة فهم متفاوتون في ذلك.
ولهذا تجدون القضاة إذا اتبعوا الهوى مالوا فحكموا أحكاماً جائرة بعيدة عن طريق الحق كل البعد؛ لأنهم حينئذٍ سيقلدون الهوى، وقد قال الله تعالى لداود عليه السلام: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26].
فلذلك شرع الشارع علاجاً لهذه الأمور جميعاً، هذا العلاج بدايته أولاً الإثبات؛ فمنطلق الشرع أن كل شيء لم يثبت فلا عبرة به, فالأصل في الإنسان السلامة والاستقامة ما لم يثبت انحرافه؛ ولذلك فهذا خلاف ما ينتهجه الظلمة اليوم، فيرون أن الإنسان الأصل فيه أنه متهم فيوضع في السجون، ثم بعد ذلك يحاولون إثبات التهمة عليه فيما بعد.
والواقع أن الشرع جعل الإنسان في الأصل بريئاً حتى تثبت إدانته، وهذا الإثبات لا يكون إلا بالبينات ووسائل الإثبات المعتبرة شرعاً, ثم إذا ثبتت فقد جعل الشارع أنصبتها مختلفة, فالزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة عدول، شهدوا بهيئة واحدة في وقت واحد على صورة واحدة، وما سوى ذلك من الحدود يثبت بشهادة عدلين من أهل الشهادة، وما يتعلق بالأموال يثبت أيضاً بشهادة الرجال والنساء، اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282], فهذه الأمور جعل الشارع لها أنصباء للإثبات, لا بد من الاقتصار عليها وعدم التعدي عليها.
ثم بعد الثبوت فاوت الشارع بين هذه الأمراض فيما يتعلق بالعلاج، فرتب حدوداً من عند الله تعالى هي الجوابر الزواجر، لو عطلت وتوقفت لما صلحت تلك الأخطاء ولما صححت أبداً, فلو عطل حد القصاص مثلاً لاعتدى بعض الناس على بعض؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ).
ولو عطل حد الردة لتسارع أصحاب الأهواء والبدع المضلة إلى ما يلقيه الشيطان في آذانهم ورءوسهم فأفسدوا الناس بذلك.
ولو عطل حد شرب الخمر كما تشهدون الآن؛ لكانت أم الخبائث عنها يصدر كل خبيث فهي سبب القتل، وهي سبب السرقة، وهي سبب النهب، وهي سبب الاعتداء على الأعراض وغير ذلك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً ), أي: أسبوعاً كاملاً، وفي رواية: (شهراً), حد واحد يقام على الأرض.
وتعطيل هذه الحدود محادة لله في ملكه, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـأسامة : ( أتشفع في حد من حدود الله؟ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حاد الله في ملكه ).
كذلك ما شرعه الشارع من الآداب والقيم والأخلاق التي تقتضي من الكبير أن يرحم الصغير، ومن الصغير أن يوقر الكبير، وتقتضي أن ينزل الناس منازلهم، وأن يعتنى بكل إنسانٍ فيوضع في محله المناسب، هذه أمور شرعها الشارع وبها استقامة شئون الدنيا، ولو اختل شيء منها لما استقامت هذه الحياة الدنيا, فيحتاج الناس إلى الأخذ بهذه الآداب وإقامتها على وجهها الصحيح, ولو حصل اعتراض في هذه الآداب؛ فأراد إنسان أن يخلع ملابسه مثلاً في الشارع، أو أرادت امرأة أن تتبرج في الشارع بحضرة الناس، أو أن يقع الاختلاط بين الرجال والنساء أو نحو ذلك مما هو مخالف لهذه القيم والأخلاق التي شرعها الشارع الحكيم، فهذا ليس فقط اعتداءً على شخصية ذلك الإنسان المقترف؛ بل هو اعتداء على الأمة كلها؛ لأنه تغيير لمجرى حضارتها، وقيمها وأخلاقها، وما هي مقتنعة به.
ومن هنا فأذكر قديما قبل عدة سنوات أنه عقد مؤتمر في باريس مؤتمر بورفيه، مؤتمر الاتحاد الإسلامي، الجمعيات الإسلامية العاملة في فرنسا, فكان من المحاضرين الذين تقررت دعوتهم امرأة وكانت دكتورة في الفقه، ولكنها كانت متبرجة، فوقع القائمون على المؤتمر في إحراج، فسيدعونها وستجلس بين الشيوخ والعلماء، فحاولوا إقناعها بالتستر فلم تقبل وقالت: هذا منافٍ للحريات، وأنا حرة وسأختار لنفسي شعاري المناسب, فوقعوا في حرجٍ شديد فكلموني فقلت: اتصلوا بها وأعطوني إياها بالتلفون, فأعطوني إياها، فقلت: أليست كل دولة تشترط شروطاً لدخول بلادها في التأشيرة؟ فقالت: بلى. فقلت: إذاً المؤتمر يشترط زياً معيناً لدخوله، فهو شرط لتأشيرته. فأنا عرفت أنها مفتونة، ولو بدأت أناقشها فيما يتعلق بالحجاب لطال النقاش ولم يكن لذلك فائدة, فقالت: الآن اقتنعت فمن حق المؤتمرين أن يشترطوا زياً معيناً وأنا أقبله؛ فلذلك يحتاج إلى الحفاظ إلى هذه القيم، وهذه الأخلاق وترسيخها وبقائها.
كذلك أن يعلم أن قطيعة الرحم وعقوق الآباء والأمهات ونحو ذلك ليس اعتداءً فقط على الآباء والأمهات أو على الرحم المقطوع؛ بل هو اعتداء على الأمة كلها؛ ولهذا قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23], يحتاج الناس إذاً إلى الأخذ بهذا الإسلام جميعاً، وألا يردوا شيئاً منه على الله سبحانه وتعالى، وأن يعلموا أن الرب الحكيم هو الذي شرع هذه الأحكام، وهو الذي رتبها وبناها، وسأضرب لكم مثالاً واحداً، وهو أن القيم الاقتصادية مبنية على القيم الخلقية، لو أن رئيساً من الرؤساء حرم الربا فرتب عليه أقوى العقوبات، ولكنه لم يعتنِ بالقيم الخلقية؛ فلم يرسخ إيثار الآخرة على الأولى, ولم يرسخ الأمانة، ولم يحارب الغش, ولم يحارب أكل مال الناس بالباطل، وترك الناس على أهوائهم، ولكنه فقط رتب عقوبةً عظيمة على الربا، هل سينزجر الناس عن الربا؟
إنهم ولا شك سيحتالون عليه بمختلف الحيل؛ لأنهم أصلاً مقبلون على الدنيا ويؤثرونها على الآخرة؛ ولأنه فشا فيهم الكذب والغش، وانعدمت فيهم الأمانة والصدق؛ فلذلك سيؤثرون أمور الدنيا، فيرابون ويحتالون على التخلص من القانون بالحيل ونحوها من الأمور التي تخرجهم من ورطاته، كالوساطات والرشوات ونحو ذلك.
إذا عرفنا هذا فلنعرف أن الناس في سبيل هذا الشمول -شمول الإسلام لكل شيء-، ضل منهم من أهل الإسلام طائفتان:
الطائفة الأولى: الطائفة العلمانية، التي أرادت حصر الإسلام في الشعائر فقط؛ فالإسلام عندها محصور في الشعائر فقط: الأذان، والصلاة في المسجد، وما سوى ذلك لا دخل للإسلام فيه, فينظمون مثلاً في رمضان الإفطارات والدروس, ولكن في نفس الوقت يبيحون الربا، وفي نفس الوقت يعطلون الحدود، وفي نفس الوقت يقع الظلم والانحراف؛ فهل هذا هو الإسلام متكاملاً؟ بهذا يعلم أن العلمانية إنما أرادت اقتطاع جزء يسير من الدين تقبله عن الله وترد عليه ما سواه؛ ولذلك فإن لها أثرين عظيمين في تصور المسلم:
الأثر الأول: أنها لم تميز بين دائرتي الحلال والحرام، دائرتان في تصور المسلم متباينتان: دائرة الحلال، ودائرة الحرام, فالمسلم في الأصل إذا عرض له أي عارضٍ أو أراد أي تصرف, أول سؤال يسأله: هل هذا حلال أو حرام؟ فإن كان حراماً ابتعد عنه بالكلية, وإن كان حلالاً يزنه بعد ذلك بالمصلحة, فإن كانت المصلحة تقتضيه بادر إليه, وإن كانت لا تقتضيه أرجأه؛ لكن بعد أن يعرف أنه حلال. وهذا التصور أبطلته العلمانية فجعلت كثيراً من المسلمين اليوم إذا أرادوا الإقدام على صفقةٍ أو بيعٍ أو عمل لا يسألون عن حكمه الشرعي, ولا يجعلون ذلك درجة من درجات إعداد أي مشروع ولا التذكير فيه.
المشاريع التي تدرس وتقام لها الدراسات والتي تنفق عليها الملايين، لا تجدون فيها باباً للحكم الشرعي لهذا المشروع أبداً, ولا يسأل عن هذه الأحكام ولا يستفتى فيها؛ بل في بعض الدول تقام بعض المؤسسات الإسلامية، وإذا سمعت (الإسلامية) فاعلم أنها مرتبطة بالشعائر فقط, وإذا سمعت وزارة للإسلام فاعلم أنها مرتبطة بالشعائر فقط؛ لكن لا علاقة لها بالاقتصاد ولا بالاجتماع ولا بالسياسة ولا غير ذلك, فالإسلام عندهم محصور في زاوية ضيقة هي المسجد وما حوله, أو المسجد وحده وليس حوله شيء، وأنتم تدرون ذلك.
ثم بعد هذا القسم الثاني: هم المجزِئة، ومع الأسف أن كثيراً من أهل الدعوة دخلوا في هذا الباب، فجزأوا الإسلام فظنوا أن بعض الإسلام أصول، وبعضه قشور، فأرادوا أن يأخذوا تلك الأصول، وأن يردوا القشور, ومن هنا فهم يأخذون ما وافق أهواءهم ويتركون ما سوى ذلك, أو يرون أن بعض الجوانب هو المهم، وهو الذي به البداءة وأن ما سواه يرجأ إلى وقتٍ لاحق أو لا حاجة إلى ذكره, وإذا سمعوا درساً في موضوع ليس من تلك الموضوعات التي يرشحونها يظنون أنه ليس من مهمات الإسلام، وأنه لا ينبغي أن يقدم في مثل هذا الوقت مثلاً، أو ليس الموضوع ذا أهمية.
والغريب في الأمر أن الله سبحانه وتعالى حتى في العهد المكي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من تلك الأحكام التي يظنون أنها قشور أو أنها تؤخر أو لا يتكلم فيها. أنتم الآن هل تسمعون في دروس الدعاة ما يتعلق بالذبائح، والحلال والحرام منها، هذا نادر جداً الكلام فيه، وقد أنزله الله في سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة, وما يتعلق بزكاة الزرع والحرث هل تسمعون الآن كثيراً من الدروس فيه، أو عناية كثير من المتحدثين به، وقد أنزله الله على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام بمكة قبل الهجرة، وهكذا.
فأحكام هذا الدين مرتبطة، ولا يمكن أن يعظم هذا الإسلام في ذهن إنسان إذا كان -مثلاً- يحتقر أحكام الحيض والنفاس أو أي أحكام من أحكام الدين, لا بد أن تعظم في أذهاننا أحكام الدين جميعاً، وأن نعلم أنها جميعاً نزل بها الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها معصومة جميعاً؛ فهذا الدين: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42], وبذلك لا بد أن يؤخذ عن الله جميعاً، وأن يستكان له، وأن يستسلم له الناس استسلاماً مطلقاً؛ فقد أقسم الله في كتابه على نفي الإيمان عمن لم يستسلم الاستسلام المطلق لأحكام الشرع؛ فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], وانظروا إلى بلاغة هذا الأسلوب: (( فَلا وَرَبِّكَ ))، قسم من الله وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق من الله قيلاً، لا أحد أصدق من الله حديثاً، وأقسم بنفسه سبحانه وتعالى أنهم لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65], وهذا التحكيم جاء بصيغة الفعل المضعف الذي يدل على التمام والكمال، فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65], وهنا جاءت صيغة (ما) التي هي من ألفاظ العموم، ليشمل ذلك كل الأمور كبيرها، وصغيرها، ودقيقها، وجليلها، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65], أي: لا يكفي مجرد التحكيم والتحاكم؛ بل لا بد مع ذلك ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، فكثير من الناس قد يحكمون الشرع، ولكن بعد النظر. وإذا كانت النتيجة يتوقع ألا تكون في صالحه فإنه لم يرض بالشرع حكماً, وهذا حال المنافقين، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:48-52].
فالفوز الذي هو أن يزحزح الإنسان على النار وأن يدخل الجنة: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ[آل عمران:185], لا يكون إلا بالاستسلام للأحكام, وأن يقول الإنسان: سمعنا وأطعنا؛ سواء كان الحكم له أو عليه؛ ولذلك فإنه هنا قال: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], وربط الاعتراض بمجرد النفس ولو لم يعبر عنه الإنسان، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65], ولو لم يعبروا عن ذلك بألسنتهم، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65], وهذا التسليم والانقياد الكامل لأمر الله سبحانه وتعالى لا بد من تربية الناس عليه.
الأثر الثاني الذي أحدثته العلمانية: هو عدم العناية بإرجاع الأمور إلى الله سبحانه وتعالى؛ فكثير من الناس ينظر إلى الأسباب ويعتني بها غاية العناية، في مقابل إهماله لمسبب الأسباب الرب الكريم سبحانه وتعالى, يظنون أن الخيرات ورواج السلع وارتفاع سعر العملة أن كل ذلك راجع إلى البنك الدولي، وإلى صندوق النقد الدولي، وإلى المؤسسات الدولية, وينسون أن الله تعالى هو الحي، القيوم، الخالق، الرازق، وأن كل من سواه لا يملك لأحدٍ حياةً ولا موتاً ولا نشوراً وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].
ينسون أن الله هو الذي يأمر السماء فتمطر، وهو الذي يأمر الأرض فتنبت، ولا يمكن أن ينبت شيء إلا بأمره، ولا أن تمطر السماء إلا بأمره, وينسون أنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وضمن له رزقه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]؛ فلذلك يظن كثير من الناس أن تعطيل الحدود أو تغيير مناهج التعليم أو عدم مناصرة قضايا الحق، أو عدم التقرب إلى الإسلام، أو عدم نصرته ونشره أن ذلك بسبب الضغوط الأجنبية والرضوخ لها، كأن أولئك الذين يضغطون هم الذين يملكون للإنسان النفع والضر.
إن رجلاً من سلفنا أخذ أسيراً فعرض على ملكٍ من الملوك، فقال له: إني سأقتلك الآن، فقال: لو علمت أن موتي بيدك ما عبدت إلا أنت. لا بد أن يدرك الإنسان أن الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله واحد، وهو ديان السموات والأرض.
ولما حرم الله تعالى دخول المشركين مكة ومنعهم منها ظن أهل مكة أو بعضهم أن الأرزاق ستقطع، وأن الحصار الاقتصادي سيضرب عليهم وأنهم لن يجدوا موئلاً ولا مفراً يلجئون إليه؛ فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28], (إن خفتم عيلة) أي: إن خفتم فقراً، وأنتم معاشر المؤمنين تعلمون أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو حق؛ ولذلك فإن ضغوط الرب سبحانه وتعالى هي التي يجب الانقياد لها والامتثال لها، فقد قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
إن العلمانية تظن أن ظهور هذا الفساد في البر والبحر هو بضغوط الممولين والشركاء، وينسون أن ذلك امتحان وابتلاء من الله، وأنهم إذا رجعوا إليه فسيغنيهم عن الشركاء جميعاً، فهو الحي وحده لا شريك له, وهو الذي يأتي من عنده التمويل كله والخير كله بيده، ومن أحسن العلاقة بالله لا يمكن أن يتأثر بقطع العلاقات مع غيره، أليس الله عز وجل هو الذي السموات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
وقد قال العلامة مولود ... رحمة الله عليه:
أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي
وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعـــــــــــــــالي وأقوالي
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه رب القوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل ما ذل من بالله عزوكم ذل العزيز بأعمام وأخوالي
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأمــــــــــــــوال
متى تفز بموالاة الإله يدي فعادِ يا أيها المخلوق أو وال
لا بد أن نعلم أن تحسين العلاقة بالله مقدم على تحسين العلاقة بعباده وبالأخص بأعدائه؛ فالله تعالى يقول في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:51-52], فترى الذين في قلوبهم مرض، فالعلة هي من قلوبهم؛ للمرض الذي فيها وهو النفاق، وأنتم تعرفون أن الإعلام اليوم يسمي ذلك هرولة، يقولون: الهرولة إلى التطبيع مع الصهاينة, هذه الهرولة هي الإسراع في القرآن: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم[المائدة:52].
وحجتهم في ذلك كما هو المعلوم أن اليهود هم أبخل الناس، وهم أظلم الناس، ولا يفون بعهد، ولو كانوا يفون بعهد لوفوا لله بعهده، ولو كانوا يحترمون أحداً أو يقدرونه لقدروا موسى بن عمران إذ أنقذهم الله به من فرعون وجنوده، وقد آذوه غاية الأذى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].
إذاً: يعرف الناس أنه لا خير فيهم, ولكن الهرولة سببها أنهم يقولون: نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52], فهم يظنون أن الدوائر بيد هؤلاء الأعداء أعداء الله عز وجل، يظنون أنهم الذين يملكون لهم الحياة والموت، أو هم الذين يؤثرون في الأرزاق، أو يؤثرون في الخلق، وكل ذلك ليس له أي أساس، وإنما هو مرض في قلوبهم فقط كما قال الله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ [المائدة:52-53].
إن علينا إخواني أن نعلم أن هذا الدين الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم هو الكفالة والضمان من عند الله لصلاح أحوالنا في الدنيا والآخرة، وأن أي إنسان رغب عن شيءٍ منه فهو خاسر في الدنيا والآخرة, وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130], هل ترضون بالسفه وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130].
وإن الاقتداء بأعداء الله اقتداء بمن لا يسمع ولا يعقل، فهم يشهدون على أنفسهم يوم القيامة بذلك، كما قال الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11], انظروا إلى البون الشاسع بين حالهم وحال إبراهيم عليه السلام: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة:130], وهؤلاء سيقولون يوم القيامة: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11].
إن كثيراً من أولاد المسلمين يجعلونهم قدوة وأسوة؛ فيقتدون بهم في شئونهم وأمورهم، ويعجبون بحضارتهم وما امتحنهم الله به من أمور الدنيا العاجلة التي لا تساوي شيئاً مما عند الله بالآخرة، وقد أعد الله جنات النعيم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر, وفيها تقريب الرب سبحانه وتعالى والنظر إلى وجهه الكريم لمن أطاعه، وأعد نار الجحيم التي فيها من الأذى والإهانة والإقصاء عن الله تعالى، وأنه لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15], للذين أعرضوا عن الله وردوا عليه بعض شرعه؛ فأولئك محجوبون عن الله لا يرتضيهم الله سبحانه وتعالى؛ فهم من فتنة إلى فتنة، ومن شرٍ إلى شر، لما لم يرضوا بعبادة الرب الكريم المستحق للعبادة، عبدهم الله للعباد الأذلاء الفقراء، الذين لا يملكون لهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
فهم عباد لأخس العباد، فأنتم تعلمون أن من كان رذيلاً غير مرضيٍ في شيءٍ من تصرفاته لا يرضى أحد من سيادة عليه، وهل تشعرون برذالة أدنى من عداوة الله تعالى؟ لا يمكن أن يعرف على وجه الأرض رذالة ولا نذالة هي أدنى وأخس من عداوة الرب الكريم سبحانه وتعالى.
فلذلك من كان عدواً لله، كيف يرضى من هو ولي لله، أو من هو مؤمن بالله أن يكون تابعاً له وفي يده وتحت قبضته؟ لا يمكن أن يقع هذا أبداً من أهل الإيمان الذين يعلمون مآلات الأمور، ويعلمون أن الساعة قريب، وأن الحكم سيعلن بكل عدالة لا يمكن أن يكون مثل أحكام أهل الدنيا الجائرة، الحكم يعلن يوم ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59], وكما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107], وكما قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:60-61].
إن علينا عباد الله أن ندرس كل جوانب الإسلام، وأن نتعلم كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وأن نعمل بكل ذلك؛ ولذلك أذكر أن أحد السجناء فكر في السجن فقال: قد سمعنا في سورة الإنسان وصف الله تعالى لعباده الذين ارتضاهم فيما يتعلق بالصدقة فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8], وقد كتب الله لنا من قبل إطعام المسكين واليتيم؛ لكن لم يكتب لنا من قبل إطعام الأسير وها هو قد تحقق الآن, فكان السجن نعمة في حقه؛ لأنه وجد فيه سبيلاً لتنفيذ شيءٍ من الإسلام لم يعمل به من قبل.
إن علينا أن نحرص على أن نطبق الإسلام جميعاً في أنفسنا، فمن بلغه شيء من كتابٍ أو من سنة، أو جاءه شيء من عند الله سبحانه وتعالى فهو غير معذور ألا يبادر إليه قبل الموت، فمدة الامتحان ما هي إلا في هذا العمر، وقد قامت علينا الحجة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وتبليغه، ونحن نشهد جميعاً أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأنه لم يترك شراً إلا حذرنا منه، ولم يترك خيراً إلا دلنا عليه؛ فلم يبقَ إلا أن نتعلم ما جاء به، وأن نعمل بذلك ونبادر إليه, وإذا فعلنا فكل المشكلات الأخرى ستزول وتحل.
كل المشكلات التي يتخبط فيها الناس الآن ويبحثون لها عن حلول قد جاءت حلولها من عند الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والتاريخ يكفي شاهداً على ذلك, ومشكلاتنا اليوم التي حصلت هل كانت مطروحة في أيام عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب أي: أيام الخلفاء الراشدين؟ لم تكن هذه المشكلات قائمة، وكان المسلمون يصلون خلف خليفتهم، وهو الذي يخطب على المنبر وهو الذي يؤمهم في الصلاة، وهو الذي يوزع بينهم بيت مالهم بالسوية والعدل.
ولذلك فإن عمر رضي الله عنه جاءته غنيمة؛ فكان يقسمها بين المستحقين من المسلمين، فرأى ثوباً فيه نقص، فجعله تحت ركبته، فرآه رجل من المسلمين فظن أنه يختاره لحسنه، أعطاه ثوباً، قال: لا، أريد ذلك الذي تحت ركبتك، قال: خذ هذا هو خير لك، قال: لا، أنا أريد ذلك الذي تحت ركبتك، فأشهد عليه شهوداً أنه يرضى من حقه بذلك الثوب الذي كان تحت ركبته فأعطاه إياه, وكانت حيلة فعلها أمير المؤمنين رضي الله عنه ليقبل بعض المسلمين ذلك الثوب، وإلا فلو دفع إليه من قبل ما قبله.
وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه لما تولى الخلافة مكث سنة لا يأخذ شيئاً من بيت المال، ثم جمع الناس في المسجد فقال: أيها الناس! إني وليت أموركم وأنا تاجر أنفق على عيالي من كسبي، وقد شغلتموني بأموركم العامة عن تجارتي فاجعلوا لي رزقاً من بيت مالكم. هذا الخليفة رئيس الدولة يريد أن يجعل له راتب من بيت المال يتفق عليه أهل المسجد, فيناقش أهل المسجد راتب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق ؛ فيحددون له راتباً قليلاً ويرضى به الخليفة، فيعيش عليه؛ فلما حان موته قالت أم المؤمنين عائشة : كنت عنده، فنظر إلى ثوب يلبسه فقال: اغسلوا هذا الثوب وكفنوني فيه مع ثوب آخر؛ فقلت: بل نشتري لك جديداً، فقال: الحي أولى بالجديد، وإنما هو للمهلة والدود, والمهلة: هو الصديد الذي يخرج من بدن الإنسان عند تغيره.
ثم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يأتي بعده فتزداد أموال بيت المال أضعافاً مضاعفة، وتفتح الأمصار، وتزداد الميزانية, ومع ذلك عند موته يدعو ابنه عبد الله فيقول: انظر إلى كل شيء كنت أخذته من بيت المال فأردده إليه, فإن المسلمين إنما أعطوا هذا المال أبا بكر ولم يعطوني إياه، فأخاف ألا أكون قد قمت مقام أبي بكر ، فإن وجدت ذلك في مال آل عمر فاردده إلى بيت المال، وإن لم تجده فيه فانظر إلى بني عدي بن كعب وفي أحياء قريش فلأن يكونوا خصماء لي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون.
هذا الراتب الذي كان يتقاضاه وهو خليفة أراد أن يرده جميعاً إلى بيت المال؛ لأنه يخاف أن يحاسبه الله عليه؛ لأنه يعلم أن المسلمين أعطوا هذا المبلغ أبا بكر ولم يخصصوه لعمر فيخاف ألا يكون سد مسد أبي بكر للناس.
ويأتي بعده عثمان بن عفان فيقوم بالناس خطيباً بعد توليه الخلافة، فيقول: أيها الناس! إني قد أغناني الله عن بيت مالكم، فما كان فيه فهو رد عليكم لا آخذ منه شيئاً؛ لأنه هو أغنى المهاجرين.
ثم يأتي بعده علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من فقراء المهاجرين، ولم يكن يملك شيئاً فتدور عليه ثلاث ليال وهو يملكه، كلما ملك شيئاً أنفقه، ولا تدور عليه ثلاث ليال وهو يملكه إلا عدة حربه، أي: عدة السلاح فقط، وكان يقسم بيت مال المسلمين بينهم بالسوية؛ فإذا نفد ما في بيت المال قمه بردائه، ونضح فيه من الماء وصلى فيه ركعتين.
فلم تكن إذ ذاك هذه المشكلات القائمة الآن موجودة في ذلك العصر؛ بل كان الناس إذ ذاك يجاهدون عدوهم ولهم النصرة والتمكين، ويعملون بما أنزل إليهم من شرع ربهم، ولا يختلفون في شيءٍ منه.
كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : أخبرنا الذين كانوا يعلمون من القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذكر منهم أبا هريرة و أبي بن كعب و ابن عباس و علياً و عثمان ، قال: قالوا: ما كنا نتعلم عشر آيات من القرآن فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم، وحتى نعمل بها، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل، أين هذا من العلمانية والتجزئة؟ تعلمنا القرآن والعلم والعمل؛ فلم يكونوا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من الأحكام وحتى يعملوا بها.
وكذلك الحال بالنسبة لمن سواهم من قادة هذه الأمة، فسلمان الفارسي ولاه عمر بن الخطاب على مدائن كسرى؛ لأنه في الأصل من الفرس، فلما تولى على المدائن، وهي التي فيها قصور كسرى وإيوانه لم يسكن إلا تحت ظل نخلة، وكان يأكل من كسب يده فقال: ( تركني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أملأ بطني من كسب يدي، ولن أغير ذلك حتى ألقاه )، فما تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي محافظاً عليه؛ ولذلك فكانت المزية في الإسلام بالحفاظ على ما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعندما جرح عمر رضي الله عنه عهد بالأمر إلى ستة ووصفهم وصفاً عجيباً، قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ) عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و الزبير و طلحة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ فاستمروا على مرضاته؛ فلذلك استحقوا هذا المقام، ورضي عنهم الجميع ولم يستنكر ذلك أحد.
إن هذا الحال إذا حصل فسيحصل العدل ويضرب بأعطانه ولا يمكن حينئذٍ أن تقع النزاعات والخلافات، كما حصل في أيام عمر بن عبد العزيز وهي أيام قليلة لم يعش في الخلافة إلا سنتين، لكن مع ذلك عم الخير فيها أصقاع الأرض، وعم العدل فيها أنحاءها؛ فأقبل الناس على العلم والعمل وكتبوا السنة ودونوها وملئت المساجد بالمصلين، وأقبل الناس على العبادة والجهاد في سبيل الله، وارتفع شأن هذه الأمة، وعلت درجتها بين الأمم، وكان الذئب إذ ذاك لا يعتدي على الغنم, وهذا من تمام العدل أن الذئب لا يعتدي على الغنم؛ فلما وجد رجل في الحجاز ذئباً يعتدي على عنز عرف أن الخليفة قد مات.
وحصل هذا أيضاً أيام محمد المهدي العباسي حتى قال أحد الشعراء:
تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة وذئب أطلس
لا ذي تخاف ولا بهذا جرأة تهدى الرعية ما استقام الريس
تهدى الرعية أي: تستقيم ما استقام الريس.
إن الأخذ بهذا الإسلام بكل جوانبه يقتضي إزالة كل الخلافات والضغائن والشحناء، ويقتضي من الناس أيضاً معرفته؛ لأن الإسلام إذا أخذ ببعض جوانبه دون بعض فسينسى الناس الجوانب المهجورة منه, ولذلك فأنتم تعرفون أن الناس يتشبثون بالصلاة وهي آخر عرى الإسلام نكثاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر إن عرى الإسلام ستنكث عروة بعد عروة، فأولها الحكم، وآخرها الصلاة. أول عرى الإسلام نكثاً الحكم وهو ما يتعلق بالقيادة، وآخرها نكثاً الصلاة، لكن مع ذلك اليوم نجد كثيراً من سننها يفرط فيها الناس فينقرونها نقراً، ولا يكاد الإنسان يستطيع أن يسبح ثلاث تسبيحات في الركوع ولا في السجود، ولا يستطيع أن يدعو بعد التشهد، ولا أن يقيم صلبه في الصلاة، فكثير من صلاة الناس اليوم هي ما كان يفعله المنافقون في الصدر الأول, وقد وصفهم الله بذلك فقال: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].
فمعناه أن ما هجر من الإسلام فقد ساعدت على محوه وطمسه، وما أعلن منه وأبرز للناس فقد ساعدت على إحيائه؛ ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم: اجلسوا للناس وعلموهم في المساجد والمشاهد، فإن العلم لا يموت حتى يكون سراً؛ فإذا كان العلم سراً، فخاف الناس من إعلانه ونشره فحينئذٍ سيموت.
ولذلك فإن مالك بن أنس رحمه الله لما أتاه رجل من أهل مصر وقد علم مالك أنهم بدءوا بعض التنظيمات الإدارية التي أخذوها عن طريقة المقوقس والأقباط؛ فجعلوا لبعض المساجد خزنة وحراساً، فلما أتاه رجل منهم سأله قال: هل لمسجدكم حارس؟ قال: نعم، قال: هذا سجن وليس بمسجد، هذه فتوى الإمام مالك بن أنس قال: هذا سجن وليس بمسجد.
فلذلك لا بد أن يعلم أن هذا الدين بجزئياته وأركانه وأكارعه وأطرافه من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يرد مسلم على الله شيئاً مما أمر به.
ثم إن علينا كذلك عباد الله أن نعلم أن ما يطبقه الإنسان بنفسه فسيحييه للناس، فالإسلام لا يمكن أن يكون الناس يتواكلونه فيقولون: المسئولية على المسئول الفلاني، أو على الوزارة الفلانية، أو على الجهة الفلانية؛ لأن المسئولية عن الإسلام على كل مسلم؛ فأقم دولة الإسلام في قلبك أولاً، حقق من الإسلام ما تعلمت في نفسك، فصلّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وزكِّ زكاة أصحابه رضوان الله عليهم, وأدِّ الإسلام كما جاءك على النبي صلى الله عليه وسلم, واجتنب النواهي، وامتثل الأوامر، وإذا فعل هذا الحشد الكبير من المسلمين فسيتحقق الإسلام على بلادهم، فهذا هو تطبيق الإسلام الحقيقي.
ولذلك لا بد أن نكون جميعاً من المبادرين لإحياء السنن المماتة وإماتة البدع, والمشاركة في إحياء سنة واحدة ميتة هو من الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإيمان.
ولذلك فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال له ابنه عبد الملك : يا أمير المؤمنين! إنك وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما نزال نرى كثيراً من البدع والمنكرات, فقال: يا بني! ألا يكفيك أن يكون أبوك كل يوم في إحياء سنة وإماتة بدعة.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر