بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء الثامن والعشرين وهو في الآية الأولى من سورة المائدة قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1].
في القرآن ثلاث سور بدأت بهذا النداء: سورة المائدة، وسورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، وسورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1].
قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، يقول الإمام ابن عطية الغرناطي رحمه الله: وهذه الآية مما تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، ولمن عنده أدنى إبصار. وقد تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل بهيمة الأنعام، واستثناء ما تلي بعده، واستثناء حال الإحرام فيما يصاب، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكي أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم. أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج، فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة؛ فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث، وحل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد، أي: في مجلدات، يعني: سطران من كتاب الله عز وجل تضمنا أحكاماً كثيرة، وصدق ربنا سبحانه حين قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
هنا ينادينا ربنا جل جلاله بوصف الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا[المائدة:1]، وهذا النداء إما أن يعقبه أمر، أو أن يعقبه نهي، كما قال ابن مسعود: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه.
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا[المائدة:1]، الوفاء: الإتيان بالشيء وافياً كاملاً لا نقص فيه.
قوله: بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، العقود هي: العهود، وحكى شيخ المفسرين الطبري رحمه الله الإجماع على ذلك، فما هي العقود التي أمرنا ربنا جل جلاله بالوفاء بها؟
نقول أولاً: العقود معرفة بالألف واللام، وهذا التعريف للاستغراق، فمطلوب منك أيها المسلم! أن تفي بالعقود، وأولها: العقد الذي بينك وبين الله عز وجل، وهو الإقرار بألوهيته وربوبيته، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، فهذا عهد وعقد بين كل فرد منا وبين ربنا جل جلاله.
ثم هناك العقد العام الذي أخذه الله على آدم حين أهبطه من الجنة: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، فهذا عهد عام بيننا وبين ربنا جل جلاله مطلوب منا فيه أن نتقيد بالضوابط التي وضعها ربنا جل جلاله فيما أحل وفيما حرم، وفيما فرض وأوجب، فكل هذه عقود، فالصلاة عقد بينك وبين الله، والحج، والصيام، والصدقة، وبر الوالدين، وسائر الأوامر عقود بينك وبين الله.
ثم العقود التي بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا بايع الناس يأخذ عليهم ستة أمور: ( ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه صلى الله عليه وسلم في معروف )، فهذه عقود بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ( فمن وفى منكم - أي: من وفى بهذه العقود- فأجره على الله، ومن أصاب منها شيئاً فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ).
وكذلك يشمل العقود التي بين المسلمين وغير المسلمين كما في قول الله عز وجل: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ... [التوبة:2]. الآية، وقول الله عز وجل: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2] وهي الآية التي ستأتي معنا في درس الغد إن شاء الله.
ويشمل كذلك العقود التي بين المسلمين كعقد النكاح، وعقد البيع، وعقد المداينة، وكالتعاقد على نصرة المظلوم، وكل تعاقد وقع على غير أمر محرم، هذه كلها يجب الوفاء بها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، فهذا خطاب ربنا لنا.
ثم قال سبحانه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ[المائدة:1]، أي: بهيمة الأنعام لكم حلال، والبهيمة: ما لا عقل له؛ فكل ما لا عقل له فهو بهيمة، وسميت البهيمة بهيمة لإبهام أمرها من جهة عدم عقلها، ونقص فهمها، وعدم تمام نطقها، وعدم تمييزها وما إلى ذلك.. فالدواب التي تمشي هي بهائم والطيور من البهائم، لكن العرف خص كلمة البهيمة بذوات الأربعة من دواب البر أو البحر.
وقول الله عز وجل: بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ[المائدة:1]، إضافة للبيان، أُحِلَّتْ لَكُمْ[المائدة:1]، ليست كل البهائم وإنما بهيمة الأنعام، وهي: الأزواج الثمانية: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.
من الضأن اثنين: الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين: التيس والمعزة، ومن الإبل اثنين: الجمل والناقة، ومن البقر اثنين: الثور والبقرة، هذه كلها حلال.
قوله تعالى: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ[المائدة:1]، هي العشرة التي حرمها ربنا في الآية الثالثة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، هذه العشرة حرام، ولو كانت من الإبل أو البقر أو الغنم، لا يحل لكم أكلها.
قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ[المائدة:1] أي: إذا كنتم محرمين بالنسك بحج أو عمرة، سواء وصلتم إلى الحرم أو لم تصلوا فلا تستحلوا الصيد، والصيد: هو إمساك الحيوان الذي لا يألف؛ لأن هناك حيوانات أليفة كالإبل والبقر والغنم؛ وهناك حيوانات لا تألف، ولا يستطيع الإنسان أن يمسك بها إلا صيداً، إما باليد أو بوسيلة ممسكة كالشباك والحبائل والرماح، والسهام، والكلاب، والبزاة فهذه كلها وسائل صيد يمكن للإنسان أن يصيد بالكلب، أو أن يصيد بالباز، أو أن يصيد بالمعراض، بواسطة السلاح أو بالشباك أو بغير ذلك.
وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ[المائدة:1] أي: إذا كنتم محرمين فلا يحل لكم أن تصيدوا لا في الحرم ولا في خارج الحرم.
ثم ختم الله عز وجل الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، فالحكم لله عز وجل، هو الذي يحلل، وهو الذي يحرم، وهو الذي يأمر، وهو الذي ينهى، وهو الذي يشرع، كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف:40]، وغير ذلك من الآيات التي تثبت أن الحكم لله.
قال أهل التفسير: حكم الله على نوعين: حكم قدري كوني، وحكم شرعي ديني.
حكم كوني قدري: وهو ما يقع في هذا الكون من حياة أو موت، ومن صحة أو سقم، ومن غنى أو فقر، ومن طاعة أو عصيان، ومن هدى أو ضلال، فكله بحكم الله الكوني القدري، وكله بخلقه وإيجاده كما قال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11] ، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، هذا الحكم الكوني القدري يسري على الجميع.
ثم هناك الحكم الشرعي الديني: إذا قال الله عز وجل: هذا حلال وهذا حرام، هذا واجب وهذا ليس بواجب، هذا أيضاً لله عز وجل ولا يملك أحد سواه أن يشرع للناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشرع للناس بأمر الله، فتشريعه فرع عن تشريع رب العزة جل جلاله، وهو الذي قال: ( ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ).
هذه الآية قد اشتملت على فوائد:
منها: وجوب الوفاء بالعقود كلها ما كان لله وما كان للناس وخاصة الشروط التي تكون في عقد النكاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )، فالشروط التي تكون في عقد النكاح مطلوب من المؤمن أن يوفيها كاملة.
ومن فوائد الآية: حل بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية، واستدل ابن عمر و ابن عباس رضوان الله عليهم وغير واحد من أهل العلم بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه، ومعنى هذا الكلام، لو أنك ذبحت شاة ووجدت في بطنها جنيناً، فهذا الجنين لو خرج حياً لا خلاف بين أهل العلم في أنه يذكى؛ لكن لو خرج ميتاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه )، فذكاة أمه تسري عليه.
ومن فوائد الآية: تحريم الأنواع العشرة من المطاعم التي بينها ربنا في الآية الثالثة؛ لأنه قال: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، عرفنا أن المتلو هو تلك العشرة.
ومن فوائد الآية: أن كتاب الله عز وجل يفسر بعضه بعضاً، فقول الله عز وجل: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، فسر بعد ذلك بآيتين.
ومن فوائد الآية: تحريم الصيد حال الإحرام بالنسك سواء أكان في الحرم أو في غيره، طالما أنك متلبس بالنسك فلا يجوز لك صيد البر، قال الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96].
ومن فوائد الآية: إباحة الصيد بعد الإحلال؛ لأن الله عز وجل قال: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، هذا منطوق الآية التي ستأتي في الليلة المقبلة إن شاء الله، لكنها مفهومة من نص هذه الآية نفسها.
قال أهل العلم: كل شيء كان جائزاً، ثم حرم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب فالأمر للإباحة.
يعني مثلاً: البيع حلال؛ لكن البيع بعد صعود الإمام المنبر يوم الجمعة حرام، وبعد ذلك قال الله عز وجل: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [الجمعة:10]، الأمر هنا نقول: للإباحة، كذلك قول الله عز وجل: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة:222]، جماع الزوجة في الحيض حرام، ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ [البقرة:222]، فيكون الأمر هاهنا أيضاً للإباحة.
ومن فوائد الآية: إثبات الإرادة لله عز وجل: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية.
أسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر