الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ليس في سورة الأنعام سوى مثل واحد، في الآية الثانية والعشرين بعد المائة، يقول ربنا جل جلاله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
قال أهل التفسير: هذا مثل ضربه الله عز وجل لرجل مؤمن هو البطل الضرغام الشهيد، أسد الله حمزة بن عبد المطلب ابن هاشم المكي القرشي الهاشمي ، ولرجل كافر هو أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي لعنه الله.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى الأذى من أبي جهل ، فكان يصبر ويحتسب؛ لأن الله عز وجل أمره بذلك، فقال له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً [المزمل:10]، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان:24].
وفي يوم من الأيام لقي النبي عليه الصلاة والسلام أبا جهل عند الصفا فسبه أبو جهل سباً قبيحاً، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليه شيئاً؛ لأنه من عباد الرحمن، بل هو سيدهم وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].
أعرض عنه صلوات ربي وسلامه عليه، وكانت جارية لـعبد الله بن جدعان في سكنها تسمع ما قاله أبو جهل للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما جاء حمزة بن عبد المطلب من قنص له متوشحاً قوسه وكان صاحب قنص، يعني صاحب صيد.
جاء حمزة رضي الله عنه فقالت له الجارية: يا أبا عمارة لو رأيت ابن أخيك محمداً، قد سبه أبو الحكم سباً قبيحاً، قال لها: وما قال له محمد؟ -يعني: بأي شيء أجابه- قالت: لم يرد عليه، فاحتمله الغضب رضي الله عنه، وعمد إلى أبي جهل ، فوقف عليه ثم ضربه بالقوس على رأسه فشجه شجة منكرة. وقال له: أتشتم محمداً وأنا على دينه، أقول بالذي يقول، إن استطعت أن ترد علي فافعل، فقام رجال من بني مخزوم ليدافعوا عن صاحبهم، فقال لهم أبو جهل : دعوا أبا عمارة ، فإني قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
رجع حمزة رضي الله عنه بعدما أعلن على الملأ أنه على دين محمد صلى الله عليه وسلم فأدركته الوساوس الشيطانية، ولعبت في نفسه الهواجس. ثم لما ضاق صدره واشتد كربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: يا ابن أخي، إني قد قلت قولاً لا أدري والله ما المخرج منه، وإنه لقبيح بمن كان مثلي أن يقيم على أمر لا يدري أرشد هو أم غي، فحدثني فإني والله اشتهي أن أسمع حديثك.
فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه عن الإسلام ويقرأ عليه القرآن حتى فتح الله مغاليق قلبه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وعلمت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعزه الله بعمه، وقد صار من ذلك اليوم المبارك أسداً من أسد الله، يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أذى حتى أدركته منيته يوم أحد رضي الله عنه.
يقول وحشي بن حرب : كنت غلاماً لـجبير بن مطعم -أي عبداً له- فلما خرج الناس يوم أحد قال لي: يا وحشي ! إن قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت حر.
قال: فأخذت حربتي ولم يكن لي بالقتال شأن، فرأيت حمزة كالجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هداً لا يقف له شيء، فـأردت أن أقتله، فسبقني إليه سباع بن عبد العزى ، فقال له حمزة : هلم إلي يا ابن مقطعة البظور، جئت تحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فضربه بالسيف على رأسه ضربة ففلق هامته حتى كان كأمس الدابر، قتله شر قتلة.
يقول وحشي : فهززت حربتي -وكنت رجلاً من الحبشة أجيد الرمي- حتى إذا رضيت عنها رميت بها حمزة بين ثنته وسرته فذهب ليقوم فغلبته نفسه، فتركته حتى مات، ثم جئت فأخذت حربتي ولم يكن لي شأن برجل غيره، لا يريد إلا حمزة رضي الله عنه.
وجاء المشركون بعد ذلك، فبقروا بطنه واستخرجوا كبده وقطعوا أذنه وجدعوا أنفه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم: وقف على عمه حمزة وهو على تلك الحال وقال: ( والذي نفسي بيده! لولا أن تحزن صفية لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع والطيور ).
أما أبو جهل الخبيث عدو الله ورسوله، فقد قتل يوم بدر شر قتلة، قتل على يد ابني عفراء، واحتز رأسه ابن مسعود، فذهب إلى جهنم وبئس المصير.
ضرب الله عز وجل هذا المثل المشتمل على ثلاثة تمثيلات:
الأول: يقول الله عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ[الأنعام:122]، يشبه الله الكافر بالميت والمؤمن بالحي، وهذا في القرآن كثير، كقول الله عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [فاطر:19]، فالكافر أعمى والمؤمن بصير.
وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ[فاطر:20-22]، وفي آية أخرى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70], والكافر ليس بحي، وفي آية أخرى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ[الأنعام:36]، وهم المؤمنون، وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36].
الثاني: يقول الله عز وجل: وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ[الأنعام:122]، يمثل الله عز وجل الوحي بالنور، فهذا القرآن سماه الله عز وجل نوراً، فقال: قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15]
فالقرآن نور، والله عز وجل يعتبره نوراً لأنه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الباطل إلى الحق.
الثالث: تمثيل الكفر بالظلمات، يقول تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام:122]، ليس بخارج منها؛ لأنه مقيم على كفره، ثابت القدم عليه، مصر على البقاء فيه، والله عز وجل جعل هذا الكفر ظلمات، وهذا في القرآن كثير، كقول الله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ[البقرة:257].
فالله عز وجل يجعل هذا القرآن، وهذا الوحي نوراً، ويجعل ذلك الكفر والضلال ظلمات.
أسأل الله أن يخرجنا من الظلمات إلى النور.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر