إسلام ويب

سورة التوبة - الآية [28]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر سبحانه أن المشركين نجس في اعتقادهم وقلوبهم، كما أنهم لا يتحرزون من النجاسات، ولذلك منعهم من دخول الحرم المحرم كما يمنعون من الاستقرار في الجزيرة العربية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولا ينبغي للمسلمين الخوف من بوار تجارتهم وأرزاقهم عند إخراج المشركين فالله رازقهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ...)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    ومع النداء الحادي والخمسين في الآية الثامنة والعشرين من سورة التوبة قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28].

    سبب نزول الآية

    فتح الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة في العام الثامن، حيث كان المشركون يطوفون حول البيت عراة ويرددون تلك الألفاظ الشركية القبيحة كقولهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، ولما كان العام التاسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق أبا بكر أميراً على الحج وأمره بأن ينادي: ألا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.

    فبعض المسلمين قالوا: قد كان هؤلاء المشركون يبيعون لنا ويشترون منا فإذا منعوا من الحج بارت بضاعتنا وخسرت تجارتنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية مؤكداً الحكم وواعداً إياهم بالرزق الواسع إن شاء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28].

    معاني مفردات الآية

    معاني المفردات:

    قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، المقصود بالنجاسة هنا: نجاسة الاعتقاد والقلب، وليس النجاسة الذاتية أو النجاسة الحسية، وكلمة (نجس) مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فيقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس.

    أما إذا كانت بكسر الجيم (نجِس) فهي صفة، وقد تطلق هذه الكلمة مخففة بكسر النون فيقال: نجس، نجس على وزن رجس.

    قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:28]، ليس المقصود خصوص المسجد الحرام وإنما المقصود الحرم بحدوده المعروفة من أضاة إلى أبي قبيس ومن عرفات إلى الشميسي، هذا الحد كله حد الحرم الذي لا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، ولا يجوز لمشرك أن يدخله، والكلام الذي يقال عن حرم مكة يقال عن حرم المدينة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرم مكة وإني حرمت المدينة ).

    قوله تعالى: بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، المقصود: العام التاسع من الهجرة حيث حج الصديق أبو بكر بالناس.

    قول الله عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28]، أي: فقراً وحاجة، يقال: عال الرجل إذا افتقر، ومنه قول القائل:

    فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل

    قوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة:28]، فضل الله واسع، سوف يغنيكم الله بالخراج، سوف يغنيكم الله بإسلام بعض من بلادهم خصبة رخية، سوف يغنيكم الله بالغنائم.

    قوله تعالى: إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، تعليق لقلوبهم بالرجاء في الله عز وجل، وهذا الأمر معلق بالمشيئة.

    قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]، هو سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

    المعنى الإجمالي للآية

    يخاطبنا ربنا فيقول: يا مؤمنون! ما المشركون إلا نجس، نجس في عقيدتهم ، نجس في قلوبهم، يشركون بالله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، يعبدون الأوثان والأصنام، لا يميزون بين الحلال والحرام، يدينون بالخرافات والأوهام، يقترفون الذنوب والآثام، ثم بعد ذلك هم لا يجتنبون النجاسات، فقد يأكلون الدم، وقد يأكلون الخنزير، وقد يأكلون غير ذلك مما حكم الله عليه بأنه نجس وأنه رجس، فما داموا بهذه الصفة فلا تمكنوهم من أن يقربوا المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام مكان طاهر، حرم الله الآمن منذ أن طهره إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأمر من الله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].

    وقد وعدهم الله عز وجل، فقال لهم: وإن خفتم فقراً وحاجة فسوف يغنيكم الله فمن فضله، سيغنيكم عن منافع المشركين، سيغنيكم بالحجاج الذي يقدمون بهداياهم وأضاحيهم، سيغنيكم الله عز وجل بمن يدخلون في الإسلام، وقد حقق الله لهم ما وعد فأسلم أهل اليمن، وكانت بلادهم بلاد خصب وسعة ورخاء، وكانت صنعاء مرفأً ترد إليها أنواع التجارات من بلاد الهند وغيرها، وأسلم كذلك أهل تبالة وجرش وكانوا يحملون إلى مكة طعاماً وميرة تغني الناس، وأسلم أهل جدة، وأيضاً بلدهم مرفأ (ميناء) ترد إليه التجارات من كل مكان، وأسلم أهل الشام وغيرهم، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28].

    1.   

    فوائد من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ...)

    يستفاد من هذه الآية فوائد:

    الفائدة الأولى: إثبات وصف النجاسة للمشركين؛ لأنهم يجنبون فلا يغتسلون، فالواحد منهم يخرج بجنابته، بل أكثر من ذلك فالمشركون الآن والعياذ بالله! لا يغتسلون من بول ولا غائط، حتى النجاسات المغلظة يكتفون بمسحها بالأوراق، بل في بلاد أوروبا يعيبون على المسلمين أنهم يستعملون الماء لقطع أثر النجاسة، لقطع أثر البول والغائط، فهذا حالهم مع المسلم الطاهر النظيف الذي يستعمل الماء، وقد قال علماؤنا: الماء أفضل من غيره؛ لأن الماء يقطع النجس ويذهب الأثر، أما غيره فإنه يزيل النجس لكن لا يزيل الأثر، فيبقى الأثر.

    فهم يعيبون على المسلمين ما هو عيبه عليهم.

    وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم

    فالمشركون نجس؛ لأنهم في اعتقادهم وفي قلوبهم متنجسون بأوضار الشرك؛ ولأنهم يجنبون فلا يغتسلون.

    الفائدة الثانية: تحقير المشركين وتبعيدهم عن مجامع الخير؛ لأن خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات.

    الفائدة الثالثة: أخذ بعض أهل العلم وهو الإمام الشافعي من هذه الآية وجوب الاغتسال على المشرك إذا أسلم، فلو أن إنساناً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإننا نأمره بأن يغتسل.

    الفائدة الرابعة: استدل بها بعض العلماء في أن المشرك نجس الذات، وهو قول الظاهرية والزيدية و الحسن البصري و عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع استدلالاً بظاهر الآية، لكن جمهور العلماء: على أن المشركين ليسوا نجسين في ذواتهم بدليل أن الله عز وجل أباح نكاح الكتابية، وبدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل من طعامهم وكان يتوضأ من مائهم، ولم يعهد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتجنبهم ويباعدهم.

    الفائدة الخامسة: أن المشرك لا يمكن من دخول الحرم، قال الإمام القرطبي رحمه الله: ولو دخل مشرك الحرم فمات فدفن فإنه ينبش قبره ويخرج عظمه، فلا يمكّن من الاستقرار في الحرم لا حياً ولا ميتاً.

    وكذلك النهي عن حضورهم الحج؛ لأن مناسك الحج كلها تتقدمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها زيارة المسجد الحرام.

    الفائدة السادسة: في هذه الآية دليل على وجوب تعلق القلب بالله عز وجل لقوله سبحانه: إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، وفيها دليل على أن الرزق ليس باجتهاد وإنما هو فضل من الله، وكما قال الأول:

    لو كانت الأرزاق تجري على الحجا لماتت إذاً من جهلهن البهائم

    يعني: لو كانت الأرزاق بالعقل وحدة الذهن لماتت البهائم جوعاً؛ لأنه ما عندها عقول ولا عندها تدبير لكن الرزق أولاً وآخراً من الله عز وجل.

    1.   

    الأسباب التي يطلب بها الرزق

    بقي التنبيه على ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله، قال: الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع:

    الأول: أعلاها وأفضلها رزق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من أي شيء كان؟ من الجهاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ).

    الثاني: أكل الرجل من عمل يده، كالاحتشاش أو الاحتطاب، أو الرعي، أو الزراعة، وكذلك الاستصناع لو سلم من الخيانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده )، كان نبي الله داود حداداً، وكان نبي الله زكريا نجاراً، وكان نبي الله عيسى يأكل من غزل أمه، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أول حياته راعياً، وما من نبي إلا ورعى الغنم.

    الثالث: التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم وخاصة المهاجرين، وقد نزلت آيات من التنزيل في بيان أحكامها.

    الرابع: الحرث والغرس، ومنه قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267].

    الخامس: إقراء القرآن وتعليمه والرقية، أي أخذ الأجر على إقراء القرآن وتعليمه والرقية.

    السادس: أن يأخذ المال من الناس مداينة بنية الأداء، وفي الحديث الذي في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ).

    1.   

    أقسام بلاد المسلمين في حق الكفار

    تنبيه: بلاد المسلمين في حق الكفار على ثلاثة أقسام:

    قسم لا يجوز للكفار دخوله أبداً.

    وقسم يجوز للكفار دخوله بلا استقرار.

    وقسم يجوز للكفار أن يستقروا فيه بعهد وأمان.

    فالقسم الأول الذي لا يجوز للكفار دخوله أبداً: الحرمان، الحرم المكي والحرم النبوي، وكما قلت: الحرم المكي بحدوده والحرم المدني بحدوده من عير إلى ثور، يعني: ليس المقصود خصوص المسجد، بل الحرم كله من عير إلى ثور، يعني: من ذي الحليفة إلى أحد فما بينهما حرم لا يجوز لمشرك دخوله، قال أهل العلم: حتى إذا جاء رسول من بلاد الكفار، كسفير ونحوه، لو جاء إلى إمام المسلمين فلا يمكن من الدخول وإنما يرسل الإمام من يسمع الرسالة منه خارج الحرم ولا يمكن من الدخول.

    القسم الثاني: الحجاز، يعني: بلاد العرب أو الجزيرة العربية سوى الحرمين فيجوز للكافر دخولها بالإذن لكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت يقول: ( الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، وأخرجوا المشركين من جزيرة العرب )، وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين في بلاد اليمن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، يعني: دول الخليج الست واليمن بمخلافيه الشمالي والجنوبي وبلاد العراق، هذه كلها تعد جزيرة العرب.

    القسم الثالث: سائر بلاد الإسلام يجوز للكفار أن يقيموا فيها بذمة وأمان لكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم، وقد تعجبون حين تقرءون في أحكام القرآن للإمام القاضي أبي بكر بن العربي هذا الخبر، يقول: ولقد كنت أرى بدمشق عجباً في بلاد الشام، كان لجامعها -ويقصد الجامع الأموي- كان لجامعها بابان باب شرقي وباب غربي، وكان الباب الغربي يجعلونه طريقاً يمشون عليه نهارهم كله، -يعني: في حوائجهم- وكان الذمي -يعني: الكافر- إذا أراد المرور وقف على باب المسجد حتى يمر مسلم يجتاز، فيقول له الذمي: يا مسلم! أتأذن لي أن أمر معك؟ فيقول المسلم: نعم. فيدخل معه وعليه علامة أهل الذمة -وقد كان عندهم لباس خاص- فإذا رآه القيم على المسجد -أي: المسئول عن المسجد- صاح بالذمي: ارجع ارجع! فيقول له المسلم: أنا أذنت له، فيتركه القيم.

    طبعاً هذا الكلام نقرؤه الآن ونسمعه، ونقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وإلا تعرفون الآن ما هو حاصل. ونسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768266484