بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار, وعدد ما اختلف الليل والنهار, وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد تقدم معنا الكلام عن تعريف الجهاد وبيان مراتبه, وبيان شروطه, وبيان أنواعه, وبيان حكمه.
وتقدم معنا الكلام كذلك في أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كلها جهاداً في سبيل الله, إما بالمال أو بالنفس أو باللسان.
وتقدم معنا الكلام في أن نبينا عليه الصلاة والسلام قد غزا بنفسه سبعاً وعشرين غزوة, وأنه قاتل في تسع منها, وأن معظم هذه الغزوات كانت في السنة الثانية من الهجرة, حيث وقع في تلك السنة ثمان غزوات.
وتقدم معنا الكلام في أن الجهاد شرع لحكم عظيمة؛ إعلاء لكلمة الله عز وجل, وإظهاراً لدينه, وحماية للمستضعفين في الأرض, وانتصاراً للمظلوم من الظالم, ولبسط الأمن والسلم في العالم كله؛ لأنه حين تكون السيادة للمسلمين, فإن الناس يعيشون في أمان وسلام, ولا يتعدى أحد على أحد.
وتقدم معنا الكلام عن الغزوات الأول التي كانت بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى, وكان الكلام عن غزوة بواط, وعن غزوة الأبواء, ثم عن غزوة العشيرة, ثم عن غزوة بدر الأولى.
ونبدأ الكلام بالحديث عن غزوة بدر الكبرى:
وهي أعظم الغزوات وأفضلها, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن جبريل سأله فقال له: يا محمد! ما تعدون أهل بدر فيكم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم خيرنا. فقال له جبريل: كذلك من شهدها من الملائكة), فالملائكة شهدوا بدراً, كما قال الله عز وجل: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا[الأنفال:12].
وهذه الغزوة المباركة شهد النبي عليه الصلاة والسلام لأهلها بالخير والفضل قال عليه الصلاة والسلام: ( وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ).
هذه الغزوة سببها سبب مثيلاتها من قبل، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه طلباً للعير؛ من أجل أن يلقنوا قريشاً درساً وهو أن المسلمين قادرون على أن يلحقوا بها الضرر, وقادرون على أن يقطعوا عليها طريق تجارتها بين الشام والحجاز, وأن ما فعلوه بالمسلمين من ظلم وعدوان لن يمر مرور الكرام؛ بل لا بد أن تعاقب قريش على فعلتها.
ومن أجل هذا أذن الله في القتال بقوله عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ[الحج:39-40].
ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما بلغه الخبر في رجب من السنة الثانية من الهجرة بأن عيراً لقريش قد أقبلت من الشام, أمر الصحابة بأن يخرجوا وقال: ( لعل الله ينفلكموها )؛ فلما كانت في طريق العودة إلى مكة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرها؛ فأمر المسلمين بأن يخرجوا، ولم ينتظر أحداً, فما تبعه سوى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً من أصحابه رضوان الله عليهم, وما كان معهم إلا فرسان: أحدهما للزبير والآخر للمقداد , وكان كل ثلاثة يعتقبون بعيراً. يعني: كل ثلاثة يشتركون في ظهر واحد, فيركب أحدهم ويمشي اثنان, (وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فقالا: يا رسول الله! اركب ونحن نمشي فقال: ما أنتما بأقوى على المشي مني, وما أنا بأغنى عن الأجر منكما )؛ فتعامل معهما صلى الله عليه وسلم مثلما يتعامل سائر الناس.
وأبو سفيان كان قائد عير قريش، وكان من دهاة الناس, ولا بد للقائد أن يكون عنده من الحيلة وحسن التصرف ما يستطيع به أن يسوس الناس؛ ولذلك فإن أبا سفيان كان حذراً, وكان يتحسس الأخبار, ولما جاء إلى بعض فضلات الدواب وفتها ووجد فيها النوى قال: هذه تمور يثرب, واستأجر رجلاً يقال له: ضمضم بن عمرو الغفاري, وأمره بأن يسرع إلى أهل مكة ويطلب منهم المدد, فذهب ذلك الرجل وحول رحله, وصاح يا أهل مكة! اللطيمة اللطيمة النجاء النجاء، فإن عيركم قد عرض لها محمد وأصحابه.
أما أبو سفيان فقد كان حذراً فأخذ جانب الساحل حتى نجا وأفلت بما معه من تجارة قريش, وكانت تجارة عظيمة, لكن المشركين قبل أن يبلغهم خبر إفلات أبي سفيان بما معه من العير, كانوا قد جمعوا الجموع وهيئوا الجيوش, وتولى كبر تلك الحملة الظالمة الباغية عدو الله ورسوله أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي , وكان حالهم كما وصف ربنا جل جلاله: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ[الأنفال:47], فالمشركون والعياذ بالله خرجوا بهذه الصفات الثلاث المذمومة, (بطراً) أي: كبراً ورداً للحق ودفعاً له. (ورئاء الناس) من أجل أن يتظاهروا بالقوة كما قال أبو جهل : لا نرجع حتى نرد بدراً, فننحر الجزور, ونشرب الخمور, وتعزف القيان, فلا يزال العرب يهابوننا. يريد العرب أن يهابونه بالجزور والخمور والمغنيات, وهذا هو تفكير أهل الجاهلية.
وتخلف عن المعركة من قريش أبو لهب لأنه كان رجلاً كبير السن، لكنه بعث مكانه رجلاً.
وأراد أمية بن خلف أن يتخلف لحاجة في نفسه وهي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه جاء يوماً يطوف بالكعبة بعدما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حليفاً لـأمية حيث كان أمية إذا سار بتجارته إلى الشام كان ينزل عند سعد بالمدينة, فقال له: يا سعد! دع الناس إلى وقت القائلة -أي: إلى الوقت الذي يقيلون فيه- فطف بالكعبة حتى لا يراك أحد, فبدأ سعد يطوف, فجاء عدو الله أبو جهل ونظر إليه قائلاً: تطوف بالكعبة بعد إذ آويتم محمداً؟ فقال له سعد -وكان عربياً عزيزاً، وفوق ذلك مسلماً كريماً- قال له: وما لي لا أفعل, وارتفعت أصواتهما, فجعل الخبيث أمية بن خلف يقول له: لا ترفع صوتك فإنك تخاطب سيد أهل الوادي, فـسعد قال له: دعني منك, فإني سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك, قالوا: فكاد الرجل يحدث، وقال له: أنت سمعت محمداً يقول ذلك؟ قال له: إي والله، قال له: فقد صدق, إن محمداً لا يكذب, ورجع مهموماً مغموماً وحدث زوجته بما كان.
فلما أراد المشركون أن يتجهزوا لبدر, بدأ أمية بن خلف يعد العدة ويجهز نفسه للمشاركة, فقالت له زوجته: أنسيت ما قال أخوك اليثربي؟ فهنا أمية ألقى الله الرعب في قلبه, فأراد أن يرسل مكانه آخر, ولكن عدو الله أبو جهل وراءه, جاء بمبخر وقال له: تجمر أبا علي فإنما أنت من النساء, فهنا استفزه هذا الكلام, وأخذته حمية الجاهلية, فخرج عدو الله خائفاً وجلاً.
ثم لما بدأت المعركة رأى بلال أمية بن خلف , وأمية بن خلف كان من شدة رعبه أول ما رأى عبد الرحمن بن عوف وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو قال له: يا عبد عمرو وعبد الرحمن لم يجبه, قال له: يا عبد الرحمن ! قال: ما شأنك؟ قال: هل لك في هذه الدروع وخذني أسيراً؛ من أجل يضمن أنه لا يقتل, قال له: خذني أسيراً وألقى بيده, نسأل الله العافية!
فـعبد الرحمن رضي الله عنه أخذ تلك الدروع, وأمسك بـأمية وولده علي أسيرين, فبصر بهما بلال رضي الله عنه, فقال : أمية بن خلف عدو الله ورسوله؟! لا نجوت إن نجا.
فقال له عبد الرحمن : يا بلال ! أسيري, فقال بلال: يا أنصار الله! هذا أمية بن خلف عدو الله ورسوله, فوثب عليه الصحابة, فقال عبد الرحمن لـعلي : انج بنفسك, وترس على أمية يريد أن يحميه من القتل, لكن الصحابة رضي الله عنهم قتلوا علياً ثم ما زالوا يناوشون أمية من تحت عبد الرحمن حتى قضوا عليه, يقول عبد الرحمن : يرحم الله بلالاً فجعني في أسيري ودروعي, يعني خسرت الأسير وخسرت الدروع.
فالمقصود بأن المشركين خرجوا بقضهم وقضيضهم وخيلهم ورجلهم.
خرج المسلمون لأجل العير فقط, وقدر الله عز وجل أن يكون قتال وحرب, فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه, فقام أبو بكر فتكلم وأحسن, ثم قام عمر فتكلم وأحسن, ثم قام المقداد فتكلم وأحسن, فقال صلى الله عليه وسلم: ( أشيروا علي أيها الناس! فقال سعد : يا رسول الله! كأنك تعنينا؟ قال: نعم، فقال: لقد آمنا بك, وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق, فسر بنا حيث شئت, فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك, ما تخلف منا رجل واحد, إنا لصبر في الحرب, صدق عند اللقاء, ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك, والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]. بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع من هذا الكلام ).
ثم بعد ذلك أشار عليه سعد رضي الله عنه قال: يا رسول الله! إنا قد خلفنا بالمدينة أقواماً ما نحن أشد حباً لك منهم, ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك. أرى أن نبني لك عريشاً, فإن أظهرنا الله كان ذاك الذي نرجو, وإن كانت الأخرى جلست على ركبائك فلحقت بالمدينة, فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وبني له العريش.
أيها الإخوة الكرام! ظهرت في يوم بدر آيات عظيمات، قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31].
من تلك الآيات: نزول الملائكة، قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال:9], ثم صاروا ثلاثة آلاف إلى أن اكتملوا خمسة آلاف, بدليل الآيات التي في آل عمران، قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[آل عمران:123-125].
والملائكة على الصحيح أنهم باشروا القتال, بدليل قول الله عز وجل: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ[الأنفال:12].
ويقول غير واحد من الصحابة: كنا نعرف قتلى الملائكة يوم بدر بخضرة في أطرافهم.
ويقول أحد الصحابة: بينما أنا أشتد يوم بدر -يعني أركض- إثر رجل من المشركين إذ خر صريعاً فعلمت أن الملائكة قتلته.
وجاء أحد الصحابة بأسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للكافر: ( من أسرك؟ قال الصحابي: أنا يا رسول الله! قال الكافر: لا, بل أسرني رجل يلبس ثياباً بيضاً على خيل أبلق, ما رأيته قبل اليوم قط, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للصحابي: ذاك ملك قد أيدك الله به ).
وأما إبليس فقد هرب؛ فقد دخل الميدان ويده في يد عدو الله أبي جهل , ولما تخوف المشركون من بني جعشم قال لهم إبليس: إني جار لكم.
لكنه لما دخل الميدان ورأى جبريل والملائكة وهو يعرفهم؛ لأنه كان معهم, فلما رأى جبريل ومعه الملائكة نزع يده من يد أبي جهل , وأراد أبو جهل أن يمسك به يقول: أين تذهب يا سراقة ؟ فدفعه في صدره وقال له: إني بريء منكم, إني أرى ما لا ترون, إني أخاف الله.
وقوله: (إني أخاف الله) هل معناه أنه يخاف الله الخوف الشرعي الذي يحمله على فعل المأمور وترك المحظور؟
لا, وإنما قال المفسرون: يخاف أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر: إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال:48].
وهكذا يوم القيامة سيتبرأ من إخوانه في الكفر والضلال, وسيقوم خطيباً في أهل النار, سيخطب فيهم خطبة عصماء سجلها القرآن, قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[إبراهيم:22], قال المفسرون: خطبة إبليس في أهل النار أشد عليهم من عذاب النار؛ لأنه أغواهم ثم تركهم ورفضهم.
فالله عز وجل أيد المسلمين يوم بدر بالملائكة, وأيدهم كذلك بإنزال مطر من السماء بعدما نام بعضهم فاحتلم, فجاء إبليس يوسوس لهم ويقول: إن كنتم حقاً أولياء الله, وأنتم المؤمنون فقد أصابتكم جنابة, فالله عز وجل أنزل من السماء ماء ليطهرهم به, ويذهب عنهم رجس الشيطان, فاغتسلوا وملئوا أوعيتهم وشربوا وسقوا.
وأيضاً مما أيدهم الله به يوم بدر: النعاس: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ[الأنفال:11]؛ ولذلك قال علماؤنا: النعاس في مجالس العلم من الشيطان, والنعاس في مواطن القتال من الرحمن.
فلا يغشى النعاس أحداً منكم في الدرس ويقول: أنا مثل أهل بدر, فمن نعس فليتوضأ.
وليست هذه خاصة بأهل بدر؛ فبعض الصالحين لما كانوا في قتال الكفار, نظر إلى من بجواره قال له: كيف تجدك؟ قال: أجد قلبي مطمئناً. فقال له الآخر: لكنني والله أجد نفسي وكأني في ليلة عرس, وهم في موطن قتال, الأشلاء تتطاير, والدماء تسيل, والخوف قد أحاط بالناس, وقد احمرت الحدق, وحمي الوطيس, واشتد البأس, وهذا العبد الصالح يرى نفسه وكأنه في ليلة عرس من السرور والاطمئنان والثقة بنصر الله عز وجل.
أيد الله عز وجل المؤمنين بالملائكة, وأيدهم بإنزال المطر, وأيدهم بالنعاس, وأيدهم بآية عظيمة وهي تقليل المشركين في أعينهم, وتقليل المسلمين في أعين المشركين, كما قال الله عز وجل: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ[الأنفال:43], أي جبنتم, الفشل هنا بمعنى الجبن: وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ[الأنفال:43], إلى أن قال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ[الأنفال:44], كان الصحابي يقول لمن بجواره: أتراهم مائة؟ أي: هل المشركون هؤلاء مائة؟ فيقول له الآخر: أو دون ذلك, أقل بقليل من المائة.
بينما كان المشركون بين التسعمائة إلى الألف, وهذه آية من آيات الله لا يقدر عليها أحد سواه.
ومن الآيات التي أيد الله بها عباده المؤمنين في ذلك اليوم العظيم: أنه ألقى الفرقة في صفوف المشركين, حين أرسلوا رجلاً يحرز المسلمين, فجاء وطاف حول معسكر المسلمين ثم رجع فألقى فيهم كلمات من خلالها دب الوهن في قلوبهم قالوا له: ماذا رأيت؟ قال: المطايا تحمل المنايا, ثم قال لهم: نواضح يثرب تحمل الموت الناقع, أرى قوماً لا يموت واحد منهم حتى يقتل منكم واحداً, فإن قتل منا مثلهم فما خير العيش بعد ذلك.
فهنا بدأ المشركون يتشاورون في الرجوع؛ لكن عدو الله أبا جهل -وقد ساقه الله لحتفه- عزم على القتال.
ومن العجائب أن أبا جهل قام يدعو, ويقول: اللهم من كان أقطعنا للرحم, وأتانا بما لا نعرف, اللهم أحنه الغداة, فأنزل الله عز وجل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ[الأنفال:19], ولا تستغربوا, فهكذا هم الفراعنة دائماً، ففرعون الأول كان يقول لقومه: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ[غافر:26], فرعون يظهر خوفه من موسى أن يفسد في الأرض.
وفي آية أخرى يقول له: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ[الشعراء:19], فرعون يتهم موسى بالكفر، وكأنه من المؤمنين المخلصين.
فهنا أيضاً عدو الله أبو جهل يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قاطع للرحم, وأنه أتى الناس بما لا يعرفون, وكأن الأصل الشرك والتوحيد هو المنكر, وهو الشيء الطارئ, لكن قال الله عز وجل له: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ[الأنفال:19], يعني: أنت طلبت من الله الحكم, فالله عز وجل فاتح بمعنى حكم، والدليل قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[الأعراف:89].
وقد قيل: وأنا عن فتاحتكم غني.
والمقصود أن آيات الله عز وجل قد تتابعت في ذلك اليوم.
نقف عند هذا الحد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر