بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فتقدم معنا الكلام عن اسم الله (المصور)، وأن الله تعالى سمى نفسه بهذا الاسم، وذكره فعلاً في قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6].
وفي قوله: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر:64].
وفي قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:7-8]، وأن هذا يشمل التصوير في الأرحام، فلا تطابق صورة صورة، ولا يماثل فرد فرداً، وأن هذا التصوير في الأشكال وفي الأخلاق، ولا يقدر عليه غيره جل جلاله، ولا ينبغي للعبد أن يزاحم الله عز وجل في هذه الصفة؛ ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضاهاة خلق الله سبحانه؛ فأخبر ( بأن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، ولما استفتى بعض الناس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في أنه ينشئ هذه الصورة بيده؛ فقال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل مصور في النار؛ يجعل له بكل صورة نفساً تعذبه في جهنم )، فربا الرجل ربوةً شديدةً، واصفر لونه، وقال له ابن عباس : ويحك! إن كنت فاعلاً فعليك بالشجر وما لا نفس له، يعني الأشياء التي لا روح فيها.
وتقدم معنا الكلام عن اسم الله (المعطي) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله المعطي وأنا القاسم )، وهذا الاسم المبارك ورد صفةً وفعلاً لله عز وجل في قول موسى وهارون جواباً على فرعون عندما قال لهما: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50]؛ فالله عز وجل هو المعطي ابتداءً، ويعطي العباد المحسوسات والمعاني؛ فهو الذي أعطى ورزق وأفاض، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه كما ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( الحمد لله الذي كفاني وآواني وأطعمني وسقاني، الذي من علي فأفضل وأعطاني فأجزل )؛ فالله جل جلاله هو المعطي؛ وكما قال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53].
واسم الله (المقتدر) هو في معنى اسم الله القدير، واسم الله (المقدم) ثبت من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت )، وأن هذا التقديم يشمل التقديم الحكمي والتقديم الشرعي؛ فالله عز وجل يقدم في حكمه ما يشاء، ويقدم في شرعه ما يشاء، وضرب المثل بتقديم الكون القدري في أن الله عز وجل يقدم من الآجال ما يشاء، ويؤخر ما يشاء؛ كما قال: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49].
وأما التقديم الشرعي فالله عز وجل قدم ما شاء من زمان، أو مكان، أو حدث، أو شخص، وتقدم معنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وملائكته يصلون على أهل الصف المقدم ).
واسم الله (المقيت) ورد في قول ربنا جل جلاله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً [النساء:85]، قلنا: (المقيت) مأخوذ من الإقاتة، والإقاتة أن يعطي كل مخلوق قوته؛ كما قال عن نفسه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً )؛ فالله عز وجل مقيت بمعنى: أنه يعطيك القوت الذي تحيى به وتعيش.
وقيل: المقيت بمعنى الحافظ؛ قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً [النساء:85]، أي: حافظاً له.
الاسم الحادي والستون من أسماء الله الحسنى: (الملك)، وهذا الاسم قد ورد في القرآن نحواً من خمس مرات؛ كما في قوله سبحانه: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه:114]، وكما في قوله سبحانه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ [الناس:1-2]؛ وكما في قوله سبحانه: (ملك يوم الدين) على قراءة من قرأها (ملك)، وكما في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر:23]، وهو سبحانه الملك باعتباره الحاكم على هذا الكون كله؛ قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54].
فهو الذي يملك جل جلاله، ولا مالك على الحقيقة غيره، ولا ملك غيره، وليس له في ملكه شريك، والحمد لله بأنه ليس له شريك سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111]؛ وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:1-2]؛ فليس لله عز وجل في ملكه شريك، ولذلك أثنى ربنا جل جلاله على نفسه بهذه الصفة، وذكرها مقرونةً بالحمد؛ فقال جل وعلا: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]؛ وقال جل جلاله عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:116]، وقال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:42]، ( وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي بالليل يناجي ربه فيقول: اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )؛ فسمى ربه ملكاً، فهو سبحانه وتعالى الملك بمعنى أنه الذي يملك ويحكم.
الاسم الثاني والستون من أسماء الله الحسنى: (المليك)، وهذا لم يرد في القرآن إلا مرةً واحدة وذلك في قول الله عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].
(والمليك) في معنى الملك، وهو سبحانه قد انفرد بالملك والحكم، ونحن نقرأ في القرآن قول الله عز وجل: (ملك يوم الدين)، أو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقد علمنا يقيناً بأنه مالك الأيام كلها؛ لكنه خص يوم الدين بالذكر لأنه لا ينازعه في ذلك اليوم أحد، ففي الدنيا وجد من قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، ووجد في الدنيا من قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، ووجد في الدنيا من قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، ووجد في الدنيا من قال: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، ووجد من قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، لكن في ذلك اليوم لا ينازعه أحد جل جلاله، ولا يزاحمه أحد فالكل صامت، والكل ناكس رأسه؛ قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [النبأ:38]؛ وقال تعالى: وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108]، وفي ذلك اليوم الله جل جلاله يقول: ( أنا الملك، أنا الجبار، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ لمن الملك اليوم؟ -لا ينازعه أحد، ولا يزاحمه أحد- فيجيب نفسه بنفسه فيقول: لله الواحد القهار )؛ فالله عز وجل سمى نفسه ملكاً، وسمى نفسه مليكاً، وسمى نفسه مالكاً بالإضافة؛ كما في قوله تعالى: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، وهذا الاسم أعني: (المليك) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به ربه، وقد ذكرنا قبل قليل حديث ابن عمر رضي الله عنهما بأنه عليه الصلاة والسلام: ( كان إذا أخذ مضجعه قال: الحمد لله الذي كفاني وآواني وأطعمني وسقاني، الحمد لله الذي أعطى فأجزل، ومنَّ فأفضل، الحمد الله على كل حال، اللهم رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من عذاب النار ).
وثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال له عليه الصلاة والسلام: قل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشَرَكه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم، قلها إذا أصبحت، وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك ).
فقوله: (فاطر) بمعنى: خالق، وقوله: (ومن شر الشيطان وشَرَكه)، الشَرَك: ما يوضع للصيد، والشيطان يصطاد الإنسان بحسب حاله: إما من باب التفريط في الطاعات، أو من باب التهاون بالمعاصي، أو بغير ذلك كأن يشغله بالعمل المباح عن العمل الواجب. فعلى الإنسان دائماً أن يدعو بهذا الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه؛ لأنه من تعليم نبينا صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه.
الاسم الثالث والستون من أسماء الله الحسنى: (المنان) وهذا الاسم ثابت في سنن أبي داود ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ( بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ صلى رجل فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: لقد دعا الله باسمه الأعظم )؛ فهذا الصحابي سمى ربه المنان، وقد ورد هذا صفةً لربنا في قوله سبحانه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]؛ وفي قوله سبحانه وتعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم:11]، أي أن الرسل لما دعوا أقوامهم إلى الله، قال لهم أقوامهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم:10-11]، يعني: أن قولكم: (إن أنتم إلا بشر مثلنا)، صحيح إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [إبراهيم:11].
قال العلماء: المنان: هو المعطي ابتداءً وانتهاءً غير فاخر، أي: لا يفتخر على عباده جل جلاله، فهي في حق ربنا صفة مدح، وفي حق الخلق صفة نقص، مثلما قيل في المتكبر؛ فالمتكبر هو الذي تكبر عن ظلم العباد، وتكبر عن أن يشركه أحد في ملكه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر