الآية الثامنة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ[البقرة:118]، هذه الآية نزلت في شأن رجل من اليهود اسمه رافع بن حريملة ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولاً من الله حقاً كما تقول فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، هذا الرجل شابه أسلافه من اليهود الذين قالوا لنبي الله موسى عليه السلام: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وهكذا اليهود دائماً يعتدون على ذات الإله جل جلاله، ويتكلمون عنه مثل ما يتكلمون عن واحد من المخلوقات.
الآية التاسعة عشرة بعد المائة: قول الله عز وجل: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ[البقرة:119] روى عبد الرزاق عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليت شعري ما فعل أبواي؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ[البقرة:119] فما ذكرهما حتى توفاه الله).
يعني: في هذه الآية الله عز وجل يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس مسئولاً قبل بعثته، وليس مسئولاً عمن اختار الكفر على الإيمان، فلا تسأل عن أصحاب الجحيم.
الآية العشرون بعد المائة، قول الله عز وجل: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120].
عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم، وأيسوا أن يوافقهم على دينهم؛ فأنزل الله هذه الآية.
يعني: ليست القضية مع اليهود والنصارى قضية القبلة، بل هي أعمق من ذلك، لو أنك يا مسلم وافقتهم في قبلتهم، وشاركتهم في بعض شعائرهم، وتشبهت بهم في أخلاقهم؛ فهذا كله لن يرضيهم، لن يرضى عنك هؤلاء إلا إذا تركت ملتك واتبعت ملتهم، وفي هذا درس لكثير من المسلمين الآن الذين يظنون أنهم إن وافقوا أهل الكتاب في بعض الأمور رضوا عنهم، وكفوا أذاهم عنهم.
الآية الخامسة والعشرون بعد المائة: قال الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[البقرة:125].
هذه الآية فيها فضيلة لسيدنا عمر رضي الله عنه، روى البخاري وغيره عن عمر قال: (
وقلت: يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الأحزاب:53].
واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك).
فهذا عمر رضي الله عنه من أدبه يقول: وافقت ربي، ما قال: وافقني ربي، وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، صل عند المقام، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[البقرة:125]. قلت: يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، الناس ليسوا سواء، فلو أمرتهن بالحجاب فنزلت آية الحجاب.
واجتمع نساؤه في الغيرة، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ألا يدخل على نسائه شهراً لما أكثرن من الطلب والإلحاح، شهر كامل اعتزلهن في علية عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة يتوقعون بين عشية وضحاها أن يطلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فـعمر دخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وفيهن ابنته حفصة وقال لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت الآية بنفس الألفاظ التي قالها عمر رضي الله عنه.
الآية الثلاثون بعد المائة: قول الله عز وجل: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130].
بعدما ذكر ربنا خبر ذلك العبد الصالح إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه ابتلاه بكلمات فأتمهن، ونجح نجاحاً عظيماً في كل الاختبارات، بذل ماله للضيفان، وبذل نفسه للنيران، وولده للقربان، وابتلاه الله عز وجل بالطغاة والجبابرة مثل النمرود بن كنعان الذي قال: أنا أحيي وأميت، وابتلاه بأبيه الطاغية الذي كان يصنع الأصنام ويبيعها للناس، وابتلاه الله عز وجل كذلك بخصال الفطرة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وفرق الرأس، وأما التي في الجسد: فالاستحداد، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وغسل أثر البول والغائط بالماء، فإبراهيم عليه السلام نجح في هذا كله، فقال الله عز وجل: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ )) يعني: من يترك ملة إبراهيم الحنيفية السمحة إلى غيرها إلا السفيه: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ))، وهذه المادة: السين والفاء والهاء تدل على الرقة والخفة، ومنه تقول العرب: ثوب سفيه إذا كان رقيقاً خفيفاً، وإذا قيل: هذا رجل سفيه، يعني: في عقله خفة.
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130].
هذه الآية نزلت لما دعا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ابني أخيه سلمة و مهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله قد قال في التوراة: إني باعث نبياً من ولد إسماعيل اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر ، فنزلت الآية.
وعبد الله بن سلام هو الحبر البحر الذي أسلم عن علم، وأثنى عليه ربه في القرآن فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ[الرعد:43]، والذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام .
وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ[الأحقاف:10] والشاهد هو عبد الله بن سلام .
وقد دعا ابني أخيه إلى الإسلام عن علم، واحتج عليهما بالتوراة، وقال لهما: قد علمتما أن الله ذكر في التوراة أنه باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد هدي ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأحد الرجلين وفق فأسلم، والآخر أبى؛ فأنزل الله عز وجل: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130].
الآية الخامسة والثلاثون بعد المائة: قول الله عز وجل: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا[البقرة:135].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال ابن صورياء للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا -يا محمد- تهتدي، وقالت النصارى: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا -يا محمد- تهتدي؛ فأنزل الله عز وجل: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا[البقرة:135]، ومن كان يهودياً أو كان نصرنياً فقد ضل ضلالاً بعيداً، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[آل عمران:67].
لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يستقبل بيت المقدس في الصلاة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، إذا أراد الصلاة استقبل الشام، وكان يهود يسخرون ويقولون: ما بال هذا الرجل يخالف ملتنا ويستقبل قبلتنا؟! فأنزل الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144]، فبدأ اليهود يشككون في القبلة فقالوا للمسلمين: في كل يوم قبلة؟! إن كانت الأولى حقاً فالثانية باطلة، وإن كانت الثانية حقاً فالأولى باطلة، فأنزل الله عز وجل الآيات من الثانية والأربعين بعد المائة إلى الخمسين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ[البقرة:142] أي: ما صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)[البقرة:142] جل جلاله، إن شاء وجهنا إلى المشرق وإن شاء وجهنا إلى المغرب، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وقال سبحانه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءهُم[البقرة:146]، يعرفون أمر النسخ، وأنه كان في شريعتهم نسخ، وأن يعقوب كان يحل له الجمع بين الأختين، فيجوز أن يتزوج امرأة وأختها، وأن هذا في شريعة موسى حرام، أليس هذا نسخاً؟ شيء يكون حلالاً في شريعة إسرائيل وحراماً في شريعة موسى عليه السلام.
روى ابن إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله عز وجل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144] فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا قِبل بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ[البقرة:143]، وقال السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ))[البقرة:142]) الآية.
الآية الرابعة والخمسون بعد المائة: قول الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ[البقرة:154] قيل: هذه الآية نزلت في شأن عمير بن الحمام رضي الله عنه الذي كان أول الشهداء يوم بدر، الذي كان يأكل تمرات من مخبأة معه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: (والذي نفسي بيده! لا يقاتلنهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة).
فسمع عمير فقال: بخ بخ، وألقى ما كان في يده من تمرات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على قولك: بخ بخ؟ قال: يا رسول الله! ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: بلى، قال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات).
أي: لو انتظرت خمس دقائق حتى أكمل هذه التمرات إنها لحياة طويلة! الآن الآن، فألقى التمرات وسل سيفه ودخل في صفوف المشركين، وكان رضي الله عنه أول من قتل في ذلك اليوم.
حدثني بعض الشيوخ الفضلاء: إن بعض السفهاء في التلفاز قبل أيام صنعوا أضحوكة يسمونها التمثيلية، وهي: أن امرأة استشهد زوجها فجاء أخوه يخطبها، فجاء مجموعة في هيئة شيوخ أو منسوبين للعلم يلبسون عمائم كبيرة وما يسمى بالعباءة، ثم جلسوا مع هذا الشاب الخاطب وقالوا له: لا يحل لك أن تخطب زوجة أخيك أو أرملة أخيك، قال لهم: كيف؟ فقرءوا عليه: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[آل عمران:169] فهو ما زال حياً وهي زوجته؛ فاقتنع بكلامهم وترك الخطبة.
فهذه الأضحوكة المقصود منها السخرية من الآية أو من شعيرة الجهاد، وإلا فمعلوم أن الآية واضحة في ألفاظها: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ))، أما في حكم الدنيا فهم أموات، ولذلك تقسم أموالهم، وتنكح نساؤهم، وفي الدنيا نجعلهم تحت التراب، فلو كانوا أحياء ما دفناهم في التراب، فالشهيد في حكم الدنيا ميت، أما عند الله فهو حي حياة برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله.
فهذه سفاهة وتطاول، ولا ينبغي للمسلم أن يسمع مثل هذا، ولا أن تنطلي عليه هذه الحيل، والله عز وجل يقول: إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ[النساء:140].
فما كان ينبغي للقائمين على التلفاز لو كانوا يتقون الله أن يسمحوا بأن يبث مثل هذا الهراء والغثاء، وهذا الباطل الذي فيه تحريف للكلم عن مواضعه.
الآية الثامنة والخمسون بعد المائة، قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ[البقرة:158]، قد مضى عند الكلام عن أسباب النزول أن عروة بن الزبير لم يفهم هذه الآية على وجهها فظن أن الآية تنفي الجُناح عمن لم يسع بين الصفا والمروة، فالسيدة عائشة رضي الله عنها بينت له الصواب، وأن الآية نازلة في شأن الصحابة الذين تحرجوا من أن يسعوا بين الصفا والمروة بعد الإسلام؛ لأنه في الجاهلية كان عند الصفا صنم يقال له مناة، وعند المروة صنم يقال له هبل، وكانوا إذا سعوا تمسحوا بهما، فأنزل الله هذه الآية ينفي الجُناح عمن سعى، لأن الجاهلية قد مضت بشرورها وآثامها، وما داخل هذه المناسك من شعائر الشرك فإنه لا ينفي كونها حقاً وخيراً.
الآية التاسعة والخمسون بعد المائة: قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ[البقرة:174]، نزلت هذه الآية -كما قال ابن عباس - حين سأل معاذ بن جبل و سعد بن معاذ و خارجة بن زيد نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) . فكتمان العلم حرام، لكن -أيها الإخوان- أحياناً يكون كتمان العلم لمصلحة السائل نفسه، ولذلك ذكروا أن عبد الله بن عباس جاء إليه رجل يسأله: هل للقاتل توبة؟ قال له: لا. القاتل ليس توبة، فخرج الرجل، فأصحاب ابن عباس سألوه وقالوا له: قد سمعناك تقول بأن للقاتل توبة، فقال لهم: إن هذا الرجل أراد أن يقتل، ونحن لا نريد ذلك، فجاء يأخذ فتوى على أنه ممكن أن يتوب، كأن ابن عباس تفرس في الرجل توتراً وضيقاً، وفعلاً تتبع أصحاب ابن عباس ذلك الرجل فوجدوه كما قال.
فمثل هذا قد يُكتم عنه العلم؛ لأن المتلقي لن يفهم، وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ولذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟
وقد يُكتم العلم لأن صاحب العلم يخاف على نفسه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته -أي: نشرته- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم، فهو يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاني علماً كثيراً، فبعضه نشرته بين الناس ورويته، والآخر لو نشرته لحدثت مشكلة. قال أهل الحديث: ما كتمه أبو هريرة هو أسماء أمراء الجور من بني أمية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: سيلي فلان وهو جائر، وفلان فاسق، وفلان ظالم، يذكرهم بأسمائهم، فـأبو هريرة قام في الناس وأخبر أنه لا مصلحة من نشر هذا سوى تهييج الناس؛ لأن الناس لو سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك فسيثورون عليهم، وإذا ثاروا على أمراء الجور فسيواجهون الثورة وتسيل الدماء، وتزهق الأرواح، وتخرب الممتلكات، ولا يعود الناس بفائدة، ولا ينالون خيراً، فلذلك أبو هريرة رضي الله عنه رأى أن من المصلحة ألا يخبر بذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر