إسلام ويب

صفات المنافقينللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اقتضت حكمة الله أن يتنوع الناس في هذه الحياة ويتميز ليتحقق معنى الاختبار والابتلاء، فكان الناس مؤمنين وكافرين ومنافقين، ويحتاج المؤمن لمعرفة صفات النفاق كي يتخلص منها ويتقيها خصوصاً النفاق العملي لكثرة انتشاره، ومن ذلك ما ذكرتها الآيات والأحاديث في صفات المنافقين، ثم يحاول تطبيق ذلك بشكل عملي حتى يمن الله عليه بتحقيق الإيمان والثبات عليه

    1.   

    حاجة المؤمن إلى معرفة صفات المنافقين

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى حين أقام الحجة على الناس نوعهم إلى أنواع؛ فجعل منهم من يستجيب لنداء الله سبحانه وتعالى ويؤمن بما يرسل به رسله، وينتفع بالذكرى ويعتبر، وهؤلاء هم المؤمنون المنتفعون بالذكرى، وقد جعل الله إلى إزاء أولئك أيضاً المنافقين، الذين لا يصدقون فيما عاهدوا الله عليه ولا يوفون لله بما وعدوه، ويتصفون بالصفاة المنافية للإيمان، وجعل أيضاً صنفاً ثالثاً يفرون من الذكرى، ولا يستجيبون لدعوة الله سبحانه وتعالى ولا يطيعون أوامره، وهم الكفار الصرحاء، وهذه القسمة في الدنيا فقط؛ فأهل الدنيا على هذه الأقسام الثلاثة ينقسمون إلى مؤمنين صادقين وإلى منافقين كاذبين وإلى كفار صرحاء. ثم بعد ذلك تكون القسمة ثنائية عندما تقوم الساعة؛ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:105-108].

    ولما كانت هذه القسمة ثلاثية في الدنيا احتاج المؤمن إلى أن يعرف صفات المنافقين، حتى لا يتصف ببعضها، خصوصاً إذا عرفنا أن النفاق ينقسم إلى قسمين: إلى نفاق عقدي، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان ويبطن الكفر، وإلى نفاق عملي، وهو أن لا يفي الإنسان لله بما عاهده عليه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من النفاق وبيان أنه يدب في النفوس، ودبيبه أخفى من دبيب النمل، فكثير من الناس يتصف بصفات المنافقين وهو لا يدري، فيكون محسوباً من المنافقين حين فرط وضيع، وكان بالإمكان أن يتلافى ذلك وأن يراجع نفسه، وأن يتخلى عن تلك الصفات المذمومة التي عد بها من المنافقين، لكنه لما لم يبحث عن صفات المنافقين ولم يراجع صفات نفسه حتى يعرضها على طبيب القرآن كان من الهاوين الهالكين.

    التخلص من صفات النفاق وعلاجها

    ونحن نحتاج جميعاً إلى عرض أنفسنا على هذا الطبيب الذي هو القرآن، ونحتاج إلى فحص دوري يتعرض له كل إنسان منا، حتى يعرف هل هو صادق أو منافق أو كاذب، حتى يعرف ما يتصف به من الصفات التي أرشد الله إليها وما لا يتصف به، حتى يعرف ما فيه من الأمراض والعيوب؛ لأن تحديد المرض هو بداية الدواء، وما دام الإنسان لا يعرف أنه مريض لا يرجى أن يصل إلى علاج، فاحتجنا إذاً في كل فترة إلى مراجعة صفات المنافقين حتى نعرض أنفسنا عليها؛ فمن كان منا يجد في نفسه بعض هذه الصفات؛ فلا بد أن يحرص على التخلص منها قبل فوات الأوان، ولا بد أن يسعى إلى التخلص منها وعلاجها، كما لو علم أنه مصاب بداء خطير وأمكنه علاجه؛ فإنه سيبادر للعلاج وسينفق ماله وجاهه من أجل الشفاء من ذلك المرض، والنفاق أدوأ الأدواء، وأشد الأمراض؛ فيحتاج الإنسان إلى العلاج منه قبل أن يستثقل ويشتد.

    وقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة أمام المنافقين، وبين أن كل إنسان تقبل منه التوبة ما لم يغرغر، وما لم تطلع الشمس من مغربها، فهذان أمران لا توبة بعدهما، إذا وصلت النفس إلى الحلقوم وكان وقت الغرغرة؛ فإن الإنسان حينئذ لا تقبل توبته، وكذلك الحال الثاني: إذا طلعت الشمس من مغربها، فمن لم يكن آمن أو قدم في إيمانه خيراً؛ فإنه لا تقبل منه التوبة بعد، وهذان الأمران يأتيان فجأة، ونحن دائماً عرضة لهما؛ فكل يوم تطلع فيه الشمس بالإمكان أن تطلع من مغربها، وكل يوم كذلك بالإمكان أن يكون آخر أيام كل إنسان منا في هذه الحياة الدنيا؛ فكان لزاماً علينا أن نبادر إلى التوبة قبل أن يفوت الأوان، ولا يتوب الإنسان توبة نصوحاً صادقة إلا إذا عرف ما يتوب منه.

    تجدد صفات المنافقين في النفوس

    كذلك فإن صفات المنافقين من الصفات التي تتجدد في النفوس؛ فيكون الإنسان سليماً منها فترة من الفترات، ثم يصاب بعدوى من أجل خلة أو خلطة، أو من أجل طعام يطعمه أو شراب يشربه، أو شهوة تواجهه أو شبهة تعرض له؛ فيكون بذلك متصفاً بصفة من صفات المنافقين قد عرضت عليه، فكم من إنسان هو سليم من هذه الصفات المذمومة ولكنه يخالط مصاباً بها فتدب إليه العدوى، أو يأكل اللقمة من غير الحلال، فتصل إليه صفة من صفات المنافقين من خلالها، أو يجلس الجلسة التي لا يذكر فيها الله سبحانه وتعالى؛ فيصل إليه الضرر منها فيتصف بتلك الصفة، أو يقصر في أمر من أمور دينه، سواءً كان تعلماً أو عملاً فيصاب بذلك الداء؛ لشؤم ذلك التقصير الذي وقع فيه.

    فإذا كان الحال كذلك، ونحن نعلم جميعاً أننا مقصرون وأننا عرضة لهذه العدوى وعرضة لكل أنواع المؤثرات؛ فنجد لزاماً علينا أن نبادر على التعرف على هذه الأدواء والأمراض، حتى لا نكون من الغارقين فيها، والغريب أن كثيراً من الناس لا يشعرون بأدوائهم وهم يحاولون علاج الآخرين؛ فيهتمون بعلاج الآخرين، يهتمون بهداية الأولاد، ويهتمون بهداية الأزواج، ويهتمون بهداية الجيران، وينسون أنفسهم ويغفلون عن كثير من الصفات التي فيهم، وقد يكون السبب الذي يؤخر استجابة دعواتهم ويؤخر نجاحهم في مهماتهم هو بعض الصفات الداخلية التي فيهم، وما لم يتخلصوا منها لا يستجاب دعاؤهم ولا تتحقق آمالهم، ولا تؤثر دعوتهم في الآخرين، فكان لزاماً علينا إذا أردنا صلاح أحوالنا أن نصلح ما بأنفسنا أولاً.

    كذلك فإن النفس هي أقرب الأعداء إلى الإنسان، وهي أقرب مخالط له، ومالم يهتم بها الإنسان فإن العدو الأقرب يصول عليه ويصل إليه من حيث لا يشعر؛ فكان لزاماً عليه أن يبدأ أولاً بنفسه ثم بمن يليه، والبداءة بالنفس رشد وعقل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ابدأ بنفسك )، ( وكان صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدأ بنفسه )، فكل ذلك يقتضي من الإنسان أن يبدأ أولاً بنفسه فينظر إلى الخلل، فإذا وجده في نفسه بدأ بعلاجه، وقد يكون ذلك معيناً على تجاوز كثير من العراقيل والعقبات، وقطع كثير من المسافات.

    1.   

    استمرار النفاق وانتشاره

    إن هذا النفاق باق في هذه الأمة لا ينقطع ولا ينفد، فإذا كان أفضل عصور الأمة وأكملها إيماناً وأحسنها أخلاقاً وأقواها في الدين قد أصيب كثير من أهله بهذا المرض، فكيف لا يصاب من وراءهم به؟! إن الناس الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم بأعينهم ورأوا المعجزات ورأوا الوحي ينزل عليه، وسمعوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصيب كثير منهم بهذا النفاق، فكان لزاماً علينا نحن أن نخافه؛ لأننا نعلم أنه لم ينج منه ذلك العصر الأول، فغير ممكن أن تنجو منه العصور المتأخرة، ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يخافونه على أنفسهم خوفاً شديداً. وقد أخرج البخاري في الصحيح عن ابن أبي مليكة قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يقول: إيماني على إيمان جبريل وميكائيل، وما منهم أحد إلا وهو يخاف النفاق على نفسه). وكذلك قال الحسن بن أبي الحسن البصري : (ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن) وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـحذيفة بن اليمان : ( أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو! هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين )، فكل إنسان منهم كان يخاف النفاق على نفسه لعلمه أنه داء مستشر مستفحل، وأنه موجود في زمانه، وإذا كان حالهم كذلك وهم الذين زكاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فما بالنا نحن في العصور المتأخرة؟! فلا شك أن النفاق كثير فينا، وإذا قارنا النسبة فوجدنا مثلاً في غزوة أحد رجع نصف الجيش تحت لواء المنافقين، خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة مقاتل من المدينة لغزوة أحد؛ فرجع ابن أبي لواءه فقال: (من لا يريد القتال فليأوي إلي) فخرج إليه سبعمائة مقاتل، نصف الجيش، هذه نسبة كبيرة جداً، مروعة في ذلك العصر، فإذا كان هذا في الصدر الأول فماذا سيكون في القرن الثاني ثم القرن الثالث ثم الرابع، إلى أن نصل إلى القرن الخامس عشر، الذي نحن فيه، ستكون النسبة لا محالة نسبة كبيرة مضاعفة، وهذا من الأمور المروعة المرعبة، فلذلك لا بد أن يحرص كل إنسان منا على أن لا يزيد نسبة المنافقين، وأن يحاول على الأقل أن يخرج نفسه من هذه النسبة.

    1.   

    صفات النفاق العملي

    وصفات المنافقين بين النبي صلى الله عليه وسلم منها عدداً كثيراً؛ كما جاء في القرآن كذلك عدد كثير منها، وهذه الصفات أغلبها يتعلق بالنفاق العملي؛ لأن النفاق العقدي أهله كفار، لا يتقبل الله منهم أصلاً؛ لأنهم إنما يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، لا يصدقون، وهم في ريب وشك، كلما فعلوا عبادة يفعلونها وهم يترددون ويشكون، يقولون: هل فعلاً توجد جنة ونار؟! هل فعلاً سيبعث الناس بعد موتهم؟! فيشكون في هذه الأمور المسلمة الكبرى، ويترددون فيها، فهم يفعلون الطاعات في الظاهر لكنهم في قرارة أنفسهم يرتابون ويشكون، وهؤلاء هم المنافقون النفاق العقدي الذين لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، وهم في النار تحت الكفار يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا[النساء:145].

    والنفاق العملي أكثر انتشاراً في المؤمنين؛ فلذلك احتجنا إلى بيان صفات أهله، وقد جاء الكثير منها في القرآن، وبين النبي صلى الله عليه وسلم منها عدداً كبيراً في الأحاديث الصحيحة، وسنتناول بعض هذه الصفات لنعرض عليها أنفسنا؛ فمن وجد منا بعض هذه الصفات فيه فليبادر إلى علاجها البدار البدار؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )، فقوله: ( آية المنافق ثلاث ) آيته أي: علامته الدالة عليه، فإذا وجدت هذه العلامة دل ذلك على وجود النفاق؛ فهي عرض من أعراض هذا المرض العضال.

    الكذب في الحديث وآثاره

    وذلك في ثلاث صفات كبرى، قال: ( إذا حدث كذب )؛ فهذه الصفة الأولى هي الكذب في الحديث، أن يكون الإنسان غير صادق، فإذا حدث لا بد أن يميل إلى الكذب، والكذب دائماً يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه في تحذيره من الكذب قال: ( عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يدعو إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )، والكذب سبب لسخط الله ومقته، وقد بين الله سبحانه وتعالى أنه سبب للهلاك حتى في الحياة الدنيا؛ فقال تعالى في نذارة موسى عليه السلام: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى[طه:61]، فهنا بين ضررين من أضرار الكذب:

    الأول: تعجيل عذاب الله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ[طه:61]، والأمر الثاني: الخيبة، أن لا يتعلق أمل الإنسان بشيء فيصل إليه أبداً، حتى لو كان الأمر ميسوراً سهلاً، لا يهبه الله له؛ فيصرفه عنه؛ فلذلك قال: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه:61].

    كذلك من آثار الكذب ضعف شخصية صاحبه؛ فهو غير شجاع؛ لأنه لا يحمله على الكذب إلا خوفه من الناس أو طمعه فيهم أو ضعفه في مواجهتهم؛ فلذلك امتهن هذه المهنة الخسيسة، واتصف بهذه الصفة الذميمة.

    كذلك فإن الكذب أيضاً يقتضي نقص ثقة الناس بالإنسان؛ فالإنسان في هذه الحياة مضطر لمخالطة الناس، وهو محتاج لهذه المخالطة كل احتياج، وإذا كان كذاباً فإن الناس لن يثقوا بمخالطته ولا بوعوده ولا بالتزاماته، وسيكون محتقر الجانب لديهم، فلذلك كان الكذب وصفاً ذميماً حتى لدى الكذابين؛ فالكذاب يحتقر كل كذاب مثله؛ لأنه يتصف بهذا الوصف الذميم.

    كذلك فإن الكذب أيضاً مقتض لفساد الرأي؛ فإن الرأي إنما يترتب على المعلومات الصحيحة؛ فإذا جاءت المعلومات باطلة مكذوبة فسيكون الرأي حينئذ زائفاً، وقد قال علي رضي الله عنه: (لا تكذبوني، فإنه لا رأي لمكذوب). فالذي يكذب عليه لا يدري ماذا يصنع.

    وهذه الصفة مستشرية منتشرة في الناس، وإذا راجعنا أنفسنا فسنجد أن كثيراً منا يكذب من غير حاجة، نحن يمكن أن نتفهم أن يكذب الإنسان من حاجة كالإنسان الخائف أو الإنسان الذي هو تحت الإكراه، هذا يمكن أن يفهم كذبه، وقد يكون الكذب حينئذ مباحاً في بعض الجزئيات؛ كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهن في ذات الله )؛ فإبراهيم عليه السلام قال: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا[الأنبياء:63]، وقال: (هي أختي) وقال: إِنِّي سَقِيمٌ[الصافات:89]، لكن ما قال ذلك إلا تحت طائلة الإكراه والأمر المهم لإصلاح الدين؛ فكان ذلك مبيحاً لمثل هذا النوع من الكلام، ولا يمكن أن يكون كذباً بمعناه السلبي؛ لأن إبراهيم نبيٌ معصوم، فلا يمكن أن يقع منه مخالفة؛ فدل ذلك على أن هذا مما أذن الله فيه، لكن أن يكذب الإنسان من غير حاجة فهذا الغريب جداً، وهذا ما نشاهده في حياة الناس اليومية، فنجد الإنسان إذا سأله أولاده الصغار: إلى أين تتجه؟ يقول: أتجه إلى كذا؛ فيكذب على أولاده الصغار، وهو هنا قد فتح فصلاً لتعليم الكذب، فتح فصلاً وسجل فيه أولاده وأفلاذ كبده ليعلمهم الكذب.

    وكذلك من الغريب أن كثيراً من الناس يعودون الأطفال الصغار على النسبة إلى غير آبائهم وأمهاتهم؛ فيقولون للولد الصغير: أبوك فلان، لجده أو خاله أو أحد أقاربه، وأمك فلانة، لجدته أو لخالته أو لقريبة له، فيتعود على الكذب حتى في مثل هذه الأمور التافهة، ومثل هذا النوع يستبيح به الإنسان ويستحل الكذب؛ لأنه يرى أن الأمر ميسور سهل، وتدرج الألسنة على مثل هذا النوع من الكذب، وفيه خطر؛ لأنه استسهال بأمر الكذب وتعود على جزئياته التافهة، ومحقرات الذنوب جاء التعوذ منها؛ لأن هذه الأمور هي من الذنوب والمعاصي، وهي مع ذلك محقرات، لأن الصبي عندما يقول: أمي فلانة أو أبي فلان، فيتعود على مثل هذا وبالتالي يسهل عليه الكذب في نحو هذا؛ فهذا النوع من محقرات الذنوب، وقد جاء التعوذ منها، فلا بد أن ننتبه لمثل هذا النوع في ألسنتنا، وأن نتعود على اجتنابه والحذر منه.

    كذلك لا بد من التعود على تحري الصدق، وأن يكون الإنسان متحرياً الصدق، فإذا تكلم بكلام نظر هل هو دقيق في عبارته أو لا.

    كان لنا في الأيام الماضية دورة لبعض الأئمة، وقد كنا نحاول التحري في الدقة في العبارة، وبعد شرحها والتنبيه عليها تحدث أحد الأئمة فذكر الأذى في الله، فقال: الإمام مالك هو أول من أوذي في الله، هذا الكلام ليس دقيقاً فماذا حصل لنوح وإبراهيم و موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين قبل مالك وهو يقصد أنه كان من الذين أوذوا في الله، فكانت العبارة غير دقيقة فانقلبت عليه، فمثل هذا النوع لا بد من الانتباه والحذر منه، وأن يحذر الإنسان من إطلاق الكلام على عواهنه؛ لما فيه من نقص الدقة والتفريط في الصدق.

    خلف الوعد

    الصفة الثانية قال: ( وإذا وعد أخلف )، فالوعد هو: أن يذكر الإنسان أنه سينجز خيراً أو سيسدي معروفاً في المستقبل، فإذا وعد الإنسان بمعروف فعليه أن يحرص على أدائه على الوجه الصحيح؛ لأن عدم أدائه من أعمال المنافقين وصفاتهم، والوعد يتجاسر عليه كثير من الذين لا يصنعونه ويشق على الذين سيصنعونه؛ فالإنسان الذي يفي بوعده من النادر أن يعد؛ لأنه يعلم أنه إذا وعد فقد أصبح الموعود به ديناً عليه؛ ولهذا يقول الحكيم:

    يتفيهق الغمر المغمر مسهباً والمصقع العد القريحة موجز

    الله يعلم أن هذا عاجز فيما يقول وأن هذا معجز

    كالوعد يقوى المخلفون بحمله ويهاب عقدة حمله من ينجز

    فالذي ينجز الوعد يتهيبه ولا يقدم عليه في الغالب، والذي لا ينجز الوعد هو الذي يخلف؛ فيسهل عليه أن يعد بأنه سيفعل وسيفعل ولا يفعل، وهذا الإخلاف هو من الصفات الذميمة التي يتصف بها كثير من الناس، وكثير منهم لا يشعر به؛ فمثلاً لا شك أن الإنسان يشعر بالغبن عندما يرى المسارعين إلى الخيرات، فيكون في رمضان مثلاً فيرى الصائمين القائمين الخاتمين للقرآن، المكثرين من الصدقات والذكر والعبادات، ويرى نفسه في آخر الركب ومؤخرة القائمة؛ فإنه حينئذ سيندم ندماً بالغاً، وكثيراً ما يعاهد نفسه على أنه سيكون إن أتيحت له فرصة أخرى من السابقين بالخيرات والمسارعين إليها، لكن إذا أتيحت له الفرصة إذا الأمر عادي، وإذا هو كما كان أو أدنى مما كان عليه، ومثل هذا في كل طاعة؛ فإننا نجد الإنسان إذا مرض وأشفى على الهلاك، وظن أنه سيموت يحدث وعداً أنه إذا رجع إلى هذه الحياة مرة أخرى فسيغير ما به وسيترك كثيراً من الصفات الذميمة وسيحسن ويبالغ في الإحسان، لكنه إذا عاد إلى الحياة نسي ذلك، وهذا الوصف بين الله سبحانه وتعالى أنه من أوصاف أهل الجاهلية؛ فإنهم إذا ركبوا الفلك - أي: كانوا في البحر - دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا نجوا مما كانوا فيه من الهلكة يعودون إلى شركهم، نسأل الله السلامة والعافية!

    وكذلك الإنسان إذا رغب في أمر من الأمور كالذي يشارك في امتحان ويريد النجاح فيه ويعد نفسه بأنه إذا نجح في هذا الامتحان فسيكون من الملتزمين الصالحين الصادقين، ويفكر في كثير من المشاريع الخيرة، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك فيمر وكأنه لم يلتزم بشيء، ومثل ذلك من لديه حاجة معينة يريد الحصول عليها، أياً كانت هذه الحاجة؛ فيعاهد نفسه أنه إذا نال هذه الحاجة فسيحسن حاله ويغير ما هو عليه، ثم ينالها ويرجع أدراجه، كأن شيئاً ما حصل، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من هذا النوع؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11]، فبين أن الإنسان كثيراً ما يعد هذه الوعود؛ فإذا جاء الأجل يتمنى أن يعود إلى الدنيا وأنه سيغير ما به ويصلح حاله، ولكن لا رجعة بعد الأجل إلا في البعث، بعد الموت.

    خيانة الأمانة

    الصفة الثالثة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( وإذا اؤتمن خان )، فالخيانة صفة ذميمة قبيحة، وهي من صفات المنافقين، وهي كذلك من الصفات المستشرية المنتشرة؛ فأعظمها خيانة أمانة الله سبحانه وتعالى؛ فالله سبحانه وتعالى عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك للدلالة على عظم شأنها؛ لأنها إذا عجز عنها السموات والأرضون والجبال؛ فكيف لا يعجز عنها الإنسان الضعيف المسكين، وقد تحملها الإنسان، وهي التكاليف، فإذا خان هذه الأمانة ولم يؤدها ففرط في بعض أمانات الله لديه؛ فقد اتصف بصفة من صفات المنافقين؛ لأنهم الذين يخونون أمانات الله سبحانه تعالى، فلا يؤدونها إلى الله؛ كأنهم يخادعون الله ويظنون أنه لا يحيط بهم علماً، أو لا يطلع على ما هم فيه، وقد قال الله تعالى: إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء:142]، فالخيانة تقع في أمانات الله من التعبدات وفي أماناته من المعاملات، وفي أماناته من الأخلاق، وفي أمانته من البدن، فبدن الإنسان أمانة لديه من الله سبحانه وتعالى، فإذا كشفت المرأة بعض ما أوجب الله عليها ستره، فقد خانت أمانة الله سبحانه وتعالى في ذلك الجانب؛ لأنه ائتمنها على هذا الأمر، وإذا خان الرجل كذلك أمانته في عدم قوامته على أهله وفي عدم إسداء النصح إليهم وفي عدم تسديدهم وإرشادهم؛ فإنه خائن لهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من وال يتولى من أمر أمتي شيئاً فيموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة )، فالذي يوليه الله رعية ثم يخونها فيموت يوم يموت وهو غاش لها حرم الله عليه الجنة، لا يمكن أن ينالها، وهذا يقتضي سوء الخاتمة؛ لأن الجنة إنما تحرم على من مات على الكفر، نسأل الله السلامة والعافية!

    وهذه الخيانة صفة ذميمة محقورة بغيضة، لا يرضى أحد الآن أن يقر أمام الناس أنه خائن؛ لأنها وصف ذميم قبيح، وبالأخص إذا تذكرنا أن أصحابها تنصب لهم ألوية يوم القيامة؛ فكل من غدر بأية غدرة ينصب له لواء يوم القيامة عند أُسته، أي: عند دبره، ينادى عليه على رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان بن فلان.

    وهذه الخيانة حذر الله منها في كتابه؛ فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، وقال تعالى: وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا[البقرة:177]، وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ[النحل:91]، وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ[النحل:91-92]؛ فحذر الله سبحانه وتعالى من الخيانة في مثل هذا النوع من الأمور، والتزامات الإنسان كلها هي من تمام دينه ومروءته، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا إيمان لمن لا أمانة له )، والأمانة أخت الدين، وقد نزلت في جذر قلوب الرجال، وتعلموا من القرآن وتعلموا من السنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستنزع؛ ( فينام الرجل النومة فيسرى على الأمانة، فتنزع من صدره؛ فيبقى أثرها كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، فتراه منتبراً وليس به شيء )، وفي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بين له أن الأمانة ستنزع حتى يقال: ( في بني فلان رجل أمين! )، قال: ( ولقد مر علي زمان ولا أبالي من بايعت منكم؛ لأن كان مؤمناً رده علي إيمانه، ولأن كان ذمياً رده علي ساعيه، ولقد أصبحت وأمسيت ولا أبايع إلا فلاناً وفلاناً ) فالقبيلة بكاملها يكون فيها إنسان واحد أمين؛ لأن الأمانة تنزع، وذلك أن الناس يزهدون فيها ويتقللون منها، وهذا سبب لرفعها؛ فالله سبحانه وتعالى لم يكن ليجعلها بدار هوان، فيرفعها حينئذ من قلوب الناس.

    هذه الصفات الثلاث إذا اجتمعت في الإنسان فقد اتصف بالنفاق العملي، وقد بين الله سبحانه وتعالى أموراً عجيبة تتعلق بذلك، وأمثلة واقعية بالإمكان أن نعرض عليها أنفسنا فقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[التوبة:75-77]، فــ(منهم) أي: من المنافقين طائفة هذا شأنها؛ عاهدت الله تعالى: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[التوبة:75-76]، فأخلفوا في الأمرين معاً، الأمر الأول: الصدقة، فلم يفعلوا؛ ((بَخِلُوا بِهِ)) [التوبة:76]، والأمر الثاني: وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ[التوبة:75]، لم يفعلوا أيضاً؛ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[التوبة:76]، فَأَعْقَبَهُمْ[التوبة:77]، أي: عوضهم بعد ذلك وفي أعقابه ودبره، ((نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ)) [التوبة:77]، فجعل لهم نفاقاً في القلوب إلى يوم يقلونه، نسأل الله السلامة والعافية! وضع هذا النفاق في قلوبهم وختم عليهم؛ فلا يمكن أن يذهب منها، لا يصعد ولا ينزل في القلوب إلى أن يعرضوا على الله، إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ[التوبة:77].

    كذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها )، وهذا الحديث فيه بيان أن هذه الصفات قابلة للعلاج، فمن وجد في نفسه صفة من هذه الصفات بالإمكان أن يعالجها، فإذا أزالها عن نفسه محيت عنه تلك الصفة، وكفرت عنه تلك السيئة، ثم بعد ذلك يبدأ من جديد؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا أحسن فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان جلبها، ثم يكون بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه ).

    المقصود بحديث: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً..)

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً )، المقصود بذلك النفاق العملي لا النفاق العقدي؛ فإذا اجتمعت في الإنسان فقد جمع أركان النفاق، وليس معنى ذلك أن صفات المنافقين تحصر في هذه الأربع، لكنها هي الأركان؛ كما قال أيضاً في أركان الإسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان )، فهذه الأركان الخمسة هي كبريات أمور الإسلام، وليس معنى ذلك أن الإسلام منحصر فيها؛ فكذلك هذه الصفات الأربع هي أركان النفاق، وليس معنى ذلك أن النفاق منحصر فيها، بل إذا اجتمعت فهذا دليل على أن صاحبها وجامعها قد تلبس بهذا المرض العضال؛ فلذلك قال: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن.. )، أي: من هذه الخصال، ( كانت فيه خصلة من النفاق )، أي: تحقق فيه ربع من الأرباع وركن من الأركان حتى يدعها، فإذا تركها فهذا دليل على أنها تقبل منها التوبة، وأنه بالإمكان أن يتخلص منها فيرجع مؤمناً صادقاً بعد أن كان متصفاً بصفة من صفات المنافقين.

    ( إذا حدث كذب ) فهذا الركن الأول من أركان النفاق وهو الكذب في الحديث، ولا شك أن الكذب أعم من الكذب في الحديث؛ فالكذب فيه الكذب في المعاملة، فكثير هم أولئك الكاذبون في أفعالهم مع الله سبحانه وتعالى يظهرون بمظاهر وقلوبهم خالية منها؛ فيتأثر أحدهم ويظهر في خشوع وسكينة، ولكن باطنه على خلاف ذلك، أو يظهر في زهد ومسكنة ومحبة للآخرة وإيثار لها على الدنيا، ولكن قلبه مليء بمحبة الدنيا والاعتقاد فيها والعناية بها؛ فهؤلاء ليسوا صادقين، لكن صدقهم لا يتعلق بالحديث وإنما يتعلق بالفعل.

    ثم بعد هذا قال: ( وإذا وعد أخلف )؛ فالإخلاف في الوعد هو أعظم الإخلاف، حتى لو كان الوعد بالأمر اليسير وحتى لو تعلق ببعض أفراد العائلة والأسرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم: ( سمع امرأة تنادي ولدها فتقول: تعال أعطك، فسألها: ماذا تريدين أن تعطيه؟ فقالت: تمرة، فقال: أما إنك لو لم تفعلي للفحتك النار )، فهذا الإخلاف في مجرد تمرة تدفعها لولدها، وكم إنسان منا يعد أولاده بأمور ولا يفي بها، وكم إنسان منا يعد وهو في قلبه لا يريد الوفاء بذلك؛ فهذا مما تمكن التوبة منه؛ فعلى الإنسان أن يبادر للتوبة إذا وقع في بعض ذلك قبل أن يفوت الأوان، وقبل أن يتشعب عليه الأمر ويتكاثر؛ فالإنسان إذا كان يشعر بأن لديه ثغرة في باب معين فهو يخاف فقط من هذه الثغرة، إذا كنا هنا في مكان محوط محرز من كل جهة إلا من ثغرة واحدة، هي التي يخاف منها العدو سيوجه الإنسان سلاحه إلى تلك الثغرة، لكن إذا فتحت عليه الثغرات من كل جانب حينئذ سيتسع الخرق على الراقع، ولا يستطيع الإنسان العلاج؛ فلذلك على الإنسان إذا عرف نقصاً لديه في جانب أن يبادر إلى التوبة منه؛ لعله يتمكن من سد تلك الثغرة، فيأمن ذلك الجانب فيوفق لسد غيره من الجوانب.

    الغدر ونقض العهد وأمثلته

    ثم بعد هذا قال: ( وإذا عاهد غدر )؛ فالإخلاف هو الغدر أن يعاهد الإنسان عهداً ثم بعد ذلك يغدر فيه، وهذا من الوعد لكن العهد آكد من الوعد؛ فالوعد أن يعد الإنسان آخر بأمر، أو بإحسان سيفعله وبالأخص إذا كان مربوطاً بالمشيئة، يقول: إن شاء الله سأعطيك كذا، أو إن شاء الله سأزورك أو إن شاء الله سأفعل، فإن علق ذلك بالمشيئة ونواه؛ فإنه متحلل ما لم يشأ الله ذلك، أما إذا عاهد فقال: لك عهد الله أن أفعل كذا، أو أعاهدك أنني سأفعل كذا؛ فالعهد مسئول لدى الله سبحانه وتعالى؛ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا[الإسراء:34]، والعهد هو في الواقع شرف الإنسان؛ لأنه إذا أعطى العهد فأخل به فليس له شرف ولا مكانة حينئذ، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم لـبريدة رضي الله عنه لما كان يرسله على الجيوش أميراً، قال: ( إذا نزلت بساحة قوم فعرضوا عليك العهد فأعطهم عهدك وعهد المؤمنين معك، ولا تعطهم عهد الله وميثاقه )؛ فبين أن ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر عظيم جداً، فيمكن أن يعطي الإنسان عهده وعهد من معه من المؤمنين، لكن عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمور الشاقة الصعبة؛ فلا يعطيها الإنسان إلا في الأمر الذي يعلم أنه مستعد له ولو أدى إلى قطع عنقه؛ فلذلك كان الغدر صفة ذميمة، وأهل الجاهلية يعرفون ذلك وقد كانوا يتهاجون به؛ فيقول أحدهم:

    إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم إلى الغدر أسعى من شبابهم المرد

    والغدر يشمل كثيراً من الأنواع، فمنه أن يكون الإنسان مع قوم في الظاهر يعمل معه عملاً جاداً مفيداً، ولكنه يسلمهم في الأخير فيتركهم وينصرف، كما قال بنو إسرائيل لـموسى : فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]؛ فهذا نوع من الغدر، ومنه التولي من الزحف؛ فهو من الغدر أيضاً، ومنه إسلام المسلم وهو في مكان يستطيع أن يذب فيه عن عرضه، أو أن يحمي فيه حوزته؛ فلا يقوم بذلك، فمن فعل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى سيكله إلى نفسه في وقت حاجته إلى من يدفع عنه.

    ومثل ذلك أيضاً من أنواع الغدر أن يكون الإنسان يؤتمن على أمانة من الأسرار فيفشيها، ومثل هذا النوع عظيم جداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حدثك والتفت فقد ائتمنك )، فمجرد الالتفات دليل على أنه لا يريد إفشاء هذه المعلومة، وكثير منا لا يبالي؛ فيساره إنسان بسر لديه ومع ذلك يفشيه هو ويذيعه حيث لم يؤذن له بإذاعته، وهذا خطر عظيم؛ لأنه نفاق وصل إلى الإنسان ودب في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية! وبالأخص ما كان بين أهل البيت؛ فإن أسرارهم فيما بينهم لا بد من صيانتها وحفظها، وقد أكدها النبي صلى الله عليه وسلم وبين الخطر في إفشائها، وكذلك العامل والخادم الذي يخدم لدى قوم؛ فإن إفشاءه لأسرارهم أيضاً هو من الخيانة العظيمة، وفي حديث أم زرع : ( جارية أبي زرع وما جارية أبي زرع ! لا تملأ بيتنا تعشيشاً، ولا تنفث خبرنا تنفيثاً ) أي: لا تفشي أخبارنا إفشاءً.

    وكذلك من هذا تنقيب الإنسان عن عيوب الآخرين والسعي لإفشائها؛ فهو خيانة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أسدل علينا ستره الجميل الذي نستطيع به أن نجالس بعضنا بعضاً وأن ينظر إليه، ولو كشف الله الستر لما استطاع أحد منا أن يجالس أحداً ولا ينظر إليه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بستر المؤمنين؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ستر مؤمناً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).

    الفجور عند الخصومة

    ثم قال: ( وإذا خاصم فجر ). إن الإنسان الذي إذا استثير بالغضب تغيرت نفسيته فكان وديعاً مستقيماً في وقت رضاه؛ فإذا غضب إذا هو إنسان لا يبالي، فيقول الكذب متعمداً، ويقول السيء من القول ويقع في كثير من المناهي اللفظية والمحرمات التي لا يمكن أن تتصور من ملتزم مؤمن يخاف الله ولقاءه، هذا الإنسان اتصف بصفة من النفاق؛ لأنه اتبع الغضب فعمل على أساسه، فإذا خاصم فجر؛ فيكون فاجراً في وقت خصومته.

    وهذا الفجور يشمل الكذب ويشمل الاعتداء ويشمل التجاوز في حقوق الآخرين؛ فإن الله تعالى لم يأذن إلا في أخذ الحق، ولم يأذن في الزيادة عليه؛ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل:126]، فإذا زاد الإنسان فإنه قد فجر في خصومته، ولذلك فإن الخصومة حتى ولو كانت مع الكفار لا تبيح الاعتداء عليهم بوصفهم بما لم يتصفوا به أو الكذب عليهم أو ذمهم بما ليس فيهم؛ فهذا ممنوع شرعاً، وليس من أخلاق المؤمنين، فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً لما جاءه وفد بني تميم، فأراد عمرو بن الأهتم أن يعرف بـالزبرقان بن بدر ، فأثنى عليه ببعض الصفات الحميدة، فقال الزبرقان : ( يا رسول الله! والله إنه ليعرف في أكثر مما قال، ولكنه حسدني. فغضب عمرو فذمه؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، فقال عمرو : يا رسول الله! والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الثانية، ولكنني رضيت فقلت أحسن ما عرفت، وغضبت فقلت أسوأ ما عرفت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة )، فالإنسان لا ينبغي أن يحمله الغضب على أن يقول في الإنسان ما ليس فيه، ولا أن يعتدي على حقوقه حتى لو كان كافراً؛ فقد قال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8]، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ[المائدة:2]، فكثير من الناس ما دام راضياً عن إنسان يصفه بما يقترب من العصمة فهو موصوف لديهم بكل وصف حميد، وإذا غضب عليه فهو موصوف لديه بكل وصف ذميم حتى كأنه إبليس! ولهذا قال عثمان رضي الله عنه لما سئل عن الخوارج الذين استحلوا دمه في الشهر الحرام في البلد الحرام، قال: أراهمني الباطل شيطاناً. فالباطل خيل إليهم أنني شيطان، فهم يرونه على غير صفته بسبب غضبهم. فعلى الإنسان أن يكون متزناً في أحكامه وأن لا يحكم على الناس بما ليس فيهم بسبب تأثره هو وغضبه.

    1.   

    خطوات عملية للتخلص من صفات النفاق

    كيفية التخلص من صفة الكذب في الحديث

    إذاً هذه هي الصفات التي بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها إذا اجتمعت في إنسان فقد جمع أركان النفاق، نحتاج إذاً إلى علاجها بعد أن نعرضها على أنفسنا؛ فالصفة الأولى: الكذب، وهذه الصفة بالإمكان أن نعالجها، وعلاجها ميسور؛ فهي من أسهل الصفات علاجاً؛ لأنها من الصفات التي لا يدعو إليها في الواقع داع، والإنسان يحب أن ينزه نفسه عنها، فإذا أراد الإنسان التخلص من هذه الصفة والتحلي بالصفة المقابلة لها وهي صفة الصدق فبالإمكان أن يأخذ كتاباً من الكتب التي فيها الترغيب والترهيب؛ ككتاب "رياض الصالحين" أو كتاب "المتجر الرابح" أو كتاب "الترغيب والترهيب" فيكتب الآيات الواردة في الصدق وفي الكذب في صفحة، ويكتب في الصفحة المقابلة الأحاديث الواردة في الصدق والكذب ثم يقرأ بهذه الآيات مدة خمس صلوات بتمعن على أنها رسالة وافدة إليه من الرب جل جلاله، فنحن نعلم أننا الآن لو جاء إلى أي واحدة منكن رسالة من والدها الحبيب أو من جدها الذي كانت تحبه حباً شديداً فستقرأ تلك الرسالة بتمعن، ولو جاءتها رسالة مثلاً من مالك بن أنس أو من الشافعي أو أحمد أو البخاري أو مسلم فستقدرها تقديراً كبيراً، ولو جاءتها رسالة من عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو أبي بكر أو عثمان أو سعد بن أبي وقاص فستحترمها احتراماً كبيراً، ولو جاءتها رسالة من النبي صلى الله عليه وسلم فليست ستكون محل تقدير واحترام وإجلال فحسب بل يجب العمل بذلك، فكيف برسالة من رب العزة جل جلاله؟! إن هذا القرآن رسالة الله إلينا جميعاً وقد قال الله فيه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ[الشعراء:192-204]، وقد بين الله تعالى أنه أبلغ الحديث وأحسنه؛ فقال تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[الزمر:23]، فعلى الإنسان أن يقرأه بهذه الروح وبهذا الاستعداد، ولذلك إذا قرأ الإنسان الآيات الواردة في الصدق والكذب على أنها رسالة موجهة إليه من رب العالمين جل جلاله، فلا شك أن ذلك سيدعوه لاجتناب الكذب بالكلية، وسيدعوه إلى الحرص على الصدق بالكلية.

    ثم يقرأ الأحاديث كذلك بنية أنها رسالة جاءت إليه من النبي صلى الله عليه وسلم فيحبها حباً شديداً؛ لمقام النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا أحد من البشر أمن علينا منه؛ فهو الذي هدانا الله به إلى الإسلام، وهو الذي يدخل الخلائق جميعاً في شفاعته يوم القيامة، وهو سر دخولنا للجنة؛ فلذلك لا بد من احترامه وتقديره وإجلاله، وقد قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[الفتح:8-9]، فلا بد من تعزيره صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلاله، وهذا يقتضي توقير سنته، فذلك يقتضي أن الإنسان إذا جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليه أن يأخذه بالجد، وأن يعلم أنه خطاب كريم جاء إليه من عند الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى ملكة سبأ وهي مشركة عندما جاءها خطاب من سليمان عليه السلام جمعت قومها قالت: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[النمل:29-31]، فالمؤمن إذا جاءه خطاب كريم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يجعله محلاً للتقدير والاحترام، وعليه أن يبادر للعمل به وأن يعمل بمقتضاه.

    ثم بعد هذا بعد أن يقرأ طرفي الورقة بهذه الروح، يجلس جلسة مصارحة مع النفس فيقول: أنا أعلم أنك تقعين في الكذب في بعض القضايا، فيمكن أن يستحي الإنسان أن يصارح بالأمر كله في بعض الجوانب فينوع من يكذب عليه؛ فيقول مثلاً: على الوالدة أو على الوالد أو على الزوج أو على الأولاد أو على الجيران أو على من يخالطني في العمل أو في أمور الدنيا أو في غير ذلك من الأمور؛ فيحصر الإنسان أوجه كذبه، فيقول: أترك الكذب لمدة أسبوع كامل، ليس فيه أية كذبة، فيتعاهد مع نفسه على ذلك، وبعد كل صلاة يراجع ما بين الصلاتين هل حصلت فيه كذبة أم لا، فإن كانت حصلت فيه كذبة بدأ المشوار من جديد أسبوعاً كاملاً؛ فإذا نجا من الكذب لمدة أسبوع جلس مع النفس جلسة فيها تشجيع على صدقها وإخلاصها؛ فيشجعها على هذا الأمر، ويبين أنه كان يؤمل من نفسه الخير وكان يرجوه، وقد صدقت نفسه هذه العزيمة لديه، ثم بعد ذلك يقول لنفسه: سنمدد أسبوعاً آخر، فيأتي بأسبوع آخر ليس فيه الكذب، ثم بأسبوع ثالث ثم برابع، فإذا جاء شهر كامل يحول بينه وبين الكذب؛ فقد استغنى عنه فيقول لنفسه: قد جربت أنه لا حاجة بك إلى الكذب؛ فقد صبرتِ عن الكذب شهراً كاملاً؛ فلن تعودي إليه أبداً، وهذا الفطام، وهو آخر عهدك به، ثم بعد ذلك إذا استزله الشيطان فوقع في كذبة واحدة بادر للتوبة وتصدق من أجل إطفائها؛ ( فالصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار )، وهكذا في كل صفة من صفات المنافقين.

    ثم على الإنسان إذا أراد أن يقتنع بالصدق أن يعلم أن المخلوقين جميعاً لا يملكون له ولا لغيره حياة ولا موتاً ولا نشوراً؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]، وأن الله لا يمكن أن يكتم عنه شيئاً؛ فإذا استطاع الإنسان الكذب على المخلوقين، لا يستطيع الكذب على الله أبداً، ومن هنا فعليه أن يصدق في التعامل معه وفي الحديث عنه، وبذلك يعلم أن المخلوقين جميعاً بالنظر إليه ككل الدواب والبهائم؛ فالبشر ما الفرق بينهم وبين النمل؟ الجميع عباد لله مسخرون، لا يملك أحد منهم لأحد نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وإذا نظر الإنسان إلى البشر بهذه النظرة هانت عليه ضغوطهم وتدخلاتهم ومشكلاتهم؛ فنظر إليهم بعين البساطة ولم يصل بهم إلى مقام يوصلونه إلى الإحراج حتى يكذب؛ لأنه رأى أنهم لا يملكون له شيئاً، ولا يمكن أن ينفعوه إلا بما كتبه الله له، ولا يمكن أن يضروه إلا بما كتبه الله عليه، والأمر المكتوب لا يمكن أن يتغير، ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ).

    طريقة التخلص من صفة خلف الوعد

    كذلك الأمر الثاني: الوعد، لا بد أولاً أن يتذكر الإنسان وعوده، وأن يحرص على أن لا يعد بأمر لا يستطيعه؛ فالإنسان الذي يعلم أنه عاجز عن أمر من الأمور عليه أن لا يعد به أصلاً، وأن يكون صادقاً في ذلك؛ فأهل بلادنا هذه كثيراً ما يسمون السياسة بالبلوتيك ويسمون البلوتيك بالكذب، فيظنون أن السياسة مقترنة بالكذب دائماً، والسبب أن أهل السياسة يعدون بالوعود التي لا يريدون إنجازها؛ فيعدون بكثير من البرامج المهمة وهم لا يريدون إنجازها؛ فلذلك تصور الناس ارتباط السياسة بالكذب، والواقع أن الإنسان عليه أن لا يعد إلا بأمر يقدر على إنجازه؛ فالذي يقول: سنفعل وسنفعل وسنفعل، وسنحقق وسنحقق، وهو يعلم أن ميزانيته محصورة يسيرة، وأن صلاحياته محدودة، ماذا يستطيع أن يعمل؟!

    فلهذا لا بد أولاً أن يراجع الإنسان قدراته حتى يعرف هل هو قادر على هذا الالتزام أم لا؛ فإن كان غير قادر عليه فعليه أن لا يعد به، يمكن أن يقول قولاً ميسوراً؛ فيقول: إن شاء الله، سنحاول، أو يقول قولاً طيباً لمن سأله أمراً من الأمور؛ كما أمر الله بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهمْ قَوْلًا مَيْسُورًا[الإسراء:28]، يقول الإنسان: إذا استطعت إن شاء الله سأفعل، وإذا استطعت إن شاء الله سأقدم لكم، إذا استطعت آتيكم، إذا استطعت أفعل؛ فهو بذلك يعلق آمالاً عظيمة على الله ويريد منه الخير، لكنه لم يعد في الواقع، وقد رد السائل بوجه يكون به راضياً، وبهذا يكون هو يعرف قدر ما لديه من الطاقات ولا يتجاوزها.

    ومعرفة الإنسان لطاقته من الأمور المهمة؛ فرحم الله امرأ عرف قدره وجلس دونه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال؛ كما في حديث حذيفة : ( أحصوا لي من دخل في دين الله )، وفي رواية: ( اكتبوا لي من دخل في دين الله )؛ فأراد أن يكتب له أو أن يحصى له كل من دخل في الدين؛ ليعرف كيف يتخذ القرارات؛ لأنه إذا أعلن الحرب مثلاً على قريش وعلى غطفان وعلى عدد كبير من القبائل، وكان لديه عدد يسير من الجنود، لا يستطيع إلا مقاومة جبهة واحدة؛ فهذا النوع من القرارات سيكون خاطئاً؛ فلذلك لا بد أن يعرف الإنسان أولاً طاقاته وما يستطيعه من الالتزامات ثم يعد على أساس ذلك.

    وهذا الوعد أيضاً لا بد أن يعرف الإنسان أنه تأمين، أن الناس يؤمنونه إذا وعدهم، فإذا قال: إذا كانت نهاية الشهر أو إذا خرج الراتب أو إذا حصل كذا؛ فأتوني فسأفعل؛ فهذا أصبح ديناً عليه؛ لأنه التزام، فعدات الكريم دين عليه، وإذا أراد التخلص مما تعوده من ذلك فعليه أن يعلم أن شخصيته مرتبطة به، وأن الثقة به مرتبطة به، وعليه أن يحاول التخلص منه، وأن ينجز أولاً، وأن يمكث فترة وهو يعود نفسه على أن لا يعد أي وعد، بل ينجز ما يريد الوعد به؛ كما قال أبو الطيب المتنبي في مدحه لــشجاع بن محمد ، يقول:

    إلى واحد الدنيا إلى ابن محمد شجاع الذي لله ثم له الفضل

    إلى الفارس المغوار والبطل الذي تحدث عن وقفاته الخيل والرجل

    إلى رب مال كلما شت شمله تجمع في تشتيته للعلا شمل

    إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل

    ولولا تولي نفسه حمل حلمه عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل

    توقفت الآمال عن كل وجهة وضاق بها إلا إلى بابك السبل

    ونادى النداء بالنائمين عن السرى فأسمعهم هبوا فقد هلك البخل

    وحالت عطايا كفه دون وعده فليس له إنجاز وعد ولا مطل

    فأيسر من إحصائها رد فائت وأسهل من تخريبها السهل والرمل

    وما تنقم الأيام ممن وجوهها لأخمصه في كل نائبة نعل

    وما عزه فيها مراد أراده وإن عز إلا أن يكون له مثل

    كفى ثعلاً فخراً بأنك منهم ودهر لأن أمسيت من أهله أهل

    فما بفقير شام برقك فاقة ولا ببلاد أنت صيبها محل

    فهنا بين أنه ليس له إنجاز وعد ولا مطل؛ لأن الوعد يسبقه العطاء.

    وحالت عطايا كفه دون وعده فليس له إنجاز وعد ولا مطل

    فعلى الإنسان أن يبادر إلى ذلك فيتعود أنه ما أنت صانع غداً فاصنعه الآن، وما يريد الوعد به في المستقبل يحاول إنجازه الآن، وإذا تعود الإنسان على ذلك؛ فإنه سيصفو له كثير من وقته وسيجد راحة في تقسيم مهماته؛ لأن الواجبات أكثر من الأوقات، وما منا أحد إلا وهو يجد ضيقاً في الوقت، ويجد كثيراً مما يجب عليه أن يفعله ولا يجد وقتاً يفعله فيه، ويجد كثيراً من الالتزامات التي كان الالتزام حتى ولو لم يلتزم به بالقول هل التزام أدبي ينبغي أن يفعله، ولكنه لا يستطيع لكثرة عوادي الدهر وانشغالاته ومشكلاته، فإذا حاول الإنسان إنجازها مع الزمن فيحاول كل يوم أن تكون لديه قائمة بمهماته؛ فإذا أنجز أية مهمة خط عليها، تجاوزت؛ فهذا من المهمات، ولذلك فمن استغلال الأوقات وتنظيمها أن تكون كل أخت من الأخوات في صفها الذي في يدها ورقة فيها مهماتها في هذا اليوم؛ فإذا حانت لحظة المحاسبة عند النوم تنظر إلى ما حققته من المهمات، فما أنجزته تحمد الله عليه وما قصرت فيه تتوب منه، وتنوي أنها ستبادر إلى إنجازه غداً في الصباح الباكر، وهكذا، فتكون أوليات الإنسان مرتبة.

    كذلك بالنسبة للإخلاف لا بد أن يجاوزه الإنسان وأن يحذر منه بالكلية، وأن يكون من العالمين بما يترتب على هذا الإخلاف من المذلة والنقص، وهكذا في كل صفات المنافقين؛ فيتخلص منها الإنسان بالتدريج على هذا النحو.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يهدينا إلى أحسن الأخلاق وأتمها، وأن يصرف عنها سيئها، لا يهدي لأحسنها، ولا يصرف سيئها إلا هو.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768432759